رؤى

محمود نجم

الموازنة المصرية: فائض أولي للحكومة وعجز مستدام للمواطن

2018.11.01

الموازنة المصرية: فائض أولي للحكومة وعجز مستدام للمواطن

عانى الاقتصاد المصري من فجوة تمويلية مُزمنة وهيكلية في موازنته الحكومية وميزانه التجاري واحتياجاته الاستثمارية. مُزمنة لأنها مستمرة منذ عقود، وهيكلية لأنها مرتبطة بهيكل الإنتاج نفسه، ما يعني أن استمرار العمل يعني استمرار العجز. وهناك أمثلة واضحة على «هيكلية» العجز المالي المصري، مثالاً؛ يعتمد الاقتصاد المصري بالأساس على مصانع تستورد مدخلات إنتاج من مواد خام وطاقة من الخارج، وتكون القيمة المضافة محدودة للغاية، ويتم استهلاك معظم المنتج محليًّا، وبالتالي فإن قيمة السلع المُصدرة لا تكون كافية لتغطية تكلفة الاستيراد للمصانع نفسها، وبالتالي كلما عملت المصانع كلما زادت الفجوة. أما فيما يخص الموازنة العامة للدولة فهناك العديد من الهيئات الاقتصادية التي تعاني خسائر هيكلية أيضًا، مثل جهاز الإذاعة والتلفزيون، الذي لا يمكن أن تغطي إيراداته تكاليف عمله، الأمر نفسه ينطبق على كثير من مصانع قطاع الأعمال العام، التي أهملت الحكومة في تطويرها وتدريب عمالها، وكذلك في مصلحة الضرائب العقارية، حيث يحصل الموظف في هذه المصلحة، في المتوسط، على راتب أعلى من الإيراد الذي يوفره للدولة، وبالتالي فإن كل يوم عمل في تلك الهيئات والمصانع والمصالح ينتج عنه خسائر وعجز.

تقوم الدولة بتغطية فجواتها الثلاث عبر الاقتراض، وكل عام تتراكم الديون وفوائد الديون حتى تجاوزت قيمة الناتج الإجمالي بالكامل، ما يعني إننا لو وجهنا كامل إنتاجنا لسداد الديون والفوائد، فهذا لن يكفي، لذا اضطرت الحكومة لاتباع برنامج اقتصادي تقشفي، تعبر عنه الموازنة المصرية في الأربع سنوات الماضية. وهناك 3 أنواع من عجز الموازنة: العجز النقدي، ويتمثل في الفرق بين المصروفات الجارية (أجور ودعم وفوائد الديون وتكلفة شراء السلع) والإيرادات الجارية (الضرائب والرسوم والمنح والإيرادات السيادية للحكومة)، أما العجز الكلي، فيتمثــل فــي العجــز النقــدي مضافـًـا إليــه صافــي الحيــازة مــن الأصــول الماليــة (الفــرق بيــن استثمارات الحكومة ومتحصــلات الحكومة مــن بيعهــا لأصــولها واستثماراتها)، أما العجز الأولي فيتمثل في العجز الكلي مستبعدًا منه فوائد الديون.

ووفقًا لهذه التعريفات فإن القضاء على العجز الكلي أو النقدي أمر شديد الصعوبة، وربما مستحيل في الأجل القصير والمتوسط في الحالة المصرية، لاستحالة سداد الكم الهائل من الديون وفوائدها التي تراكمت عبر السنوات الماضية. ولكن الأمر الممكن هو تعديل هيكل الموازنة ليصبح العجز «غير هيكلي»، بأن تتوسع الحكومة في جني الضرائب وتعظيم مواردها، وتقليص الرواتب والدعم، وبالتالي تحقيق «فائض» أولي. هذا الفائض، على المدى الطويل، ستستخدمه الحكومة لدفع جزء من أصل الديون وجزء من فوائد الديون، وبالتالي تحقق خفضًا تدريجيًّا لقيمة فوائد الديون، ما يصب في النهاية في خفض قيمة العجز الكلي والدين العام ونسبتهما إلى الناتج المحلي الإجمالي.

