مراجعات

يوسف مسلم

باول كاميرير الذي دفعته الفاشية إلى الانتحار

2020.01.01

عرض كتاب: قضية باول كاميرير
الناشر: بيت الياسمين، 2019
المؤلف: كلاوس تاشفر
المترجمة: هند أسعد

باول كاميرير الذي دفعته الفاشية إلى الانتحار

بهذه الأبيات افتتح الشاعر النمساوي بيتر شتورمبوش قصيدته المهداة إلى صديقه عالم الأحياء والموسيقي النمساوي باول كاميرير Paul Kammerer، وذلك قبيل انتحاره بأسابيع قليلة، إثر اتهامه بتزوير نتائج أبحاثه في علم التخلُّق؛ مما أدى إلى حرمانه من درجة الأستاذية في النمسا.

لم تكن قضية باول كاميرير قضية عابرة في الأوساط العلمية في العالم، بل كان لها دوي كبير بين أوروبا وأمريكا، لما لـكاميرير من شأن علمي كبير استطاع أن يحققه في سن صغيرة، ولما لأبحاثه من أهمية في إحداث نقلة نوعية؛ ليس في علم الأحياء فحسب، بل كذلك على مستوى علم الاجتماع، وربما السياسة أيضًا، ولذا تحتم وقوع صدام ديني واجتماعي بين نظرية كاميرير والمجتمع المحافظ، انتهى بانتحاره مُطلقًا الرصاص على رأسه، ربما يأسًا من حياته العلمية، وربما رغبة في توجيه صفعة قوية إلى المجتمعات الأوروبية حينها.

هذه هي القضية التي يطرحها الكاتب والصحفي النمساوي كلاوس تاشفر في كتابه "قضية باول كاميرير" الذي أنجزت ترجمته العربية الأولى هند أسعد، وصدرت أخيرًا عن دار بيت الياسمين للنشر والتوزيع.

ليس الأول ولن يكون الأخير

تؤكد هذه القضية أن محاربة الحداثة في العلم والتفكير ليست قاصرة على المجتمعات المتخلفة فحسب، فإذا كان كوبرنيكوس وجاليليو قد قالا بلامركزية الأرض بالنسبة للكون في بدايات عصر النهضة، ولم يكن المجتمع الأوروبي قد تخلَّص بعد من سطوة رجال الدين، ولا من نمط التفكير الرجعي الذي رسخته القرون الوسطي، بنزعتها القمعية تجاه كل ما هو جديد أو مخالف لتعاليم الكنيسة، ما أدى إلى محاكمتهما وتكفيرهما، بل وقتلهما معنويًّا حين أجبر جاليليو على التراجع عن نظريته والقول بصحة ما تقوله الكنيسة، فإن قضية كاميرير حدثت في عشرينيات القرن العشرين، أي بعد أكثر من قرن على الثورة الفرنسية، وهو قرن جرت خلاله الكثير من الثورات البورجوازية والثورة الصناعية الثانية، وتحوَّل المجتمع الأوروبي من الإقطاع إلى الرأسمالية الصناعية، وظهرت النظريتان الأهم في علمي الأحياء والاجتماع؛ وهما نظرية التطور والماركسية، هذا فضلاً عن كومونة باريس 1871، ووصولاً إلى الحرب العالمية الأولى، ثم الثورة البلشفية، وكلها أحداث أدت إلى إضعاف قبضة الكنيسة على المجتمع، بل إن الكنيسة لم يعد لها نفوذ يذكر إلا في أضيق الحدود، وكانت أوروبا وقتئذ في أوج تطلعها نحو مستقبل للعلم، تبدَّى ذلك من خلال ظهور الكثير من المختبرات والمعاهد الأهلية، واهتمام الحكومات بالعلوم وأنشطتها. لكن يبدو أن هذا الاهتمام كان قاصرًا على التوجهات العلمية التي تخدم مصلحة هذه الحكومات، أو على الأقل التي لا تسبب إزعاجًا لها.

من هو باول كاميرير؟

إلى جانب ما وثَّق له الكتاب من جدل وصراع حول قضية كاميرير، قدم كذلك توثيقًا وافيًا لسيرة كاميرير الذاتية، خصوصًا وأن حياته ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بمسيرته العلمية منذ كان تلميذًا شغوفًا بجمع الحيوانات والزواحف وإجراء التجارب عليها، وحتى انتحاره متهمًا بالتزوير.

