قضايا
محمد جميلالهبَّة الفلسطينية الأخيرة: استدعاء خطاب التحرير من جديد
2020.06.30
مصدر الصورة : الجزيرة
الهبَّة الفلسطينية الأخيرة: استدعاء خطاب التحرير من جديد
شهد الخطاب والأداء السياسي والتنظيمي للنشطاء والفاعلين الفلسطينيين في المجال العام خلال الأسابيع التي تلت الهبة الوطنية الأخيرة تراجعًا ملحوظًا، وتعثرًا في فخاخ تقليدية وأخرى جديدة استدرجتهم إسرائيل إلى بعضها. أهم أوجه هذا التراجع كان في التخلي جزئيًّا عن شعار وحدة العنوان والفعل السياسي التي ربطت التجمعات الفلسطينية في غزة والداخل والضفة والشتات ببعضها بعضًا، والتي أضفت على الانتفاضة الأخيرة خصوصيتها، والتجزئة السياسية للعناوين الكبيرة ذات الصلة بشعار «التحرير» والانسحاب من جديد إلى العناوين الفرعية.
ففي الأسبوع الأول بعد أن هدأت حدة الهبة الشعبية في فلسطين بالتزامن مع إعلان وقف إطلاق النار في غزة، بدأ تسجيل التدني في مقدار الفعل السياسي اللازم لتأكيد استمرارية مفاعيل الانتفاضة وانحسارٍ للمشاركة الجماهيرية فيها، وتركيز الاهتمام العام على حوادث التوقيف المتكررة والاعتداءات المنضبطة من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في حي الشيخ جراح في القدس، والتي كان ينفذها جنود الاحتلال عن قصد أمام عدسات المصورين الصحفيين والبث المباشر للقنوات الإخبارية، بغرض شد وضغط التفاعل الشعبي والعاطفي العام إلى أقصاه وإعادة تسريحه من جديد على نحو متكرر خلال مدى زمني قصير للغاية، إلى حين تحقق الإسرائيليين من استحكام مشاعر الفتور والملل تجاه ما يحدث، ليعودوا بعدها لاستكمال مخططات التطهير العرقي في القدس والشروع بعملية الانتقام الحقيقي مما حدث في الهبة المجيدة.
استطاعت إسرائيل أيضًا عبر الانتهاكات المدروسة والمنضبطة لجنودها أمام وسائل الإعلام الدولية وكاميرات الناشطين أن تصنع وتتحكم بالمحتوى الإخباري، وما تضمّنه من مقاطع فيديو وصور لحوادث الاشتباك بالأيدي بين المتظاهرين وعناصر الشرطة الإسرائيلية والمطاردات بينهم، وبالأساس حملات الاعتقال ومن ثم أخبار الافراجات بفاصل زمني لا يتجاوز بضع ساعات، والخطاب الشاعري المرافق لذلك والذي جعل هذه الحوادث تستأثر بموضوعه الذي كان يؤكد في الظهيرة أن الاعتقال لن يكسر إرادة التحدي، ليعود بعد ساعتين ويؤكد انتصار تلك الإرادة في سيناريو يتكرر خمس مرات خلال 48 ساعة. وبذلك، عبر خلق وبث هذا المحتوى الهائل والكثيف القادم من الشيخ جراح للاعتداءات وعمليات الاعتقال التي تحدث بحق الصحفيين وأيقونات الهبة، عملت وتعمل إسرائيل على توظيفه في غسل صور الأسابيع الماضية التي علقت في الضمير العالمي لسلوكها في غزة على وجه الخصوص، من خلال زرع صورة زائفة ومصممة بعناية في المخيال