سجالات

عمرو عبد الرحمن

الوجه الآخر للإسلاموفوبيا.. اليمين الديني ورؤيته للغرب في عالم المسلمين

2021.03.01

الوجه الآخر  للإسلاموفوبيا.. اليمين الديني ورؤيته للغرب في عالم المسلمين

قدَّم عمر الشافعي في دراسته القيمة المنشورة في العدد السابق من "مرايا" تشريحًا لمفهوم "الإسلاموفوبيا" تضمن استعراضًا للعناصر المشكلة للمفهوم، والمستدعاة من رؤى قديمة تشكلت خلال الاحتكاك الطويل بين المسلمين والمجتمعات التي ستعرف لاحقًا بالغربية، أو إبان استعمار مراكز رأسمالية غربية للعالم الإسلامي، وكذلك التحولات المختلفة في بنية المفهوم الداخلية، وبالطبع الوظائف المختلفة التي لعبها هذا المفهوم في دعم خطابات سياسية مختلفة، أو متناقضة، بالترابط مع تحولات التحالفات السياسية والاجتماعية الحاكمة في تلك المراكز وأزماتها. يوضح عمر، بتفصيل ممتع، كيف تغذى المفهوم على الرؤى الاستشراقية التي رأت في الإسلام كدين، والمسلمين كجماعة بشرية، كتلة واحدة ذات جوهر واحد عابر للتاريخ يمكن اشتقاقه من نصوص الوحي والنصوص المؤسسة للتقاليد القانونية واللاهوتية الإسلامية. وهذا الفهم الاستشراقي شكّل الأساس لتبلور خطاب التخويف المرضي من الإسلام والمسلمين كممارسة أيديولوجية تخدم أهدافًا متنوعة ومواقع متبدلة ولكنها تتحرك على نفس الأساس المفاهيمي، أي الرؤية الجامدة للإسلام والمسلمين. بهذا المعنى، تسهم دراسة عمر في وضع هذا الخطاب في سياقه الاجتماعي كأحد مكونات مشاريع سياسية بعينها -أغلبها على اليمين من المجال السياسي والفكري في الغرب- بدلًا من اعتباره معبرًا عن حقيقة نظرة "الغربيين" لعموم المسلمين، كما يذهب الكثير من الإسلاميين. وكذلك، تسهم الدراسة بردّها لخطاب التخويف من الإسلام لسياقه الاجتماعي في تفكيك رؤية هذا الخطاب عن نفسه بوصفه معبرًا عن رسالة الغرب التي لوثها التهاون الليبرالي واليساري وما ارتبط به من رؤى تحتفي بالتنوع الثقافي، وكذلك بوصفه معبرًا عن حقيقة الإسلام والمسلمين التي يجب أن يتنبه لها هذا الغرب.

لا يسعنا في هذا التعقيب المختصر إلا تقديم خطوط عريضة أو عناوين تلغرافية لهذا التحليل قد تسهم في المستقبل في فهم أفضل لهذا الخطاب، وبالتالي في فهم أفضل لموضوع دراسة عمر. والردّ على هذا الخطاب الاستشراقي، كما هو معلوم، أتى في المقام الأول من "أرباب القلم" في هذا الوقت في العالم العربي وهم نخبة علماء الدين. وانقسمت ردود فعلهم إلى اتجاهات عدّة. أول ردود الأفعال (رفاعة الطهطاوي، على سبيل المثال، ثم الأفغاني في مرحلة لاحقة) رأت أن هذا التحويل السريع للحياة الاجتماعية الذي يتم بقيادة الحكومات الغربية وعبر دعايتها يجب أن يكون الرد عليه ببناء نهضة ذاتية داخلية تعبئ جماهير أو عوام المسلمين الذين تركوا طويلًا بعيدًا عن دائرة الإنتاج المعرفي أو الفعل السياسي، وذلك عبر توسع التعليم المدني بالأساس وعبر توسيع مجال المشاركة العمومية في دائرة صنع القرار. ويقترن بالهدفين بالطبع إعادة إحياء مناهج معرفية للتعاطي مع تلك النصوص المؤسسة - والتي اعتبرها الاستشراق معبرة عن حقيقة المسلمين كما أشار عمر - تسمح للعوام باكتشاف معناها دونما توسط من مؤسسات الطرق الصوفية أو المؤسسات المعرفية المذهبية المعقدة. هذا التوجه المعروف بالسلفية الإصلاحية كان هو أيضًا يبحث عن حقيقة الإسلام وحقيقة "معدن" المسلمين إن جاز التعبير. 

