فنون

معتزة عبد الصبور

الواقعية الجديدة.. العصر الذهبي للسينما الإيطالية

2021.03.01

الواقعية الجديدة.. العصر الذهبي للسينما الإيطالية

كتب سيزار زافاتيني، الكاتب والمنظر وكاتب السيناريو الأهم وسط تيار سينما الواقعية الجديدة الإيطالية، في إحدى مقالاته:

«إن تفادي الحقيقة خيانة لها.. رغبة سينما الواقعية الجديدة الغامرة والملحة في أن ترى، وأن تحلل الواقع، ونهمها الشديد لرؤية وكشف الحقيقة هو فعل فائق الاحترام والإجلال للإنسان العادي وحياته كما هي. سينما الواقعية الجديدة هي الحياة كما هي.. هي تبجيل لما يجري في العالم الحقيقي الواقعي.. الرؤية الأمريكية في سينما هوليوود هي النقيض تمامًا لنا تجاه صناعة السينما. فبينما نحن (في سينما الواقعية الجديدة الإيطالية) مهمومون بالحقيقة والواقع المعاش ونريد أن نتعرف عليهما ونكشفهما بشكل مباشر بلا تجميل أو إغفال، سنجد أفلام هوليوود «مفلترة» و»منقاة» بشكل مهول من الحقيقة، ما يجعلها درجتين أو أكثر بعدًا عن الواقع المعاش حتى للإنسان الأمريكي نفسه.. هكذا عندما لا توجد مواضيع، يُعتبر ذلك أزمة أو كارثة حقيقية في هوليوود.. بينما لدينا، في سينما الواقعية الجديدة، هذه أزمة مستحيلة الحدوث.. فمستحيل أن تكون هناك أزمة في الموضوعات طالما هناك دائمًا فائض من الحقائق ومن الواقع المعاش الذي لم نكشفه بعد.. أي ساعة من أي يوم، أي مكان، أي شخص، هو موضوع هام وشيق للسرد السينمائي، طالما كان الرواة (المخرج وكاتب السيناريو) قادرين على ملاحظة ورؤية كل تلك التفاصيل الدقيقة والخفية والمفردات الكثيرة جدًا التي تشكل واقع تلك الحياة، أو الموقف، أو الرحلة. المهم أن يكون الرواة قادرين على التنقيب عن القيمة الداخلية التي تحملها كل تفصيلة مهما تبدو مملة وعادية أو عابرة».

سيزار زافاتيني (1902-1989) أبرز وأهم كتاب سيناريو الواقعية الجديدة الإيطالية، وقد تعاون مع مخرجها الأهم فيتوريو دي سيكا في كتابة عشرين فيلمًا معًا. كما ترك إرثًا سينمائيًّا باهرًا، ضمنه هذا المقال «بعض الأفكار عن السينما»، الذي أصبح بمثابة مانيفستو، أو خريطة طريق، لكل عشاق والباحثين في سينما الواقعية الجديدة الإيطالية، إذ يُعتبر زافاتينى منظِّرها والمدافع الأول عنها.

اللحظة المضيئة

وُلد تيار «الواقعية الجديدة الإيطالية» في منتصف أربعينيات القرن الماضي وانتهى في النصف الأول من خمسينياته، وهو، كما أسماه لاحقًا المخرج الأمريكي مارتين سكورسيزي «اللحظة المضيئة الذهبية في تاريخ السينما في العالم». بدأ ذلك التيار مع فيلم «روما مدينة مفتوحة» للمخرج روبرتو روسلليني عام 1943، وانتهى عام 1952 مع فيلم «أومبرتو دي» للمخرج فيتوريو دي سيكا. وخلال تلك الحقبة، بين هذين الفيلمين، أنتجت مجموعة من الأفلام التي تنتمي لهذا التيار تشكل في مجملها زخمًا خاصًا، وتُعتبر من أهم افلام السينما في تاريخها. 

وبالطبع توجد أفلام سابقة ولاحقة للفيلمين المذكورين؛ احتوت على بعض السمات السينمائية والفكرية للواقعية الجديدة الإيطالية. سبقها مثلًا أفلام المخرج الألماني جورج فيلهالم بابست، وأفلام الواقعية الشاعرية في فرنسا (من أهم مخرجيها رينيه كلير وجان رينوار)، إلى جانب حركة سينما الواقع (الفيرسيمو «verrisimo») الإيطالية في مطلع القرن. كما سنجدها تؤثر في أفلام أنتجت بعد هذه الحقبة لمخرجين إيطاليين كبار مثل فيلليني وأنطونيوني وبازوليني، وأيضًا في أفلام الموجة الجديدة الفرنسية وأعمال مخرجيها الأهم (جان لوك جودار، وفرانسوا تريفو، وآلان رينيه، وكلود شابرول)، كما أن تأثيرها امتد بشكل كبير في التراث الإنساني الحداثي بمختلف إبداعاته. 

وفي ظني ينطبق على الواقعية الجديدة الإيطالية تعبير «أثر الفراشة»، التي تحرك جناحيها في مكان ما في العالم، فيتأثر بحركتها تيار آخر مختلف في موقع آخر من هذا العالم. فعلى الرغم من أنها كانت موجة قصيرة استمرت تسع أو عشر سنوات، لكن بسبب إنسانيتها وصدقها الشديد استمر تأثيرها حتى اليوم في إنتاج سينمائي متنوع يظهر في أرجاء متعددة من العالم. 