العالمي لمستوى وشكل إجرامها الحقيقي في فلسطين؛ إسرائيل بموجبها، ليست تلك الدولة التي وفي أثناء عملية إنتاج ذلك المحتوى البصري والاخباري في الشيخ جراح، كانت قد انتهت من إحراق مئات الفلسطينيين في غزة وهدمت قسمًا معتبرًا من مبانيها بطائرات الإف 16 فوق رؤوسهم، وارتكبت مجزرتين في كل من رام الله وجنين في الضفة الغربية. ولكن تدوين هذه الملاحظة ينبغي إلا ينسينا توجيه التحية لعائلات الشيخ جراح وصمودها في وجه سياسات التطهير العرقي التي تنفذها إسرائيل بحقهم، وبحق الوجود العربي في القدس والشيخ جراح، وللبراعة التي أظهرها أبنائها في توظيف مآسيهم الخاصة لخدمة عنوان التحرر الوطني الفلسطيني، الذي لا يزال هناك متسع من الوقت لتدارك أوجه التراجع التي حدثت وحرفت اتجاه الفعل والخطاب عنه، الذي جاءت الهبة الوطنية الأخيرة لتؤكده كناظم واحد ووحيد لأي مشروع سياسي وأي أفق لفعل جماعي مهما كان طابعه للفلسطينيين، والتي وإن نجحت إسرائيل فرضًا في تفكيك كل تداعياتها، فإن ما لن تستطيع محوه من أذهان الفلسطينيين والعرب هو إنجازها الأهم المتمثل بإعادة الدفع بسؤال «التحرير»، تحرير فلسطين كاملة، إلى واجهة الخطوط الأولى للاشتباك بكل أشكاله ومواقعه مع إسرائيل.
تصويب المسار، أو بمعنى أدق، شق المسار البديل الذي يستلزمه شعار «التحرير» انطلاقًا من هذه اللحظة المجيدة التي عاشها الفلسطينيون لأسابيع في الفترة الأخيرة، يتستوجب آنيا مهمتين عاجلتين: الأولى، تثبيت برنامج عمل وطني جامع وقادر على استقطاب وتفعيل جهود التجمعات الفلسطينية. والثانية، حشد طاقات الشباب الوطني الفلسطيني وتعاونها في إعادة فتح المجال السياسي الفلسطيني وانتشاله من بِرَك الركود والضحالة التي غمرته بها اتفاقيات أوسلو وأطر وديناميكيات العمل المرتبطة بها.
على صعيد البرنامج، فالأصل أن يتم العمل على تثبيت الحالة التي خلقتها الهبّة سياسيًّا وإعلاميا، وحتى سيكولوجيًّا بالمعنى الجمعي للفلسطينيين، بشد أواصر الالتصاق الشعبي بها وربطها بالقضايا الوطنية الرئيسية الأكثر تداخلاً بعنوان التحرير، والتي تمس وجدانيًّا ومعيشيًّا شرائح اجتماعية فلسطينية كبيرة. ولكن ما حدث أنه وبعد وضع المواجهة الأخيرة أوزارها، ونتيجة ربما لاستحكام منطق وعقلية «الإن جي أوز NGOS» في صفوف النخب الفلسطينية وأسباب أخرى، وفي إطار الآفاق الا بداعية المحدودة لهذا المنطق، فإن محاولات إدامة مفاعيل الهبة عبر وصلها بعناوين فعل أخرى لم تنجح في تجاوز مقترحات المبادرات الاجتماعية التقليدية، التي برتابة شكلها ومضمونها تثبط من عزيمة المواكبة الجماهيرية لها، وهبطت بسقف الفعل الشعبي الممكن إلى مستويات جعلت الانخراط به مقتصرًا على فئات من خلفيات اجتماعية وجغرافية محددة.