واللافت هنا أن هذا الخطاب قد بدأ يدرك المسلمين كأمة بالمعنى الأوروبي (السياسي) للكلمة في عصر الصعود القومي بلا منازع. على مدار تاريخ المسلمين بالطبع كان هناك شعور عميق بالانتماء لجماعة دينية وثقافية واحدة، ولكن لم يكن هناك شعور مماثل بالانتماء لجماعة "سياسية" واحدة يُفترض أن لها دورًا في حكم نفسها. كان الحكم مسألة متروكة للسلالات الشرعية والنخب العسكرية، واستدعاء العامة لصراعاتها كان يتوسل لنفسه بلغة الحقوق التاريخية، أو الإلهية، لهذه السلالات والنخب، أو قدرتها على حفظ النظام والتصدي للعدوان الخارجي أكثر من تقديم نفسها بوصفها صاحبة جدارة وأمانة في التعبير عن تلك الأمة. كذلك فاحترام الشريعة وتطبيقها كان مسألة منتهية لم تُطرح أصلًا على نطاق البحث حتى تكون موضوعًا للتنافس السياسي، ومن ثم فلم تكن بدورها موضوعًا للتعبئة إلا في حالات كان فساد الحكام فيها أو "زنذقتهم" متجاوزًا لحدود الخيال السياسي في وقتها. وحتى في هذه الحالات كان الاستدعاء ظرفي ومؤقت. الجديد مع السلفية الإصلاحية هي تحويل كل مواد التراث الفكري للمسلمين، عبر التعليم ووسائل الاتصال الجماهيري الحديثة خصوصًا في الصحافة، إلى ما يشبه "المانيفستو الأيديولوجي" الذي يقدم حقيقة الإسلام والمسلمين بديلاً لصورة الغرب عنهم ومسوغًا لحكم المسلمين لأنفسهم كأمة مكتملة التكوين. من وجهة نظر السلفية الإصلاحية، فالقرآن يدعو للعلم والتعقل، الإسلام دين الحرية الحقة من حيث أنه ينفي أي سلطة للعباد على بعضهم البعض حتى في التشريع، الأخلاق الإسلامية أرفع من أخلاق الغرب في المعاملات لأن تأسيسها العقائدي أقوى وأمتن، وهكذا. وفي المقابل، فالحرية في الغرب هي تعبير عن فردانية منعزلة، والديموقراطية الليبرالية هي تحكيم للأهواء في مواجهة القانون والفضيلة. وإذا ذُكرت المسيحية كأساس لهذه القيم يجري النقد للمسيحية بوصفها ديانة خمول ودعّة، وإذا رُدّت هذه الملامح للقطيعة مع المسيحية، جرى نقد هذه القطيعة بوصفها تخليًا عن الدين وانحطاطًا لمهاوي الأهواء. كتابات الأفغاني وبدرجة أقل محمد عبده على صفحات مجلات كالعروة الوثقى ثم أعمال رشيد رضا مثلًا تعد نموذجًا شارحًا لهذا الميل. 