كتب زافاتيني «لقد سئمت إلى حد الموت من رؤية الأبطال الخياليين، أريد أن أقابل البطل الحقيقي للحياة اليومية. أريد ان أعرف الحال الذي هو عليه، ما شكله؟ هل لديه شارب أم لا؟ هل هو طويل أم قصير؟ أريد أن أرى عينيه، وأن أتحدث معه. أنا ضد الشخصيات الاستثنائية، لقد حان الوقت لأن نقول للجمهور العادي أنهم أبطال الحياة الحقيقيون.. لو لم نفعل ذلك وظلت محاولتنا للتعرف على أنفسنا ترتبط بالتوحد مع شخصيات خيالية استثنائية، سينجم عن ذلك خطرًا حقيقيًا علينا كأفراد ومجموع. يجب أن نرى أنفسنا كما نحن، فالعالم اليوم مليء ببشر غارقين في الأساطير ومنعزلون عن أنفسهم وعن واقعهم، عن حياتهم كما هي عليها، ينشدون تلك الصورة التي تجسدها لهم سينما هوليوود والسينما الإيطالية ما قبل الواقعية الجديدة».

هكذا نُصبح في حالة انتظار لحل إعجازي، كذلك الذي كتبه زافاتيني نفسه مع دي سيكا -بإسقاط وسخرية شديدة- في نهاية فيلمهما البديع «معجزة في ميلان». حيث يطير الفقراء المطرودون من عششهم المتواضعة لأن رأسمالي كبير أراد الأرض، وسخّر كل قواه وقوى الشرطة والسلطة لطردهم. فزافاتيني ودي سيكا جعلا الفقراء يطيرون في نهاية الفيلم، ويتحررون مثل الساحرات على مقشات ويختفون في السماء، ليسخرا بإبداع ومرارة من الحلول العجائبية التي تطرحها السينما التقليدية عادة لإنهاء أزمة البطل أو الأبطال. سخرية تعتمد على مفهوم شهير مستنبط من المسرح الإغريقي القديم: deus ex machina (الإله على ماكينة) أي الحل الإلهي الذي يسقط من السماء بعد أن تصل الأزمة إلى ذروتها.

يُشّبه الكثيرون الواقعية الجديدة الإيطالية بالسينما التسجيلية. وهي بالفعل كانت مؤثرة جدًا في كل ما تلاها من أفلام تسجيلية. لكنها أيضًا تنفلت من أيدي هذا التعريف المخل بطبيعتها، فهي ليست سينما تسجيلية، كما أنها ليست قصصًا أو دراما منسوجة من خيال مؤلف، والحقيقة أنها تقع في منطقة بين العالمين. هي دراما الإنسان العادي منسوجة من تفاصيل حياته اليومية. ومنبع قوتها وخلودها هو صدقها وتعاطفها وانحيازها للفقراء دون أي خطابة من أي نوع.

التمرد على الفاشية

يحضرني دائمًا عند الحديث عن الواقعية الجديدة الإيطالية، مقطع من قصيدة «أغنية حب جي. ألفريد بروفروك»، للشاعر الإنجليزي تي. إس. إليوت «هل أقدر، بعد تناول الشاي والحلوى، أن أدفع اللحظة إلى قمة تأزمها؟». فقد وُلد هذا التيار من رحم التمرد الصارخ على لحظات الزيف التي اُستهلكت فيه السينما السائدة، وزيفت من خلاله وعي جمهورها لينفصل عن نفسه ويتوحد مع أوهامها. وكانت هناك مدرستان للسينما السائدة (على غرار «شاي وحلوى» ت. إس. إليوت) تمردت عليهما الواقعية الجديدة («ودفعت اللحظة إلى قمة تأزمها»). الأولى هي سينما هوليوود البراقة اللامعة، التي تمتلئ بأبطال يتمتعون بالجمال، ذوي أجساد ووجوه لامعة قاسية خالية من التجاعيد، يتحركون في عوالم منمقة أنيقة تحت كشافات إضاءة مبهرة، لإظهار جمالهم وجمال الديكور المصنوع، وإضفاء سحر على شخوصهم وحياتهم وقصصهم الرومانسية. 

والمدرسة الثانية هي السينما الإيطالية التقليدية، المشهورة باسم «أفلام التليفونات البيضاء» (bianchi telephono)، ذلك لأن استخدام التليفون الأبيض وقتها كان قاصرًا على البيوت البرجوازية. و»أفلام التليفونات البيضاء» كانت محاكاة بلهاء لأفلام هوليوود الرومانسية الكوميدية الخفيفة، المصنوعة بالأساس لإلهاء الجمهور عن واقعه. إلا أن «أفلام التليفونات البيضاء» تميزت عن سينما هوليوود بأنها وُلدت وترسخت عن عمد برعاية الحكم الفاشي في إيطاليا، تحت قيادة بينيتو موسوليني، خلال الفترة بين عامي 1929 و1943.

كان موسوليني يدرك أهمية السينما كأداة للبروباجندا وتوجيه وتغييب الجماهير. لأنها، على حد قول المناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي «أداة أرخص وأكثر شعبوية من أي أداة فنية أخرى، أكثر من المسرح نفسه». وبينما كان جرامشي يريد استخدام تلك الأداة في زيادة وعي الجماهير، وتغيير مجمل الوعي المجتمعي تجاه إصلاحه، وتجاه تحقيق عدالة اجتماعية، كان موسوليني يريد استخدامها لأهداف عكسية تمامًا. أرادها أداة لتغييب الوعي بأفلام خفيفة رومانسية وكوميدية، على أن يكون أبطال رواياتها يقدسون السلطة ويحترمون التدرج الطبقي، ويتمتعون بكل القيم التقليدية المحافظة سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا. كما كان على تلك الأفلام - من وجهة نظر موسوليني - أن تُظهر كل ملامح قوة وعظمة الإمبراطورية الرومانية القديمة في كل مواقع تصويرها ما بين آثار روما وغيرها من المدن الإيطالية، وألا تحتوي على أي لقطات بها ملامح للفقر أو المعاناة على الإطلاق، وأن ترسخ لقيم الاستقرار. هذه كانت شروط موسوليني ونظامه المفروضة على صناعة السينما، وهي ما صبغ أفلام التليفونات البيضاء، لتُصبح منعزلة تمامًا وأبعد ما تكون عن واقع إيطاليا آنذاك، خاصة في سنوات الحرب وما قبلها.

