هموم
أحمد عادل القضابيالمسرح المصرى الواقع والتحديات ورؤية مستقبلية للتطوير
2021.04.01
المسرح المصرى الواقع والتحديات ورؤية مستقبلية للتطوير
المحور الأول: الواقع المسرحي
إن محاولة الوقوف على الواقع المسرحي المصري والإمساك بها، ليست بالعمل البسيط، وما بين تراكم خبرات العمل لمؤسسات المسرح سواء تلك المؤسسات الإدارية القائمة على إدارة عمليات الإنتاج أو إدارة الأبنية المسرحية أو إدارة علاقة المنتج المسرحي بجمهوره، أو تلك المؤسسات الفنية القائمة (فريق العمل لعرض مسرحي: المؤلف - المخرج - الممثلون - الموسيقيون - مصمم الديكور والملابس - السينوغراف - مصمم الإضاءة - الراقصون، وغيرهم) المنوط بها تقديم عرض مسرحي فني. وهذا التشابك مع الواقع الاقتصادي من محورين؛ أحدهما يتعلق بعملية الإنتاج المسرحي ذاتها وظروف أبنيته ومؤسساته، والثاني يتعلق بتسويق المسرح كسلعة فنية ذات قيمة مثل أي سلعة ترفيهية أخرى بغض النظر عن القيمة الثقافية والمعرفية التي قد يمثلها المسرح في ذاته أو كقيمة مضافة له كسلعة فنية. أضف إلى كل ما سبق عدم وجود سياسات ثقافية واضحة تنتهجها وزارة الثقافة أو ينتهجها المسرح المصري، ناهيك بتعدد المؤسسات الثقافية التي تحاول أن تفرض وصايتها وهيمنتها على الواقع المسرحي وتستحوذ على المساحة الأكبر منه.
وقد تنبه عدد غير قليل من المثقفين والمسرحيين المصرين إلى أهمية البعد الكيفي في العملية المسرحية، وأن البعد الكمي غير مفيد وغير دال على وجود نهضة مسرحية حقيقة، ينقل لنا فاروق عبد القادر عن لويس عوض قوله عن الحركة المسرحية في الستينيات والتي كانت توصف بأنها فترة ازدهار المسرح المصري؛ يقول لويس عوض: "إن التوسع الكمي المفاجئ في حركتنا المسرحية بما لا يتلائم مع إمكاناتنا الفنية قد خلق طبقة من الطفيليين الذين لا يربطهم بالفن أي رابط في كل مرحلة من مراحل الإنتاج الفني".
رؤية المجتمع للمسرح:
مع تنامي المد الإسلامي بتياراته المختلفة (الوهابية والسلفية والإخوانية) داخل المجتمع المصري، تغير الكثير من منظومة القيم لدي العديد من أفراد المجتمع المصري، وسيطرت أفكار هذه التيارات على مساحات كبيرة من المجتمع في أقاليم مصر المختلفة، وقد انتهج بعض أفرادها لغة العنف في التفاوض مع المجتمع لإعادة ترتيب منظومة القيم داخله، فشهدت نهاية ثمانينيات القرن العشرين وحتى منتصف التسعينيات علو لغة العنف داخل المجتمع، غير أن بعض هذه التيارات غيرت استراتيجياتها داخل المجتمع وتغلغلت في نسيجه، واستطاعت احتواء عدد كبير من الأفراد في قطاعات مختلفة، وتنبنت منهج التغيير من أسفل المنظومة، فاستطاعت احتواء الطبقات الاجتماعية الأدنى فصاعدًا عبر المساعدات والسيطرة على مجال العمل الخيري والتطوعي، حتى وصلنا إلى لحظة ترفض فيها مديرة موقع ثقافي في دلتا مصر وجود نشاط مسرحي داخل الموقع الذي تديره لأنها تنظر إلى المسرح نظرة متدنية، وتعييبه، وترى أنه لا نفع منه، ولا يستطيع من يترأسها في الفرع الثقافي التابعة له أو الإقليم أو هيئة قصور الثقافة أن يجعلها تعدل عن ذلك، ويتوقف النشاط المسرحي في ذلك الموقع عدد لا بأس به من السنوات، لصالح تنامي خطاب التيارات ذات الخطاب الرجعي، وعندما يستأنف النشاط المسرحي مرة أخرى في ذلك الموقع، يصطدم الفنانين بتراجع قيمة المسرح في ذلك الجزء من المجتمع، ويعزف الكثيرون عن الاشتراك في النشاط المسرحي لأنه صار "عيب"، وأصبح يحمل قيم سلبية.