بالتوازي، وكما هو معلوم كذلك، كان يتشكل اتجاه آخر يمكن تسميته بالاتجاه التقليدي، أو المحافظ، كرد فعل على هذه التحولات العاصفة. هذا الاتجاه تقاطع مع السلفية الإصلاحية كذلك في عملية إعادة بناء الإسلام كهوية متميزة لصيقة بالمسلمين ومتمايزة عن الغرب الذي تم إدراكه كذلك كوحدة واحدة لا انقسام أو تمايز بداخلها. ولكنه اختلف بشكل حاد عن السلفية الإصلاحية في رؤيته أن مواجهة هذا النفوذ الغربي المتزايد وإعادة بناء ذات المسلمين الجماعية في مواجهة الغرب لن يكون إلا بالإبقاء على القائم من ترتيبات مؤسسية وقانونية كما هي دون تغيير، وأن البنى الاجتماعية والمؤسسات المعرفية التي انتقدتها السلفية الإصلاحية هي بحد ذاتها طريق مواجهة النفوذ الغربي. بل إن هذا الاتجاه التقليدي طور من هجومه على السلفية الإصلاحية ليتهمها هي ذاتها بالتغريب في رؤيتها للعلاقة مع نصوص الوحي ونقدها للاستبداد في السياسة والثقافة. فما تم توصيفه كاستبداد في أدبيات السلفية الإصلاحية أضحى في أدبيات التقليديين بوصفه الملجأ الأخير للمسلمين في مواجهة النفوذ الغربي سواء كان هذا الاستبداد متجسدًا في مؤسسات سياسية كالسلطنة والملكيات المحلية أو مؤسسات اجتماعية كالطرق الصوفية والعائلات الممتدة أو تقاليد معرفية كالتعليم الديني التقليدي والمذاهب المعتمدة. آراء عدد من العلماء الأزاهرة المناهضين للسلفيين الإصلاحيين داخل مؤسستهم تعتبر مثالاً واضحًا على هذا الاتجاه. كذلك في محيط العالم العثماني ظهرت آراء قوية معبّرة عن هذا الاتجاه ككتابات العالم الصوفي والفقيه يوسف النبهاني ومحاججاته الطويلة ضد السلفية الإصلاحية.

مع بداية القرن العشرين، وتحديدًا مع تبلور التيارات الأخرى في مشاريع سياسية محددة عنوانها الاستقلال في حدود الدولة التي خلقتها التقسيمات الاستعمارية نفسها وفرض حكم دستوري وإصلاحات اجتماعية أتت كلها على النمط الغربي (مصر مثلًا منذ نهاية العقد الأول في القرن العشرين، وإيران بعد ثورة ١٩٠٦ والمشرق العربي بعد وصول رجالات الاتحاد والترقي للسلطة في تركيا) تحولت مواجهة التغريب هنا إلى معركة محلية بالأساس أكثر من كونها معركة ثقافية وسياسية مع المستعمر. كان هناك ما يشبه الإقرار الضمني لدى التيارين الإسلاميين الرئيسيين أن المعركة القديمة التي شكلَّت علّة وجودهم الأولى قد خُسرت تمامًا، وأن الدولة القومية قد وجدت لتبقى وأن مجتمعات المسلمين أضحت على طريق الانخراط في العلاقات الاجتماعية الرأسمالية إلى الأبد وأن هذا القدر لا فكاك منه. ومن ثم فخط الدفاع الثاني الذي تشكل بصورة لا واعية كان في التشبث بسهم، أو مجال، داخل هذه الدولة وهذه العلاقات يحفظ لدعاة الأصالة سواء كانوا سلفيين إصلاحيين أو تقليديين أقحاح مكانة ما في هذا العالم المتغير. وانتقلت خطوط المعركة الثقافية للداخل لتصبح في مواجهة دعاة التغريب وموضوعها هو ملكية الدول الوليدة ومحتوى رسالتها التعليمية والثقافية، وتم ترحيل حلم الخلافة إلى زاوية بعيدة في الخيال السياسي نسجت حولها الأساطير والأوهام كهدف نهائي لتحقيق الذات المسلمية والمتحررة كليًا من النفوذ الغربي. 