كان أغلب الإيطاليين يعانون الفقر والبطالة، مساكن الفقراء لم تكن تصلها المياه أو الكهرباء. كان بعضها يحتوي على تليفونات، لكنها كانت تليفونات سوداء متهالكة تقع في الممرات ما بين الشقق، التي كان يسكن في كل منها عدة أسر تعاني جميعها من فقر شديد. 

هذه الصورة هي ما ظهرت فيما بعد، بشكل واقعي ودون مبالغة أو تهويل أو تجميل، في أفلام الواقعية الجديدة، التي أتت تمردًا على سينما التليفونات البيضاء وإغفالها وإخفاءها المتعمد للحقيقة، حسب قيود موسوليني. هكذا شهدنا واقع جديد ومغاير في رائعة روسلليني «روما مدينة مفتوحة»، وأيضًا - فيما بعد- في فيلم اعتبره الكثيرون أهم أفلام هذا التيار، وهو فيلم دي سيكا الشهير «سارقو الدراجات»، كذلك في كل أفلام تلك الحقبة.

إن ما غاب عن كل من موسوليني وجرامشي - رغم البون الشاسع بينهما- في رؤيتهما لوظيفة السينما، أنها «أداة» قادرة، عندما تقع في أيدي فنانين حقيقيين، أن ترتقي فوق رغبات رأس المال المتوحش المتوحد مع الفاشية، وطموحات اليسار. فالسينما تُصبح على أيدي مبدعيها ذات إرادة وحياة، تتجاوز الأيديولوجيات إلى عالم الإنسانية والفن الرحب، ما يضمن لها الخلود في كل الأزمنة. تُصبح رسالتها هي رؤية الآخر والإحساس به، والتعاطف الإنساني بالمعنى العميق. هذا ما فعلته الواقعية الجديدة الإيطالية، وأغضبت به الكل، حتى أنها تعرضت للهجوم من اليمين واليسار على حد سواء. 

خلال سنوات حكمه طورّ موسوليني صناعة السينما كثيرًا، انطلاقًا من رغبته في السيطرة على الإنتاج السينمائي الإيطالي وتوجيهه لخدمة أهدافه. فأسس مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في عام 1932، ثم أنشأ معهد السينما في عام 1935، وأخيرًا شيد مدينة السينما (Cine Cita) أكبر مدينة للإنتاج السينمائي في أوروبا حتى الآن، في عام 1937. كما أحكم السيطرة على كل آليات ومراحل الإنتاج السينمائي، حتى إن الصوت كان يجب أن يُسجل في استوديو داخل المدينة بعد تصوير الفيلم، وتحت رقابة الدولة. وكان فيتوريو ابن موسوليني هو من يدير كل تلك المنظومة السينمائية، وطبعًا لم يكن مسموحًا لأى رؤية مناهضة للفاشية أن تظهر في أي فيلم في ذلك الوقت. حتى الأفلام الأجنبية كانت تخضع لرقابة صارمة.

ولأن السحر دائمًا ما ينقلب على الساحر، هكذا ظهر جيلًا جديدًا من مبدعي السينما تعلموا في المعهد وتدربوا في مدينة السينما، ضم هذا الجيل أبرز من صنعوا - فيما بعد- سينما الواقعية الجديدة المناهضة للفاشية: روسلليني، ودي سيكا، وفيسكونتي، ودي سانتيس، وآخرين. وعند سقوط الفاشية في إيطاليا وإعدام موسوليني عام 1943، صارت اللحظة مواتية أمام هذا الجيل لإطلاق تيارهم الجديد.

انطلقت الشرارة الأولى حتى قبل سقوط موسوليني، في عام 1942، على يد لوتشيانو فيسكونتي المخرج الشاب في ذلك الوقت، عندما أخرج فيلم «الاستحواذ» («Ossessione»)، المأخوذ عن رواية أمريكية: «ساعي البريد يدق مرتين». هذا الفيلم، رغم أن غالبية النقاد لا يعتبرونه البداية الحقيقية للواقعية الجديدة، لكنه حملَ الكثير من سماتها: الأبطال العاديون الفقراء؛ استخدام نجوم السينما الإيطالية في أدوار عكس ما تعود عليهم الجمهور تمامًا؛ استخدام أهل المكان كممثلين، وهو ما فعله في فيلمه التالي «الأرض ترتجف» («la Terra trema») عندما استخدم أهل قرية للصيادين في صقلية كأبطال لقصتهم دون ممثلين محترفين؛ توظيف الممثلين المحترفين دون إضفاء هالة من البهاء على نجوميتهم، حتى يُبرز موهبتهم وليس نجوميتهم؛ استخدام الأماكن الطبيعية في تصوير الأحداث والابتعاد عن الاستوديوهات، وهذه كانت سمة رئيسية للواقعية الجديدة سيُزيد عليها مخرجون آخرون لاحقا؛ وأيضًا استخدام اللقطات الطويلة جدًا في زمنها، دون قطع مع حرية الكاميرا في أن تلتقط ما تريد، وتستمر في التصوير حتى بعد خروج البطل أو البطلة من الكادر، لتكشف لنا آخرين يظهرون في الأفلام العادية ككومبارس. 