الاشتباك مع الواقع الاقتصادي:
يشتبك الواقع المسرحي المراد توصيفه مع الواقع الاقتصادي في ثلاثة نقاط رئيسية؛ وهي:
أولاً: عملية الإنتاج المسرحي
تتعامل معظم المؤسسات المسرحية مع الإنتاج المسرحي من خلال ميزانيات ثابتة يتم اقرارها سنويًا من قبل وزارة الثقافة عبر التخصيص المالي للصرف من قبل وزارة المالية كجزء من الموازنة العامة للدولة، ولا يتم تحريك هذه الميزانيات إلا بالتخفيض والنقص، وقد كانت إستراتيجية الدولة في تخفيض هذه الميزانيات تتخذ تكتيكين رئيسيين؛ هما:
- تقليص عدد الفرق أو المسارح المنتجة.
- وضع ضوابط وقيود من شأنها هدم وإزاحة بعض الكيانات المسرحية القائمة.
الميزانيات الثابتة للإنتاج لا تراعي ببساطة عاملين اقتصاديين بديهيين هامين؛ هما:
- تحرك الأسعار بالزيادة عادةً.
- تزايد معدل التضخم الذي يرتفع عامًا بعد عام.
مما يخلق فجوة كبيرة بين هذه الميزانيات وبين واقع أسعار الخامات التي يتم الانتاج الفني بواسطتها، كذلك لا تأخذ في اعتبارها زيادة أجور الفنانين والمتعاملين مع المؤسسة المسرحية من مؤلفين، ومخرجين، وممثلين، ومصمم ديكور، ومصمم ملابس، ومصمم إضاءة، وسينوغراف، وموسيقيين، وغيرهم من فنانين يتنظمون في العمل داحل مؤسسة العرض المسرحي.
ثانيًا: واقع الأبنية المسرحية
يعود تاريخ إنشاء عدد كبير من الأبنية المسرحية إلى فترة جاوزت الخمسين عامًا فأكثر، وقد خضع بعضها لعمليات تجديد شاملة، لكن غاب عنها كما غاب عن معظم الأبنية المسرحية عمليات الصيانة الدورية، بحيث نحافظ على كفاءة أداء الأبنية المسرحية الموجودة بالفعل. عمليات التجديد الشاملة شاب عدد كبير منها تجاوزات مالية وفساد ضبط بعضه وقدم للقضاء، وبعضه لم يتمكن أحد من ضبطه على الرغم من الحالة المتردية للأجهزة الفنية التي بالمسارح أو أعطال أجهزة التكييف أو غيرها من مظاهر تدل على أن عمليات التجديد تم صرف مبالغ مالية كبيرة، مبالغ فيها، عليها دون الحصول على المبتغى منها، ولعل واقعة تطوير وتجديد المسرح القومي بالقاهرة خير شاهد على مثل هذا.
في الأقاليم هناك مواقع في حاجة إلى عملية تطوير وتجديد وهي بالفعل مغلقة بسبب عدم صلاحياتها وحاجتها للتطوير والتجديد، لعل أبرز مثال لهذا قصر ثقافة مدينة ببا بمحافظة بني سويف، مغلق للتجديد منذ ٢٠٠٧م.
أما النقطة التي الأكثر خطورة في واقع الأبنية المسرحية فهي المسارح المغلقة بسبب اشتراطات الحماية الدنية، والتي تضع اشتراطات صعب تنفيذها لأسباب عدة؛ منها أن ميزانيات هذه المسارح لا تستطيع الوفاء بحجم الاشتراطات المطلوبة، كذلك أن بعض المسارح لكي تنفذ الاشتراطات المطلوبة عليها أن تقوم بعملية تطوير شامل لأبنيتها وهو أمر قد يكون عسير جدًا. المريب في أمر اشتراطات الحماية المدنية أنها غير موحدة على مستوى الدولة، وكأن كل جهاز حماية مدنية في إقليم من الأقاليم قد وضع لنفسه مواصفات خاصة بالأمن الصناعي للمنشئات الثقافية والفنية، فيتم التعامل مع كل حالة بحالتها، وكأن المطلوب هو إغلاق المسارح بدواعي عدم توفر الحماية المدنية اللازمة لتشغيلها.
