قضايا

زكاري لوكمان

تكوين الطبقة العاملة 1899 - 1914 الثقافة.. القومية .. التشكيل الطبقي

2021.12.01

عرض وترجمة: أميمة صبحي

 

تكوين الطبقة العاملة 1899 - 1914 الثقافة.. القومية .. التشكيل الطبقي

 

زكاري لوكمان أستاذ دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية والتاريخ بجامعة نيويورك. وهو مؤلف كتاب "بين الاستشراق ودراسات الشرق الأوسط: صراع الرؤى ومتغيرات المصالح".

نُشر هذا المقال كاملاً في Poetics Today (مجلة أكاديمية فصلية أدبية وشعرية)، صيف 1994، المجلد 15، العدد 2، "ممارسات المجتمعات العربية والإسلامية الثقافية في الوقت الراهن"، وجاء المقال تحت عنوان المقال (Imagining the Working Class: Culture, Nationalism, and Class Formation in Egypt, 1899-1914)

على الرغم من رؤيتها كمُنتج مباشر وآلي تقريبًا للتطور الرأسمالي، فإن نشأة الطبقة العاملة في مطلع القرن في مصر، كما في كل مكان، كان عملية خطابية بقدر ما كان خطوات ملموسة، تجلت في الجدالات السياسية والأيديولوجية التي شارك فيها العمال وغير العمال. فتشكلت تمثيلات جديدة للمجتمع، بجانب وكيل اجتماعي جماعي جديد (الطبقة العاملة)، وفئة هوية جديدة (العمال)، جميعهم مرتبطون بالممارسات الاجتماعية الجديدة. وقد لعب المثقفون القوميون المصريون دورًا رئيسيًا في هذه العملية، فبدأوا من أجل تعزيز مشروعهم السياسي الخاص، في تمجيد الطبقات الدنيا المحتقرة سابقًا باعتبارها الجوهر الحقيقي للأمة المصرية والترويج لرؤية جديدة لهوية الطبقة العاملة، وهي التنظيم والنشاط.

في بداية هذا القرن، كان عدد كبير من المصريين يعملون بالفعل مقابل أجر في مؤسسات صناعية وشركات نقل كبيرة نسبيًّا. ومع ذلك، لا يبدو أنهم تصوروا أنفسهم منتميين إلى أو مشاركين في تكوين الطبقة العاملة، أي أنهم يديرون هوية ووكالة اجتماعية مشتركة. في تمثيلات المجتمع المصري الذي كان سائدا آنذاك، كانت الطبقة العاملة في مصر ليس لها مكان مهم أو معنى بالحس الأوروبي المعاصر لهذا المصطلح. لكن بحلول نهاية العقد الأول من هذا القرن، وبالتأكيد بحلول الحرب العالمية الأولى، كان بعض المصريين، إن لم يكن جميعهم، يعتبرون العمال فئة اجتماعية مميزة، وأنهم مكون أصيل من مكونات المجتمع المصري، وأن صراع الطبقات ظاهرة أصيلة. وقد أشير إلى هذا التحول بدخول مصطلحات "عامل" و"عمال" و"الطبقة العاملة" في الخطاب العام والسياسي في مقاربة دلالية لمعناهم الحالي. وهدفي في هذا المقال هو تتبع بعض الطرق التي تم بها دمج هذه التمثيلات الجديدة للمجتمع المصري وكذلك بعض التحولات الاجتماعية والثقافية التي ساعدت في تعزيزه.

من منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، أحدث الأجانب طفرة في الاستثمار الرأسمالي أدت إلى إنشاء شركات جديدة في مصر وتوظيف عدد من العمال المعدمين، بعبارة أخرى، أدت إلى خلق طبقة عاملة مصرية. وتدريجيًا اكتسبت تلك الطبقة الجديدة وعيًا لنفسها من تجربتها ومقاومتها للاستغلال والاضطهاد في مكان العمل. وأخيرًا فرضت تلك المقاومة، الإضرابات وتشكيل نقابات تجارية وما إلى ذلك، نفسها على بقية المجتمع المصري كوجود للطبقة العاملة، وكواقع اجتماعي، وبأنها ذات دور اقتصادي وسياسي كبير.