المهم أن الشرارة الأولى تلك (فيلم فيسكونتي «الاستحواذ» («Ossessione»)) قلبت الدنيا رأسًا على عقب، حيث حضر ليلة العرض الأولى في عام 1942 موسوليني الابن (فيتوريو)، وثار ثورة عارمة، وانطلق صائحًا «ما كل هذا القبح.. هذه ليست إيطاليا!». كما ثارت الكنيسة لأن الفيلم يتناول علاقة غير شرعية بين امرأة متزوجة وعابر سبيل، يقومان بقتل زوجها، وطالبت الكنيسة بحرق نسخ الفيلم. وبالفعل قامت الدولة بحرق كل النسخ، اللهم إلا نسخة واحدة أخفاها فيسكونتي، وهو ما سمح لنا بأن نرى هذه الشرارة فيما بعد. ولم يحك لنا أي مصدر موثوق، حتى الآن، كيف صوروا هذا الفيلم أصلًا تحت سمع وبصر الفاشية. لكن الظن أنه في العام الأخير لموسوليني كان الحزب ينهار، ومن ثَم كانت قبضته تتهاوى، وغالبًا مرر فيسكونتي الفيلم بدعوى أنه قصة حب مأخوذة عن رواية أمريكية.

علامات بارزة على الطريق

عندما نتابع أحد أفلام تيار الواقعية الجديدة الإيطالية سنجد كمًا بديعًا من العوالم والحيوات منسوج بحرفية وتعاطف كبير داخل المشهد الواحد، مع قلة استخدام المونتاج، حيث تُصبح أنت نفسك، كمتفرج، جزءًا من هذا الكل. وقد استخدم مبدعو هذا التيار أيضًا اللقطات المحايدة، أي اللقطات التي تكون فيها الكاميرا في موقع محايد من الشخصيات، وتعبر من ثم عن رؤية موضوعية للأحداث (Objective Shots). وتوقفوا عن استخدام اللقطات الذاتية (Subjective Shots)، التي تعبر عن وجهة نظر أحد الشخصيات تجاه الآخرين وما يدور من أحداث. وهو ما أضفى ملمحًا تسجيليًّا على أفلامهم. 

وسوف تتبلور كل سمات هذا التيار وتُصبح أكثر رسوخًا، وتظهر بشكل جلي خلال السنوات التالية، في أفلام روسلليني ودي سيكا وفيسكونتي ودي سانتيس: «روما مدينة مفتوحة»، «سارقو الدراجات»، «الأرز المر»، «الأرض ترتجف»، «ألمانيا العام صفر».. إلخ.

فمع نهاية الحكم الفاشي صار المسرح معدًا لظهور تيار جديد في السينما. تيار مناهض للفاشية وللرأسمالية ككل، يصنع سينما ابنة للفكر اليساري الصاعد في ذلك الوقت، والذي تأثر به كل صناعها. وكان بالطبع تيارًا سينمائيًا مقاومًا للاحتلال النازي، ومجسدًا لروح المقاومة.

«روما مدينة مفتوحة» 

وفي عام 1943، خلال تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ إيطاليا بعد سقوط موسوليني، أخرج روسلليني أول أفلام تيار الواقعية الجديدة الإيطالية «روما مدينة مفتوحة»، والذي اعتبر تدشينًا له. كانت لدى روسلليني فكرة أن يصنع فيلمًا تسجيليًا عن أحد القساوسة الذين انخرطوا في مقاومة الاحتلال النازي لإيطاليا، والمعروف كأحد رموز هذه المقاومة، وكان النازيون قد اعتقلوه وقتلوه في أواخر عام 1942. إلا أن الفكرة تطورت ليتحول الفيلم من تسجيلي إلى روائي، واختار روسلليني اثنين من نجوم سينما التليفونات البيضاء، ونجح في تحويلهما من نجمين خفيفي الظل في أفلام كوميدية خفيفة إلى ممثلين ذوي شأن في دورين شديدي الجدية. والنجمين هما: آنا مانياني، وألدو فابريزي.

ولقد واجهت روسللينى صعوبات عدة في تنفيذه للفيلم، أهمها عدم وجود أفلام خام للتصوير بسبب خراب روما والاحتلال النازي لها، فكان يشتريها من السوق السوداء، ويبحث عن قصاصات خام قديمة ويلصقها ببعض، وهو ما يفسر عدم نقاء الصورة داخل الفيلم أحيانًا، وكذلك بعض القطعات الحادة. لكنه رغم ذلك نجح في تجسيد روح المقاومة للنازية، واستعرض أحوال روما وأهلها كما خلفتها الفاشية، وصنع فيلمًا مؤسسًا يعتبر واحدًا من أهم الأفلام في تاريخ السينما. لقد أظهر روسلليني الخراب الذي حلّ على روما بسبب الحرب، وقام بتصوير الفيلم بالكامل في مواقع طبيعية، وسط شوارع روما المهدمة وأحياءها الشعبية وعمائر الفقراء. كما اعتمد في أغلب الأحيان على الإضاءة الطبيعية غير المصنوعة. 

وظف روسلليني أيضًا في هذا الفيلم أحد الأطفال في دور محوري، وهو ملمح سنجده في أغلب أفلام هذا التيار، إذ يُستخدم الأطفال في أدوار مهمة ذات دلالة، كما نرى في أفلام مثل: «سارقو الدرجات»، و»ماسحو الأحذية»، و«ألمانيا العام صفر» الذي يقوم ببطولته طفل. فالحرب والفقر وانعدام العدالة أفقدوا الأطفال طفولتهم. وسنجد دائمًا في أفلام الواقعية الجديدة أطفالاً لا يذهبون إلى مدارس، بل يعملون في مهن دونية للتكفل بأنفسهم وأسرهم، أطفال يتمتهم الحرب، يقوم بعضهم بأعمال فدائية في مقاومة الاحتلال النازي كما يظهر في «روما مدينة مفتوحة».

ولا شك أن الطفولة والأطفال من أبرز ملامح تيار الواقعية الجديدة الإيطالية، وأكثرها حزنًا وإيلامًا، لا يخلو فيلم من برائتهم المنتهكة ومآسي حياتهم وآمالهم وخفة ظلهم. ومع كل فيلم يتأكد الإحساس بأنه لا توجد أسر قادرة على التكفل بأولادها، ولم تعد هناك مؤسسات للدولة قادرة على حماية طفولة الأطفال، فكلها مؤسسات مكتظة ومهترئة كما يظهر في «ماسحو الاحذية». لقد تداعى كل شيء وتفكك وانهار تمامًا، وأصبح هؤلاء الأطفال كبارًا رغم أنوفهم، مضطرون إلى مواجهه قسوة العالم وحدهم، وحماية والدفاع -في بعض الأحيان- عن الكبار المنوط بهم رعايتهم. 