وتستهدف الحكومة بداية من السنة المالية 2018/2019 وعلى مدى الثلاث سنوات المقبلة، خفض معدل الدين العام كنسبة من الناتج المحلى ليصل إلى 75- 80 %، بحلول نهاية يونيو 2022، مقارنة بأكثر من 100 % حاليًا، ما يتطلب أن يحقق الاقتصاد المصري معدلات نمو سنوية مرتفعة وكذلك تحقيق فائض أولي سنوي مستدام في حدود 2 % من الناتج. وبالنظر إلى خطة الإصلاح الاقتصادي الممتدة بين 2016 و2021، فإن الحكومة تعمل على زيادة إيراداتها بنسبة 140 %، في الوقت الذي ستزيد فيه مصروفاتها بنسبة 85 %، وحتى هذه الزيادة لن توجه للمواطن بشكل كامل، ولكن ستزيد المرتبات بنسبة 52%، وستزيد قيمة الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية بنسبة 60 %، كما سترتفع فوائد الديون بنسبة 100 %، في الفترة نفسها التي يُقدر فيها معدل التضخم التراكمي بنحو 130 %، ما يعني أن زيادة المرتبات والدعم والبرامج الاجتماعية ستغطي أقل من نصف زيادة الأسعار، لتنخفض القوى الشرائية للمواطنين بشكل مستدام، لينتقل العجز من ميزانية الحكومة إلى ميزانياتهم.

وفقًا لتقدير هبة الليثي، مستشار رئيس جهاز التعبئة العامة والإحصاء والمسئولة عن إعداد بحث الدخل والإنفاق، فإن نسبة المواطنين تحت خط الفقر ارتفعت من 27.8 % في 2015 لتبلغ نحو 35 % في 2017، بعد بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي، وبالطبع الرقم مُرشح للزيادة مع استمرار الإجراءات الاقتصادية التقشفية. وعلى الرغم من بساطة الطرح بأن تنقل الحكومة عجزها إلى مواطنيها، إلا أن الأمر يتطلب قدرًا من الكفاءة العالية في التطبيق، فاتباع سياسات انكماشية تخفض من القوى الشرائية للمواطنين تؤدي إلى انكماش الطلب المحلي وبالتالي تباطؤ نمو الاقتصاد، وفي النهاية ستنخفض الإيرادات الضريبية، وتفشل خطة الحكومة، لذا لابد أن يكون التوسع في تحصيل الإيرادات، والتحفظ في الإنفاق مدروس بعناية.

زيادة الإيرادات

بداية تتجه الحكومة للتوسع في تحصيل الضرائب على قطاعات أوسع من المواطنين، وليس زيادة معدلات الضرائب على الفئة نفسها، وعلى سبيل المثال تستهدف الحكومة رفع حصيلة الضرائب العقارية بنحو 55% خلال العام المالي الحالي، مقارنة بالعام المالي الماضي، لتصل إلى 5.4 مليار جنيه، وهذا الارتفاع لن يعتمد على زيادة فئة الضريبة بل عن طريق حصر أوسع للعقارات، وإخضاعها للضريبة. كما تهتم الحكومة بالتوسع في تحصيل الإيرادات من القطاع غير الرسمي.

