دراسات
سماح سليمترجمة الحضارة: مفهوم الأمة والعرق في عصر النهضة في مصر
2017.11.01
تصوير آخرون
ترجمة : مروة الناعم
ترجمة الحضارة: مفهوم الأمة والعرق في عصر النهضة في مصر
كان جوتاف لوبون (1841- 1931)، على الرغم من إغفاله اليوم في مجال العلوم الاجتماعية، أحد أهم المفكرين الاجتماعيين وأكثرهم شهرة في عهد الجمهورية الثالثة في فرنسا. فقد كان منظرًا مؤثرًا في مسألة العرق، ومجادلًا لا يكلّ عن مناوئة الثورة، إذ قام بتطوير مفهوم تاريخي للدارونية الاجتماعية يعرّف التقدم من خلال تفاقم اللامساواة الاجتماعية والحضارية. كان للوبون تأثيرًا بالغًا على الفكر الاجتماعي الجديد لعصر النهضة في مصر، خاصةً تياراته الليبرالية والعلمانية، وذلك من خلال العديد من الترجمات لأعماله ما بين عامي 1909 و1922.
كان أحمد فتحي زغلول، وهو عضو مؤسس لحزب الأمة، وأحد القضاة المتورطين في قضية دنشواي المخزية، ومثقف هام عن جدارة في تلك الفترة، المترجم الرئيسي لأعمال لوبون. يمثل زغلول القطاع من النخب الليبرالية والاستعمارية الذي سعى إلى إصلاح وتحديث مصر وفقًا للقوانين "الطبيعية" التي تحكم المجتمعات الإنسانية، سعيًا لدفع البلاد نحو الاستقلال.
تقوم هذه الدراسة بإلقاء الضوء على ترجمات زغلول العربية لأحد أهم أعمال لوبون Les Lois psychologiques de l'evolution des peoples (القوانين النفسية لتطور الشعوب، 1894/1913) في محاولةٍ لاستكشاف الدور الملتبس الذي لعبته المفاهيم الجديدة للـ"العرق" و"الأمة" و"الحضارة" في الفكر الإصلاحي الاجتماعي العلماني للنهضة في مصر.
في بداية القرن الواحد والعشرين تضمنت مفردات السياسة الدولية كلمات مفتاحية مثل "الديمقراطية"، و"العالم الحر"، و"الحضارة". تتجذّر ظروف ذلك المعجم المحمل أيديولوجيًا في نظام عالمنا النيوليبرالي/الاستعماري غير المستقر، حيث تميل المستعمرات السابقة وكذلك سكان المدن الكبرى (بما فيهم من السكان المهاجرين) للضجر بشكل متزايد كرد فعل على الدمار الاجتماعي والاقتصادي الذي تسببت فيه العسكرة والاحتلال والعنصرية والرأسمالية.
ويثير خطاب "الحضارة" الاهتمام بشكل خاص في هذا الصدد؛ الأمر الذي يرجع إلى سببين: أولهما، ربما لأنه الأقدم من بين الكلمات المفتاحية ليومنا الحالي، إذ يرجع تاريخ استخدامه الحديث إلى القرن الثامن عشر، وثانيهما، بسبب ارتباطه الوثيق بلغات وتاريخ الإمبريالية الحديثة.
لن يشعر القاريء المعاصر سوى بالغموض والارتياب إذا ما ألقى نظرة سريعة على مدونة العلوم الإنسانية الفرنسية في القرن التاسع عشر، فضلًا عن النماذج المشتقة من الشوفينية الشعبية في بريطانيا. وهو الغموض ذاته، ربما بشكل أقل وطأة، إذا ما رأى الطريقة التي تمت بها ترجمة ذلك الإنتاج العلمي واستخدامه من قبل النخب السياسية والاقتصادية في المستعمرات والأقاليم التابعة. تلك النخب التي لم تكن بعيدة عن أن تحاول الحفاظ على مصالحها، ورغبتها في الحصول على نصيب من الكعكة العالمية.
ونظرًا لهذه الأسباب كلها، يجدر بنا إعادة النظر في لحظة تاريخية أساسية في أصل وفي ترجمة خطاب الحضارة في سياق مصدره وغايته. وسوف أقوم بذلك من خلال التركيز على اثنين من النصوص الرائعة اللذين تم إغفالهما إلى حد كبير في الوقت الحاضر على الرغم من حقيقة أن كليهما كانا شديدي التأثير، من حيث اللغة والسياق التاريخي. أولهما كتاب لعالم الاجتماع الشهير والعالم الهاوي، جوستاف لوبون، والذي نشر عام 1894 تحت عنوان Les Lois psychologiques de l 'evolution des peoples (القوانين النفسية لتطور الشعوب)، والثاني هو الترجمة العربية لهذا الكتاب بعنوان "سر تطور الأمم" والذي ترجمه أحمد فتحي زغلول -شقيق الزعيم الوطني المصري سعد زغلول- والذي ظهر عام 1913.
وقد ظل عمل لوبون منسيًا بدرجة كبيرة في مجال العلوم الاجتماعية الأكاديمية إلى أن قام الناشر الفرنسي بروش على نحو مفاجئ بإعادة نشر خمسة مؤلفات في السنوات الخمس الماضية (ثلاثة منها في سنة 2008 وحدها). وبالمثل، أعيد إصدار ترجمة زغلول لكتابLes Lois psychologiques (القوانين النفسية) مؤخرًا (عام 2006) من قبل المجلس الأعلى للثقافة في مصر- إلى جانب ترجمته لكتاب "سر تقدم الإنجليز السكسونيين» لإدموند ديمولان.