ملمح آخر هام يظهر في «روما مدينة مفتوحة»، ويتبلور أكثر فيما تلاه من أفلام، هو عدم تّميز البطل، فالبطل جزء من عالم أوسع مليء ببشر كلهم يستحقون الاهتمام. كانت آنا مانياني نجمة إيطالية شهيرة بالفعل عندما شاركت فى هذا الفيلم، لكننا نراها هنا امرأة فقيرة حامل بحمل غير شرعي، رثة المظهر والملابس، وقد يَصدم مشهد موتها المشاهد من فرط عاديته وعدم أهميته، وكأنها ذبابة سقطت على الأرض ضمن آلاف يسقطون كل يوم. مجرد امرأة إيطالية فقيرة قتلها النازيون في الشارع، واستمرت بعد موتها الأحداث مستعرضة مصائر شخصيات أخرى. هذا بالطبع يتنافى مع أي فيلم تقليدي، عندما يعرض لمشاهد تموت فيها البطلة، خاصة عندما تكون البطلة هي نجمة الشباك آنا مانياني.

هذه الدرجة من التساوي في الأهمية بين شخصيات أي فيلم هي واحدة من السمات الجوهرية لأفلام الواقعية الجديدة الإيطالية. البطل أو البطلة هما دائمًا جزء من كل، وكأنهما مجرد دليل يقودنا إلى عوالم هما فقط أحد مكوناتها، إلا أنها في مجملها عوالم شديدة الثراء. يعكس كل شخص في الفيلم جزء من هذا الثراء، ويجسد أحد خيوط حكاياته، وربما لا يتعدى ظهوره ثوانٍ معدودة، لكنه يضيء خلالها أحد جوانب ذلك العالم، حتى تكتمل في النهاية صورته الكلية، كأنها لوحة للواقع شديدة الوضوح والدقة في كل تفاصيلها. لوحة معبرة عن التاريخ الاجتماعي لإيطاليا في تلك الآونة، بكل أبعاده الاقتصادية والسياسية وحتى النفسية والعاطفية، كما يجسده الإيطاليون أنفسهم بمعاونة راوي (مخرج) يحمل كاميرا.

«سارقو الدراجات»

كتب أحد النقاد مرة: «إذا أردت أن تفهم فلتشاهد روسلليني.. أما إذا أردت أن تشعر فلتشاهد دي سيكا». ويحكي دي سيكا أبرز مخرجي الواقعية الجديدة، عن أفلامه «أفلامي هي كفاح ضد غياب التضامن الإنساني، ضد لا مبالاة المجتمع تجاه معاناة أفراده الأكثر عرضة للمعاناة، هي في كلمة أفلام منحازة إلى الفقراء والتعساء». كلمات دي سيكا هذه - وهو واحد من أكثر المخرجين الذين حصدوا جوائز عالمية في تاريخ السينما- تعبير صادق عن روح فنان مرهف الحس، وليست خطابًا لواحد من محترفي السياسة أو محرضي الجماهير. ورغم انحيازات دي سيكا الاجتماعية ومواقفه التي لا لبس فيها فإنه تعرض، في نهايات موجة الواقعية الجديدة، إلى هجوم حاد من اليسار، من منظري «الواقعية الاشتراكية»، على أساس أنه استعرض في أفلامه مآسي الفقر فإنه لم يقدم حلولًا أو برنامجًا اجتماعيًا للنهوض! وكأن الإبداع الفني هو مجرد إعلان سياسي! ودور الفنان هو أن يصيغ البرامج السياسية! 

يعتبر كل مؤرخي السينما ونقادها أن «سارقو الدراجات»، إنتاج عام 1948، هو أهم أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية، وهو الذي رسخ مكانة دي سيكا كواحد من أهم مخرجي السينما في العالم. لقد جسد هذا الفيلم كل أفكار ومبادئ ذلك التيار، وتحققت فيه كل سماته. ويمكن القول بثقة أنه أكثر فيلم في تاريخ السينما كُتبت عنه دراسات ومقالات وتحليلات، ويُعتبر المرجع الرئيسي لتيار الواقعية الجديدة في جميع معاهد ومراكز تدريس السينما في العالم. وغالبًا ستكتشف وأنت تشاهد الفيلم، أنك مستغرق في إحساس شديد الرقي وتعاطف بلا حدود مع الإنسان والإنسانية، دون أي نوع من الخطابة أو المباشرة السياسية. وهو إحساس غالبًا ما ستصادفه بشكل أو آخر مع كل أفلام هذا التيار، بسبب ما تتمتع به من صدق وقيم إنسانية. وهو ما جعل للواقعية الجديدة تأثير ممتد، تجاوزها في الزمان والمكان، على تجارب سينمائية عديدة في مختلف أرجاء العالم، سواء في سينمات البلدان الأكثر فقرًا، أو حتى داخل السينما الأمريكية على أيدي بعض المخرجين المتفردين.

بدأ مشروع فيلم «سارقو الدراجات» عندما قرأ كاتب السيناريو ومنظر الواقعية الجديدة سيزار زافاتيني رواية للكاتب لويجي بارتوليني تحمل نفس الاسم، واقترح على صديقه المقرب دي سيكا تحويلها إلى فيلم. هكذا انطلق المشروع، إلا أن كل ما تبقى من الرواية داخل الفيلم شذرات محدودة. فكاميرا الواقعية الجديدة حرة، تذهب أينما يريد قلبها وتأخذها عواطفها. يلفت نظرها شخص ما فتذهب لتواسيه، لتخبره أنه مرئي وأنها تراه، وأنه ليس مجرد كومبارس هامشي. كاميرا الواقعية الجديدة لن تلتزم بسيناريو محكم وهي تتنقل وسط الشوارع والأزقة، هي ببساطة كاميرا حية لها قلب وروح، هي ابنة العامة والبسطاء ولا تحيد عن ولائها وانحيازها لهم، حتى أنك تظن أحيانًا وأن تتابع أفلام الواقعية الجديدة أن الكاميرا هي من تقود حاملها وليس العكس.