وتختلف الإحصاءات حول حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر، ولكن ما يمكن الاتفاق عليه أن الاقتصاد غير الرسمي هو المُشغل الرئيسي للعمالة المصرية في السنوات الأخيرة، خاصة مع تراجع دور الحكومة في التوظيف وتباطؤ نمو القطاع الخاص وتأخر إصدار البرلمان لقانون عمل جديد يواكب تطور سوق العمل في مصر. وفي خطوة مهمة لتحصيل الإيرادات من القطاع غير الرسمي، وافق مجلس النواب، في العام المالي الماضي، على تعديل قانون إشغال الطرق العامة، الخاص بمنح تصاريح لعربات المأكولات. ووفقًا للتعديل سيتم منح التصريح لعربات المأكولات لإشغال الطرق العامة لمدة سنة وبرسم لا يتجاوز 20 ألف جنيه. كما تتجه الدولة إلى تحويل ملفات بعينها إلى الربحية بدلاً عن الدعم، وعلى رأس هذه الملفات قطاع الإسكان، الذي تتوسع فيه الحكومة بشكل ملحوظ، وقد تغيرت استراتيجية الحكومة من توفير السكن لمحدودي الدخل إلى اقتحام قطاع الإسكان المتوسط والفاخر. ووفقًا لوجهة نظر الحكومة فإن استدامة مشروعات الإسكان، أمر يتطلب تحقيق ربح معقول كاف لاستقلالية هيئة المجتمعات العمرانية عن الدعم الحكومي، وقد قررت الحكومة الشهر الماضي التراجع عن الاستمرار في مشروع «دار مصر»، المناسب للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، والتركيز على فئة الإسكان الفاخر. ومن المخطط أيضًا أن تقوم الحكومة ببيع حصص من عدد كبير من المؤسسات العامة الناجحة في القطاع المصرفي وقطاع البترول وبعض القطاعات الناجحة الأخرى.

خفض المصروفات

تهتم الحكومة بتحسين كفاءة الإنفاق ووقف الإهدار، ومن الخطوات التي قامت بها في هذا المجال ميكنة الموازنة العامة للدولة وربطها بحساب الخزانة الموحد مارس الماضي. وتساهم الميكنة في زيادة الرقابة على المصروفات، وسيضمن تحول العمليات الورقية إلى إلكترونية بناء قاعدة بيانات دقيقة وصحيحة ولحظية عن إدارة الموازنة العامة للدولة وإيراداتها ومصروفاتها. وكانت كثير من المؤسسات الحكومية تتوسع في إنفاق فائض موازنتها قبل نهاية العام المالي مباشرة، في صورة مكافآت أو شراء سلع، بدلاً عن إعادتها لوزارة المالية، ولكن النظام الجديد المُميكن يصعب استمرار هذا السلوك غير الرشيد.

أما فيما يخص المرتبات، فما بين عامي 2015 و2018 ارتفعت ميزانية الأجور بنسبة سنوية تراوحت بين 5 % و8 %، وهذه المعدلات لا توازي نصف معدل التضخم، ما يعني انخفاض ملحوظ في الدخل الحقيقي للموظفين الحكوميين وأسرهم. وفي العام المالي الجديد تمت زيادة ميزانية الأجور نحو 10.8 %، وهو معدل أفضل من السنوات الماضية، نتيجة العلاوة الاستثنائية التي أقرها رئيس الجمهورية للعاملين بالحكومة وزيادة حد الإعفاء الضريب من 7 آلاف جنيه إلى 8 آلاف جنيه، ولكن ما تزال هذه الزيادة أقل من معدل التضخم السنوي المُحقق في العام المالي الماضي، والمُتوقع في العام المالي الجديد. ما سينتج عنه انخفاض الدخل الحقيقي والقوى الشرائية لموظفي الحكومة، ولكن بوتيرة أقل من السنوات الماضية.

نهاية عصر دعم الطاقة

أما ملف التوفير الأهم، دعم الطاقة، فوفقًا للبرنامج المتفق عليه بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي في 2016، فإن الصندوق يرى أن خفض دعم الوقود أمر أساسي، وعلى الحكومة المصرية مواصلة ضبط أسعار الوقود أو اتخاذ تدابير أخرى لتعويض أي تكاليف إضافية للوقود نتيجة انخفاض قيمة سعر صرف الجنيه أو ارتفاع أسعار النفط العالمية. وبحسب الوثيقة فإن دعم الكهرباء سيتقلص بشكل سنوي حتى يصل إلى الصفر في العام المالي 2020/ 2021، بينما سيصل دعم الوقود في العام نفسه إلى 25 مليار جنيه. وقامت الحكومة برفع متتالٍ لأسعار الكهرباء والوقود منذ عام 2014 . ولا تخطط الحكومة وصندوق النقد إلى إلغاء دعم الطاقة بالكامل، ولكن الصندوق يريد أن يحرر قطاع الطاقة، وأن يكون عبء الدعم أقل من إيرادات القطاع، وبالتالي لا تتحمل الموازنة أي أعباء من نشاط ذلك القطاع، وهذا ما أطلق عليه توازن «ميزان البترول». وبند «ميزان البترول» هو بند افتراضي غير موجود في الموازنة المصرية، وهو يساوي الفارق بين عائدات قطاع النفط وبين قيمة الدعم الذي تخصصه الحكومة للطاقة.