ثالثًا: تسويق المسرح كسلعة
إذا كان الهدف من عملية التسويق هو تكوين قاعدة من العملاء المحتملين، فإن المسرح يعاني بشدة من نقص حاد من الاهتمام بعملية التسويق وفقًا لهذا المفهوم، وليس النجاح الذي تشهده بعض عروض المسرح القومي أو البيت الفني للمسرح أو غيرها سوى نتيجة لوجود نجم أو نجمة يستطيع جذب الجمهور لعروضه المسرحية أيًا كانت الجهة المنتجة لها. المشكلة تكمن في تدني قيمة المنتج في نظر العملاء المحتملين، على الرغم من جودة بعض العروض فنيًا، وعلى الرغم مما تحمله العروض المسرحية عادة من قيمة مضافة ثقافيًا ومعرفيًا، لكن غياب وجود المسوق أو برامج التسويق للعروض حتى في مجانيتها، يجعل صالات العرض شبه خالية في كثير من ليالي العرض. فمفهوم التسويق للعروض المسرحية والمهرجانات المسرحية غائب تمامًا عن أذهان مؤسسات المسرح. لا نستطيع أن ننكر أن المسرح فن راقي وقيمة ثقافية، لكنه في ذات الوقت مجرد سلعة تنافسية في سوق المنتجات الفنية المكتظة بالأغاني المصورة، والأفلام السينمائية، وعروض الرقص، وحفلات الموسيقي، والحفلات الغنائية، وغيرها من المنتجات الثقافية الفنية التي تقف خلفها أجهزة تسويقية تروج لها وتصنع لها قاعدتها الجماهيرية الكبيرة.
الرقابة ومساحة الحريات
إن حجم الرقابة التي يفرضها أي نظام على المسرح ليتناسب طرديًا مع حجم الرقابة والقمع التي يمارسها النظام السياسي على المجتمع وأفراده. والمسرح كفعل للتفكير والدياليكتيك يرفض ويأبي أشكال الرقابة التي تحاول أي سلطة فرضها عليه، بل إن لدي المسرح أساليب عديدة لمقاومة فعل الرقابة عليه. هذه هي معضلة علاقة الواقع المسرحي بالواقع السياسي، وقد أوضحت في دراسة سابقة أشكال الرقابة المختلفة التي تقوم بها مؤسسات الدولة الثقافية.
المؤسسات الثقافية
هناك عدد كبير من المؤسسات الثقافية التي تدير العمل المسرحي في مصر، مما يجعله عملاً مرتبكًا متخبطًا متعارضًا، وليس وحدة منظمة تتمتع بالرؤية واحدة لها تنويعاتها حول المسرح المصري.
ستجد عددًا كبيرًا من المؤسسات التي تدير العملية المسرحية في مصر وتتدخل في عمله؛ وهي: لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة، المركز القومي للمسرح والموسيقي، البيت الفني للمسرح، المسرح القومي، قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة الشباب والرياضة، رعايات الشباب بمختلف الجامعات المصرية، المسرح المدرسي، المسرح الكنسي، قطاع الإنتاج الثقافي، صندوق التنمية الثقافية، اتحاد المستقلين، جمعية هواة المسرح، نقابة المهن التمثيلية، وغيرها من المؤسسات.
المحور الثاني: التحديات التي تعترض وجود المسرح المصري
ويمكن إجمال التحديات التي تعترض وجود المسرح المصري وتهدده في النقاط التالي:
عزوف الجمهور عن المسرح:
المسرح بالأساس ممارسة اجتماعية لفعل اجتماعي له شكل فني، أو كما يقول (سعد الله ونوس) إنه "حدث اجتماعي"، فليس ثمة مسرح بلا مشاهدين يراقبون الفعل داخل فضاءه على اتفاق بكونه ممارسة اجتماعية فنية. ففقدان المسرح لجمهوره، يعني باختصار فقدانه لجوهره، ولطابعه، ولأصله. وشعور اللاجدوي من الفعل المسرحي وقدرته على إشعال وعي الجماهير الذي أخذ يتسرب لعدد من المسرحيين في الآونة الأخيرة، وجعل عدد قليل منه يتوقف عن ممارسة العملية المسرحية، سيدفع بالبقية الباقية من المسرحية والمستمرة في العمل المسرحي بدافع كسب المال لا غير، أو استمرارية الحفاظ على الشهرة من أجل كسب المال أيضًا.
