فنون
سارة نجاتيتأرجح الهوية الأنثوية في فيلم ريبيكا لألفريد هيتشكوك
2018.05.01
تأرجح الهوية الأنثوية في فيلم "ريبيكا" لألفريد هيتشكوك
على الرغم من الاتهام الحاد لأفلام هيتشكوك بالشوفينية الذكورية ضد المرأة من قبل النقاد والأكاديميين إلا أن تانيا مودليسكي، أحد أهم الكتاب في مجال الدراسات الأدبية والسينمائية ومن رواد ما بعد النسوية في الولايات المتحدة، كان لها رأي آخر. وفي رأي مودليسكي، هيتشكوك “ليس بمتعصب تمامًا ضد المرأة، وبمتعاطف معها في أزمتها مع الأبوية، فأعماله تتميز بتخبط تام تجاه الأنثوية مما يفسر لماذا كان من الممكن للنقاد أن ينقسموا، بمعقولية على الجانبين، حيال هذا الأمر”. يظهر تخبط هيتشكوك واضحًا في نسجه للشخصيات النسائية في أفلامه، فهن يتخبطن بدورهن في متاهات هوياتهن الأنثوية. ونستطيع القول إن فيلم “ريبيكا” إنتاج (1940) وأحد أيقونات هذه الفترة في هوليوود، هو مثال جيد على تأرجح الشخوص النسائية بين المقاومة للأبوية والاندماج فيها.
تدور الأحداث حول فتاة لا نعرف اسمها طول الفيلم، تتزوج من الأرمل الثري مكسيم دي وينتر لتجد نفسها حبيسة ماضي زوجته الأولى التي ماتت في حادث غامض. تتلخص معاناة الفتاة في محاولة فهم زوجها التعس الغامض، وجعله يحبها كما أحب زوجته الأولى، علاوة على محاولات إرضاء مديرة المنزل مسز دانفرز التي تحب الزوجة الأولى ريبيكا، وتكره الزوجة الثانية. وما يبدو لنا من ثنائية ريبيكا الزوجة الأولى -التي لا تظهر قط في الفيلم- ومسز دي وينتر الزوجة الثانية، ليس فقط صراعًا تقليديًّا بين شخصيتين نسائيتين، بل هو صراع يدور داخل الزوجة الثانية، ويتم إسقاطه وتجسيده في ريبيكا. يظهر هذا الإسقاط أيضًا في لغة هيتشكوك السينمائية التي لا تعكس تعصبًا ضد المرأة، ولا تعاطفًا معها، بل تعكس تخبط هيتشكوك نفسه وكذلك شخوصه حيال أنماط الهوية الأنثوية المتضاربة.
هناك آراء نقدية تَفصل هيتشكوك عن أفلامه، وترى فيها مرآة للأنماط الثقافية والاجتماعية السائدة في عصره. لكني، وإن كنت أتفق مع هذا الرأي، أرى أيضًا أننا لا نستطيع أن نفصل شخص هيتشكوك عن أعماله. لذا تعاملت مع تناقضات شخصيات الفيلم كمرآة لتناقضات هيتشكوك نفسه، لسببين؛ أولهما أن هيتشكوك عُرف بأنه من أكثر المخرجين الذين يقصدون كل ما نراه على الشاشة بجميع تفاصيله من إضاءة، وموسيقى، وإكسسوارات، وحتى ألوان كل قطعة من ملابس الممثلين.
يشرح هيتشكوك، في سلسلة من الحوارات أجراها المخرج الفرنسي الشهير فرنسوا تروفو معه، كيف أنه يوظف مقاصده الفنية سينمائيًّا في أدق تفاصيل أعماله، ففي “ريبيكا” قصد أن يجعل حركة مسز دنفرز محدودة حول البطلة، وقلما نراها تمشي؛ بل تظهر فجأة هنا وهناك، لأنه أراد أن يكون لها بُعدا غير بشري. وعندما سأله تروفو عن سبب شغفه بالشقراوات واعتماده عليهن في تجسيد معظم الشخصيات النسائية في أعماله، كان لهيتشكوك رد مثير؛ فقد برر تفضيله للشقراوات بأنهن أكثر غموضًا، فهن وإن كان يبدو عليهن الرقي والترف الاجتماعي إلا أنهن قادرات على مفاجأة الرجل وإبهاره سرًّا على عكس الإيطاليات واللاتينيات والفرنسيات اللاتي “نكاد أن نرى الجنس مكتوب على وجوههن” على حد تعبيره. وقد استنتج تروفو من هذا أن هيتشكوك مولع بالمرأة التي تحمل تناقض البراءة والشهوة.