تشير هذه الموجة من إعادة النشر إلى الأهمية المتجددة لفكر لوبون وتقديم زغلول له للقومية والليبرالية الناشئة في كل من فرنسا ومصر. فبينما تعد العنصرية العلمية بطبيعة الحال الآن خطاب فاقد للمصداقية رسميًا، يتطابق خطاب لوبون ضد الهجرة في القرن التاسع عشر عمليًا مع اللغة المعاصرة التي يستخدمها حزب الجبهة الوطني الفرنسي والتي تتبناها -بصورة منقحة إلى حد ما- الحكومة الحالية لنيكولا ساركوزي. وعلى الجانب الآخر، يدين خطاب الحضارة الذي يعتنقه جهاز الدولة في مصر -وبوجه خاص أذرعه الثقافية- بالكثير للأفكار التي برزت وتم تطويرها في العقود الأولى من القرن العشرين من خلال أعمال مثل كتاب «سر تطور الأمم».
ولهذا أعتقد أنه من الضروري إعادة البحث في الفترة التي نطلق عليها «النهضة»، وهي فترة ما يسمى «النهضة الحديثة» في العالم العربي والتي يتم نقلها تاريخيًا من خلال صور بلاغية مجازية للتنوير أو الترجمة كمشروع حضاري. كما أرى أنه من الضروري التنقيب وإعادة فحص النقاط المحورية الخاصة بالترجمة في تلك الفترة وذلك لنتمكن سويًا من صياغة تصور نقدي لتطور الحداثة في فترة الاستعمار وما بعدها.
1 - جوستاف لو بون وتَراتُب الشعوب والأعراق
كان جوستاف لوبون مؤلفًا ذو شعبية في مجموعة متنوعة من تخصصات العلوم الاجتماعية. فقد كان واسع المعرفة، ومستشرق هاٍو انشغل بشكل طفيف بالعلوم التجريبية، كما قام بكتابة نحو ثلاثين عملًا أو أكثر أصبح بعضها على الفور الأكثر مبيعًا وتمت ترجمتها بعد ذلك إلى عدة لغات. أصبح لوبون شخصية متحققة وتحظى باحترام وتقدير بالغين في الأوساط الفكرية والعلمية في باريس مطلع القرن. وقد قام بتحرير سلسلة من الدراسات الهامة (التي نشر فيها عن الفيلسوف هنري بيرجسون، من بين آخرين)، كما «كان يقرأ له ويستشهد بأعماله كل ذي شأن»، وفقًا لكلود ليازو. كان من ضمن هؤلاء علماء ودارسين معاصرين مثل دوركهايم وفرويد، وساسة مثل ثيودور روزفيلت وبينيتو موسوليني.
درس لوبون في كلية الطب في باريس، حيث حصل على الدكتوراه في عام 1866. وما بين عامي 1860 و1880، سافر عبر أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا ونشر عددًا من روايات السفر الشعبية معتمدًا على رحلاته تلك -من بين ما نشر: Voyage au Nepal (رحلة إلى نيبال)- فضلًا عن أعمال استشراقية مثل: Les Premieres civilizations de l 'Orient (الحضارات الأولي للشرق) وLaCivilization des Arabes (حضارة العرب).
شكلت الحرب الفرنسية البروسية وكوميونة باريس وأزمات الفوضويين في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، وقضية دريفوس والحرب العالمية الأولي، خلفية أعمال لوبون الأساسية في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. ولاقى نجاحه التجاري الأول مع كتابه «القوانين النفسية» عام 1894. وفي العام التالي، نشر عمله الأكثر شهرة، «سيكولوجية الجماهير»، وهو الكتاب الذي أكسبه شهرته كمفكر مؤثر في الجمهورية الثالثة. وقد أعيدت طباعة الكتاب 45 مرة ما بين عامي 1895 و1963، كما ترجم إلى 16 لغة من بينها العربية. ونشر لوبون بعد ذلك العديد من الأعمال في نفس المسار -الإصلاحي الليبرالي والأفكار المناهضة للثورة: “علم نفس الاشتراكية»، و»علم نفس التعليم»، و»علم النفس السياسي»، و»الآراء والمعتقدات»، و»الثورة الفرنسية وسيكولوجية الثورات»، الخ. كما كان نشيطًا أيضًا في مجال الأنثروبولوجيا التطورية الجديد. كما نشر عددًا من الأعمال الثانوية في علم الجماجم، ودعم من خلالها الزعم بأن الذكاء النسبي للعرق يتوافق مع حجم وقطر الجمجمة، بل أنه اخترع جهازًا صغيرًا من أجل تمكين هواة علم الجماجم من القيام بتلك القياسات بأنفسهم في رحلتهم عبر النيل.
كان هذا، بالطبع، القرن التاسع عشر الطويل؛ قرن الوضعية، وقرن مجموعة من العلوم الطبيعية والاجتماعية الجديدة كالبيولوجيا التطورية، والأنثروبولوجيا الفيزيائية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الجريمة. كان ذلك أيضًا قرن مالتوس وداروين وسبينسر؛ كان قرن الدارونية الاجتماعية التي لم تر أي تناقض بين فكرة التقدم وفكرة التفاوت واللامساواة والبقاء للأصلح؛ قرن علم تحسين النسل وثقافة الرأسمالية الليبرالية التي، كما قال ليازو، استبدلت القانون الإلهي القديم بآخر «طبيعي» جديد يهدف إلى تبرير إفراطه الاقتصادي. ولكن هذا كان أيضًا القرن العظيم للاستعمار. وتم تعبئة علوم القرن التاسع عشر لشرعنة فكرة التراتب الطبيعي للأعراق التي ارتكز عليها الاستعمار الأوروبي. فأصبحت مساهمة لوبون البسيطة من شأنها بلورة نظرية للعرق والحضارة استهدفت كل من سكان المستعمرات و»الطبقات الخطرة» في أوروبا في نفس الوقت في بادرة سياسية واحدة متكاملة.
ومع التنوير، أخذ مفهوم «الحضارة» يمثل مؤشرًا عالميًا للتقدم الإنساني. وفي عمله الصادر في 1824 «تاريخ الحضارة في أوروبا» ـوصف فرنسوا جوزوت الحضارة بأنها حركة تطور اجتماعي وفردي حتمية وتقدمية قد تفضي إلى دمج وتجاوز كل أشكال الخلاف والمصالح المتعارضة. وعلى هذا النحو يشرح ليازو هذا المفهوم الأساسي: بأن الحضارة هي هيكل كلي يتحرك نحو المزيد من التعقيد. وهي أيضًا أرفع مراحل تاريخ الإنسانية؛ وبالتالي هي مفهوم معياري يمكن أن يوفر إما مقياس تراتبي لتصنيف الشعوب، أو نسق أخلاقي عالمي –أو مفهوم يخلط ما بين الاثنين بسبب نزعته العرقية.