 واستهدف البرنامج الحكومي المتفق عليه مع الصندوق أن يكون هذا الرقم موجبًا في العام المالي الماضي 2017/ 2018، بأن تصبح إيرادات القطاع أعلى من قيمة الدعم، وهو ما استحال تحقيقه مع الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار النفط العالمية بعد اتفاق مُصدري النفط على تحديد سقف للإنتاج، مما أدى إلى تحسن الأسعار. ولكن الفرصة مهيئة في العام المالي الجديد، مع عودة أسعار النفط للانخفاض، وإذعان أوبك لرغبة الولايات المتحدة الأمريكية في ضخ كميات أكبر من النفط في الأسواق العالمية، هذا بالإضافة بالطبع إلى قرارات الحكومة برفع أسعار الوقود في إجازة عيد الفطر الماضية. وتضم إيرادات قطاع النفط أرباح الهيئة العامة للبترول، والضرائب المفروضة على منتجات النفط، وضرائب الدخل المحصلة من الهيئة ومن الشركات الأجنبية العاملة في مصر، وغيرها من الرسوم. ووفقًا لبيانات الصندوق فإن مصر مُلتزمة بزيادة سعر الوقود بشكل دوري لتصل أسعار بيع معظم أنواع الوقود للمستهلك إلى 100% من تكلفة الإنتاج (قبل الضريبة)، في العام المالي القادم 2018/ 2019   .

 جدير بالذكر أنه قبل بداية برنامج الحكومة في خفض دعم الطاقة كان سعر البيع ما بين 20 % إلى 25 % من سعر الإنتاج. وأظهرت وثائق الموازنة المصرية أن الحكومة تستهدف خفض دعم المواد البترولية خلال 2018/ 2019 بنحو 26 بالمئة ليصل إلى 89 مليار جنيه، وخفض دعم الكهرباء بنحو 47 بالمئة، ليصل إلى 16 مليار جنيه. وتوضح هذه الأرقام أن الحكومة ستكون قادرة ببساطة على إنهاء عصر دعم الكهرباء في العام المالي بعد القادم، 2019/ 2020، إذا خفضت دعم الكهرباء بالرقم نفسه، أي أننا ربما نوفر عامًا من الإصلاح. أما فيما يخص (توازن البترول)، فإن إيرادات الحكومة من قطاع البترول، المتمثلة في الضرائب المفروضة على الهيئة العامة للبترول والضرائب على المنتجات البترولية وفائض قطاع البترول و«إتاوة البترول» فمن المخطط أن تبلغ 97 مليار جنيه، هذا بغض النظر عن خطط بيع حصص في شركات تابعة لقطاع البترول، كما هو مخطط لشركة إنبي وغيرها. ما يعني أن الحكومة تُحصل من قطاع النفط أكثر مما تدعم به المواطنين.