التصحر الفني والمتحفية:
وهما عاملان متلازمان يهددان وجود المسرح، في ظل عصر الصورة، والثورات التكنولوجية والمتغيرات الاجتماعية والثقافية التي تضرب في جذور المجتمع. الجمود الذي يدب داخل العرض المسرحي كنتيجة لعدم البحث عن صيغ فنية جديدة للعرض والفعل المسرحي. طرق التمثيل الرثة القديمة، أساليب الإخراج التقليدية، الديكورات الضخمة التي تصطف على خشبة المسرح والمناظر والخلفية المسرحية، وتيمات العروض المكررة الممسوخة، كل هذه الأشياء تعمل على تحول الفن المسرحي إلى فن متحفي، مثل معروضات المتاحف الأثرية، يذهب إليها الباحثين عن النوستالجيا، ودارسي التاريخ والحفريات، ورحلات المدارس السنوية لتعريف الصغار بتاريخهم وثقافتهم.
نفس النصوص التي تلوكها الأفواه منذ أعوام وأعواد يعاد تقديمها دون أي ابتكار أو إبداع أو تجديد في الرؤية والطرح، كأننا المسرح تحول إلى صحراء لا نهائية، امتدادات من الرمال واللون الأصفر الذي تحده السماء الزرقاء في الأفق. فمن يريد الاتصال بالجمهور؛ وتحقيق أعلى درجة من درجات الاتصال؛ والتأثير عليه القيام "ببحث جاد ويومي عن تجربتنا الخاصة في التعبير المسرحي، قد نجرب أشكالاً معروفة، وقد نبتدع أشكالاً خاصة بنا".
تكاليف الإنتاج وأنماطه:
في ظل تقليص الدولة لميزانياتها، أصبحت ميزانية وزارة الثقافة في وضع حرج، هل تغطي رواتب موظفيها، أو مكافآت اللجان المستمرة التي لا تنتهي، أو صيانة مبانيها، أم الإنشاءات الجديدة، أم المهرجانات والجوائز، أم الأنشطة الثقافية والفنية التي يعتبر المسرح واحد منها؟ والسؤال بالفعل حرج!
في ظل تعددية المؤسسات التي تدير العملية المسرحية وتوجه عمليات الإنتاج، وفي ظل الارتفاع المستمر لأسعار خامات الإنتاج، والمطالبة بزيادة الأجور، وثبات ميزانيات الإنتاج، لن يستطيع المسرحيون الاستمرار خاصة مع ثبات أنماط الإنتاج، وتوافر عدد لا بأس به من اللوائح الضابطة للعميات الإنتاجية.
ويلخص الكاتب (عبد الغني داود) أزمة الإنتاج المسرحي في مصر بقوله: "الخلل إذن في بنية نظام الإنتاج المسرحي المعتل"، وهي البنية التي تفق أكثر من ٦٠٪ من ميزانية العرض المسرحي على الأجور.
الرقابة وخوف مؤسسات الدولة من المسرح والمسرحيين:
من أبرز التحديدات التي تواجه المسرح المصري، هو تلك النظرة المستريبة من المسرح؛ "فالمسرح فن خطير"، هكذا يراه رجال الدولة، لذلك تلجأ الدولة إلى وضعه تحت سيطرة الرقابة دائمًا، سواء كانت تلك الرقابة المباشرة المتمثلة في الرقابة على المصنفات الفنية، أو تلك الرقابة غير المباشرة والمتمثلة في مرحلة ما بعد الإنتاج، ولها ثلاثة صور/أشكال رئيسية، سبق وأن استعرضناها بالشرح والتحليل في دراسة "أشكال مقاومة الرقابة: نوادي المسرح نموذجًا" - وهي: التحكيم، والندوات، والجوائز.