على النقيض من ذلك، سيبدأ هذا المقال من فرضية مختلفة: أن تشكُّل الطبقة العاملة، وتشكُّل كل الطبقات، هو تشكُّل خطابي بقدر ما هو خطوات ملموسة. وفي مصر، يمكن تصور الطبقة العاملة باعتبارها كيانًا، والعمال باعتبارهم شخوصًا منفردين.

ولتجنب أي سوء فهم، لا بد أن أوضح أن الحديث عن الطبقة العاملة كمؤثر في ممارسات اجتماعية محددة لا يعني أنها غير حقيقية. ولتوضيح هذه النقطة، سيكون من الأفضل استدعاء قول بنديكيت أندرسون (1991): إن توصيف الأمة على أنها "مجتمع متخيل" خاطئ، فمن الواضح أن الأمة ليست مادة ملموسة "شيئًا"، مثل الكرسي أو الطاولة.

وعلى الرغم من أن الدول لها حضور حقيقي للغاية في حياة الناس، كما يتضح في طرق تفكيرهم وإحساسهم وتصرفاتهم، فإنها أيضًا ذات حضور في مؤسسات معينة، ومجموعة قواعد ومواد ومبان وأماكن عامة وأقاليم قد وُهبت معنى "أمة وطنية". في الواقع، لحسن الحظ أو سوئه - ودومًا يكون لسوئه - لا يوجد في العالم المعاصر أي كيان له تأثير كبير على أفراد المجتمع أكثر من الأمة؛ ليس فقط أن الناس عادة تقبل حق أمتها في إخضاعهم بكل الطرق، لكن الأمة اليوم هي الكيان الوحيد تقريبًا الذي من أجله يوجد عدد كبير من الناس على استعداد لأن يقتل ويُقتل، ومن الصعب العثور على شيء حقيقي أكثر من ذلك.

الشخصية والمجتمع

نُشر كتاب محمد عمر "حاضر المصريين أو سر تأخرهم" عام 1902، بمقدمة كتبها الكاتب أحمد فتحي زغلول. وهو كاتب لا نعرف عنه شيئًا باستثناء ما ورد في المقدمة من أنه كان موظفًا في البريد المصري. يتكون الكتاب من ثلاثة أقسام، يرى عمر أن المجتمع المصري مقسم بينهم، الأغنياء والطبقة الوسطى والفقراء. ويصور الأغنياء منحطين على عكس أسلافهم، ومنغمسين في اللذات ويعيشون حياة بذخ وابتذال. ويضيعون أوقاتهم وأموالهم في معارك قانونية لا نهائية بسبب الممتلكات. على العكس من الطبقة الوسطى، التي هي في رأي عمر زهرة الأمة وزينتها وإذا حدث أي تحسن بين الأغنياء أو الفقراء، فإن الطبقة الوسطى هي التي تستحق الثناء. لكن نبرة عمر بدأت تتغير حين انطلق في نقد مطول لعلماء المسلمين، لكنه كان يؤيد صراحة محمد عبده في محاولات إصلاح الأزهر، وكذلك إصلاح نظام المحاكم الشرعية.

علم أمراض الفقراء

وعلى الرغم من كل عيوب الطبقات العليا والمتوسطة في مصر، فإن تصوير الفقراء على أنهم أكثر الشرائح فسادًا أخلاقيًّا في مصر في كتاب محمد عمر، كان مرجعه جهلهم الفظيع. ويبدأ كلامه عنهم باستنكار حياتهم الزوجية والأسرية المتدهورة، وإهمالهم الجسيم في تربية أبنائهم وأخلاقهم ونظافتهم. وأنهم كسالى يفتقرون إلى قوة الإرادة والرغبة في تحسين أنفسهم. مثل جلوسهم لوقت متأخر على المقاهي التي انتشرت حتى في القرى وتدخين الحشيش أو ممارسة أي من الرذائل المنتشرة بينهم.

