هوامش
أميرة عبد الحميدالميم وتحوّلات الهوية
2017.11.01
تصوير آخرون
الميم وتحوّلات الهوية
أعيش في مدينة صغيرة على جزيرة كبيرة للغاية، هي إنجلترا التي تشتهر بتقبل ودعم ما سوف نطلق عليه هنا "مجتمع الميم"، وهو المجتمع الذي يتكون من مثليي الجنس والمتحولين/ العابرين جنسيًا، وكذلك من مجموعة كبيرة ومتنوعة من الهويات الجنسية والجندرية.
يقام في هذه المدينة سنويًا موكب فخر لمجتمعالميم؛ يشارك في الموكب الآلاف من الأشخاص من مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية والجنسية، بالإضافة إلى المشاركة الرسمية لممثلي بعض مؤسسات الدولة، مثل ضباط الشرطة المحليين.
يرجع تاريخ هذا الموكب، وأمثاله من المواكب الشبيهة في بلدان أخرى، إلى أواخر ستينات القرن الماضي،حين قامت قوات الشرطة الأمريكية في يونيو 1969 بمداهمة نزل "ستوون وول" في أحد أحياء مدينة نيويورك الذي كان من أشهر حانات المثليين وقتها.
قام مجموعة من الأشخاص الذين تمكنوا من الخروج من الحانة ومجموعة من المارة بالتجمهر خارج الحانة، وزادت الأعداد على مدار ليلة المداهمة، واندلعت أعمال شغب أجبرت بعض ضباط الشرطة على البقاء داخل الحانة لمدة 45 دقيقة خوفًا على سلامتهم.
في يونيو 1970أقيم أول موكب يهدف إلى إحياء ذكرى أحداث "ستوونوول"، ثم انتشرت المواكب في أماكن وبلدان مختلفة، خاصة في الغرب. وفي 1978اتُخذ علم" قوس قزح" كرمز لمجتمع الميم.
في الوقت الحالي تتسم مواكب الفخر تلك بالطابع الكرنفالي، بما فيها من أجواء احتفالية وأزياء مميزة وألوان مبهجة. وتتعرض هذه المواسم الاحتفالية للنقد لانفصالها عن الفكرة الأصلية لأول موكب أُقيم في عام ١٩٧٠، وكذلك لاحتفائها ببعض المؤسسات غير الداعمة، مثل الشرطة التي كان اضطهادها لمجتمع الميم هو السبب الرئيسي وراء تنظيم هذه المواكب. كما ينتقد البعض تدخل رأس المال من خلال الشركات التي تعمل على استغلال طقوس النضالات ضد التمييز الجنسي والجندري للترويج لمنتجاتها.
في أول الأمر استقبلت هذه المواكب ببعض من التعجب والحسد. كان الجميع يرقصون ويحتسون الشراب في سعادة بالغة، ويفخرون بانفتاحهم وتقدميتهم. وهكذا سارعكثير من غير المثليين إلى إعلان تضامنهم مع "هؤلاء". وعلى مدار السنين تشكّل مجتمع افتراضييربط تجارب ومعاناة ورغبات المثليين ببعضهم البعض، ويضعهم في قالب واحد كما لو كانوا متطابقين بدون اختلافات عرقية أو طبقية أو دينية أو قومية أو حتى جنسية.
أعطتني أمي نسخة "جيب" من القرآن قبل مجيئي هنا. أحببت ذلك كثيرًا، ووضعت النسخة في غرفة المعيشة في بيتي الجديد فوق المدفأة. لم ترجع سعادتي باقتنائي نسخة من القرآن إلى أسباب دينية بالضرورة، ربما فقط احتفظت بهذه النسخة في مكان مرئي حتى اتذكر أني لست بعيدة كل هذا البعد عن موطني وعن أمي.
منذ شهور قليلة وضع أحد الأشخاص الذين أشاركهم مسكني علم "قوس قزح" بجوار القرآن. لم أفكر كثيرًا في الأمر، بالرغم من انتقادي الدائم لمفهوم الجنسانية وتصنيف الهوية بناء على تفضيلات الرغبات الجنسية والحميمية وللترويج للحقوق والحريات الجنسية دون الاهتمام بالأبعاد السياسية والاقتصادية والتاريخية للهوية.