إذ يخضع العديد من المبدعين لشروط التحكيم، ويعمل على إرضاء لجان التحكيم وتوجهاتها الفنية، ويؤكد على ذلك الناقد الراحل حازم شحاتة من خلال قوله:
"وكان التحكيم هو الوسيلة التي ابتكرتها ((الدولة)) للسيطرة على خيال المؤلفين أو شطحاتهم، ولضمان عدم الخروج أو التمرد على الأيديولوجيا السائدة، ناهيك بتشجيع المؤلفين للدعوة إلى أيديولوجيا الدولة".
كذلك تقوم الندوات بدور رقابي على الاتجاهات والتوجهات الفنية النية سواء كان بالرفض أو بالتأييد، كذلك تأتي الجوائز لتعزز اتجاهًا فنية وتدحض آخر.
لن يكون تعامل الدولة بريبة مع المسرحيين والخوف من المسرح بالشيء الإيجابي في اللحظة الراهنة، ولن تتخلص الدولة من خوفها من المسرح والمسرحيين إلا بتخلصها من المسرح نفسه.
لم يفلح من قبل غلق المسارح للتخلص من المسرح، فقد أغلقت الدولة العثمانية مسرح أبي خليل القباني في سوريا، وأغلق الخديوي مسرح يعقوب صنوع في مصر ونفاه خارج البلاد، وكذلك أغلق الملك فؤاد المعهد العالي للفنون المسرحية سنة ١٩٣٠م خوفًا من النقد الذي سيقدمه المسرح إلى الناس إذا تم تمصير المسرح. ولم تفلح أي من المحاولات السابقة ولا غيرها من التخلص من المسرح، وزال الملك عنهم، وبقي المسرح مستمرًا ناقدًا محتجًا دائمًا.
مسؤولية الحرية:
ما دام هناك رقيب، وجهاز حكومي يحمل اسم "الرقابة على المصنفات الفنية"، فذلك يعني بكل بساطة أنه ليس ثمة حرية مطلقة، وأن الحرية مازالت مجرد شعار. لذلك فإن ما نعنيه بمسؤولية الحرية، هنا - هو تلك المسؤولية المنوط بالمبدع والفنان القيام بها للحفاظ على هامش الحرية المتاح، والعمل على تنمية وزيادة مساحته بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة، آملين في تحرر كامل للمسرح.
فالمسرح على حد تعبير (جان فيلار) أكثر الفنون المهددة بالتوقف والاضمحلال حين يفقد حريته، إنه فن توهنه القيود، ولا يهم هل تكون القيوم مخملية أو معدنية.
أبنية المسرح، وشروط الحماية المدنية:
تعد الأبنية المسرحي واحدة من أكبر التحديات التي تواجه المسرح المصري في اللحظة الراهنة، ومع إضافة اشتراطات الحماية المدنية التعجيزية لحالة الأبنية المسرحية يزداد الوضع صعوبة، ويشكل تهديدًا كبيرًا، وليس تحديًا فقط - للمسرح المصري.
الأزمة كما عرضنا لها سابقًا تتمثل في ثلاثة محاور؛ إحداها: محور الصيانة الدورية، وثانيها: محور الأبنية الحديثة، وثالثها: وأعسرها؛ محور الحماية المدنية.
- الصيانة الدورية: يهدد عدم موجود صيانة دورية سليمة وعلى أسس علمية العديد من المسارح القائمة بالغلق وتوقف النشاط بشكل جزء لفترة تطول أو تقصر، لكن في كل الحالات سيتوقف النشاط المسرحي.
- الأبنية الحديثة: الأقاليم والقاهرة ما زالت في حاجة إلى أبنية مسرحية حديثة وبواصفات عالمية، ويتحقق بها كافة اشتراطات الحماية المدنية منذ إنشائها، كي لا تتعرض لتوقف النشاط بعد افتتاحها، أو يتعرقل افتتاحها، كما تعرقل افتتاح مسرح الجيزة بالعمرانية (المطل على ميدان اليابان) لأسباب تتعلق بعدم جاهزية المسرح للتشغيل رغم أنه تم افتتاحه على الورق فقط. ومسرح الجيزة ليس الحالة الوحيدة، فبكل تأكيد هناك حالات مشابهة في عدد من أقاليم مصر.
- الحماية المدنية: اشتراطات الحماية المدنية اشتراطات لا تتناسب مع واقع المنشآت المسرحية القائمة، ولا مع قدرات المؤسسات المسرحية على الوفاء بها، كما أنها غير موحدة بمواصفات واحدة لكل أقاليم مصر.