من الأقسام الثلاثة المقسمة في كتاب "حاضر المصريين"، كان الفقراء إلى حد بعيد النسبة الأكبر والأكثر غموضًا. ويشمل مصطلح الفقراء أي شخص لا ينتمي إلى الطبقة الوسطى أو الغنية. كما يوجد فصلان مختصران عن "حِرف الفقراء"، وفي كلتا الحالتين فإن السمات الشخصية المعيبة واضحة، يتقاسمها أعضاء هذه الجماعات بحكم انتمائهم إلى الفقراء. ويشير عمر إلى العاملين في واحدة من أكبر وأحدث الشركات الصناعية في مصر، مثل ورش السكك الحديدية (العنابر) في بولاق. مثل نظرائهم في الورش الصغيرة، فإن هؤلاء العمال (يشار إليهم بأسماء حرفتهم) ضعفاء الإرادة والتصميم في تنفيذ العمل الذين كُلفوا به. إذا قمت بدراستهم، ستجد أن السمات الخاصة للحرفي هي الجرأة في الكذب والخداع والمكر. "هم كسالى ومهملون ولا معنى لديهم للوقت"، ويذكر عمر تحديدًا عاملات مصنع السجائر، هادفًا فضح أخلاقهم "أنهن الأكثر شرًا وشغبًا في سلوكهن، وقيل إن عددًا كبيرًا منهن تزوج من شباب يونانيين بشكل غير قانوني". وهكذا في كتاب محمد عمر، فإن التقسيم ليس على أساس الطبقة العاملة والعمال، بل على أساس الطبقات الاجتماعية المختلفة. أما الطبقة الوسطى فيحاول عمر إثبات أصالتها بالاستشهاد بالحديث النبوي "خير الأمور الوسط"، معتمدًا على خطاب قديم من خلال مقارنة وظائف مختلف الطبقات الاجتماعية لأجزاء الجسم الإنساني المختلفة: فالطبقة الوسطى هي الأطراف النشطة للجسم، بينما الفقراء هم السمع والبصر والأعصاب الحساسة للأمة.

مشروع الإصلاح

برز كتاب "حاضر المصريين" بين أعمال التحليل الاجتماعي المصرية المعاصرة بسبب النغمة القاسية، وأحيانًا الخبيثة، التي تندد بعيوب المصريين، وربما أيضًا بسبب الانتقادات الصارمة لإسراف وكسل الاغنياء. وهنا يستمر محمد عمر في نفس الخط الخطابي لمعاصريه مثل أحمد فتحي زغلول ويوسف النحاس وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد. لا أحد منهم كان يعير انتباهًا لمصطلح "الطبقة العاملة" ولا إلى "العمال"، بل تعاملوا وكأن لهم هوية فردية. وكانوا بدلا من ذلك يتحدثون عن "الحرفيين"، و"الفلاحين" أو "العمال"، وأنواع مختلفة من عاملين الحرف، وإذا استخدموا مصطلح عميل، فإنه يكون بمعناه القديم الذي يعبر عن الوكيل أو شخص نشط. كما أدركوا أن ما سيطلق عليه بعد ذلك "الصراع الطبقي" هو ظاهرة مهمة.

وللتغلب على هذا التخلف وعلاج أمراض الأمة، أصبح مشروع الإصلاح الضخم مع الطبقات الدنيا ضرورة. ويشمل هذا الإصلاح التعليم والارتقاء بهم وتجريدهم من عاداتهم السيئة مثل الخرافات والتخلف وغرس الانضباط والاعتماد على الذات والمبادرة الفردية داخلهم. باختصار هذا المشروع هو إعادة تشكيل الطبقات الدنيا على صورة الأفندية الأوروبيين الأصليين لجعلهم مناسبين للمواطنة الجديدة التي يمكن أن تحتل مكانها اللائق في صفوف الأمم المتحضرة.

ويمكننا التعرف على خطاب الإصلاح من خلال التعليم عن طريق أشخاص مثل محمد عبده وأعضاء ما أطلق عليه رشيد رضا فيما بعد "حزب الأمة"، وأحمد لطفي السيد مؤسس صحيفة "الجريدة". وقد اعتبر هؤلاء الذين تماثلوا مع هذا الاتجاه، أن استمرار الوصاية البريطانية شرط مسبق وضروري لنجاح الإصلاح، ومن ثَم كانوا على استعداد لتأجيل الاستقلال السياسي حتى تصبح البلاد جاهزة له. محمد عمر على سبيل المثال، خرج عن مساره لتوبيخ الطلبة القوميين الذين كانوا يطالبون بالاستقلال لفشلهم في الاعتراف بفوائد الحكم البريطاني.