وثانيهما أن هناك عاملاً مشتركًا بين معظم أفلام هيتشكوك؛ وهو الشغف الواضح بإشكالية الأنثوية وبدور المرأة الذي يترنح في جميع أفلامه بين الالتزام بالنمط التي ترتضيه وهو الأبوية والتمرد عليه. ونرى هذا في فيلمه “مارني”(Marnie) ، حيث يحاول البطل، شون كونري، طول الفيلم ترويض وكشف غموض ماضي البطلة “مارني” ويقوم في نهاية الفيلم بتحويلها من سارقة، قوية الشخصية، شديدة التلاعب، رافضة للرجال عامة وللجنس بصفة خاصة إلى زوجة له،؛ تتزوجه مارني نتيجة ابتزازه وتهديده بإبلاغ الشرطة عن جرائمها. يتم ترويض مارني تدريجيًّا نفسيًّا واجتماعيًّا وجنسيًّا حتى تصبح مثالاً جيدًا لزوجة رجل المجتمع شون كونري. “مارني” مجرد مثال من أفلام عِدة لهيتشكوك نرى فيها بوضوح ثنائية الأنثى المتمردة والأنثى المروضة.
الأنثى وظلالها
يُقسم كارل يونج الذات إلى: وعي ولا وعي، وقَسَّم الأخير إلى شقين: اللا وعي الشخصي واللا وعي الجمعي. فاللا وعي الشخصي هو نتاج التجارب الفردية للإنسان، أما اللا وعي الجمعي فهو القاسم المشترك بين جميع التجارب الإنسانية منذ بداية التاريخ. لذا يمكنا القول إن اللا وعي الجمعي هو ما يربط بين البشر بحكم مرورهم بتجارب نفسية إنسانية متشابهة، وقد استخدم يونج مفهوم اللا وعي الجمعي لتفسير القواسم المشتركة بين الأساطير المختلفة من جميع الحضارات في مراحل تاريخية مختلفة.
وفقًا ليونج، يتكون اللا وعي من رموز أطلق عليها اسم النماذج الأولية archetypes ، والنماذج الأولية هي طرق لا واعية للفهم لدي جميع البشر تمتد لما وراء التجارب الشخصية، أي أنها تجسيد غير واعٍ للغرائز الكامنة لدى جميع البشر بغض النظر عن تجاربهم الشخصية. والتجسيدات الشائعة لتلك الأنماط نجدها في صورة الأم، أو الأب، أو الإله، أو البطل المنقذ..إلخ. وعلى الرغم من إصرار يونج على تنوع وتعدد النماذج الأولية باختلاف السياقات التاريخية المختلفة، إلا أن هناك أُطرًا عامة تحدد هذه النماذج وخصوصًا الأربعة نماذج التي اعتبرها يونج محورية للتجربة الإنسانية وهي: القناع persona ، والأنيما anima، والظل shadow، والذات self. بالعودة إلى الفيلم، سنتناول نموذج الظل فحسب؛ لما له من أهمية في فهم صراع الهوية الأنثوية في ريبيكا.
يقول يونج إن الظل “يجسد كل شيء ترفض الذات أن تتقبله عن نفسها”. فهو بمثابة حقل لجميع الغرائز والرغبات والأفكار المكبوتة. وقد استفادت السينما كثيرًا من تجسيد النماذج الأولية التي تشترك فيها البشرية على الشاشة، وذلك لأنها نماذج يستطيع أي مشاهد أن يتفاعل بل ويتوحد معها. ولعل تجسيد الظل من أكثر النماذج التي قد نتماثل معها على اختلاف معتقداتنا وثقافتنا. وعندما يرتبط الفيلم بالجنسانية والهويات الجندرية، نجد أن الصراع يخرج من دائرة شخوصه ليتحول إلى صراع ضد أعراف وقيم مجتمعية. وليعيش الظل في الظل دومًا، عليه أن يسكن في اللا وعي ولا يغادره، وقد ينعكس هذا الكبت فيما أسماه يونج بالإسقاط أو projection.
الإسقاط لدي يونج هو نسب ما يحمله اللا وعي للآخرين بشكل غير واع، لذلك فإن الحفاظ على صورة مقبولة اجتماعيًّا أحيانًا ما ينطوي على القيام بإسقاط كل ما هو غير مقبول اجتماعيًّا على الآخرين. لا نستطيع أن نحصر شخصية ريبيكا في الفيلم في دور المرأة ذات الجمال الخلاب والكاريزما الطاغية، بل هي أيضا امرأة قامت بكسر العديد من القيم الأبوية في المجتمع، ونرى ذلك في قصص عن ركوبها الخيل، وقيادتها للمراكب، وكذلك الإشارة بين الحين والآخر لسوء سلوكها. ومن المدهش أن ريبيكا لا تظهر قط في الفيلم على الرغم من أن العمل يحمل اسمها، حتى في المشهد المصور في حجرة نومها، نجد صورة لمكسيم ولا نجد صورة لها. هذه العوامل مجتمعة ساعدت على تقديم ريبيكا للمشاهد لا كشخصية وجدت في حياة هؤلاء الأبطال، ولكن كفكرة.