وبالتأكيد ليست هذه وحدها هي التحديات التي تعترض وجود المسرح المصري، لكن أهم وأبرز التحديات، وبالتأكيد فإنه يوجد غيرها من التحديات التي تعترض طريق المسرح المصري وتهدد وجوده.
المحور الثالث: رؤية مستقبلية للمسرح المصري
تأتي على رأس رؤيتنا لمستقبل المسرح الحاجة إلى رد الاعتبار للمسرح، كما سنقدم تصورنا لهيكل الإدارة المسرحية، نصوغه في مؤسسة مسرحية واحدة موحدة لإدارة العمل المسرحي على مستوى الدولة، وغيرها من الحلول الإستراتيجية أو التكتيكية المؤقتة للتصدي للتحديات التي تعترض وجود المسرح في الواقع، والتي سبق أن عرضنا لها بالشرح والتحليل في المحورين السابقين.
- الارتقاء بقيمة المسرح داخل المجتمع:
يحتاج الارتقاء بقيمة المسرح داخل منظومة قيم المجتمع المصري إلى مجموعة من التدابير مع التمسك بها لفترة زمنية ليست بالقصيرة؛ وهذه التدابير هي:
- تربية الذائقة الجمالية لجمهور المسرح:
هذه واحدة من المعضلات، وهي عملية تربية الذائقة الجمالية لجمهور يتسم بالتنوع الثقافي يمتد ما بين شواطئ البحر الأبيض التوسط حتى شلالات النوبة في الجنوب، كما يتمدد على ضفتي نهر حتى أعماق الصحراء في الغرب وبين دروب الجبال في سيناء والبحر الأحمر. بالإضافة إلى وجود سماوات مفتوحة تقدم عبر الأقمار الصناعية أشكالًا وصورًا لا نهائية، كما تقدم من داخل ثقافته مسرحًا يعتمد على التسلية أكثر من كونه مسرحًا طليعيًا يسعى لأخذ المبادرة الاجتماعية لتصحيح الأوضاع في واقعه. لقد عمل عدد غير قليل من المسرحيين في الستينيات، وما بعدها، على تربية الذائقة المسرحية للجمهور المصري عبر تمصير النصوص المسرحية العالمية وتقديمها في صيغ شعبية تلائم ثقافة الجمهور المصري في النجوع والقرى، قدموا له "سبع سواقي" عن "ثورة الموتى"، و"سعد التيم" عن "هملت"، كما قدموا: "الشيخ ملتوف" عن أربعة نصوص مسرحية من تأليف الكاتب الفرنسي (موليير)، و"نرجس" عن مسرحية الفرنسي (جان أنوي)، وغيرها الكثير والكثير.
المعضلة الثانية أنه لدينا مستويات من الذائقة الجمالية لدي الجمهور، فهناك جمهور لم يرَ مسرحًا (عرض حي للمسرح) مطلقًا، وهناك جمهور شاهدًا عرضًا أو اثنين، وهناك جمهور معتاد على ارتياد المسرح، وهناك جمهور على درجة من الثقافة الفنية والنقدية عبر الدراسة والقراءة. فنحن بحاجة لتنمية الذائقة الجمالية لدي المستويات الأولى، و"تنمو الذائقة الفنية والجمالية لدى الإنسان من خلال التعود المستمر على التمتع بمختلف أشكال الفنون والجمال الطبيعية أو غيرها"، وقد أشار العالم الألماني فخنر إلى أن التربية والتعليم يؤثران في عمليات التذوق وتفضيل الأفراد للأشياء الجميلة. ويمكن تنمية هذه الذائقة عبر التثقيف حتى تتكون للمشاهد تفضيلاته الجمالية، والتي هي "الاستجابة السيكولوجية الدالة على طبيعة الحكم الجمالي الذي أصدره المرء على موضوع جمالي، وذلك من خلال قبوله أو رفضه له"، ويكون لديه ما يمكن أن نطلق عليه بـ"الحساسية الجمالية" والتي هي "استجابة الفرد للمثيرات الجمالية استجابة تتفق على مستوى محدد من الجودة في الفن".