ثم حدث أني كنت اتصفح الأخبار يوم حدوث واقعة حفل فرقة "مشروع ليلى" في القاهرة في 22 سبتمبر 2017. حيث مُنعت الفرقة من الغناء في مصر بعد رفع بعض الجمهور علم "قوس قزح" لأول مرة في مصر. إثر ذلك تم القبض على العشرات من الأشخاص.
ساعتها قمت فجأة بإبعاد الكتاب المقدس عن جاره "العلم المثلي"، فأصبح أحدهما يسكن في ركن من الرف والآخر في الركن المقابل. جعلني هذا أفكر كثيرًا في التوتر بين ممارسة الإسلام في مجتمعاتنا الحديثة والرغبات الجنسية غير المغايرة والتحول الجنسي. وسريعًا ما أدركت أن معظم الأديان، وخاصة السماوية، تحرم المثلية الجنسية، أو على الأقل تحرم تفسيراتهم السائدة. لماذا إذن تقوم دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة على سبيل المثالبتقنين زواج المثليين؟ ولماذا يختلف الحديث عن الرغبات غير المغايرة في السرد الرسمي للدول المجاورة لمصر، مثل الأردن ولبنان؟
كنيسة إنجلترا هي الكنيسة الرسمية، وديانة دولة إنجلترا تابعة للمذهب الأنجليكاني، والملكة هي الحاكم الأعلى للكنيسة، وبالتالي إرث العرش الملكي يكون للبروتستانت فقط. أما في الولايات المتحدة، وبالرغم من كونها رسميًا دولة علمانية، فهناك بعض التقاليد السياسية ذات الطابع الديني، مثل استخدام الإنجيل خلال مراسم قسم رئيس الجمهورية المنتخب، أو مثلًا الاستخدام الدائم للعبارة الرئاسية الشهيرة "بارك الله في أمريكا". وحتى في الأردن ولبنان، وبينما تزداد هناك حدة الحملات ضد المثليين بشكل متقطع، إلا أنه مازالت هناك مساحات عامة أو شبه عامة يمكن أن توفر فرص للظهور لمجتمع الميم. فمثلًا، منعت الحكومة الأردنية حفل للفرقة نفسها –مشروع ليلى–في يونيو الماضي بتهمة "الترويج للمثلية" وحفاظًا على أخلاق شباب المجتمع الأردني، ولكن حكومة الأردن لم تستخدم هذا الحدث لإشاعة الذعر الجماعي بالبلاد، ولم تشن حملات للقبض على الأشخاص من منازلهم متهمة إياهم بالفجور.
لا أنفي إمكانية أن تحذو كلا من الأردن ولبنان خطى مصر، ولكن من المهم أن ننظر لمصر على أنها في مقدمة الدول العربية التي كثيرًا ما تستدعى موضوع المثلية في الخطاب العام في أوقات تشعر فيها الدولة بأنها على وشك فقدان شرعيتها. وهذا لأن مصر دولة أمنية في المقام الأول، تستمد السلطة شرعيتها فيها فقط إذا كان أمن البلاد مهددًا، وإذا كان من يهدده لا يحظى بدعم شعبي أو تعاطف، ومن ثم يسهل قمعه.
بدأ هذا النمط في عام 2001 عندما داهمت قوات الشرطة مركب الملكة ناريمان السياحي على مرسى نهر النيل في حي الزمالك، في القضية الشهيرة إعلاميًا بالـ"كوين بووت"، وهو المركب الذيكان بمثابة تجمع ليلي مشهور للمثليين في تسعينات القرن الماضي. قبضت قوات الشرطة على أكثر من خمسين شخص من على متن المركب، وأيضًا في أنحاء متفرقة من القاهرة في شهر مايو 2001.
لم تكتف الدولة بالقبض على هؤلاء وتعذيبهم وإخضاعهم لفحوصات شرجية غير علمية تنتهك سلامة أجسادهم، ولكنها أيضًا ساعدت وسائل الإعلام في التشهير بهم ووضع حياتهم في خطر من خلال نشر أسمائهم وصورهم للرأي العام؛ كما تم منع ذويهم من حضور محاكمتهم.