حيث إن مستوى الحشد الجماهيري والمضمون السياسي والعاطفي الكثيف للهبة، كان بحاجة لعنوان سياسي كبير للحفاظ على اتقاد شعلته والبناء عليه، فقد كانت الفرصة سانحة لوضع قضية كقضية تحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال على رأس برنامج عمل استكمال الهبة، والدعوة لحشد وطني وعربي ودولي كبير يُحدث إنجازًا نوعيًّا في هذا الملف، الذي هو مأساة شخصية لأفراد آلاف الأسر وبخاصة في الضفة الغربية، وهي قضية تمس وجدان كل أسير محرر وأسرته والفلسطينيين في عمومهم، والذين بدورهم كانوا سيشكلون حاملاً جماهيريًّا هائلاً لهذا الفعل، خصوصًا وأن الحديث يتزايد الآن عن قرب التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. كذلك فإن عنوان فك الحصار عن غزة الذي لا أفق ممكن لأي اختراق فيه إلا بحراك يبادر إليه فلسطينيو الضفة والداخل بالدرجة الأولى، كان يصلح ترشيحه كعنوان لاستنهاض طاقات وطنية هائلة، خصوصًا في ظل التعاضد والالتحام الوطني العام الذي كان قائما في الأسابيع الماضية. خصوصًا وأن قطاع غزة اليوم هو حلقة الفعل السياسية والتنظيمية المركزية الأولى لدى الفلسطينيين وخزان مقدراتهم الأساس، الذي وعلى الرغم من الحصار المفروض عليه فإنه الأكثر اتصالاً سياسيًّا وتنظيميًّا مع الوجود الفلسطيني في الشتات والعمق العربي والإسلامي للفلسطينيين بالمعاني التي تتصل بالمضامين التحررية للفلسطينيين. ومن ثَم، فإن فك الحصار عن غزة أو النجاح في تخفيف بعض قيوده، من شأنه أن يحرر طاقات وطنية هائلة ويعزز إسهامها في مسار التحرير وتحقيق الربط التنظيمي الحقيقي بين مسارات العمل التحرري للفلسطينيين في كافة بقاع تواجدهم.
في ملف القدس، فإن الهبة كانت تُلزم الفلسطينيين بمقاربة أشمل له وأكثر تسييسًا وربطًا بسؤال التحرير الكلي من الصيغة التي كانت متداولة لدى إطلاق شرارة الهبة، تثبّت القدس من دون تقسيماتها الاستعمارية، ولو على مستوى الخطاب، عاصمة سياسية وتاريخية للفلسطينيين، وتضع على طاولة بحث استراتيجيات المجابهة، المحددات القانونية الاحتلالية التي تكبل بها إسرائيل حياة الفلسطينيين من حملة هوية القدس وتكدر عيشهم بهدف دفعهم للخروج منها، وإجراءات التهويد والتدمير التي تتعرض لها الأماكن المقدسة، وسياسات التطهير العرقي التي تتبعها بحق الوجود العربي المسلم والمسيحي في المدينة.
وفي الداخل المحتل، رسَّخت انتفاضة الفلسطينيين الانفصال السياسي والنفسي الذي بات ماثلاً ماديًّا على الأرض خلال الهبة الأخيرة بين الطبقة السياسية المنخرطة في لعبة التمثيل العربي في الكنيست ومؤسسات المجال السياسي الصهيوني من جهة، والحس الوطني الفلسطيني الذي لا لبس فيه والذي أظهرته الجماهير الفلسطينية في مدن اللد وحيفا وعكا والمثلث وغيرها من جهة أخرى. هذا النفير الوطني العام والغير مسبوق لفلسطينيي الداخل، والذي نقل أبعاد وحقائق المأزق الديموغرافي بين العرب واليهود بالنسبة لإسرائيل إلى مستويات إرباك شديدة فاجأت أجهزة أمنها الداخلي وأضاءت كل المصابيح الحمراء لديها، فتح فصلاً جديدًا في المواجهة بين العرب والصهاينة على أرض فلسطين التاريخية، الحق ألا أحد في الجانبين توقعه وتخيل أشكال تعبيره عن نفسه، ولكنه وهو أمر جلل وفارق في مسار التحرير، يلقي بشكل عاجل على عاتق القيادات الفلسطينية المحلية هناك مهمة تنظيمه وإدارته، ليس فقط لرفد مسار التحرر العام به، بل لتوظيفه كذلك في إسناد أجندات النضال الفرعية المتعلقة بتحسين ظروف فلسطينيي الداخل المعيشية، ومواجهة سياسات التدمير الاجتماعي المنهجية كالتجهيل ونشر سلاح الجريمة والمخدرات والتمييز في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة ضدهم، والرعاية الإسرائيلية الخفيّة لمختلف الآفات المجتمعية وبخاصة تلك المتعلقة بالتعدي على المرأة بغرض تفتيت نسيج مجتمع الداخل وإضعافه ليظل خاضعًا ومستكينًا لهيكل علاقات القوة الاستعمارية المفروض على العرب داخل الكيان الإسرائيلي.