ولد باول كاميرير في 17 أغسطس 1880 لأب بورجوازي كاثوليكي ميسور الحال يدعي كارل باول كاميرير، وأم يهودية تدعى صوفيا، اعتنقت الكاثوليكية قبيل زواجها من كارل كاميرير عام 1876، ولأن الزيجة لم تكن الأولى لكلا الزوجين فقد حتم عليهما أن يقام الزفاف وفقًا لتقاليد مذهب المسيحية التوحيدية، لأن الكاثوليكية تحرم الزواج الثاني، وبعد ذلك بنحو أربع سنوات أتى باول؛ الابن الوحيد المشترك للزوجين، إذ أن للأب كارل ابن من زيجة سابقة هو كارل الابن، الذي يكبر باول بخمسة عشر عامًا، كما أن لـصوفيا الأم ابنان، هما هوجو وأوتو، اللذان بلغا من العمر 17 و18 سنة وقت ميلاد باول. 

عاش باول الصغير بين إخوته غير الأشقاء في أسرة برجوازية مهتمة بالعلوم والفنون، شأن أغلب عائلات الطبقة البرجوازية الأوروبية آنذاك. إذ كانت الأم عازفة بيانو، أما الأب وإن لم يكن عازفًا فإن الموسيقى كانت من أولويات اهتماماته، وكذلك التجول والاستكشاف، وهو ما أورثه لابنه باول، إلى جانب كراهيته للكحول، وانطبعت شخصية الأب القوية التي تصل في كثير من الأحيان إلى الصرامة والقسوة، على شخصية باول الصغير منذ صباه، إذ أبرز اهتمامًا بالغًا بتحصيل دروسه، إلى جانب اهتمامه بالاستكشاف العلمي، فحين كان في الرابعة عشر من عمره اصطاد أول علاجيمه الحاضنة لإجراء التجارب عليها، ولم تكن هذه أولى تجاربه، بل سبقتها تجارب كثيرة على السمندلات والعلاجيم، ومنذ ذلك الحين بدأ في إنشاء متحفه الخاص للحشرات والزواحف التي جمعها خلال رحلاته في أنحاء أوروبا أولاً ثم مصر وأفريقيا لاحقًا، وكان الاحتفاظ بمرابي مائية في المنازل تضم عددًا من الزواحف والبرمائيات، أمرًا اعتياديًّا في أوروبا، هذا بالإضافة إلى جمعيات المرابي المائية واليابسة والتي انتشرت بشكل ملحوظ في أوروبا خلال نهايات القرن الـ19، فقد كان في ألمانيا وحدها 284 جمعية للمرابي المائية واليابسة.

إلى جانب ذلك كان كاميرير عازف بيانو نابهًا، ومؤلفًا موسيقيًّا على قدر من الأهمية، وقد لحَّن لصديقه الشاعر شتورمبوش عددًا من القصائد.

ظل كاميرير لفترة من الزمن تتقاسمه رغبتان؛ أن يصبح عالم أحياء، وأن يصبح موسيقيًّا، واحتدم هذا الصراع داخله وهو على أعتاب الالتحاق بالدراسة في جامعة ڤيينا، بل إنه في أثناء دراسته فكر كثيرًا بهجر العلم والتفرغ للموسيقى، لكن العالم اللحوح الذي في داخله حسم الموقف، وبدأ كاميرير نشاطه كعالم أحياء وهو ما يزال طالبًا في أول فصل دراسي له، ولذلك بنشر سلسلة من المقالات في مجلة "الطبيعة والمنزل" شرح فيها ملاحظاته حول تربية الزواحف والبرمائيات، وفي عام 1900 وكان كاميرير وقتها قد بلغ العشرين من عمره، نشر عددًا من المقالات في مجلة "أبحاث علم المرابي المائية واليابسة" BlätterfürAquarien- und Terrarienkunde، بعناوين مثل "4 أفاعٍ معطشات أمريكية"، و"ملاحظات عن سرطانات المياه العذبة"، و"سمندلات الكهوف الأوربية ذات الرأس العريض"، و"خبرات أكثر حداثة في تربية الضفادع"، و"السحالي الأسترالية في السجن". وسرعان ما أصبح الشاب أحد أكثر المشاركين إنتاجًا في المجلة المخصصة للهواة، وهو ما حقق له شهرة واسعة، على الرغم من صغر سنه، وأهَّله لتمثيل جمعية "لوتوس" عام 1901 في الاحتفال باليوبيل الذهبي على تأسيس جمعية علم الحيوان وعلم النبات لإمبراطورية النمسا والمجر.

كما منحته مجموعة الحيوانات النادرة التي يقتنيها في مرباه المنزلي، شهرة بالغة، حتى أن صحيفة "نويس ڤينر تاجبلات" Neues Wiener Tagblatt أجرت تحقيقًا حولها بعنوان "حديقة حيوانات طالب".