تعتبر تلك هي أول هجمة منهجية ضد مجتمع الميم في مصر، وأول اعتراف ضمني من جانب الدولة بوجود مثليي الجنسية في مصر. فعندما قامت الدولة بملاحقة ومحاكمة ومعاقبة المثلية الجنسية، فهي في الوقت نفسهخلقت تصنيفًا بعينه واعترفت بوجوده بين هذا الشعب المحافظ والمتحفظ أخلاقيًاالذي تدعي حمايته. بعد هذا الاعتراف والعقاب في آن واحد، أصبح المثليون يمثلون خطرًا دائمًا على النسيج الوطني والأمن القومي المصري، ولم يعد كل من كانت له ميول جنسية غير مغايرة فقط كافرًا أو مريضًا، ولكنه غدا أيضًا عميلًاإمبرياليًا قامت دول الغرب بدسه وسطنا للقضاء على ثقافتنا وحضارتنا؛هذا كما لو أن الأجساد المثلية مجرد أسلحة متشابهة، وليست مجرد أشخاص لهم توجهات وأفكار وانتماءات مختلفة. نجحت الدولة في إقناع الكثيرين أن رغباتنا في هذه البقعة من العالم "طبيعية" و"أخلاقية"، حيث ينكح رجالنا النساء فقط، بينما ينحرف الغرب ويفسد كل ما هو مقدس.
لا يوجد رابط مباشر بين كل من لديهم رغبات مثلية، ربما هناك تشابه فسيولوجي كما يزعم البعض. لكن الحقيقة أنالاعتبارات الثقافية والاجتماعية تشكل إلى حد كبير مفهومنا عن الجنسانية والرغبة الجنسية. يعني هذا أن المثلية الجنسية ليست شيئًا ثابتًا، ويعني أيضاً أن الجنسية الغيرية ليست هي الأخرى شيئًا ثابتًا له تعريف واحد عند الجميع. لماذا إذن نفترض معرفة مسبقة عن المثلية الجنسية كما لو كانت شيئًا موحدًا؟
أظن أن السؤال الجوهري هنا ليس فقط ما هو معنى الجنسية المثلية في المجتمع المصري (بمختلف طوائفه)؟ ولكن أيضاً ما هي قيمة الجنسانية، وخصوصًا الرغبات الجنسية المثلية، في المجتمعات المختلفة؟ لا أريد أن أتطرق إلى الكلام عن الرفض الشخصي لممارسات غير المغايرين والمتحولين جنسياً، وهذا لأن الأسباب التي تلزم الدولة بعدم التمييز ضد المثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسياً وبحمايتهم تختلف من نواحي كثيرة عن الأسباب التي قد تلزم الأفراد العاديين بتقبل مثليي الجنس. فإن تقلبات معنى الهوية العامة للمصريين، مثلها مثل ثوابت الهوية التي نسندها إلى أنفسنا من خلال الدولة والمجتمع، تجعل من الصعب جدًا على الرجال المثليين والنساء المثليات وعلى مزدوجي الميل الجنسي وأصدقائهم الدخول بشكل كامل في النقاش السياسي والحياة السياسية والاجتماعية. عدد كبير جدًا من المثليين لا يزالون صامتين حتى يتمكنوا من الحفاظ على وظائفهمووضعهم الاجتماعي وربما في أغلب الأحيان للحفاظ على حياتهم وسلامة أجسادهم.
هناك خطر حقيقي إذا أتحنا للدولة المصرية المعاصرة احتكار تعريف الهوية الجنسية أو الاجتماعية أو السياسية لمصر، ليس فقط لضيق أفق مؤسساتها، ولكن أيضًا لاستهدافها الدائم لمن ترى أنهم يعيشون خارج نطاق قواعد هذه الهوية. تطارد الدولة المصرية مجتمع الميم الآن وعلى مدى العقود الفائتة، بل إنها كذلك تلفق تهمًا جنسية للنشطاء المعارضين وتشوه سمعتهم بالحديث عن"العلاقات الجنسية الكاملة" التي يدخلون فيها، كما حدث خلال وفي أعقاب ثورة يناير 2011.