وما يعنينا هنا أن اليمين الديني استدعى مطارحاته حول صورة الإسلام والمسلمين كمعركة داخلية بالأساس هدفها محاصرة نمو أشكال من العلاقات الاجتماعية والأفكار والهويات الذاتية تدرك نفسها كجزء من عالم أوسع وتتعامل مع تراثها وذاكرتها من منظور هذا الإدراك الجديد سواء بالرفض التام أو التحويل والتعديل بما يقتضيه إدراكها لموقعها الجديد. نحن هنا لسنا معنيين بتقييم هذه الأفكار الجديدة من الناحية الأخلاقية أو السياسية، فمن البديهي أن أي تصورات جديدة للهوية تولد من داخلها أدوات نقدها الذاتي. الأفكار الاشتراكية التي ذاعت خلال هذه الفترة يمكن اعتبارها بحد ذاتها نقدًا اجتماعيًا حادًا لأشكال العنف والتفاوت الاجتماعي والاغتراب التي ولدت مع العلاقات الاجتماعية الجديدة، ولكنه نقد استند إلى منطلقات مختلفة جذريًا لمنطلقات اليمين الديني وتعامل بسلاسة مع واقع المسلمين الجديد باعتبارهم جزءًا من جماعات وهويات جديدة على الصعيد العالمي مع آخرين غربيين وشرقيين وغيرهم. الخط الفاصل إذن بين نقد اليمين الديني ونقد الآخرين كان في محاولة حبس المسلمين في أسر الثنائية القديمة المتجددة في مواجهة الغرب، وأحد الأدوات الفاعلة في هذه المعركة كان المسارعة إلى التقاط أي إشارة تصدر عن التيارات الثقافية في الغرب تحقر من تراث المسلمين أو عقيدتهم كدليل على وحدة النظرة الغربية التي لا تتغير للمسلمين. 

وعلى ذكر التيارات الاشتراكية فالمرحلة التالية لإعادة تفعيل هذا الخطاب، وللمفارقة، كانت تحديدًا مع ما يراه هذا الخطاب نفسه عصرًا ذهبيًا لهيمنة العلمانية والإلحاد على عالم المسلمين، أي خلال فترة الأنظمة الوطنية ذات الدعاية اليسارية نفسها والتي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية وهزيمة حرب فلسطين. المفارقة هنا مصدرها أن نزوع هذه النخب الجديدة لتركيز السلطة الحصري حول أنوية أمنية وعسكرية صلبة والقضاء على أي تنظيم جماهيري مستقل قد حكم عليها بابتلاع هذا التيار اليميني نفسه كعنصر ضابط يدعم من شرعية النظم الجديدة في مواجهاتها السياسية، ويوازن من نفوذ العناصر اليسارية المستقلة التي سعت إلى التسريع من وتيرة التحولات الاجتماعية التي أطلقتها سياسات هذه النخب. معركة هذه النخب الحاكمة مثلًا مع التيارات الإسلامية لم تتجاوز الحيز السياسي بل اقترنت في الكثير من الأحيان بالمزايدة على رؤى هذه التيارات، وحالة النظام الناصري في مصر كاشفة حيث كان النظام الناصري تحديدًا -الملعون من عموم التيارات الإسلامية- هو من حوّل الأزهر لمؤسسة متعاظمة النفوذ وسمح بتعزيز دورها في صياغة الرسائل التعليمية والإعلامية والثقافية الجديدة. بل إن الشغل الشاغل للمطارحات مع الغرب تحول خلال الستينيات لمواجهة نفوذ الأفكار الاشتراكية في المجال الأدبي والفني والسياسي باعتبار الاشتراكية الطبعة الأخيرة من طبعات التغريب التي يتعين مواجهتها. 