كان ما استحضرناه هنا من توتر بين النزعة العرقية والنزعة العالمية على وجه التحديد تناقضًا كبيرًا في قلب الفكر الثوري الفرنسي؛ تناقض وصل إلى نقطة الانهيار بحلول نهاية القرن التاسع عشر عندما أجبرت ثورات المستعمرات في الخارج والاشتراكية والأناركية النقابية في الداخل العديد من السياسيين والمفكرين ليس فقط على القطيعة مع التراث الثوري بل وعلى تخليصه من جذوره التنويرية الراديكالية. إن أي شخص على دراية بعض الشيء بالتاريخ السياسي والاقتصادي لفرنسا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر لابد أن يشعر بالتأثر من الشعور الدائم بالتأزم والانهيار الوشيك الذي أصاب المثقفين خلال هذه السنوات الأولى للجمهورية الثالثة. كانت الهزيمة الفرنسية في الحرب مع بروسيا، وكوميونة باريس في 1871 وانهيار سوق الأوراق المالية في فيينا، إيذانًا ببدء مرحلة احتدام للأزمة الاقتصادية والصراع الاجتماعي والعنف السياسي والقمع في الداخل. وفي الوقت نفسه، شهدت هذه العقود موجة جديدة من تسارع الاستعمار في الخارج والتي جاءت تقريبًا في أعقاب التهدئة في الجزائر: تونس والسنغال والكونغو ومدغشقر والهند الصينية. فيقول جولز فيري، أحد المهندسين الرئيسيين لهذا التوسع، وبوضوح تام: «السياسة الاستعمارية هي وليدة السياسة الصناعية».
وبنهاية القرن التاسع عشر، بدأت فكرة التنوير التي تعتبر الحضارة مؤشر عالمي للتقدم الإنساني تأخذ منحى جديدًا يعكس الضغوط الاجتماعية والسياسية في تلك المرحلة. فصار التوتر الرئيسي بين النزعة العالمية والنزعة العرقية، الذي ناقشناه فيما سبق، ينكشف ويحتدم على نحو متزايد من خلال تجربة الصراع الطبقي العنيف والأزمة في المستعمرات. استجاب لوبون -إلى جانب العديد من المحافظين المعاصرين على شاكلة هيبوليت تاين وجابرييل تارد- لهذا الشعور بعدم الارتياح، برفض أسس المساواة للفكر التنويري مع الاحتفاظ بفكرته عن عالمية الحضارة. فتصبح ديناميكية التقدم الحضاري في أعمال لوبون تعتمد على التمييز المتزايد وعدم المساواة بدلًا من العكس. ومن خلال عمله «سيكولوجية الجماهير» يستكشف لوبون حالة التفسخ الفكري للحشود الثورية والتي يقدمها كفاعل موحد وكقوة جمعية مخيفة تهدد استقرار الفرد وذلك بربط كل فرد منها بحشد رجعي من أسلافه أو أسلافها البدائيين.
يمثل الحشد أسوأ حوادث التاريخ العنصري ويقدم صورة مخيفة لدوافعه غير الواعية والمدمرة. ويحلل لوبون الحشود بوصفها «مندفعة، سريعة الغضب، سخية وقاسية على نحو متناوب، ساذجة، توقر السلطة ولديها رغبة مستمرة أن تُحكَم ويُهَيمَن عليها. فلم تكن الحشود مثل المجانين أو الأطفال أو النساء فقط، بل أيضًا مثل الأقل ذكاءً، كالأعراق أو الأمم المتخلفة». فسعى لوبون في كتابه إلى تحليل الآليات النفسية لهذا الحشد من أجل معرفة كيفية السيطرة عليه وتوجيهه.
أخذت فكرة الانحطاط العقلي والعرقي للطبقات الخطرة والتي استحوذت على عقول النخب الأوروبية للقرن التاسع عشر تتبلور على نحو أكثر تفصيلًا من خلال الإطار الأوسع لمفهوم الحضارة الذي يقدمه لوبون في كتابه «القوانين النفسية لتطور الشعوب»، والذي قام أحمد فتحي زغلول بترجمته عام 1913. دمج لوبون في هذا العمل علم النفس، وتاريخ الأنثروبولوجيا العضوية، والأدب، وعلم الآثار في محاولة منه لإنتاج علم وصفي تفسيري للـ»عقلية الدائمة» لمجموعات بشرية متنوعة؛ تلك العقلية التي تجعل من الأمة والعرق الفئتين الفعالتين. فيطرح لوبون من الصفحة الأولى مبدأ اللامساواة باعتباره المحرك الحقيقي للتاريخ والتقدم والرفاهية الاجتماعية والفردية. كما يصف التنوير وما أنتجه من دوافع ثورية بأنه وهم الحداثة الأكثر ضررًا:
«منذ قرابة القرن ونصف فقط، قدم الفلاسفة -الجهلة تمامًا بالتاريخ البدائي للإنسان وبالاختلافات في تكوينه العقلي وفي قوانين الوراثة- إلى العالم فكرة المساواة بين الأفراد وبين الأعراق. وبما لهذه الفكرة من إغراء شديد للحشود، فقد ترسخت في عقولهم بقوة، وقريبًا ما ستؤتي ثمارها. لقد زعزعت أسس المجتمع الراسخ، مانحة الحياة لأكثر الثورات عظمة ودافعًة بالعالم الغربي نحو سلسلة من الاضطرابات العنيفة التي يستحيل التنبؤ بنتائجها.»