تمثل ريبيكا نمطًا من الأنثوية مختلفًا تمامًا عن أنثوية الزوجة الثانية مسز دي وينتر. فالأخيرة تظهر في أول الفيلم كمرافقة لسيدة أمريكية ثرية، السيدة فان هوبر، والتي تأمرها دائمًا بالطاعة والصمت، كما توجه لها السيدة فان هوبر العديد من الإهانات دون رد من قبل مسز دي وينتر، ونرى أيضا كيف ترتعد الأخيرة كلما التقت بمديرة المنزل مسز دنفرز. على مدار الفيلم تحاول مسز دي وينتر أن تحل محل ريبيكا في المنزل وفي حياة زوجها ولكن تستمر في الفشل وتشعر بسلبيتها وضآلتها مقارنة بالفاتنة اللعوب ريبيكا.
ظاهريًّا، إذن، الصراع الناتج عن قصة الفيلم هو بين الزوجة الراحلة التي تحضر ذكراها بقوة في المنزل، وبديلتها، الزوجة الثانية، التي تسعى جاهدة لأن تجعل من قصر زوجها بيتًا لها. ولكن هذا الصراع في الحقيقة يكشف عن تشتت هوية مسز دي وينتر الأنثوية بين نموذج البراءة والخضوع (شخصية الزوجة الطيبة) وبين الظل -الذي أشار إليه يونج- بما يحمله من شهوانية وتمرد. إن عدم ظهور ريبيكا في الفيلم، ولا حتى في شكل فلاش باك، يعزز قراءة الصراع في شكل تأرجح بين الأنا والظل، فريبيكا الغائبة هي بمثابة الظل الحاضر لمسز دي وينتر، وتجسدت جدلية الأنا والظل في أحد المشاهد المحورية في الفيلم، وهو مشهد يجمع بين البطلة التي لا نعلم سوى أنها مسز دي وينتر (نسبة إلى زوجها) ومديرة المنزل مسز دنفرز، وقبل أن ننتقل لتفاصيل المشهد سنتطرق سريعًا لشخصية مسز دنفرز.
مسز دنفرز هي بمثابة الجسد الذي تحل فيه روح ريبيكا، فهي تُحيي ذكراها باستمرار، وتبقي على حجرتها وملابسها ومتعلقاتها الشخصية كما لو كانت لا تزال على قيد الحياة. تجعل مسز دنفرز من شبح ريبيكا الذي يطارد البطلة أمرًا ذا وجود مادي حقيقي.
في المشهد المحوري، المشار إليه سلفًا، تذهب مسز دي وينتر بدافع الفضول لحجرة ريبيكا المغلقة دائمًا، التي لا تعلم عنها شيئًا، فتكتشف مسز دنفرز ذلك وتلحق بها. يبدأ المشهد بهذا اللقاء المهم دراميًّا بين مديرة المنزل وسيدة القصر: الزوجة الثانية.
تُظهر اللقطة الأولى مسز دنفرز وهي تسير تجاه البطلة في غرفة ريبيكا، تُحجب الخلفية بواسطة الستائر ويصبح التركيز كله على وجود مسز دنفرز الغامض. تسير دنفرز نحو البطلة من الضوء إلى الظلام مما يزيد من تأهبنا وترقبنا، فقدومها من الضوء إلى الظلام لا يجعل وجودها مخيفًا فحسب، بل إنه أيضًا يُمهد الطريق لوجودها تجسيدًا للظل، فالبطلة على وشك الاقتراب من ظلها كما أُسقِط على ريبيكا وكما تجسد في السيدة دنفرز.
تقوم دنفرز برحلة مع مسز دي وينتر داخل غرفة ريبيكا الشاسعة، وفيها يظهر على وجهها تغيرات نفسية كثيرة، ثم تأخذ دنفرز مسز دي وينتر لرؤية خزانة الملابس الخاصة بريبيكا. وتقترب الكاميرا من السيدتين ولا نراهما سوى من خلال الانعكاس الظاهر في مرايا أبواب خزانة الملابس التي تعكس صورة المرأتين، فنرى مرة أخرى كيف أن وجود ريبيكا لا يتمثل في كونها شخصًا، بل متمثل في الأثر الذي تُحدثه في الآخرين. بعدها تفتح السيدة دنفرز باب خزانة الملابس الذي يقسم الصورة بشكل عمودي ويفصل بينها وبين البطلة. وهذا إطار متكرر في لقطات ذلك المشهد، ثم تفتح دنفرز الباب بالكامل لتسمح للبطلة بالدخول عالم ملابس ريبيكا. ونلاحظ كيف تتغير تجربة البطلة في الغرفة، كما يتضح في اللقطات الكلوس أب التالية لهذه اللقطة؛ حيث يبدو الأمر كما لو أنها تحاول الابتعاد عن مواجهة الظل، ومع ذلك تصر السيدة دنفرز على كسر الإطار الرأسي وتقريبها منها.