من المهم ملاحظة ودراسة كيف تقوم الدولة بعقاب المثلية الجنسية ومتابعة الفروق في معاملتها للنساء المثليات والرجال المثليين، وحتى متابعة كيف تتعامل السلطة المصرية مع التفاوتات الطبقية للرجال المثليين. من خلال هذه الملاحظة سوف يتضح لدينا ليس فقط أن الدولة في أغلب الأحيان تقسو على الرجال الفقراء أكثر كثيرًا من الأغنياء (وحتى إن كان هؤلاء الأغنياء مثليين)، ولكن أيضًا أن هذا المجتمع الافتراضي (خاصةً في حالة مصر) ليس حقًا متطابق، بل هو بعيد كل البعد عن الصورة التي تحاول الدولة المصرية نشرها في مخيلتنا الجماعية. هناك مثليونومثليات يؤيدون رفع علم القوس قزح والظهور بهويتهم الجنسية، وهناك من يمارسون الجنس المثلي ولا يعيرون أهمية لتصنيفات الهوية الجنسية، خاصة تلك التي نشأت في الغرب. وهنا يجب أن أؤكد أن ربط الرغبات الجنسية والعاطفية وخلق هوية مصمتة لمجتمع الميم قد نشأ في الغرب، ولكن هذا لا يعني بالطبع أن الممارسات المثلية لدى المصريين والعرب شيء دخيل وأجنبي.
لا يوجد رابط ملموس بين المثليين والمثليات والمتحولين والمتحولات وغيرهم من الفئات أخرى. أيضًاليس هناك رابط حقيقي بين الرجال المثليين وبعضهم البعض، كما لا يوجد رابط حقيقي مرتكز على الجنسانية بين الغيريين جنسيًا. كل شخص ينشأ في ظروف خاصة ويعيش حياة مختلفة. ولكن ما يتقاسمه مجتمع الميم هو القدرة على إيقاع الفوضى في عالمنا هذا وعلى تحدي كل ما نعتبره مقدس في مجتمعنا الحديث. هذه الفوضى ليست نتاج رغبة جنسية ما، وليس من الضروري أن تؤدي إلى نشر الفجور كما يزعم البعض، ولكنها تتحدى نمط علاقاتنا ببعضنا البعض وعلاقتنا بالسلطة. الأشياء التي تجمع مجتمع الميم حقًا هي قمع السلطات والتهميش الاجتماعي واستخدامهم كوسيلة للفت الأنظار بعيدًا عن قضايا الفساد وسياسات التقشف والفقر. وليسوا المثليونوحدهم هم الذين يتم استخدامهم بهذا الشكل. إذن يجب علينا إدراك وفهم النهج القمعي للسلطات المصرية الذي يطول الجميع، ومن ثم، يجب التفكير جديًا فيما يجمعنا لمواجهة ظلم بيّن، ويجب عدم الانخراط في سردية الدولة التيتسعى إلى التفرقة بين فئات المجتمع المختلفة.
في خطاب أمام الأمم المتحدة في ديسمبر 2011، أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية حينها، هيلاري كلينتون، أن "حقوق المثليين هي حقوق الإنسان"، وأنه لا يوجد اختلاف بين مجتمع الميم والمجتمعات الأقلية الأخرى، فهؤلاء أيضًا يحتاجون للدعم والحماية، ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية ولكن في جميع أنحاء العالم، وخاصة "الدول النامية" مثل بلادنا هذه وبلاد كثيرة أخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والبقاع الأقل نموًا في أمريكا الشمالية وشمال أوروبا. في العقود الأخيرة وربما بداية من أواخر تسعينات القرن الماضي أصبحت الجنسانية -والتي هي ليست فقط كلمة حديثة في اللغة العربية، ولكنها أيضًا مفهوم حديث تاريخيًا- جزء أصيل من تصنيف البلدان: إما كانت متقدمة يستمتع مجتمع الميم فيها بمميزات ومساواة، أو غير متطورة وفكرها قديم ورجعي حيث يتم اضطهاد وملاحقة مثليي الجنس.
تاريخيًا، لم يكن الأمر هكذا دائمًا. فمن الممكن أن نقول إن "الآية انقلبت" منذ نهاية القرن التاسع عشر بعد نشأة حركة "اليقظة العربية" أو "النهضة العربية"بدءًا من منتصف هذا القرن.إذ قام أدباء ومفكرو ذلك الزمان بـ"انتشال" اللغة العربية مما طرأ عليها مما اعتبروه تقهقرًا، وقاموا بإنتاج أدب عربي معاصر، ونشروا الآلاف من المخطوطات الكتابية التاريخية يعود بعضها إلى القرن السابع وحتى القرن الرابع عشر.