يحكي الفيلم عن رجل عاطل حصل على وظيفة لصق بوسترات في الشوارع، بشرط أن يمتلك دراجة. وفي أول يوم عمل له، وبينما هو يلصق بوستر النجمة الهوليوودية ريتا هيوارث بحرص شديد حسب تعليمات رئيسه، حتى لا يظهر على البوستر أي تجاعيد في إشارة إلى زيف الصور الهوليوودية، تُسرق منه دراجته. وباقي الفيلم هو رحلة للبحث عن سارق الدراجة يقوم بها البطل وابنه الصغير برونو ذو الثمانية أعوام، كي يستردانها حتى لا يفقد البطل عمله.

نشاهد خلال تلك القصة البسيطة أهل روما الفقراء، ونتابع معانتهم. نكتشف أن الفقير يسرق الفقير، وأن السارق المحتمل لدراجة ريتشي (البطل) هو أتعس حالًا منه. ندخل مع ريتشي إلى بيت السارق ونشاهد والدته، ونشعر برثاثة حالهم وبؤس حياتهم. نتابع نساء روما -المدينة الأوروبية- وهن يحملن جرادل المياه، ويصعدن بها عدة أدوار إلى شققهن، كما نشاهد خزان المياه في الحي الفقير يحيطه السياج والحرس، كي لا يسرق أحد المياه النظيفة بسبب ندرتها. نتابع أيضًا أقسام البوليس المكتظة بقضاياها وبيروقراطيتها، حيث لا يهتم أحد داخلها بالبحث عن دراجة مسروقة. بينما تعاني النقابات العمالية من الانهيار، ولا تقدر على مساعدة ريتشي. أما الكنيسة ومؤسستها الدينية فتشترط على الفقراء أن يحضروا قداسًا طويلًا ويُصلوا حتى تتعطف عليهم بفتات الطعام.

نتابع كل ذلك دون أن يفرض علينا الفيلم في أي لحظة أي خطاب سياسي أو أيديولوجي، ولا حتى تلميحًا في جملة حوارية واحدة. بينما نحن مغمرون برؤى تكشف عن حجم البطالة والفقر وانهيار الدولة والمجتمع، طوال رحلة ريتشي وبرونو على مدى ثلاثة أيام من البحث عن الدراجة المسروقة.

يكشف الفيلم كذلك بحساسية مرهفة عن علاقة الأب والابن. الأب شديد العطف، لكن من فرط يأسه وكابوسية موقفه يصفع ابنه لأنه يريد الذهاب إلى الحمام وتعطيل رحلة البحث. يكبر برونو الطفل ويفقد براءته، ويتعلم في ثلاثة أيام ما يقضي البعض أعمارهم في تعلمه. يسامح والده وتنقلب العلاقة بينهما، فيُصبح الطفل هو من يحمي الأب ويدافع عنه، ويضطر في أكثر من مرة إلى إنقاذه من مآزق متنوعة. وفي مشهد النهاية ينهار الأب في البكاء بعدما أذله العوَز، وجعله هو نفسه يُشرع في السرقة، فلا يجد من يحتويه، ويدفعه إلى تجاوز انهياره، سوى ابنه المتعاطف المحب المتفهم، صاحب السنوات الثمانية والبراءة المفقودة، الذي يصر في الختام على أن يضع يده في يد أبيه.

نضج برونو، ونضجنا معه نحن كمشاهدين. فـ»سارقو الدراجات» هو من تلك الأفلام القادرة على صدم متلقيها، وتفجير مشاعره، وإعادة تركيب وعيه تجاه العالم، وربما يكون أحد أبرز أفلام تلك النوعية في تاريخ السينما. ذلك على الرغم من رقة الفيلم الشديدة، وحرص دي سيكا البالغ على ألا يجرح مشاهديه.

الممثل البديع لامبرتو ماجيوراني الذي اختاره دي سيكا للقيام بدور الأب ريتشي، لم يكن ممثلًا على الإطلاق. هو في الأصل عامل في مصنع قرأ إعلانًا يطلب أطفالًا (وجوها جديدة) ليختاروا منها من يمثل دور برونو، فأخذ أطفاله وذهب ليقابل دي سيكا، إلا أن دي سيكا اختاره هو لدور الأب ولم يختر أحدًا من أطفاله. أما الطفل إينزو ستايولا، الذي اختاره دي سيكا ليلعب دور برونو، فهو ابن لبائعة ورود متجولة في شوارع روما. 

اختيار دي سيكا لممثلين غير محترفين كان يتسق تمامًا مع روح الواقعية الجديدة. فقد أرادهم أبرياء متحررين من الاحتراف، ومن خلفية الممثل، ومن الصورة المنطبعة عنهم في ذهنية الجمهور. والحقيقة أن دي سيكا نفسه كان ممثلًا بارعًا، ومثَلّ في أكثر من مئة وستين فيلمًا، ترشح عن أحدهم («وداعًا إلى السلاح») لجائزة أوسكار أحسن ممثل مساعد. وبراعته هذه في التمثيل هي ما سهلت عليه تدريب غير المحترفين. ورغم أن الفيلم كان متعثرًا في توفير التمويل المطلوب لإنتاجه، وقدم أحد المنتجين عرضًا لتمويله بشرط أن يلعب النجم الهوليوودي جريجوري بيك دور الأب، إلى أن دي سيكا رفض وأصر على البحث عن ممثلين غير محترفين.