في معهد السحرة

إنه معهد التجارب البيولوجية في ڤيينا، الذي أسسه ثلاثة من العلماء اليهود؛ هم هانز بيشبرام أستاذ كاميرير، وفيلهلم فيجدور، وليوبولد فون بورتهايم، ويعتبر أول مركز بحثي خاص من نوعه في أوروبا، وبحلول عام 1901 التحق كاميرير بالعمل فيه كباحث ناشئ، وكان ذلك بمثابة نقطة الانطلاق الحقيقية لعاشق العلاجيم والحيوانات، في المعهد أتيحت له فرص كبيرة لإجراء التجارب، وتحصيل المعرفة، نظرًا إلى أن المعهد يتيح بيئة تحاكي البيئة الطبيعية للحيوانات، ومن ثم كان من الميسور رصد أية تغيرات فيسيولوجية تطرأ على الحيوانات إذا ما تعرضت لأي مثير خارجي، وهذا هو جوهر نظرية كاميرير في علم التخلق، والتي انتهت به مُطلقًا الرصاص على رأسه.

عالم الحيوانات التجريبي الشاب

قبيل أن يتم كاميرير عامه الخامس والعشرين، كان قد أعد دراستين عن ظاهرة إعادة النمو، الأولى عن إعادة نمو أجنحة الذباب، والأخرى عن إعادة نمو سمات جنسية ثانوية لدى البرمائيات، أي الأكياس الصوتية لضفادع أو حواف السمندل، لكن هذه التجارب لم تلقَ القبول الذي يرضي كاميرير، لأنه اشتبه في تعسفه تجاه البرمائيات خلال إجرائه للتجارب، على الرغم من تأكيده أن ذلك لن يضرها في شيء.

لذا انصرف تركيزه إلى الوصول، من خلال تجاربه، إلى إمكانية تغيير النوع بفضل التأثيرات البيئية، وذلك بفضل خبرته الواسعة كمربي للبرمائيات. ومن هنا بدأ كاميرير بحثه المُشكِل، الذي تسبب في وقوع أغرب قضية اضطهاد علمي في التاريخ.

توريث الصفات المكتسبة

قرر كاميرير في بحثه هذا اختيار نوعين من الحيوانات، بينهما اختلاف واضح في السلوك، على الرغم من كونهما من عائلة واحدة، وهما الضفادع.

النوع الأول؛ ضفدع الشجر الأوروبي؛ الذي يمكنه التزاوج في اليابسة والماء على حد سواء، ووضع بيوضه في الماء شأن كل الضفادع. أما النوع الثاني فهو العلاجيم الحاضنة التي لا تستطيع التزاوج إلا على اليابسة.

غيَّر كاميرير درجة الحرارة والرطوبة في الحوضين اليابسين اللذين يعيش فيهما هذان النوعان من البرمائيات لإجراء تجاربه. فلاحظ أن ثمة تغيرًا سلوكيًّا طرأ على العلاجم الحاضنة، إذ اضطرت إلى وضع بعض بيوضها في الماء، والتي أفرخت عددًا قليلاً من العلاجيم، وبذلك أثبت كاميرير إمكانية تغيير السلوك الخاص بالبرمائيات وتعديله وفقًا لظروف البيئة.

علم الأحياء الاجتماعي

كان من الضروري أن تكون تجارب كاميرير اللاحقة حول إمكانية التخلق وفقًا لتغيرات البيئة، أي إحداث تغيُّرات عضوية ظاهرة لدى الكائنات بدافع التكيف من التغيرات البيئة، بمعنى أن الأمر لن يقتصر على تغيير السلوك فحسب، بل يتطور إلى التغير الفسيولوجي المرئي، وإمكانية توريث هذا التغير.

في البداية أراد كاميرير إثبات أن السلوك المتغير من الممكن توريثه عبر الأجيال، ولذا ربى 40 من السمندلات الجبلية والنارية في ظروف بيئية مختلفة بداية من عام 1903، وفي خلال أربع سنوات من ذلك أنجبت السمندلات الجبلية جيلين، بينما أنجبت السمندلات النارية أربعة أجيال، وكانت المفاجأة أن التغيُّرات التي أُجريت على الآباء ظهرت في الأجيال اللاحقة؛ فالسمندلات النارية على سبيل المثال بدلاً من أن تنجب من 14 إلى 72 شرغوفًا، وضعت من 2 إلى 5 صغار مكتملة النمو دون خياشيم، وبهذا أحدث كاميرير توريثًا محتملاً لصفات مكتسبة للمرة الأولى عن طريق التجارب، وأعلن كاميرير في بحثه المنشور في مجلة "أرشيف آلية التطور"بعنوان" صغار السمندل الناري متأخري الولادة وصغار السمندل الجبلي مبكري الولادة"، وبحثه التكميلي الآخر بعنوان "خبر أول وثان عن توريث تكيفات إجبارية للتكاثر" أنه ما تزال هناك مفاجآت أكثر في هذا الشأن؛ وهذا ما ساهم لاحقًا في تأسيس ما عُرف بعلم الأحياء الاجتماعي.