القومية والإصلاح

هذه الرغبة في إرجاء الاستقلال أوصلت الإصلاحيين إلى صراع مع الحركة القومية المصرية، التي سعت إلى الاستقلال. كانت هذه الحركة نائمة لأكثر من عقد بعد الاحتلال البريطاني عام 1882 وبدأت في الانتعاش فقط في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر بقيادة مصطفى كامل. بالنسبة للقوميين، لم يكن مصدر مشاكل مصر هو شخصية شعبها أو مؤسساتها الاجتماعية، إنما الاحتلال البريطاني وسياسات الإدارة الاستعمارية. كما كان للقوميين مصلحة في تصوير المصريين على أنهم شعب ناضج ومتحضر ومن ثَم يكون ملائمًا للحكم الذاتي المباشر. وأصر كامل على أن مصر لم تكن مثل الكونغو أو الصومال، حيث يمكن تبرير الحكم الاستعماري الأوروبي بسبب مستوى السكان الأصليين المنخفض. وكان القوميون - الذين لم ينظموا أنفسهم في حزب سياسي حتى نهاية 1907 -مرتابين عندما نشر خصومهم السياسيون كتبًا ومقالات تؤكد على تخلف وتعصب الجماهير المصرية، لأن مثل هذه الصحوة ستُستخدم لإضفاء الشرعية على الحكم البريطاني. من وجهة نظرهم فإن الحكم البريطاني لم يكن في مصلحة مصر وكان إزالته بدلا من إدامته شرطًا مسبقا للتقدم الاجتماعي. ودليلاً على ذلك، استشهد القوميون بفشل الحكومة البريطانية التي تسيطر على مصر في الإنفاق الجيد على التعليم. لذلك استنكر القوميون بشدة أن يؤجل الاستقلال لوقت طويل حتى تمهد عملية الإصلاح الطريق. كما رأوا أن الاحتلال تحت أي ذريعة يعني استمرار التخلف والقهر. لكن في النهاية فإن النقاش بين القوميين والإصلاحيين حول إذا كانت مسألة الحكم البريطاني شرطًا مسبقًا للإصلاح أم عقبة أمامه توحي بأن المعسكرين لديهم أرضية المشتركة.

المرض الأوروبي

في عام 1894، بعد الإضراب في بورسعيد، علق محمد فريد قائلاً بحزن "هذا المرض الأوروبي انتشر في مصر"، كان رد فريد نموذجيًّا لدرجة أن الجماعة الأفندية الأوروبيين أولوا اهتمامًا لنشاط الطبقة العاملة وللصراع الطبقي وللاشتراكية. وفهموا بشكل عام أن هذه الظواهر اضطرابات اجتماعية ذات أصل أوروبي، ومن غير المرجح أن يأثروا على الجذور المحلية.

كان يعقوب صروف اللبناني من بين من اهتموا بقضايا الخطاب العام في مصر. وهو كاتب مسيحي مهاجر، عمل في صحيفة "المقتطف" التي تأسست عام 1876 في لبنان ثم انتقلت إلى القاهرة بعد 8 سنوات.  

وفي ثمانينات القرن التاسع عشر، نشر صروف عدة مقالات مؤيدة للمبادئ العلمية للاقتصاد السياسي، وندد بالاشتراكية والإضرابات والنقابات. في وقت مبكر من مايو 1887، كان المقتطف يستدعي سلطة الاقتصاديين الأوروبيين ليثبت أن الإضرابات لا يمكن أن تؤدي لزيادة دائمة في الأجور. وفي مايو 1890، ظهر مقال مختصر كُتب فيه عن كاتب إنجليزي أشار إلى أن الأجور الحقيقية للعمال الإنجليز قد تضاعفت في العقود الخمس أو الست السابقة لذلك لا يوجد ما يشكون منه.

وتصور هذه المقالات العمال وأرباب العمل كمجموعة اجتماعية مميزة. لكن البيئة التي توجد فيها هذه المجموعات وتدخل في صراع دائمًا هي أوروبا. والمعنى الضمني أن الاشتراكية والحركات العمالية والصراع الطبقي هي مشكلات تخص المجتمعات الأوروبية ولن تؤثر مباشرة على مصر، ومن ثَم يمكن ملاحظتهم من بعيد في أمان.