«ألمانيا العام صفر»

ومع أن كل الأصوات قد اتفقت تقريبًا على اعتبار «سارقو الدراجات» أهم أفلام تيار الواقعية الجديدة ودرة تاجه، فإنني أرى أن «المانيا العام صفر» لروسلليني لا يقل روعة في مستوى إبداعه وقيمه الإنسانية، وأن تاج الواقعية الجديدة يحتمل جوهرتين. فهذا الفيلم هو الأكثر إيلامًا للمشاهد، والمؤكد أنه كان شديد الإيلام لصنّاعه. هو صفعة قاسية على وجوهنا تصدم كل تصوراتنا الساذجة عن الفقر وما تخلفه الحروب والهزائم على أهل مدينة ما، وخاصة على أطفالها.

وفي تقديري لا يمكن لفيلم يتمتع بهذا القدر الرفيع من الإبداع، بينما هو يعرض لتيمة شديدة القسوة، إلا أن يكون أحد أفلام الواقعية الجديدة. سنجد هذا التلاقي ما بين الروائي والتسجيلي، بينما يغزل الفيلم مفرداته بحرفية شديدة، تجعل منه وثيقة روائية تسجيلية بالغة الأهمية عن واقع الشعب الألماني بعد الحرب مباشرة.

لقد صور روسلليني «ألمانيا العام صفر» بعد هزيمة النازية بسنة واحدة فقط، في قلب عاصمتها برلين، التي كانت تبدو مثل المقبرة أو الجحيم حرفيًا. إن آثار الدمار الشديد، وما تركته ثقوب الرصاص والقنابل على هياكل البنايات المتداعية والمنهارة، يجعلك تتخيل أن من تبقى من أهلها يسيرون وهم يحملون كذلك ثقوبًا في أجسادهم وأرواحهم. لم يعد هناك مبنى واحد قائمًا صالح للسكنى والحياة، فالمدينة كلها مهدمة، وبنيتها التحتية مدمرة تمامًا.

إن روسلليني المعادي للفاشية، والمقاوم الشرس للنازية حينما احتلت بلده، قرر أن يضع قدمه في حذاء الآخر، ذلك العدو المتصور للجميع، أي الشعب الألماني. كان موسوليني وهتلر حلفاء حرب، إلا أن عموم الشعب الإيطالي لم يكن حليفًا للفاشية، ولا كان الشعب الألماني حليفًا للنازية، باستثناء الطبقة الرأسمالية في الحالتين بالطبع. لكننا الآن في العام التالي لنهاية أكبر مجزرة في تاريخ البشرية، ولا زالت كل الدعاية الموجهة للعالم «الحر» تعتبر الألمان شعبًا من الأشرار. 

هكذا قرر روسلليني أن يوجه النظر بطريقة مختلفة، لنرى شعبًا ككل الشعوب، حطمته الحرب، وكان ضحيتها الكبرى، شعبًا سقط من بين أبناءه ملايين القتلى صرعى نتيجة لجنون وأطماع حفنة من السياسيين مجرمي الحروب المتحالفين مع الرأسمالية، الذين جلبوا الخراب على شعوبهم. فبؤساء ألمانيا لا يختلفون عن بؤساء إيطاليا، ولا عن البؤساء في كل أرجاء العالم الذين يواجهون أنظمة مستغلة مجرمة ومختلة عقليًا. إلا أن ما بات يُزيد الألمان بؤسًا هو نبذ العالم لهم، وتنكيل المنتصر بشعب مهزوم وإذلاله، وتحميله ذنب جرائم هتلر ونظامه. 

نتابع الطفل أدموند بطل الفيلم ابن الحادية عشر عامًا، الذي لا يقل جمالًا عن برونو بطل «سارقو الدراجات» ولا عن الطفلين بطلي «ماسحو الأحذية». نجده وقد سُلبت منه طفولته منذ أول لقطة في الفيلم، وهو يعمل في حفر قبور من يموتون بفعل الجوع والمرض بأعداد كبيرة يوميًا في برلين. نشاهد قطع من الفحم تتساقط من سيارة نقل، فيُسارع إليها أدموند ومعه الكثير من النساء والرجال لسرقتها، كي يدفئوا بها منازلهم. ويذهب بعدها ليقايض على بضع حبات من البطاطس.

وداخل منزل أدموند ذو الغرفة الواحدة نتعرف على والده القعيد المريض، واخته الشابة التي تجالس جنود الحلفاء في البارات مقابل وجبة أو علبة سجائر أو علبة سردين أو بعض مكعبات الجبن. نتعرف أيضًا على أخيه الشاب الذي كان جنديًا بسيطًا في جيش النازي، وهو يختبئ الآن خوفًا من تقديمه لمحاكمات مجرمي الحرب. يعيشون جميعًا على معاش والدهم القعيد الذي لا يكفي لتوفير وجبة يومية من البطاطس.

يضطر أدموند إلى البحث عن عمل، ونتابع خلال رحلته الأعداد الهائلة من الأطفال الذين تشردوا وفقدوا أسرهم. يمارس بعضهم السرقة، ويعمل بعضهم في الدعارة، وكلهم متناثرون في الشوارع بلا أهل، يواجهون الخراب والجوع داخل مدينة مدمّرة وموحشة، وقد خلت ملامحهم وحياتهم من معالم الطفولة وبراءتها.

يتلقى أدموند نصيحة من أحد مدرسيه السابقين، كان مناصرًا للنازية، بألا يسعى لإنقاذ والده لأنه لن يستطيع، مؤكدًا له أن أحدًا لن ينجو من الضعفاء، ويجب التخلص منهم لأنهم عبء على الأقوياء. ورغم حب أدموند لوالده فإنه يقرر أن يضع له السم في الشراب ليقتله ويخلصه من معاناته، فيظن الجميع أن الأب مات بسبب مرضه الشديد.