على الرغم من أن لوبون يتحدث هنا عن فرنسا، إلا أنه يسعى أيضًا إلى إظهار فعالية ونفوذ مبدأ اللامساواة بين عموم المجتمعات والحضارات. فتثبت العلاقات الحقيقية للقوة، والتي تشكل العالم المعاصر، الحقيقة الحتمية التي لا جدال فيها لتراتبية الشعوب والأمم: هذا نظام تاريخي، إلا أنه يحتوي على تصنيف بيولوجي وجيني للعرق يؤسس العلوم الطبيعية والاجتماعية تلك الفترة. فكل من الشعب والعرق الذي ينتمي إليه «يمتلكا تكوينًا عقليًا ثابتًا كثبات خواصهما التشريحية وهذا المزاج هو الذي يستمدا منه مشاعرهما وأفكارهما ومؤسساتهما ومعتقداتهما وفنونهما». ذلك التكوين العقلي أمر غير قابل للتغيير: «فيجب فهم العرق كبنية دائمة، تقع خارج التاريخ».
يعرض لوبون أربعة مستويات للعرق تضاهي، بشكل أو بآخر، التصنيفات القديمة للون البشرة: الأحمر والأسود والأصفر والأبيض . تفتقر الأعراق البدائية (مثل السكان الأصليين لأستراليا وجزر فيجي) للثقافة وتظل قابعة في غياهب ما قبل التاريخ الهمجية. أما الأعراق الأدنى منزلة («الزنوج») فهي قادرة على أساسيات الحضارة، ولكن لا أكثر. بينما ابتكرت الأجناس المتوسطة (كالصينيين والمغول والساميين) أشكالًا أرقى من الحضارة كان حتمًا على الأوروبيين تجاوزها وتركها ليعفى عليها الزمن. أما الأعراق الأكثر تفوقًا (الهندو-أوروبيين) هم الوحيدون الذين أثبتوا قدرتهم على الاختراعات العظيمة للحداثة في الفنون والعلوم والصناعة. تتسم الأعراق الأدنى بعدم قدرتها على الاستيعاب أو الابتكار، وباعتمادها على التقليد، وافتقارها للعزيمة والأخلاق. بينما تتسم الأعراق الأرقى بطاقتها التي لا تقهر، ومبادراتها المتقدمة واستقلالها وقدرتها التامة على ضبط النفس. يضع لوبون العرق الأنجلوساكسوني، بما يحمله من حس متقدم بالمبادرة الفردية والتبادل الحر، على قمة الحضارة اتساقًا منه مع أيمانه المعلن بليبرالية السوق، كما يقدمه على إنه نموذج على الفرنسيين أن يحتذوا به بدلًا من استغراقهم في عقلية لاتينية دولتية ميؤوس منها.
ولكن توجد أوجه عدم مساواة داخلية كبيرة حتى داخل هذه الأعراق الأرقى. وكانت مساهمة لوبون الأصلية في نظرية الحضارة في هذه الفترة هي المساواة بين "حثالة" البشر في أوروبا -طبقاتها الدنيا أو طبقتها العاملة- وبين الأعراق البدائية في أفريقيا وآسيا. فنجد تذبذبًا مستمرًا في الكتاب ما بين تصنيفات "العرق" و"الطبقة" مما ينتج نظرية واحدة وقوية للسلطة الإمبريالية والاجتماعية: "أدني طبقات المجتمعات الأوروبية تتساوى مع الكائنات البدائية". علاوًة على ذلك "يحتوي كل شعب على عدد ضخم من عناصر أقل شأنًا غير قادرة على التكيف مع حضارة متقدمة جدًا بالنسبة لهم. وبهذه الطريقة، تتكون حثالة بشرية ضخمة تأخذ في النمو ليصبح لنشاطها تأثيرًا مخيفًا على الشعوب المعنية".
فكلما ازداد تحضر شعب ما، كلما ازداد التباين والانقسام فيه، ومن هنا تصبح هناك حاجة ماسة إلى قيادة مستنيرة وحازمة من شأنها السيطرة على الجموع البدائية وتوجيهها، وبالتالي تحافظ على ما يميز العرق ويجعله متفردًا بدون مساس. وجود وصحة هذه النخبة هو علامة التفوق العرقي للشعب ومقياس تقدمه -أو العكس- ذلك أن تلك النخب هي المسئولة عن تطوير العلوم والفنون والصناعات التي من شأنها أن تحرك الحضارة قدمًا إلى الأمام.
أخيرًا، وربما كان الأمر الأهم، يدعي لوبون أن الحضارة لا يمكن نقلها بأي حال بسبب الهوة التي تفصل بين التكوينات العقلية الراسخة للأعراق المختلفة:
فبوسعنا أن نجعل من زنجي أو ياباني خريج مدرسة ثانوية أو حتى محامي بكل سهولة، إلا إننا هنا لا نمنحهم سوى طلاًء سطحيًا براقًا لا يؤثر أدنى تأثير على تركيبتهم العقلية. ذلك لأنهم نتاج موروثهم، فلا يستطيع أي قدر من التعليم أن يمنحهم بنية وآلية التفكير والمنطق التي هي من خصائص الغربيين.
يرتبط جدل لوبون الرافض لتمازج الأجناس ارتباطًا وثيقًا برفضه القاطع للتأثير أو التبادل الثقافي. فمن أن أجل أن يحفظ عرق ما روحه، ومن ثم تفوقه الحضاري، وجب عليه أن يحترس جيدًا من التهجين. وفي الفصل الذي يقارن فيه لوبون الولايات المتحدة مع جمهوريات أمريكا اللاتينية، تصبح العملية التطورية للانتخاب الطبيعي واحدة من أقسى التطبيقات الإنسانية.
فيشيد لوبون بالأنجلو ساكسون من «الجمهورية الوقحة» لحفاظهم على روحهم العرقية القوية غير الملوثة، وذلك بتخلصهم من الأعراق الأدنى المحيطة بهم -مثل «الهنود الحمر» و»الزنوج» والعمال الصينيين والنقابيين الإيطاليين- بطريقة أو بأخرى سواء بالحبس الجماعي أو الترحيل أو الإعدام خارج نطاق القانون أو فرق إطلاق النار.