وهنا تنشأ مرحلة جديدة من حياة الخطاب المناهض للغرب والتغريب تقترن بدورها بتحولات أنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية واندفاعها يمينًا تحت تأثير أزماتها الذاتية وتعاظم دور رؤوس الأموال الخليجية وأنظمته بالتبعية. وكان من الطبيعي أن التحول يمينًا يقترن بتزايد نفوذ اليمين ككل سواء في شقه الديني أو الليبرالي، وسواء كان مندمجًا في مؤسسات الدولة أو في المجال العام. وبالتدريج يبرز دور جديد لهذا اليمين الديني ورؤاه بشأن الغرب يضاف إلى أدواره المتراكمة وهو اعتباره ورقة لابتزاز حلفاء النخب الحاكمة الجدد في العواصم الغربية نفسها. وكما لعب هذا التيار دورًا محوريًا في موازنة النفوذ اليساري داخل أروقة الدولة والمجتمع عقب استيلاء النخب العسكرية والأمنية على جهاز الدولة في الخمسينيات، لعب نفس التيار دورًا محوريًا في موازنة نفوذ التيارات الليبرالية داخل أروقة الدولة مع تحولها يمينًا وكذلك في موازنة دعاوى النخب الغربية التي كانت تضغط على هذه الأنظمة بين الحين والآخر تجاه إقرار قدر من الحريات السياسية بما يحفظ هيمنتها بالأساس، خصوصًا بعد انهيار عدوهم المشترك متمثلًا في الاتحاد السوفيتي. 

لا يُفهم من هذا الكلام على الإطلاق أن جميع منتسبي التيار اليميني الديني كانوا يتحركون على غير هدى مُجيشون في معارك لا دراية لهم بها أو لا سيطرة لهم عليها. من وجهة نظري، العكس تمامًا هو الصحيح. فالابتزاز كان متبادلًا والتوظيف كان من الطرفين في الحقيقة خلال هذه الفترة الطويلة. لعبة الابتزاز والموازنات انعكست في نفوذ إضافي لليمين الديني في النهاية، كان واعيًا به ويعمل على تعظيمه بذكاء ومهارة. حتى تياراته الأكثر جذريًا في قطيعتها مع الدول القائمة، بما في ذلك الجماعات المسلحة، لم تفوت فرصتها في الاستفادة من حضور العناصر التقليدية داخل جسم الدولة، وعملت على ابتزازها بدورها في معارك تكفير لعدد من المثقفين أو على الأقل بابتزازها لمواجهة ما تراه تغريبًا في سياسات هذه النخب الحاكمة خصوصًا سياساتها تجاه المرأة أو سياساتها السكانية (معارك تنظيم الأسرة والختان وتعديل قوانين الأحوال الشخصية أمثلة دالة هنا). 

