مراجعات

حسين الحاج

تسخير الروح في خدمة الرأسمالية عرض كتاب "الروح في العمل: من الاستلاب إلى الاستقلال الذاتي"

2020.07.01

تسخير الروح في خدمة الرأسمالية عرض كتاب "الروح في العمل: من الاستلاب إلى الاستقلال الذاتي"

إذا كنت ممن انتقل موقع عملهم إلى المنزل بعد انتشار فيروس كورونا، وتطلب ذلك رفع مستوى خدمة اﻹنترنت لديك ومرونة في ساعات العمل وإجراء اجتماعات عمل مطولة باستخدام وسائل اتصال سمع-بصرية، واﻵن يسيطر عليك شعور باﻹرهاق المستمر جراء التحديق في شاشات الحواسيب والهواتف، فربما يمكنك أن تضع كل هذا جانبًا وتختلس وقتًا لقراءة كتاب «الروح في العمل». قد تستعجب هذا العنوان وتتساءل: أي روح وأي عمل؟ ما علاقة الروح بالعمل؟ الحقيقة أن هذا العنوان التجريدي يختصر واقعًا يهيمن على حياتنا المعاصرة وربما يقدم تشخيصًا حقيقيًا لما نعيشه في عصر الرأسمالية المتأخرة.

إن ما يعنيه مؤلف الكتاب فرانكو بيفو بيراردي بالروح في العمل أن الطاقات البشرية التي اعتبرها فلاسفة تنويريون، مثل سبينوزا، ممثلة للروح كاللغة والقدرات الذهنية والخيال والشعور، أصبحت اﻵن أداة إنتاج أساسية ﻹنتاج القيمة في اقتصاد الرأسمالية اﻹدراكية الرقمية (يستعمل بيراردي «رأسمالية العلامات/السميورأسمال» لوصف هذه الرأسمالية، إذ تتحول هذه الطاقات التي تُحرك الجسد إلى رموز وعلامات في العالم الرقمي)، يقول بيراردي:

إخضاع الروح للعمل: هذا هو الشكل الجديد للاستلاب. تقع طاقتنا الراغبة في أحبولة المشروع - الذاتي، ويتم تنظيم استثماراتنا الليبيدية طبقًا لقواعد اقتصادية، ويتم أسر انتباهنا في تقلقل الشبكات الافتراضية: فكل شذرة من النشاط الذهني لابد من تحويلها إلى رأسمال. (ص 32).

يتناقض هذا الطرح مع الحياة المعاشة في ظل الرأسمالية الصناعية؛ التي يقتصر كدح عمالها في أغلب اﻷحيان على ساعات العمل الثماني في المصانع، حيث تعمل أجسادهم كتروس مؤجرة كي تدير اﻹنتاج في الماكينات الكبيرة، لكن بينما يستغل أصحاب العمل أجسادهم لتشغيلها، تظل أرواحهم حرة خارج عملية اﻹنتاج. يجادل بيراردي أن هناك تغيرًا جوهريًّا قد حدث منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما أصبح اﻹنتاج الاقتصادي معتمدًا بصورة متزايدة على العمل الذهني لا اليدوي، وهذا يتطلب صياغة مفاهيمية جديدة للحقل السياسي. فمنذ أن قامت التكنولوجيات الرقمية على العمل اﻹدراكي، أخضع العمل الذهني إلى دورة إنتاج القيمة. ومن ثم، أصبحت النماذج الفكرية والحركية لليسار، وريثة القرنين اﻷخيرين، غير فعَّالة في ظل هذه المعطيات الجديدة.

يعتبر مؤلف الكتاب أحد أهم منظري تيار الماركسية الاستقلالية الذاتية اﻹيطالي، إلى جانب منظرين آخرين مثل سليفيا فيدريتشي وأنطونيو نيجري، وكان مُقربًا من المنظر الفرنسي فليكس جاتاري. وينقسم كتابه، «الروح في العمل»، إلى قسمين، كما ينقسم كل قسم بدوره إلى قسمين آخرين، ينتقل كل قسم من التاريخ الفكري والمفاهيم النظرية العامة إلى تنظير ماركسي ثقافي مخطط بدقة وممتزج بتغطية جيدة لسوسيولوجيا العمل المعاصر. وبصورة أكثر دقة، يقدم القسم اﻷول تاريخًا موجزًا للنقاشات الفكرية حول مفهوم المثقف وتعريفات الاستلاب والاغتراب من الهيجيلية للوجودية مرورًا بالماركسية، متتبعًا من خلالها أفكار تيار الماركسية الاستقلالية الذاتية اﻹيطالي في الستينيات وصعود العمل اﻹدراكي في السبعينيات.

ويقدم في القسم الثاني عرضًا لنظريات فلاسفة ما بعد البنيوية الفرنسية؛ مثل بودريار ودولوز وجاتاري، رابطًا ذلك بفرضيات عظمى حول انتشار التقلقل في اﻹنتاج الرأسمالي المعاصر.