تدجين المخاوف الاستعمارية، ترجمة الأمة: أحمد فتحي زغلول ومسألة العرق
كان جوستاف لوبون أحد المفكرين الأوروبيين المعاصرين الأكثر تأثيرًا في مصر في فترة الاحتلال الإنجليزي، بجانب هيربيرت سبينسر وجي إس ميل وهيبوليت تاين وإدموند ديمولان وإرنست ريان. وبينما يبدو كتابه "حضارة العرب" (1884) أحد أسباب شهرته المحلية، لم يتم ترجمة الكتاب نفسه إلى العربية حتى عام 1945، على يد عادل زعيتر.
وقد نشر زغلول ترجمات لعملين آخرين للوبون إلى جانب "القوانين النفسية لتطور الأمم"، وهي: "سيكولوجية الجماهير" في عام 1909 (والذي كتب عام 1885) و"الآراء والمعتقدات" في عام 1914 (والذي كتب عام 1911). كما قام طه حسين، المفكر المصري الشهير، بنشر ترجمة لكتاب لوبون "سيكولوجية التعليم"، عام 1921 (والذي كتب عام 1910)، وترجم محمد صادق رستم الجزء الثالث من "الحضارات الأولى للشرق" (والذي يتناول الحضارة الفرعونية) في غضون عشرينات القرن العشرين.
كان محمد كرد علي من أشد المعجبين بلوبون كما كان محمد عبده وأحمد لطفي السيد -ثلاثتهم من كبار الكتاب الإصلاحيين والناشطين السياسيين في مطلع القرن. فكتب لطفي السيد أن أفكار لوبون "قد لاقت استيعابًا تامًا من العقول المصرية، كما اتضح من المفردات التي استخدمها كتَاب في الصحافة". واستطرد قائلا إن أفكار لوبون من شأنها أن ترشد البلاد للتحرك للأمام. كان السيد يتحدث عن ترجمة زغلول لسيكولوجية الجماهير. وفي عام 1910، نشرت جريدة المؤيد الدورية المؤثرة في افتتاحيتها التعليق التالي على نفس الكتاب:
اعتدت أن أشعر باستياء تجاه مصر لم أشعر به تجاه أي مجتمع إنساني آخر. فكدت أؤمن تقريبًا بأن طابعها المميز وظروفها قد جعلا منها استثناًء غريبًا -حتى قمت بقراءة هذا الكتاب. فهو يشرح طبيعة المجتمعات الشرقية والغربية بشكل عام، ويحدد قانونًا واحدًا يسري على جميعها دون تفرقة أو استثناء. لقد تبينت أن ليس هناك فارق بين الشعب المصري وشعوب البلدان الأخرى.
«قاعدة واحدة للجميع». تعد هذه الفكرة، بما تستدعيه من لغة لا لبس فيها وتكافؤ اجتماعي ومعرفي، صادمة بالنظر إلى السياقات التاريخية والاستراتيجيات الخطابية للإمبريالية، ناهيك عن لغات الاختلاف الثقافي المُتضمنة في بدايات عصر الإصلاح. فباتت الترجمة -كمشروع حضاري- في قلب ذلك التوتر بين المفاهيم الناشئة والمتنافسة للحداثة في مصر. كانت تلك الفترة التي نسميها النهضة لحظة ترجمة مؤثرة في التاريخ العربي الحديث: فكانت تتم ترجمة النصوص، وأيضًا نقل المنهجيات والمفاهيم والممارسات السياسية الاجتماعية. إلا أن الترجمة لا تتم في ذلك النوع من الفراغ التاريخي الذي يكفل التماثل البسيط. فهناك دائمًا سياق ما تجري فيه عملية الترجمة. هناك دائمًا تاريخ اجتماعي وفكري يحيط بكل من كتابة النص وترجمته. في هذا الجزء الأخير من ورقتي البحثية سوف أقدم بعض الإجابات الجزئية على أسئلة عريضة على شاكلة: من يقوم بالترجمة، ومتى، وكيف يقوم بها ولأي هدف؟ وما هو الدور الاستراتيجي الذي تقوم به الترجمة كفعل يعكس تدخلًا ثقافيًا أو سياسيًا في منعطف تاريخي معين؟ وسوف أقوم بذلك من خلال إلقاء نظرة فاحصة على المترجم كشخصية تاريخية حظيت بهالة قوية من الفاعلية الفردية والاجتماعية، وعلى الترجمة كشكل من أشكال التدخل اللغوي والسياسي في لحظة تاريخية معينة.