والمهمة الثانية التي تطرح نفسها بإلحاح على جدول أعمال كل الفلسطينيين محورها: ضرورة إعادة «تسييس» Politicizing المجال العام. وذلك بتثبيت ركائز خطاب سياسي وطني بديل تخطّ إطاره العام وترسم حدود مجاله الذي ينبغي أن يتسع لكل المفردات الوطنية، برامج كانت أو أفرادًا، على طريق التهيئة لعملية تاريخية ترث فيها هذه المفردات القيادة ومسؤولية حمل الخطاب وتنفيذه عن المنظومة الحالية المتكلسة التي جففتها مفاعيل التصحر والتجريف السياسي والتنظيمي التي اجتاحتها في كل مواقعها. وفي أثناء الاستعداد لإتمام هذه المهمة التي يتحقق إنجاز الجزء الأكبر منها فقط عبر الالتحام المباشر بالناس وتقدم صفوف كل أشكال المواجهة مع إسرائيل، ينبغي مكافحة الآفات التي تكبّل أي حراك جدّي في المجال السياسي الفلسطيني، وأبرزها عملية «أنجزة»NGOization المجال العام عبر المؤسسات الغير حكومية الممولة غربيًّا وأنشطة «اللاتسييس» Depoliticizatio التي تغرقه بها، والتي في مآلها النهائي تسعى لتحويل النضال الوطني الفلسطيني إلى «مبادرات اجتماعية» صبيانية منزوعة المضمون السياسي والتحرري الجاد، واستبدال المناضل السياسي بالموظف البيروقراطي المسمى «ناشطًا اجتماعيًّا». وينبغي تنظيف خطاب الفلسطينيين من الهوس بمخاطبة الرجل الأبيض الذي بات الصوت الفلسطيني في الإعلام يبدو كما لو كان مصممًا خصيصًا لمسامع رجل أبيض يفترض المخيال السياسي لقطاع من النخبة الفلسطينية أنه موجود ومتفرغ فقط لاستقبال رسائلهم له، وهو أمر بالغ الضرر كونه يشطب تلقائيًّا الشعب الفلسطيني من الخارطة العقلية لهذه الخطاب بدلاً من أن يكونوا موضوعه الأساسي والمعني الرئيسي باستقباله. أخيرًا، وكما هو الحال في كل انتفاضة شعبية في فلسطين وخارجها فإن سؤال «التنظيم» باعتباره الأداة الرئيسية لتسييس المجال العام ومن ثم تفعيل وإدارة العمل السياسي فيه، يظل الاختبار الفعلي لأي انتفاضة شعبية وكل جهد وطني يتصدى لمهامها، وفي الحالة الفلسطينية فإن مقاربة هذا السؤال تكتسب خصوصية مدعاها أن الشعب الفلسطيني في عمومه مؤطر ومحزَّب سياسيًّا، وأن الأجسام السياسية لهذا التأطير ممثلة بقواه السياسية والاجتماعية حية وعاملة ونشطة، ما يعني بأن أي عملية إعادة تأسيس أو حتى إصلاح للمجال السياسي لن تتم بالانقلاب على مكوناته والتنكر لها، و إنما بتهيئة عملية انتقال ووراثة لمركز القرار ونواظمه وأدواته إلى شخوص وبرامج وحتى مواقع جغرافية جديدة، الذين ومهما بدا الطريق إلى «التحرير» بعيدًا عنهم، فإن ظلاله في الشهر الماضي كانت حاضرة في خلفية المشهد الذي صنعوه، كما لم تحضر منذ زمن بعد.
كانت الفرصة سانحة لوضع قضية كقضية تحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال على رأس برنامج عمل استكمال الهبة، والدعوة لحشد وطني وعربي ودولي كبير يُحدث إنجازًا نوعيًّا في هذا الملف..