ثم تخرج دنفرز معطف فراء من الخزانة وتمرره على خدها ثم تُمرره على خد مسز دي وينتر، وعندما يُلامس المعطف وجه الأخيرة، نرى شبح ابتسامة على وجهها، سرعان ما يختفي وتعود ملامحها الخائفة التي تلازمها طول المشهد. يعتلي وجه المرأتين قدر من اللذة عند ملامستهما للمعطف، وهذا يشير إلى أن تجربة الزوجة الثانية داخل غرفة الزوجة الأولى لم تكن بتجربة مؤلمة تمامًا، فقد اختبرت نوعًا من اللذة من خلال إسقاطها لنمط ما من الأنثوية على ريبيكا ومعطفها. يحافظ الإسقاط هنا على براءة البطلة، التي على الرغم من هجر زوجها لها فلم تقترن بأي رغبات مكبوتة على عكس غريمتها، الزوجة الأولى.
وتنتقل المرأتان لجزء آخر من خزانة الملابس الشاسعة ثم إلى منضدة الزينة ثم إلى سرير ريبيكا، وفي كل محطة من تلك المحطات تحاول دنفرز أن تدفع بالبطلة داخل اللقطة السينمائية بينما تحاول الأخيرة الهروب منها. نرى هذا جليًّا في وقوف دنفرز بجانب سرير ريبيكا مشيرة لمسز دي وينتر بالتقدم نحوها بينما تزداد الإضاءة على غطاء الوسادة التي حاكته الخادمة الوفية لسيدتها. تقف البطلة بعيدًا عن السرير في خوف واضح وخلفها مزهرية. في هذه اللحظة نرى كيف يطفو الظل في الضوء بينما تتوارى الأنا في الظل. ليس للزهور أثر ناعم بل أثر مؤلم؛ تبدو ظلال الزهور كضربات سوط على وجه البطلة وجسدها. بعد ذلك تتحرك البطلة تجاه سرير ريبيكا لتلحق بمسز دنفرز الممسكة بقميص نوم ريبيكا الرقيق، وتسألها إن كانت قد رأت فيما قبل شيئًا أكثر رقة وجمالاً، مرة أخرى تنقسم اللقطة أفقيًّا بين البطلة ومديرة المنزل ولا يقطع بينهما سوى قميص ريبيكا.
تلك المواجهة مع الظل التي تنعكس في لغة الفيلم السينمائية، علاوة على تفاعلات الثلاث شخصيات النسائية الرئيسية: مسز دي وينتر، ريبيكا، ومسز دنفرز يعكسان بوضوح تخبط هيتشكوك حول مفهوم الأنثى. أؤمن بأننا يجب أن نكون جميعًا نسويين؛ أن تُؤمن بالنسوية يعني أن تُؤمن بأن للمرأة حقوق الإنسان نفسها، وألا تكون نسويًّا يعني أن تتخلى عن إنسانيتك. لكني أرى أن معركة المرأة تخسر كثيرًا عندما نأخذ الأمور بقشورها لا بأبعادها الأكثر تعقيدًا من تصنيف الناس إلى فصيلين، فصيل مع وفصيل ضد. لذا كانت قراءة الفيلم من منهج نفسي تحليلي ومن خلال نظريات يونج لتوضح أن مواقفنا حيال الهويات الجندرية معقدة قدر تعقيد الهويات الجندرية نفسها. وقد رأينا كيف أن الصراع الظاهر في المشهد السابق يكشف عن أن البطل الحقيقي للفيلم ليس الشخصيات بل هو مفهوم الأنثوية بكل نزعاتها للتمرد على والتناغم مع السلطة الأبوية. هذا التمرد المتمثل في شهوانية وجموح ريبيكا، وهذا التناغم المتمثل في براءة مسز دي وينتر التي تسقط ظلام ظلها على ريبيكا وغرفتها. وقد نجح هيتشكوك في خلع تناقضاته نحو الأنثى على الشخصيات النسائية اللاتي يحملن إحساسًا بالتناقض نحو هوياتهن الجندرية عامة والأنثوية خاصة.