ولد أحمد فتحي زغلول عام 1863 وتوفي عام 1914 مما يعني أنه عاش فترة حكم الخديوي إسماعيل سيئة الطالع، وثورة عرابي التي كانت إيذانًا بالاحتلال البريطاني عام 1882، وازدهار المضاربة في القطن الذي أحدث نقلة في الاقتصاد القومي، وبدايات الصحافة والأحزاب السياسية والحركة العمالية والانهيار الدرامي لسوق الأوراق المالية عام 1907؛ كانت فترة مفعمة بحيوية فكرية وسياسية مكثفة وتحول اجتماعي عميق، إلا إنها اتسمت أيضًا بعدم استقرار وصراع عميق أديا إلى ثورة 1919، وهي الثورة التي واجهت النخب الوطنية صعوبة في إخضاعها بعد أن تمت تلبية مطالبهم السياسية الفورية من قبل السلطات البريطانية. كان أحمد فتحي زغلول الأخ غير الشقيق لسعد زغلول -زعيم حزب الوفد وقائد الحركة القومية المصرية بدون منازع حتى وفاته عام 1927. وكان تعليمه مماثلًا لأبناء العائلات الرفيعة في تلك الفترة: فكان خريجًا من المدرسة الثانوية الملكية المرموقة ومدرسة الألسن بمصر، ثم حصل بعد ذلك على شهادة الدكتوراه في القانون من فرنسا. وأثناء دراسته في مصر، كان يحضر محاضرات الإصلاحي الديني الكبير محمد عبده، وكذلك الاجتماعات السياسية التي كان ينظمها الصحفي والمحرض الوطني عبد الله النديم والتي طرد بسببها كما يبدو من الدراسة. ومع ذلك، وبعد عودته من فرنسا إلى مصر في عام 1886، عمل في مهنة مرموقة كمحام وقاض في الإدارة البريطانية. كان زغلول أحد مؤسسي حزب الأمة -حزب الليبراليين وكبار ملاك الأراضي- وترقى إلى منصب وكيل وزارة العدل عام 1907 بعد عام من قضية دنشواي سيئة السمعة التي انتهت بإعدام أربعة من الفلاحين الأبرياء علنًا وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لثمانية وعشرين آخرين. كان فتحي زغلول القاضي المصري الوحيد الذي جلس على كرسي المحكمة البريطانية في قضية دنشواي -وهو الدور الذي قام به فيما بعد عدة مرات في قضايا مماثلة. وقد تأثرت سمعته العامة على نحو درامي على إثر واقعة دنشواي -ربما كان ذلك أحد أسباب إهماله إلى حد كبير كمفكر نهضوي هام في التأريخ الوطني، وهذا على الرغم من حقيقة أنه كان يتحرك في نفس الأوساط الاجتماعية والسياسية مثله كمثل رواد التنوير في تلك الفترة: قاسم أمين ومحمد المويلحي وأحمد لطفي السيد وآخرين. وقد قُرأت ترجماته ونوقشت ولاقت تقديرًا كبيرًا من قبل جيل كامل من المفكرين والسياسيين في مصر؛ وهو جيل -أستطيع أن أضيف أنه- كان يرى نفسه في طليعة حركة التجديد العلماني، وكان يرى أن وجود نظام ملكي دستوري يرعاه ويكفله الانجليز هو أفضل وسيلة لتحقيق الاستقلال وبعض أشكال الديمقراطية الدستورية في نهاية المطاف.
إذا كان التدهور والانحطاط الوطني مصدر قلق كبير للمفكرين الأوروبيين والنخب السياسية بنهاية القرن التاسع عشر، فقد كان الأمر كذلك بالنسبة لنظرائهم المصريين في مطلع القرن العشرين. فقد شكلت مفاهيم النفعية والداروينية الاجتماعية أفكار هذه الطبقة البرجوازية الجديدة في طور تحولها من طبقة كبار الملاك إلى طبقة ذات التزامات مهنية هامة ومصالح مالية في أسواق السلع العالمية. وبداية من عام 1900 تقريبًا، بدأنا نرى تطور لتحليل اجتماعي للانحطاط الوطني وعلم أمراض الشخصية المصرية الحديثة. فأثيرت مسألة النقص الفطري والكسل والخرافة كخصائص رئيسية للجماهير المصرية -الفلاحين والطبقات الشعبية الحضرية– وكان ينظر إليها باعتبارها السبب الرئيسي في تأخر البلاد. وقد ارتبطت معاقرة الخمور وإدمان المخدرات والطقوس الدينية الشعبية والفجور الجنسي جميعها بذلك التحليل الناشئ للخلل الاجتماعي. وكانت المهمة الرئيسية المطروحة هي إصلاح وتهذيب هذه الطبقات -من خلال التعليم اللائق، وكذلك من خلال مؤسسات جديدة مثل الإصلاحيات والسجون- وذلك من أجل تحويلها إلى قوى عاملة منتجة ورشيدة. وظلت الهجرة الريفية والفقر والتسول والتشرد والبطالة والجريمة في الحضر في ازدياد خلال هذه الفترة. وينطبق نفس الشيء على الاضطرابات العمالية. فبين عامي 1901 و1910 كان هناك ما لا يقل عن خمسة عشر إضرابًا ضخمًا في قطاعات النقل البحري والسكك الحديدية وخطوط الترام ومصانع التبغ والنسيج والطباعة. وبنفس القدر، أخذ قمع الشرطة والجيش لهذه الإضرابات يزداد عنفًا. ويرجع تاريخ حركة العمال المنظمة في مصر إلى تلك الفترة. ونظر العديد من المراقبين المعاصرين لهذه التطورات بقلق متزايد. والأكثر إثارة للاهتمام، أنه كان يتم النظر لها كنقل لممارسات دخيلة ثقافيًا. فهوجمت الإضرابات والنشاطات العمالية –وكذلك الاشتراكية بشكل عام- من قبل بعض المعلقين الوطنيين باعتبارها "مرض أوروبي" أصاب البلاد.
هذا هو السياق الاجتماعي والسياسي العريض الذي تتدخل فيه ترجمة زغلول لكتابات لوبون. فكانت دائرة التحديثيين التي ينتمي إليها زغلول معنية في المقام الأول بعقلنة المجتمع بما يتماشى مع النمط الرأسمالي، ومن أجل هذا الغرض رفضوا القراءات اللاهوتية للنظام الاجتماعي. وفي نفس الوقت، كانوا ينظرون إلى الاشتراكية والديمقراطية أو ما ترجمه زغلول على نحو فضفاض: "مذاهب الحرية" باعتبارها مشكلات أولية ناشئة يجب تجنبها مهما كان الثمن. ولكن إذا كانت تلك إحدى الأشياء الرئيسية التي أثارت اهتمامهم في أعمال لوبون بشكل عام، فقد كان كتاب "القوانين النفسية لتطور الشعوب" أيضًا مبررًا علميًا لوجود إمبريالية غير مرنة. وعندما ألقى تيودور روزفيلت خطابًا بالجامعة المصرية عام 1910 -الخطاب الذي أشاد فيه بالاحتلال البريطاني لمصر وانتقد فيه المطامح الدستورية للقوميين- كان يحمل معه نسخة من الكتاب المقدس وكتابًا للوبون.