بالنسبة إلى بيراردي، فإن التحولات التي لحقت بوظيفة المثقف الاجتماعية ومكانته يجب تفسيرها اﻵن من خلال مقطع ماركس في كتابه المعنون باﻷسس (الجرندريسه) حول «الذهن العام» (وهو مفهوم مركزي بالنسبة إلى تيار الماركسية اﻹستقلالية الذاتية اﻹيطالي)، فقبل نهاية ستينيات القرن العشرين، كان المثقف يقف خارج أي وظيفة إنتاجية مباشرة، إذ وضع لينين المثقف على رأس الحزب الطليعي، أما سارتر فقد أكد على حق المثقف في اختيار القضايا العامة التي يرى أهمية الانخراط فيها حتى وإن لم تكن مجال تخصصه. لكن بيراردي «كنتيجةٍ للوصول الجماهيري إلى التعليم، وللتحول التقني والعلمي للإنتاج، أعاد تعريف دور المثقفين: لم يعودوا طبقة مستقلة عن اﻹنتاج، ولا أفرادًا يتولون مهمة اختيار أخلاقي خالص وإدراكي حر، بل ذاتًا اجتماعية جماهيرية، تميل إلى أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من السيرورة العامة للإنتاج» (ص 40)، وهذا يعني أن العمل الذهني، «لم يعد وظيفة اجتماعية منفصلة عن العمل العام، بل يصبح وظيفة تقاطعية Transvers، ضمن نطاق مجمل السيرورة الاجتماعية، يصبح خلق واجهات Interfaces تقنية ولغوية تضمن سيولة كل من السيرورة اﻹنتاجية والتواصل الاجتماعي» (ص 42).

يدعي بيراردي أن حركات الطلاب في نهاية الستينيات أثبتت وجود هذه الجماهير المثقفة الجديدة، وأن الذهن العام أصبح قوة إنتاجية مركزية في الاقتصاد الرأسمالي، بينما تزايد رفض العمال للعمل المغترب وبحثوا على استقلالهم وفرصة للتطور الجماعي خارج مواقع العمل. يقارن بيراردي بين مفهوم الاغتراب بالنسبة إلى ماركس الذي يمثل انفصالاً بين الحياة والعمل، يغترب فيه العمل عن حياة العمال، والابتكار الجديد لتيار الاستقلالية الذاتية اﻹيطالي في قلب هذه النظرة إلى رؤية اغتراب العمال عن رأس المال بصفته قاعدة للتأكيد على حياة مختلفة. كذلك يربط بيراردي هذا الانقلاب بانقلاب آخر في مجال التحليل النفسي، متعلق بتحليل الفصام في أعمال جيل دولوز وفيلكس جاتاري، إذ لا ينظرون إلى مريض الفصام بصفته نتيجة سلبية لذاتية متشظية، بل إنها تنتج ذاتًا أخرى نشطة ذات علاقات أكثر تقاطعية.

يتخلى بيراردي عن النموذج المعياري الماركسي التقليدي للطبقة العاملة ويركز أكثر على الشريحة الجديدة من العمال الذهنيين التي تطورت في مجتمعات العالم اﻷول وهو يشير إلى هذه الشريحة بصفتها «عمال إدراكيين/كوجنتاريا»، ويرى المستقبل قادمًا من بين أيدي هؤلاء العمال، وبالمثل فإنه لا يرى أن تناقضات الرأسمالية الداخلية هي التي تسببت في اﻷزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في 2008، لكن نتيجة لإرهاق هؤلاء العمال بساعات عمل أكثر، ولذلك، يستخدم كلمة «اكتئاب نفسي/كساد اقتصادي» بدلاً من استخدام كلمة «أزمة»، ويقدم تحليلاً نفسيًّا لهما، متأثرًا بأفكار دولوز وجاتاري. لقد سخر النظام الرأسمالي المزج الجديد بين الطاقات الجسدية والذهنية للتغلب على ثنائية الجسد والروح عن طريق تأسيس قوة عمل تستخدم اللغة واﻹبداع والشعور لصالحها، بينما تخفي جسدها وراء شاشات الهواتف والحواسيب، وقد أدى ذلك إلى انعدام قدرتها على التفكير خارج حدود النظام، وتضخم الشعور بالعجز بين عمالها في عالم مرقمن خال من البدائل. اﻵن توحد وعي العامل اﻹدراكي مع الرأسمالية، ومن ثَم أصبح غير قادر على التمرد ضدها، ومستوعبًا تمامًا في دائرة اﻹنتاج والاستهلاك.