قضية التزوير 

واصل كاميرير أبحاثه التي مكَّنته من الحصول على الدكتوراة وهو في عامه الثلاثين، ثم واصل الترقي في جامعة ڤيينا حتى أصبح أستاذًا مساعدًا، ومن ثم أصبحت الخطوة التالية هي الحصول على لقب الأستاذية، وفي صدد ذلك أجرى عدة أبحاث شكلت نظريته في علم الأحياء الاجتماعي.

كان كاميرير قد أجرى تجارب على العلاجيم الحاضنة والسمندلات، أحدثت نتائجها المعلنة دويًّا في الأوساط العلمية، كان من الممكن أن يضعه كأهم عالم أحياء بعد داروين، لكن ذلك لم يحدث. واستطاع عبر تربية أجيال متعاقبة من العلاجيم الحاضنة أن ينتج ذكور علاجيم لها زوائد جنسية تمكنها من التزاوج في الماء كما في اليابسة، وهو ما يعد سبقًا تاريخيًّا في علم التخلق، لكن جامعة ڤيينا التي كان يسيطر عليها المحافظون والقوميون الألمان وقتذاك، حاربت كاميرير وأبحاثه بضراوة.

والنتيجة العلمية التي حققها كاميرير في دراسته للبرمائيات، لا تقف عند هذا الحد، بل تنسحب كذلك على الفلسفة وعلم الاجتماع، إذ تدحض بقوة فكرة تفوق عِرق على آخر، وعدم إمكانية تطور الجنس العرق الأدنى إذا ما أتيحت له ظروف بيئية مختلفة، ولأن كاميرير كان ذا ميول شيوعية واضحة، فقد ارتأى المجتمع المحافظ في النمسا وسائر البلدان الناطقة بالألمانية، خطورة ما توصل إليه من نتائج على نظريتهم ذات البعد الفاشي، خصوصًا وأن النازية في عشرينيات القرن العشرين كانت آخذة في الصعود، ولها أتباع ومريدون في سائر البلاد الناطقة بالألمانية. ومن هنا باتت نظرية تفوق الجنس الآري مهددة.

وفي يناير من عام 1926 أعلن العالم الأمريكي جلادوين كينجسلي نوبل أن ثمة تزويرًا تم في عينة العلاجيم الحاضنة الخاصة بتجارب كاميرير، إذ وجد أن بقعًا سوداء في بطن العلاجيم مرسومة بالحبر، وهو ما يعني أن النتيجة التي توصل إليها كاميرير مشكوك في صحتها، على الرغم من شهادة الكثير من زملائه وأساتذته وعلى رأسهم هانز بيشبرام باستحالة أن يكون كاميرير قد أقدم على هذا الفعل.

الثابت في الأمر أن التزوير قد حدث بالفعل؛ لكنه لم يكن بفعل كاميرير بل بفعل شخص آخر أراد أن ينسف هذه النظرية من منشئها، وهو في الغالب أحد زملاء كاميرير في معهد التجارب البيولوجية، وهو المكان الذي أجرى فيه كاميرير تجاربه، لكن حتى الآن لم يتم الكشف عن هذا الشخص.

وعلى الرغم من وقوف الاتحاد السوڤيتي بجانب كاميرير ونظريته، إذ مُنح في يونيو من العام نفسه درجة الأستاذية من جامعة موسكو، بإيعاز من السياسي السوفييتي البارز أناتولي لوناتشارسكي، لكن ذلك لم يكن تقديرًا مُرضيًا بالنسبة لكاميرير، فلن يلغي كونه متهمًا في شرفه العلمي، ولذا اختار أن ينهي حياته بإرادته في أغسطس 1926.

ظلت حادثة انتحار كاميرير مثار جدل في العالم لعدة سنوات لاحقة، إذ انقسمت الأوساط العلمية في العالم بين مؤيد لنظريته ورافض لها، بل إن الأمر امتد كذلك إلى تناول القضية أدبيًّا؛ فبعد أسابيع من انتحاره كتب السياسي السوڤيتي أناتولي لوناتشارسكي مسرحية بعنوان "السلمندر"؛ تناول فيها قضية كاميرير، وفيها فسَّر لوناتشارسكي انتحار كاميرير كرد فعل للحالة الرجعية التي سيطرت على فكر العلماء الأوروبيين، وفي عام 1928 حوَّل لوناتشارسكي مسرحيته إلى سيناريو سينمائي صامت بعنوان "سلمندرا" وأنتج في العام نفسه، بإنتاج روسي ألماني مشترك، وصُوِّر في ألمانيا. ولعقود كثيرة تالية سعى فنانون ومفكرون إلى رد اعتبار كاميرير، خصوصًا وأن العلم أثبت نظريته بما لا يدع مجالاً للشك.