في كتاب القوانين النفسية يتم تقديم الجزائر والهند باعتبارهما نموذجين للمصير الإمبريالي الواضح للأعراق الأوروبية. وتقدم النسخة العربية للكتاب ترجمة أمينة للنص الأصلي بشكل ملحوظ للغاية، وهو الأمر الذي لم يكن شائعًا في ذلك الوقت. إن تنظير لوبون لتراتبية الأعراق وتبريره المحموم للاستعمار ينتج ازدواجية وتناقضًا مزعجًا في مزاعم التنوير للنص العربي وخاصة لأنه ينكر بشكل قطعي احتمالية الحراك الحضاري عبر التراتبية العرقية. وبعبارة أخرى، ليس هناك أمل في تحرير الأعراق الخاضعة لأن التعليم والتبادل الفكري، وبالتالي الترجمة نفسها، في نهاية المطاف مساع عقيمة، بل وربما مؤذية:
..من المستحيل أن تستطيع الأعراق الأكثر تفوقًا أن تفرض على الأعراق الأدنى تقبل حضارتهم. فإذا ما تناولنا أقوى الوسائل التي استخدمها الأوروبيون في هذا الصدد واحدًا تلو الآخر، كالتعليم والمؤسسات والمعتقدات، سنجد أننا قد وضحنا بالفعل مدى قصور تلك الوسائل في إحداث تغيير للوضع الاجتماعي للشعوب الأدنى. فقد حاولنا أن نوضح أنه نظرًا لارتباط جميع عناصر الحضارة بتركيبة عقلية خاصة يحددها بوضوح التاريخ الطويل الموروث، فمن المستحيل إحداث تعديل لديهم دون تغيير بنيتهم العقلية. فوحده الزمن هو القادر على إتمام هذه المهمة -وليس الغزاة. كما أننا قد بينّا أيضًا أنه لا سبيل لارتقاء شعب ما على سلم الحضارة إلا من خلال سلسة من المراحل المتتالية مشابهة لتلك التي خضع لها البرابرة مدمري الحضارة اليونانية الرومانية. وإذا ما حاول البعض اجتناب تلك المراحل عن طريق التعليم، فلن ينجحوا إلا في زعزعة مفاهيمهم الأخلاقية ونبوغهم، مما يؤدي بهم في نهاية المطاف إلى مستوى أدنى من ذلك الذي حققوه من تلقاء أنفسهم.
كيف يمكن إذن التوفيق بين المشروع التنويري للنهضة مع هذا التسلسل التراتبي الوراثي الثابت للأعراق والحضارات؟ وعلى أي أساس يصبح من الممكن المطالبة باستقلال المستعمرات -مثل مصر- إذا ما كان على الأجناس الخاضعة أن تبقى سجينة دونيتها وفقًا لقانون الطبيعة؟ والسؤال الأكثر أهمية في هذا السياق: هو كيف يمكن تبرير مشروع الترجمة نفسه باعتباره مشروع أخلاقي أو تربوي إذا لم تكن الثقافة أو الأنظمة السياسية التي تولدها منطقية ومفهومة خارج سياق الروح العرقية التي تنتجها؟
وفيما أعتقد، فإن الحل الذي طرحه زغلول لهذه المشكلة هو تجاوز هذه الأسئلة أو محوها تمامًا من خلال ترجمته الإستراتيجية لكلمة "عرق" في اللغة العربية، في محاولة منه لحذف أصلها البيولوجي/الجيني وتحويله إلى أحد أشكال علم الاجتماع القديم المتصل بالخطاب الحضاري العربي. هذه البادرة، جنبًا إلى جنب مع الموقف الغامض لمصر القديمة في علم اللغة والأنثروبولوجيا التطورية لتلك الفترة، يسمح للمترجم بالاحتفاظ بوضع النص الفرنسي كعمل موضوعي "علمي" لعلم الاجتماع الحديث الذي يطرح موقع مصر المميز والفريد في التصنيف العرقي وبالتالي على سلم الحضارة. باختصار، ما أود طرحه هنا هو أنه من خلال الترجمة على وجه التحديد -أو بالأحرى التطويع الاستراتيجي- لذلك النوع من فكر أواخر القرن التاسع عشر العنصري، استطاعت النخب الليبرالية في مصر تأسيس خطاب كان وطنيًا ومناهضًا للديمقراطية في آن واحد. وكما سبق أن ذكرت بشكل عابر، فترجمة زغلول هي ترجمة أمينة شديدة الإخلاص على نحو ملحوظ للنص الأصلي. فعادة ما يستخدم المترجم، في ترجمات هذه الفترة، الترجمة كأداة تفسيرية، وذلك بحذف مقاطع بأكملها وإضافة غيرها من ابتكاره/ها الخاص، ما كان من شأنه تغيير معني الكلمة أو الجملة بشكل غير ملحوظ، أو من خلال دس تعليقه/ها الخاص في النص. إلا أن ترجمة زغلول كانت دقيقة بشكل جميل، وتتكون من نثر عربي حديث وأنيق. ولم يخطئ زغلول الترجمة عن عمد سوى مرة واحدة أو اثنتين فقط، كما لم تكونا سوى استنطاقًا دون دلالة حقيقية. والأمر الأكثر تشويقًا هو محاولة المترجم للتعامل مع مفردات اجتماعية جديدة من خلال اللغة العربية الكلاسيكية كوسيط: كلمات مثل "le metissage" التولد و"la degenerescence" الفساد، فساد النسل و"les foules" الكافة، الجماعة، الجموع، و"les basses classes" الطبقات النازلة، الدنيّا و"la caractere national" الخلق، خلق الأمة. إلا أن تدخل زغلول الرئيسي ذو الطابع التفسيري ما هو إلا تدخل عالمي وهيكلي. فيستغل زغلول التنقل بين استخدام "العرق" و"الشعوب" و"الأمة" في النص الفرنسي الأصلي ويتعامل مع المفردات جميعها في نهاية المطاف باعتبارها مفهومًا مفردًا يتم التعبير عنه من خلال المفردة العربية "الأمة".