وأخيرًا، فثورات العالم العربي، والانفجار غير المسبوق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت المجال في بضع سنوات فقط للتعليق على كل الأحداث العامة سواء داخل أو خارج البلد، كشفت كذلك عن مدى التنوع الهائل بين سكان العالم الإسلامي سواء في رؤيتهم لذواتهم أو هوياتهم وموقفهم من العلاقات الاجتماعية السائدة. وبالطبع لم تتوفر لليمين الديني بشقيه - المندمج في الدولة أو الإسلامي الحركي - أي أدوات لفهم أو استيعاب هذا التنوع على اعتبار أنه كله تغريب في تغريب أو تفسخ أخلاقي وغير ذلك من توصيفات. وعادت من ثَم معارك صور المسلمين في الغرب أو النظرة الغربية للإسلام لتشتغل داخليًا. فبعد عام واحد من اندلاع الثورات العربية تفجرت قضية فيلم لمخرج أميركي مغمور تمامًا ظهر فجأة على موقع اليوتيوب في نهاية ٢٠١٢ لتتحول لمناسبة للتظاهر والتحريض انتهت بهجوم على منشآت دبلوماسية غربية، بل وقتل السفير الأميركي في بني غازي. وقتها كان من الواضح للجميع أن تلاعبًا أمنيًا سافرًا من عناصر في الأنظمة الساقطة أو المترنحة يقف خلف تفجير تلك القضية بهدف المزايدة على الإسلاميين سواء كانوا في مواقع السلطة أو يتأهبون لها، ومع ذلك فالمنظمات الإسلامية نفسها قد قفزت بدورها إلى قطار التحريض على التظاهر نفسه ومارسته في الكثير من الأحيان. مرة أخرى الأمر لا يتعلق بسذاجة أو توظيف بالمعنى المباشر للكلمة بقدر ما يتعلق بإدراك عميق بأن هذه المعارك مهما كانت خسائرها على المدى المنظور إلا أن مخرجاتها ستصب في النهاية لمصلحة اليمين الديني ككل، ومنه المنظمات الإسلامية الحركية التي لا يمكنها أن تنفصل عن مسار التعبئة ذاك. وفي نفس السياق، فهذه المواقف تم توظيفها في سبيل الهجوم على المواقف الجديدة من الهوية والعلاقات الاجتماعية التي كشفت عنها مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها اختراقًا بدورها لمجتمعات المسلمين. وتداخل مع التوظيف الرسمي (التركي في حالة معركة الرسوم الأخيرة والمصري والسعودي في حالة الرسوم الأولى في ٢٠٠٦) دخول الجماعات الجهادية على الخط أملًا في المزيد من التعبئة بين صفوف المهاجرين. فشهدنا عدد من أفعال العنف المسلح والمخطط لها بدقة كحادث إطلاق النار على مجلة شارلي إيبدو في يناير ٢٠١٥ ثم ذبح المدرس صمويل باتي وإطلاق النار في العاصمة فيينا. لا يمكن اعتبار هذه الأفعال بمثابة «ردود فعل» أخذًا في الاعتبار إعلان أطراف بعينها مسؤوليتها عن هذه الأحداث حتى لو تمت بطريقة الذئاب المنفردة أي دون قرار مركزي. وهكذا تندفع أطراف مختلفة للتطوع لإثبات صورة المسلمين التي يرسمها الخطاب الإسلاموفوبي نفسه، كل لمصالحه ولخدمة هيمنتها الداخلية بالأساس.

من شأن هذا الاستعراض السريع، والمخل ربما، لتاريخ ودور خطاب معاداة الغرب الإطلاقي يمكن استخلاص عدّة نتائج سريعة قد تستكمل الصورة التي رسمها عمر الشافعي بعناية للإسلاموفوبيا كأيديولوجية. من الواضح أن هذا الخطاب اعتمد في آليات بناءه على نفس الكيفية التي اعتمد عليها الاستشراق في تصوير عالم المسلمين ومعتقدهم مع قلبها لمصلحة المسلمين. العلاقة مع آليات الاستشراق وتبنيه معكوسًا كان ردّ فعل خاص جدًا في لحظة تشكل حيز جغرافي ومؤسساتي جديد، هو حيز الدولة القومية، فتح مجال المنافسة العلني على شغله بتصورات عن الأمة بالمعنى السياسي تترجم في رسائل تعليمية وأخلاقية. هذا الحيز بسوقه ومؤسساته القمعية والسياسية والإدارية كان بحد ذاته لحظة في استلاب جمهور المسلمين، أي مرحلة تساهم في خروج الشروط المحددة لحياة الناس بشكل متنامي عن سلطتهم وانتصابها أمامهم كعائق بينهم وبين تحققهم الذاتي. ولكن بدلًا من ميلاد خطابات من قلب لحظة الاستلاب تلك تستعيد تحكم الناس في هذا الحيز بالمشاركة مع آخرين من خارجه، تشكل الخطاب المناهض للغرب في ارتباط عميق بآليات الضبط في هذا الحيز المؤسسي، فتحول لخطاب ضبط وقمع يستهدف السيطرة على عموم المسلمين في هذا الحيز بالتنافس مع غيره من الخطابات، مع إنتاج نشط لحلم الخلافة الذي كان يبتعد أكثر فأكثر عقدًا بعد عقد. فيصبح التحقق الذاتي والسيطرة على شروط الحياة حلم مؤجل دائمًا بعيد المنال لا يطّلع عليه الإنسان المسلم المعاصر إلا عبر المثقف الإسلامي. في كل المحطات الفارقة كانت مواجهة التغريب محاولة للسيطرة على جمهور يتفلت من أسر علاقات اجتماعية متفسخة - جديدة أو قديمة - ولكن يجري جرّه جرًّا لمعارك التغريب والعلمنة تلك، وعبر هذه العملية يعاد انتاج شبكة مترامية الأطراف من السلطات والمواقع الاجتماعية المتميزة على حساب التفكير في واقع بديل. ويعود التصوير الإسلامي للغرب دائمًا لحفظ تماسك اليمين الإسلامي في العالم العربي والإسلامي كتيار فكري وسياسي، ولحفظ المواقع الاجتماعية المتشكلة من رحمه وبفضله، ولفتح المجال لتحقيق مكاسب فرعية لمكونات هذا التيار العريض على تناقض مصالحها الاستراتيجية.