تربية تقاليد المشاهدة المسرحية وتنميتها:
طبيعة المسرح أنه ظاهرة اجتماعية تنشأ بين الناس وتمتد بين صفوفهم، لكننا بحاجة إلى طقوس/تقاليد للمشاهدة ليس لها قدسية مدرسية، لكنها تحتاج إلى ذكاء اجتماعي وبصيرة لتعويد الجمهور عليها وفقًا لظروفه ونوعيته وطبيعة الفضاء المسرحي الذي يتلقى به فعل المسرح.
فلكل جماعة بشرية في لحظتها التاريخية تقاليد خاصة تتعلق بعملية المشاهدة المسرحية بما يسمح للجميع بقدر متساوي من متابعة العرض المسرحي والاستمتاع به إن أمكن.
التربية المسرحية في المدارس بمختلف مراحلها:
توفر تربية مسرحية حقيقية في المدارس - بمختلف مراحلها - سيوفر الكثير من تربية الذائقة المسرحية وكذلك تقاليد المشاهدة، مما سيجعل مستوى التلقي يرتفع إلى اعتياد ارتياد المسرح، فربما نصل إلى وجود حساسية جمالية مسرحية لدي الأجيال القادمة، فيجبرون منتجي الفنون على تحسين وتجويد المنتجات الفنية التي يقدمونها لنا.
إننا نحتاج أن نصل بالجمهور أن يكون جمهور إيجابي لا جمهور سلبي، نحتاج إلى أن نصل بالجمهور - كما يقول (سعد الله ونوس) إلي:
- أن يعي المتفرج أهميته في اي عرض مسرحي.. فكل ما يدور على خشبة المسرح يستهدفه، ويتوجه إليه (قيمة العرض مرهونة بالموقف الذي يتخذه الجمهور منه).
- ينبغي أن تنتهي سلبية المتفرج ووضعيته الساكنة أمام خشبة المسرح وما يدور عليها.
- أن يحسّ المتفرج بالمسؤولية، وبأن لموقفه من العرض المسرحي نتائج هامة.
إدارة مسرحية موحدة:
للقضاء على التعددية الإدارية التي كانت سائدة في هيئة تعدد مؤسسات المسرح المصري، وتخبط الأجندات المسرحية، وازدواجية الإنتاج من تعاقد على نصوص مرتين (ولو بمسميين مختلفين) وغيرها من مظاهر التخبط والارتباك، نري أن تكون هناك هيئة مسرح واحدة موحدة لإدارة العملية المسرحية في كامل مصر، وهذه الهيئة تتكون من ثلاث إدارات رئيسية؛ وهي:
الأولى: إدارة السياسات
وهي المسؤولة عن التخطيط ووضع السياسات المسرحية في ضوء توجهات الدولة واحتياجات المجتمع المصري، وفي ضوء ما يرد إليها من إدارة التقييم من تغذية معلوماتية بالواقع المسرحي وما تم به في الموسم المنقضي، وكيف كان مسار ونتائج السياسات التي وضعتها سابقًا.
الثانية: إدارة التنفيذ والمتابعة
ويمكن أن تتشعب إلى ما يخص الأقاليم والقاهرة، وما يخص نوعية المسرح، من طفل وشباب وجامعي. ويكون شغلها الشاغل هو العمل على ترجمة السياسات والبرامج التي تم طرحها من قبل إدارة السياسات وتحويلها إلى واقع ملموس في ضوء الميزانيات المالية المخصصة للتنفيذ، كما أن متابعة عملية التنفيذ الميداني أحد أهم أدوارها.
الثالثة: إدارة التقييم
أحد اهم أدوارها هو التقييم الفني والمالي لما تم تنفيذه، كما أنها المسؤولة عن كل المسابقات المسرحية وجوائزها، وترفع تقريرها النهائي بما نفذ مع تقييد أداء الوحدات الإدارية المختلفة وكذلك العناصر الفنية، وتقريرها السنوي يُعد بمثابة التغذية المرتجعة لإدارة السياسات التي تضع تصوراتها المستقبلية وترسم السياسات الجديدة وفقًا لهذا التقرير دون إغفالٍ لما جاء به.
مع ملاحظة أن تبدأ هذه الهيئة ممارسة عملها بعد تشكيلها، بموجود عام انتقالي يتم فيه توفيق كافة الأوضاع المالية والإدارية والفنية المتعلقة بالوضع الجديد الخاصة بوجود هيئة موحدة للمسرح.