فكثيرًا ما استخدم زغلول كلمة "أمة" للتعبير عن الـ"العرق"، على الرغم من استخدامه لكلمة "شعب" من آن لآخر في السياق السياسي وليس التاريخي. وبشكل أكثر ندرة يستخدم صياغات حديثة مثل "عنصر" بمعني "جذر"، مما يوضح أنه على الرغم من معرفته بالدلالات العلمية للمصطلح الفرنسي، إلا أنه كان يفضل على نحو متعمد استخدام مفردات مثل "الأمة" و"الشعب": تلك الكلمات التي تجذرت بعمق في المعجم الكلاسيكي السياسي والتأريخي العربي/الإسلامي، ولكنها مع ذلك في طور التحول بفعل الخطاب السياسي الجديد والهياكل القانونية للحداثة. والسؤال هنا ليس ما إذا كان ذلك التفضيل يمثل نوعًا من الرفض للفكر العنصري الحديث أم لا، على الرغم من ميلي الشخصي تجاه وجهة النظر الأخيرة إذ أن أطروحة لوبون بأكملها عن الحضارة واللامساواة ترتكز على هذا الأساس البيولوجي والوراثي. وفي رأيي، كان زغلول معنيًّا بتكييف وتدجين لغة تصنيفية لم تكن ملائمة بيئيًا أو سياسيًا للسياق المصري -وهو سياق كان تاريخيًا به تنوع ثقافي وعرقي عميق.
لم تكن فكرة نقاء العرق منطقية في مصر -ما لم يكتشفها المرء في النسل الخالد غير الملوث للفلاح المصري، وهو تحديدًا ما طرحه المفكرون ذوي النزوع للأصول الفرعونية مثل سلامة موسى ومحمد المصري وأحمد حسين في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين.
في عام 1913، أيام اضمحلال الخلافة العثمانية، كانت كلمة «الأمة» لا تزال مرتبطة بمعناها القديم: مجتمع سياسي وديني جذوره من زمن إسلامي. ولكن المفكرين على شاكلة زغلول كانوا هم على وجه التحديد من حاولوا تطوير دلالتها الجديدة بمعنى القومية أو الأمة القومية، أي مجتمع إقليمي ولغوي له تراث مشترك تمتد جذوره في عهود قديمة يعاد بعثها. كما يمكن إرجاع أصول التنوع الفرعوني للقومية المصرية إلى ترجمات مثل ترجمات زغلول. فتظهر في هذه الفترة المبكرة تلك الفكرة السياسية التي تقول بأن مصر كانت أمة على هذه الشاكلة أمة تاريخية يرجع تراثها إلى أيام الفراعنة الأولين. إلا أن مسألة العرق هنا غامضة بشدة. هل كان المصريون الجدد عرقًا مميزًا كما كان الأنجلوساكسون والأغريق؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلأي عرق ينتمون؟
ومرة أخرى، أين نضعهم في التصنيف المعياري الامبريالي للون: أبيض أو أصفر أو أسود؟ وأين يمكن وضعهم على سلم الحضارة الصاعد؟ كانت هذه الموضوعات محل نقاش ساخن في مجال علم المصريات والأنثروبولوجيا التطورية في القرن التاسع عشر. ولا يقدم لوبون هو الآخر ردًا على أي من هذه التساؤلات. وبدلًا من ذلك، يكتفي بمجرد الاحتفاء بأمجاد مصر القديمة باعتبارها نموذجًا مثاليًا لمستوى الحضارة الذي يمكن أن يرتقى إليه النقاء العرقي. وكان الفصل الذي كتبه عن ذلك الموضوع واحدًا من أطول الفصول وأكثرهم شاعرية في الكتاب:
يهلك العرق العتيق -سواء كان إنسانا أو حيوانًا أو نباتًا- بدلًا من أن يتكيف، بمجرد نقله إلى بيئة مختلفة تمامًا عن بيئته الطبيعية. لقد اُحتلت مصر فيما سبق من قبل عشرة شعوب مختلفة، ولطالما كانت مقبرة لهم. فلم يكن باستطاعة أحدهم أن يأقلم نفسه فيها. لم يترك أي من الإغريق أو الرومان أو الفرس أو العرب أو الأتراك، الخ ولو قطرة من دمائهم هناك. النوع الوحيد [العرقي] الذي يصادفه المرء [في مصر] هو الفلاح الهادئ الذي تماثل ملامحه بصدق تلك المنحوتة في قبور وقصور الفراعنة بفعل الفنانين المصريين منذ سبعة آلاف سنة ماضية.
لم يكن المصريون ساميين كالعرب، ولا سود كالإثيوبيين أو السودانيين. تحتفظ مصر بمكانتها الغامضة والفريدة في مواجهة التسلسل التراتبي للشعوب والأعراق. هذا ما يسمح لزغلول بفصل النص عن علاقات القوة الاستعمارية المتضمنة فيه. ويسمح له «بترجمة» «العرق» المصري إلى «الأمة» المصرية المعتزة الراسخة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على مبدأ عدم المساواة باعتباره محرك التقدم في قلب الحضارة. يمكن العثور هنا على بدايات فكرة القومية: القومية باعتبارها كيان شبه عضوي توحده اللغة والأرض والمعتقدات، ولكن توحده أيضًا، ولفترة أساسية في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، توحده فكرة صلة الدم الرجعية والنقاء والثبات التي تتمتع بهم «الروح» الفرعونية. وبينما أفسح ذلك الخط من القومية الفرعونية الطريق لغيره من مختلف الهويات الثقافية الأكثر تعقيدًا في العقود اللاحقة، فقد تم إحياؤه في الفترة التي أعقبت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، وخاصة خلال عقود الليبرالية الاقتصادية في مصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. ومنذ هذه اللحظة، تصبح مفردات كـ“الأصالة» و»الاستمرارية» و»التجانس» كلمات مفتاحية لخطاب محافظ قومي ما بعد عام 1967 يهدف إلى فصل فكرة النهضة عن إرث الاشتراكية والوحدة العربية والإفريقية لعصر ناصر في حين يؤكد النظام النيوليبرالي الحالي مرارًا على أن مصر لا تزال غير مستعدة للديمقراطية - وربما لن تكون أبدا.