يرحل أدموند عن المنزل ونتابعه في مشاهد طويلة وهو يتسكع وسط الشوارع الخربة والبنايات المهدمة الكئيبة لمدينة مهزومة، يتوحد معها شعوره الشخصي بالهزيمة. يسير وحيدًا في مواجهة العالم، لن ينقذه أحد لن يسمع شكواه أحد، لن يطعمه أحد، فالكل جوعان، يعيشون حالة أقرب إلى الهلاك الجماعي الحقيقي، ما يجعل الجميع قساة حتى في التعامل مع الأطفال. وفي النهاية يتسلق أدموند سلالم إحدى البنايات وينتحر، يأسًا وذنبًا وارتباكًا، وهو ابن الحادية عشر عامًا. 

هذا بالضبط ما نجنيه من الفاشية والحرب: يأس الأطفال وانتحارهم! اعتقد أننا لو وضعنا قائمة بأهم الأفلام التي أدانت الحروب وجرائمها وقسوتها، سيأتي «ألمانيا العام صفر» في مقدمتها، بواقعيته الشديدة الصادمة الأكثر بلاغة من كل ما عداها.

نهاية الواقعية الجديدة

ربما تكون الأفلام الثلاثة السابقة («روما مدينة مفتوحة»، و»سارقو الدراجات»، و»ألمانيا العام صفر») أبرز ما أنتجته الواقعية الجديدة الإيطالية، لكنها بالتأكيد ليست إلا أفلامًا ممثلة للتيار. فالسنوات العشر التي شهدت زخم الواقعية الجديدة ظهرت فيهم أفلامًا عديدة، تحتاج إلى الكثير من المقالات والدراسات للحديث عنهم. 

والمؤكد أن سينما الواقعية الجديدة الإيطالية هي الأكثر إخلاصًا وانحيازًا للفقراء والمهمشين والمهزومين، والأكثر شرفًا ونزاهة في رسالتها الإنسانية. وربما كان ذلك سبب مقتلها، لأنها أرادت أن تواجه أنظمة ومؤسسات الاستغلال والاستبداد في العالم بجرائمهم تجاه الإنسانية، أرادت للإنسان أن يواجه بلا تجميل ما يفعله بنفسه وبالآخر. 

لقد حاربها الجميع، ربما بحسن نية أحيانًا كالدبة التي قتلت صاحبها. هكذا مثلًا هاجمها اليسار -كما ذكرت من قبل- لأنها لا تقدم حلولًا! فوضِع صنّاعها البارزون كدي سيكا وزافاتيني في موقف الدفاع عن النفس ضد هجوم تيار سياسي ينتمون له ويدافعون عن أفكاره.

حاربتها كذلك نقابات ولوبيهات الممثلين المحترفين والنجوم الإيطاليين، لأنها كانت تختار لبطولة أفلامها ممثلين غير محترفين من عامة الجمهور، فأزاحت البريق عن النجوم التقليديين وهمشتهم. وحتى عندما استعانت بالمحترفين جعلتهم جزءًا من كل ووظفتهم في أدوار لشخصيات فقيرة بملابس رثة بلا أضواء ولا بريق. لذا شحذ النجوم الإيطاليين وقتها أقلام صحفية عديدة للهجوم على تيار الواقعية الجديدة والسخرية منه. 

وفي عام 1947 بعد سقوط اليسار وصعود الرأسمالية من جديد وتقلدها الحكم في إيطاليا، هاجمت الدولة سينما الواقعية الجديدة هجومًا شرسًا، على يد وزير الثقافة بنفسه آنذاك، فانتقدها بشدة وهاجم بحدة مخرجيها وكتابها، ودفع عدد كبير من الصحفيين والصحف المرتبطة باليمين إلى تسخير أسلحتهم في مواجهتها. لقد هاجمها الرأسماليون لأنها تصور الفقر والكآبة، ولأنها -على حد دعواهم- لا تشجع السياحة والاستثمار وتخلق صورة شديدة السلبية عن إيطاليا.

وبعد فترة هاجمها الجمهور ذات نفسه، تأثرًا بالدعاية الكثيفة الموجهة ضدها، وقد صار -الجمهور- لا يريد من يذكره بحاله، وأصبح يتطلع مرة أخرى إلى ريتا هيوارث وأشباهها، ويحلم بالحياة الأسطورية المرفهة المُتخيّلة. كانت إيطاليا قد بدأت تتجاوز نكبتها، وتتطلع إلى أوقات أكثر رخاءً وإشراقًا، ولم تعد أفلام الواقعية الجديدة في منتصف الخمسينيات تعبر عن أحلام البسطاء وطموحاتهم.

لم يكن العالم قادرًا على تحمل صدق الواقعية الجديدة، لأنها تضع الجميع أمام مرآة وتجبرهم على الفعل والتغيير. لم يعد ما تقوم به مقبولًا: تقديمها للحقيقة كما هي، فضحها للزيف، دفاعها عن الفقراء، هجومها على الطبقات الحاكمة والأنظمة المستبدة، كشفها عن وقوع البشر في فخ معاناة لا تنتهي.. إلخ. لم يكن العالم مستعدًا لهذا الصدق.. وربما يأتي يوم آخر يكون هذا فيه ممكنًا. وهكذا كتب زافاتيني مبشرًا بمستقبل آخر للسينما:

«عندما تتكلف السينما أموالًا بسيطة جدًا، وتتحرر من عبوديتها للرأسمالية، ستجد آنذاك أخلاقها، ستجد رسالتها الحقيقية، ستجد نبلها.. حتى ذلك الحين ستظل أقل بكثير مما يمكن أن تكون عليه كفن.. عندما يستطيع أي شخص أن يحمل كاميرا ويتحرك بها ليصور الواقع كما هو، ستجد ساعتها السينما صدقها..»