الصحة والتعليم.. الخطيئة الكبرى

يحدد دستور 2014 نسبًا محددة من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على بعض البنود بالموازنة، 6% للتعليم و3% للصحة، و1% للبحث العلمي، وذلك بحلول العام المالي 2016/ 2017، وبعد ذلك يبدأ الرفع التدريجي لحصص هذه البنود من الناتج المحلي الإجمالي، حتى تتساوى مع المعدلات العالمية. كان هذا النص الدستوري أمر جيد على الرغم من محدودية طموحه، فالتساوي مع المعدلات العالمية في الإنفاق يعني استمرار الفجوة بين السابقين واللاحقين، فإذا جرى أصحاب المراكز الأولى بسرعة أصحاب المراكز الأخيرة نفسها فستبقى الفجوة بينهم كما هي، ولكن حتى هذا الطموح المحدود لم تستطع الموازنة المصرية مواكبته. وتخصص الحكومة 105.2 مليار جنيه لبرنامج الصحة، منها 61 مليار جنيه فقط للقطاعات المرتبطة وظيفيًّا بالصحة، مثل وزارة الصحة والمستشفيات غير التابعة لها، وتخصص الحكومة 141.5 مليار جنيه لبرنامج التعليم قبل الجامعي، و68.1 مليار جنيه لبرنامج التعليم العالي، و35 مليار جنيه لبرنامج البحث العلمي، بإجمالي 230.6 مليار جنيه، ولكن إجمالي ما تم تخصيصه لهذه البنود «وظيفيًّا» نحو 115.6 مليار جنيه فقط.

وهذا لأن الحكومة وزعت قيمة فوائد الديون على برامج الموازنة، حتى لو لم تستفد هذه البرامج من أصل القرض نفسه، فعلى سبيل المثال لو اقترضت وزارة النقل لتطوير مترو الأنفاق فإن برنامج التعليم سيتحمل جزءًا من فائدة هذا الدين، وهذا ابتداع محاسبي لم يسبق الحكومة المصرية إليه أحد. كما تمت إضافة الإنفاق على الصرف الصحي ومياه الشرب، وميزانيات مستشفيات الجيش والشرطة إلى ميزانية برنامج الصحة، على غير المتبع في الموازنة المصرية أو غيرها من الموازنات، والأمر نفسه تكرر فيما يخص التعليم. أما المصيبة الكبرى فكان اعتماد حساب نسبة الإنفاق من إجمالي الناتج المحلي للسنة السابقة للموازنة، وليست سنة تطبيق الموازنة، وهذا أمر مخالف لأي معيار دولي أو لمنطق الرياضيات والإحصاء. وهذا بغض النظر عن كفاءة الإنفاق نفسه، فلا نحتاج إلى التركيز على كفاءة إنفاق ضئيل أو جودة توزيعه، فوفقًا لمعدلات الإنفاق الحالية، من الطبيعي أن يعاني قطاعا الصحة والتعليم في كل بنود التوزيع، والأجور والتطوير والتدريب وتوافر الخامات والخدمات والاستثمار في البنية التحتية من مستشفيات ومدارس، وبالتالي فانهيار القطاعين أمر حتمي.

البدائل ممكنة

ما فرضته الحكومة من خلال موازنتها ليس بالأمر المُسلم به، ولكنها إجراءات متفقة مع توجهات صندوق النقد الدولي، الذي يعتمد روشتة موحدة لكل دول العالم: «تخفيض النفقات وتقليص دور الدولة وتعويم سعر صرف العملة والتوسع في الاستدانة وامتصاص التضخم عبر رفع أسعار الفائدة». فصندوق النقد يعتبر تدخل الحكومات «تشويه لحرية السوق، القادر بطبيعته على العودة للتوازن»، وفقًا للنظريات الاقتصادية النيوليبرالية. أما نظريات التشغيل الكينزية فترى أن احتمالات توازن السوق من تلقاء نفسه تحدث في الأجل الطويل «وفي الأجل الطويل كلنا أموات»، وأن المخرج للدول التي تعاني من أزمة تضخم وبطالة مرتفعتان، مثل الحالة المصرية، هو اتباع سياسة مالية توسعية، ما يعني زيادة الإنفاق الحكومي على السلع والدعم والأجور والتوسع في التوظيف والاستثمارات الحكومية، وتنشيط الاقتصاد عبر حزم مالية في القطاعات الأكثر تأثرًا، وهذه هي الطريقة التي اتبعتها بعض دول شرق آسيا للنجاة من الأزمة المالية الآسيوية في نهاية التسعينيات، وأيسلندا للخروج من الأزمة المالية العالمية ما بين 2008 و2010.