تتمثل اﻹشكالية بالنسبة إلى بيراردي في أن انفجار تكنولوجيا المعلومات في نهايات القرن العشرين أدى إلى شلل نفسي واكتئاب لاحق في روح العامل اﻹدراكي، ﻷن مدى تدفق المعلومات وسرعتها يتسع أبعد من قدرة العقل البشري على الاستيعاب. نجد في الهواتف الخلوية مثالاً جيدًا لشرح هذا المنطق الشبكي الجديد للإنتاج المعاصر، ربما ﻷنها أهم أحدث السلع في العشرين سنة الماضية، فهي تجعل من العامل اﻹدراكي متاحًا طوال اليوم كي يؤدي شذرة صغيرة في عملية اﻹنتاج وقتما يستدعيه رأس المال. ومن ثم يتسبب خضوع العمل اﻹدراكي إلى التنافس والمرونة والسرعة (في ظل استيلاء الشركات على العالم الافتراضي) في الخراب الاجتماعي والنفسي، فنرى المنافسة وتقلقل العمل والتدفق السريع للمعلومات تقودنا إلى الهلع، الذي يتبعه انسحاب نحو الاكتئاب. يدون بيراردي:

«الاكتئاب هو إخماد الرغبة بعد تسارع مصاب بالهلع، حين لا تعود تستطيع فهم تدفق المعلومات الذي يحفز عقلك، فإنك تميل إلى ترك مجال الاتصال، معيقًا أي استجابة ذهنية ونفسية». (ص. 247)

يبدي بيراردي ملاحظاته في الطرق التي تصيبنا بها رأسمالية العلامات بأمراض الاستلاب (وتعالجنا منها في الوقت ذاته). يقترح بيراردي أن ارتفاع معدلات الاكتئاب واﻹنتاج الهائل ﻷدوية مضادات الاكتئاب علامة على مقاومة اﻹنسانية لنظام من اﻹنتاج الرمزي الذي يستغل ذاتيتنا، لكن لا أدوية للاكتئاب قد تطمح في معالجة جذور الاكتئاب بنجاح التي تكمن في واقع استلاب العامل اﻹدراكي. هنا تظهر المشكلة بقوة، فهذا سباق نحو القاع حيث يستديم الاستغلال والمعالجة كل منهما اﻵخر بلا نهاية. يقترح بيراردي تحولاً علاجيًّا نحو التحليل الفصامي، متبعًا دولوز وجاتاري، فيقترح أن العلاجات النفسية يجب أن تكون مشروعًا مستمرًا نحو الاستقلالية الذاتية في مواجهة استعمار الرأسمالية للرغبة. ويخلص بيراردي في محاولة ﻹيجاد طرق بديلة للخروج من هذا المأزق إلى أنه:

«ربما كانت اﻹجابة أن من الضروري أن نبطئ، ونتخلى أخيرًا عن التعصب الاقتصادوي ونعيد التفكير جماعيًّا في المعنى الحقيقي لكلمة «ثروة». فالثروة، لا تعني شخصًا يملك الكثير، بل تشير إلى شخص لديه الوقت الكافي للتمتع بما وضعته الطبيعة والتعاون اﻹنساني في متناول كل فرد. إذا استطاعت الغالبية العظمى من الناس فهم هذه المقولة اﻷساسية، إذا استطاعوا التحرر من الوهم التنافسي الذي يفقر حياة الجميع، فإن أساسات الرأسمالية ذاتها ستبدأ في التهاوي». (ص 194).

يمكننا أن نجد أن هناك غيابًا ملحوظًا في هذا الكتاب، وهو غياب ذكر أي رابطة بين رأسمالية العلامات وبقية اﻷنماط الرأسمالية اﻷخرى، فبينما يشرح بيراردي عملية الاستلاب في رسملة العلامات، هذه التحليلات يجب أن تقدم مع احتراس بأن العمل اﻹدراكي ليس هو العمل السائد، وأن هذا التحليل يشمل جانبًا من جوانب الرأسمالية. وبينما يمكن للعولمة أن تغير هذا بمرور الوقت، يجب أن ندرك أن رأسمالية العلامات ذاتها تعتمد على استلاب أكثر مادية للعمال الذين يصنعون الهواتف والحواسيب في شرق آسيا.. إلخ. فإن كان لابد لتلك الرأسمالية أن تكون طفيلية على «أرواح» العمال اﻹدراكيين، يجب عليها أن تكون طفيلية على أجساد آخرين كي يستديم استمرارها الذي يسلب تلك اﻷرواح.

يمكن رؤية عمل بيراردي بأكمله بصفته محاولة لفهم ماذا تغير في الطبقة العاملة منذ سبعينيات القرن العشرين وتأثير تغيرها في انتشار أنماط العمل ما بعد الصناعي والتكنولوجيات الرقمية التي جعلت التقلقل شيئًا ممكنًا. قبل السبعينيات ظلت الرغبة خارج رأس المال، وبعدها، أصبحت الرغبة تعني التحقق الذاتي من خلال العمل، وفقدت الطبقة العاملة خارج العمل قواها التنظيمية المتعددة منذ ذلك الحين. يهدف كتاب «الروح في العمل» إلى تفسير هذا الانقلاب الشامل وأن يفحص التحول المتواصل للأمراض النفسية التي تصيب مجتمعنا المعاصر، وبذلك يرينا، «كيف حدث أن الحزن، عند نقطة بعينها، قد انتصر، وانهار المعمار الجماعي الهش للسعادة» (ص. 143)، لذلك لا يعد الكتاب مهمًا لمن يهتمون بحالة العمل في المجتمع ما بعد الصناعي فحسب، بل لمن يهتمون أيضًا بالصحة النفسية لهذا المجتمع.