الأبنية المسرحية
لابد من وجود هيئة مستقلة للأبنية المسرحية مسؤوليتها البنية المسرحية، تتكون من معماريين ومسرحيين وفنانين، ومختصين في الإضاءة والصوت، ومهندسين بكافة التخصصات، ورجال أمن صناعي وأمن منشئات.
ويكون عمل هذه الهيئة الخاصة بالأبنية المسرحية على ثلاثة محاور؛ هي:
- خريطة بالمنشآت المسرحية القائمة، وتقييم أوضاعها، وحصر كافة احتياجاتها بما في ذلك احتياجاتها من الحماية المدنية الموحدة على كافة الأبنية والمنشئات.
- خريطة بالمنشئات المسرحية المستهدفة مع وجود جدول زمني لها بشروط جزائية في عقود التسليم مع شركات التنفيذ.
- خطة صيانة دورية سنوية لكافة المنشئات المسرحية في ضوء تقييم والأوضاع وحصر الاحتياجات، ويتم تحديث الخطة سنويًا ليدخل بها المنشئات المسرحية الجديدة التي تم الانتهاء منها أو ضمها لها.
ولا بد أن يكون عمل هيئة الأبنية المسرحية متصلًا بهيئة المسرح الموحدة وأن تكون توجهاتها خاضعة لإدارة السياسات بهيئة المسرح.
الفضاءات البديلة
إن البحث عن فضاءات مسرحية بديلة لفضاء العلبة الإيطالية لهو مهمة المسرحيين المصريين الآن.. سبقنا في البحث عن الفضاءات البديلة جيل سابق، استطاع أن يجد في بعض الساحات وعلى حافة الترع وفي ملاعب كرة القدم فضاءً مسرحيًا مناسبًا هروبًا من سجن العلبة الإيطالية، وعلى الجيل الحالي إذا أراد للمسرح أن يسترد أنفاسه أن يجد فضاءات بديلة تناسبه، وتناسب اللحظة الحالية.
المزيج التسويقي للمسرح
لا بد من الاستعانة بخبراء التسويق، أو بالمسرحيين الذين لديهم خبرات تسويقية، لوضع خطة تسويقية لعروض المسرح سواء تلك المجانية أو تلك التي تقدم بمقابل مالي بسيط أو كبير، على أن يراعي في الخطة التسويقية ما يلي:
- تعظيم احتياج المواطن والأسرة للمسرح الذي تقدمه وزارة الثقافية، لأسباب منها قيمته الفنية العالية، وغيرها من الأسباب أو العوامل التي نستطيع من خلالها جذب المشاهد وإعادته للمسرح مرة أخرى.
- تقديم عروض ترضي أذواق كل فراد الأسرة، والحرص على تقديمها في أوقات تناسب الأسرة في المشاهدة، كأن تكون العروض في الإجازات مثلاً، وتكون في توقيت مناسب من اليوم، وغيرها من التكنيكات التي تعمل على إرضاء الجمهور.
- تحسين فرص اختيار الجمهور للعروض المسرحية التي تقدمها مؤسسات وزارة الثقافة المختلفة.
الرقابة والحرية
لا بد أن تعمل الدولة أولاً على إزالة مخاوفها من المسرحيين والمسرح، والتعامل مع المسرح باعتباره أحد أجهزتها التي تتفاعل بواسطتها مع الموطنين. ويأتي أجراء إلغاء الرقابة على المسرح تمامًا ليكون دليلاً عمليًا على زيادة مساحة الحرية التي تمنحها الدولة لمواطنيها، سعيًا نحو الحرية الكاملة التي هي إحدى مقومات المواطنة وخلق مجتمع ديموقراطي سليم بشكل حقيقي لا مجرد هياكل ديموقراطية زائفة.
التدريب
الحرص على وجود جرعات تدريبية للفنانين الشبان، والمواهب المسرحية الجديدة لصقل مواهبها وصهرها في بوطقة المسرح.
كذلك لا بد من تدريب كافة الكوادر الإدارية التي تتعامل مع المسرح وتثقيفها تثقيفًا مسرحيًا جيدًا، مع مراعاة أن يكون اختيار كوادر العمل الإداري والمالي من المسرحيين أنفسهم.