وأيسلندا هي الدولة الأهم في رفض روشتة صندوق النقد الدولي، فبعد الأزمة المالية العالمية كانت هذه الدولة الصغيرة الأقرب للإفلاس في العالم، لاعتماد اقتصادها على القطاع المصرفي، قائد النمو في العقد الأول من الألفية الجديدة، كما أنها كانت تعتمد في توفير كثير من احتياجاتها على الاستيراد. في بداية الأزمة المالية أفلست أكبر 3 بنوك في أيسلندا، وكانت روشتة صندوق النقد الدولي تتضمن استحواذ الدولة على البنوك ورد الودائع لأصحابها، ثم التقشف وتحقيق فائض يوجه لسداد الديون، أي أن يتم تحويل الإيراد العام لسداد ديون خاصة، ولكن الأيسلنديين رفضوا هذه الخطة في استفتاء، وبدأت خطة إصلاح مختلفة؛ فاوضت أيسلندا المؤسسات الدولية على قرض مقداره 3 مليارات دولار، أضافت إليه الدول الإسكندنافية 2.5 مليار، وأنفقت هذه الحصيلة على مشروعات ذات مردود كبير مكّنها من سداد جميع ديونها في سبع سنوات، كما تجنبت سياسات التقشف التي تؤدى إلى تراجع معدلات الإنفاق العام والخاص، ومن ثم ركود الأسواق ونقص الاستثمارات اللازمة لدفع معدل النمو الاقتصادي. في بداية الأزمة، في عام 2008، سجلت الموازنة العامة لأيسلندا عجزًا قياسيًّا بلغ 13% من الناتج المحلى الإجمالي، لم تستهدف أيسلندا تخفيضه، ولكن هذا العجز تحول إلى فائض بنسبة 2 % من الناتج المحلى الإجمالي في عام 2015، أي بعد 7 سنوات فقط، نتيجة تحسن النشاط الاقتصادي. وعلى العكس فإن الدول التي اتبعت روشتة صندوق النقد الدولي، مثل اليونان، فشلت في الخروج من الأزمة، إلا بعد إعادة رسم خططها بعيدًا عن توجيهات صندوق النقد الدولي، كما فعلت أثينا منذ عامين.

هذا عن السياسة العامة، أما السياسة الضريبية فهي مليئة بالتناقضات، ففي الوقت الذي تهتم فيه الدولة بضم القطاع غير الرسمي للاقتصاد الرسمي بطريقة مُنفرة «فرض ضرائب»، تلتزم بمعدل متدن لأعلى شريحة ضريبية (22.5 % على الأرباح)، وتضم كل من يزيد دخله عن 200 ألف جنيه سنويًّا (16.6 ألف جنيه شهريًّا)، هذا بينما يدور المتوسط العالمي للضريبة على الشريحة الأغنى حول 30 %. بالإضافة إلى أن هيكل الضرائب المصرية يعتمد بالأساس على تحميل الأقل دخلًا الضريبة الأعلى، فضريبة القيمة المضافة التي يتحملها المستهلك العادي تبلغ حصيلتها 320 مليار جنيه في موازنة العام المالي الحالي، كما تبلغ حصيلة الضرائب على الدمغة والمرتبات 50 مليار جنيه، مقابل 29.2 مليار جنيه على أصحاب النشاط التجاري والصناعي، و2.6 مليار جنيه فقط من أصحاب الأنشطة المهنية غير التجارية، والتي تضم كل العيادات ومكاتب المحاماة ومكاتب الاستشارات الهندسية وغيرها، و2.5 مليار جنيه إيراد متوقع لضريبة الأرباح الرأسمالية على أسهم البورصة. ويمكن لهذه السياسات التقشفية أن تؤدي إلى تحقيق فائض على الأمد القصير، ولكنها في الأجل الطويل تضعف النمو الاقتصادي، وتتسبب في تآكل الثروة، وتركز المتبقي منها في يد الشريحة الأعلى دخلاً، وبالتالي تباطؤ النمو الاقتصادي وتآكل إيرادات الدولة واستدامة عجز الدولة والمواطن عن تلبية احتياجاتهما.