عندمااهتم الأوروبيون -وخاصة البريطانيون في العصر الفيكتوري- بهذه المنشورات وقاموا بترجمتها، لم ينظروا للكتابات والثقافات الجنسية عند العرب والمسلمين من القرن الثامن وحتى القرن العشرين على أنها عادات تقدمية. فهم مثلًا لم يمدحوا شعراء مثل أبو نواس (756-814م) ومحمد شهاب الدين (1795-1857م) وصالح مجدي بك (1881-1926م)، وحتى حافظ إبراهيم (1972- 1932م) الذي كتب قصائد كثيرة عن وسامة بعض الرجال في شبابهم، وغيرهم. وفي القاهرة، كان مازال من الممكن طباعة أدب من القرن الخامس عشر عما نطلق عليه الآن المثلية الجنسية. فمثلًا نُشر ديوان "جنة الولدان في الحسان من الغلمان" في القاهرة في 1908 وكتاب "لوعة الشاكي ودمعة الباكي"لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي كذلك في القاهرة في طبعات عديدة في الفترة من 1857 إلى 1929.
وعندما منع محمد علي باشا النساء من أداء عروض الرقص في 1834، زادت شعبية الراقصين الرجال وحظوا بإعجاب الكثيرين، خاصة من الرافضين لرقص النساء. وقد استُخدمت كلمة "خول"، ومعناها الأصلي خادم، للإشارة إلى الراقص الرجل، الذي كان في أصله خادم في قصور الأثرياء، لكنه –للغرابة– كان خادمًا في مقام أعلى من الخدم الآخرين.
ارتدى الراقصون الرجال أزياء النساء ووضعوا مساحيق التجميل ورقصوا أمام جمهور من الرجال. وكان هذا عاديًا ومقبولًا. كذلك كان هناك تقبل للعلاقات المثلية بين النساء. إذ كان ينظر إليها على أنها وسيلة لتفادي للعار الذي قد تجلبه العلاقة بين رجل وامرأة قبل الزواج.
وفي المقابل، لم تكن ممارسات المثلية الجنسية تحظى بتقبل مجتمعيفي إنجلترا، خصوصًا في أوائل القرن التاسع عشر، حيث كانت الدولة تعاقب المثليين، ولوقت طويل كانت العقوبة هي الموت.
ثم احتلت بريطانيا مصر في ثمانينات القرن التاسع عشر مع نشأة حركة النهضة العربية، وبدأت النخبة الثقافية في مصر والمنطقة العربية تمحو التاريخ المثلي عند العرب بدعم من منظومة الاحتلال التي كانت ترى وقتها المثلية الجنسية على إنها سمة همجية غير حضارية يجب التخلص منها حتى تتقدم المجتمعات العربية. ثم بدأ إدراج الجنسانية في الخطاب التنموي حينها، واستمر هذا الخطاب حتى الآن، وإن اختلف شكله ومضمونه كثيرًا منذ ذلك الحين.
صحيح أن التسامح العربي مع المثلية الجنسية قبل عصر النهضة لا يعني أنه كان هناك تقبل تام للعلاقات المثلية أو الهويات الجندرية غير الثنائية. لكن أيضًا لا يوجد تقبل تام لمجتمعات الميم في الغرب حتى وقتنا الحاضر. بيد أن هذا لا يغير من الحقيقة الأساسية شيئًا: المفاهيم الجنسية والجندرية تغيرت عندنا، وفي العالم كله، بشكل حاد من زمن إلى آخر. فالهوية ليست شيئًا ثابتًا ولا موحدًا.
تتباين مفاهيم الجنسانية كثيرًا بين الثقافات وفيداخلها، وتتغير مع الوقت، وهذا كما رأينا من خلال مراجعة بسيطة لتاريخ القرن التاسع عشر. الآن يستخدم الغرب والمؤسسات الدولية المثلية الجنسية كعلامة على التقدم على افتراض أن عدم تقبل المثلية الجنسية هو أمر تقليدي وقديم ومتأصل في المجتمعات العربية، متجاهلين آثار الاستعمار وهيمنة الأفكار والممارسات الاستعمارية على مفاهيم "الجنسانية العربية". في حين أن الدول العربية والأفريقية وغيرهم -وخاصة مصر- تستخدم الآن المثلية الجنسية لخلق أعداء جدد من أصحاب الأجندات الخارجية" الذين يمثلون خطرًا على البلاد ويهددون سيادة الدولة.
في الغالب سيبقى علم المثلية بعيدًا عن القرآن الذي أهدته أمي لي في الغربة، ولكني أتساءل الآن أيضًا: ماذا سأفعل بهذا الصليب المتدلي بينهم؟