هنا يجب أن نفتح قوسًا لجملة اعتراضية مهمة، وهي أن التيار الإسلامي شهد على مرّ تاريخه الطويل رؤى تجاوزت هذا التمثيل الضيق الماهوي للغرب ولم تقدم معركتها الأساسية بوصفها معركة مع اتجاهات تغريبية محلية ونظم عميلة لهذا الغرب بالمعنى البسيط والاختزالي لمفهوم العمالة. بل إن نفس التيار شهد محاولات فكرية عميقة للخروج من فلك اليمين عمومًا والتقارب مع اليسار سواء كان قوميًّا أو ليبراليًّا أو حتى ماركسيًّا. ونجحت بعض هذه المحاولات في التعبير عن نفسها تنظيميًا بدرجات متفاوتة في حقبة الثورات العربية. ولكن هذه الرؤى، على جديتها وأهميتها، ليست موضوعنا، إذ لم تحذ نفوذًا يذكر في أوساط التيار الإسلامي ناهيك بعموم المواطنين. 

ومرة أخرى، لا يحمل هذا التقييم لليمين الديني ودوره أي ود يذكر لواقع العلاقات الرأسمالية الحديثة الذي نشأ وتعقد منذ عصر نشأة الدولة الحديثة في كنف الاستعمار. ولكنه يرى أن هذه العملية بحد ذاتها قد وفرت الشروط اللازمة لميلاد تيار نقدي من داخلها يؤسس لمشاريع سياسية وفكرية وأخلاقية قادرة على تجاوزها بشرط التفكير من على أرضية الواقع الجديد. وهذه الأرضية تؤشر أن المسلمين المحدثين أنفسهم منقسمين طبقيًا واجتماعيًا بعمق، وأن هوياتهم السياسية والثقافية تنفلت في تشكلها عبر الحدود الجغرافية المتخيلة سواء كانت دينية أو قومية وأنها يمكن أن تتلاقى مع غيرها من البشر شرقًا وغربًا بانفتاح. ولحظة الثورات العربية كانت كشفًا مدويًا لهذه الإمكانية شهدته الشوارع ثم ساحات السوشيال ميديا. الثورات العربية شئنا أم أبينا، كانت جزءًا من ديناميكية عالمية عابرة للحدود تسببت فيها أزمة عميقة لنمط الإنتاج الرأسمالي الذي خلق هذه الحدود ابتداءً. والاستجابة المضادة في الغرب وعالم المسلمين - أو الثورة المضادة إن شئت- تنوعت ما بين الاحتواء وما بين الصعود اليميني الهوياتي مرة أخرى في تجليه الإسلاموفوبي أو ذاك المعادي للغرب: ظاهرة واحدة بوجهين مختلفين. ويبقى التاريخ مفتوحًا على استجابة بديلة لتلك الأزمة. استجابة ديموقراطية بعمق، تُعرّف الإنسان بما يميزه فعلًا في عالمنا - أي قوة عمله الذهني والبدني الصانعة للحياة والمسلوبة منه بشكل دائم، ربما عند إدراك هذه الحقيقة سنتعرف في العالم القائم بعلاقاته ومؤسساته على أثرنا الحقيقي وليس الأثر الذي أنتجه أسلافنا ويريد لنا الكثيرون في عالمنا تحميلنا بعبئه إلى الأبد.