الإضرابات والحيوية الوطنية

بدأ الإضراب الذي استمر شهرين من قبل عمال مصنع السجائر (معظمهم يونانيين) في القاهرة، في ديسمبر عام 1899، والإضرابات التي تلته وجهود العمال (الأجانب بشكل أساسي) لتشكيل نقابات عمالية، جعلت البعض يتساءلون إذا كانت مصر لا تتبع المسار والأحداث الأوروبية فيما يخص تجربة الصراع الطبقي. في يوليو 1901، على سبيل المثال، قام قارئ من قراء المقتطف بالتساؤل ما إذا "كنت ترى مستقبل العمال في مصر يشبه وضع العمال في الغرب، فيما يتعلق بالإضرابات الناشئة عن التنافس بين العمل ورأس المال، وبدء العمال المصريين الميل للتخلص من القهر القديم وضيقة الماضي".

أولئك الذين رفضوا احتمالية أن، مصر مثل أوروبا، ستُبلى بالنشاط العمالي، وأن الصراع الطبقي عليه أن يأخذ في الاعتبار حقيقة أن العمال المحليين مستمرون في تنظيم الإضرابات وتشكيل النقابات وإن كان هذا على نطاق ضيق، كان ردهم هو اعتبار أن هذا النشاط استيراد أجنبي، وإصرارهم أنه علامة على اضطراب اجتماعي لا نموًا طبيعيًّا أو صحيًّا. وفي مقال نُشر في يناير 1902، عن إضراب قام به وقتها عمال الملابس في القاهرة، نفس أسعد داغر عن غضبه لا تجاه المضربين أنفسهم، بقدر ما كان تجاه الصحفيين المحليين الذين دعموا مطلب المضربين المطالبين بأجور أعلى، خاصة أولئك الذين اقترحوا أن هذا الإضراب كان مؤشرًا على حيوية الأمة واستيقاظها للمطالبة بالحقوق التي أهملت لفترة طويلة.

مفهوم الحيوية المتجذر في تمثيل المجتمعات أو الأمم كأعضاء حية، كان مركزه بعض من النظرية الاجتماعية الأوروبية المعاصرة، ولم يؤيد داغر اقتراح أن الإضرابات كانت علامة على حضورها، فاستنكر إضراب عمال مصنع الملابس غير المبرر وأصر أن وراءه رغبة العمال غير المشروعة في مشاركة أرباب عملهم الأرباح، والتخطيط من بعض أرباب العمل لإلحاق الضرر بمنافسيهم، و"أن الاستعداد الطبيعي لهؤلاء العمال على الإضراب جاء لأنهم أجانب معتادين على هذا النوع من الأفعال". كما أكد داغر أن الإضراب لم يكن دليلاً على حيوية الأمة لأنه ليس له علاقة جدية بمصر.

الإسلام والاشتراكية والصراع الطبقي

كان الإمام محمد عبده واحدًا من قلائل المثقفين المصريين الذين سعوا إلى توفير أساس في الشريعة الإسلامية للتعامل مع الإضرابات. في عام 1904 قبل وفاته بعام، سأله الصحفي اللبناني الاشتراكي فرح أنطون عن رأيه فيما قاله الإسلام عن تدخل الدولة لصالح العمال، فأشار عبده محمد في فتواه، إلى وجود صراع بين العمال وأصحاب العمل في أوروبا، وأن هذا قد يؤدي إلى حدوث إضرابات. واعترف ضمنيًّا باحتمالية أن تصبح الإضرابات ملمحًا من ملامح الحياة الاقتصادية المصرية أيضًا. كما أكد عبده أن الشريعة الإسلامية أكدت على وجوب تدخل الحكام في الإضرابات التي تؤثر سلبًا على إنتاج ضروريات الحياة وفرض التسوية للصالح العام. وقد يتطلب هذا الأمر من أرباب العمل لرفع الأجور أو تقليل ساعات العمل، أو قد يتطلب الأمر من العمال إنهاء إضرابهم إذا تبين إنه غير مبرر. فتوى محمد عبده جديرة بالملاحظة ليس فقط لأنها أظهرت درجة من التعاطف مع العمال المصريين، بل أيضًا لأنها اعتبرت أن كون العمال فئة اجتماعية أمر مسلم به. لم تتلق هذه الفتوى سوى القليل من الانتباه العام ولا يوجد دليل على أنها أسهمت بطريقة مباشرة في توصيف العمال على أنهم وكلاء اجتماعيين شرعيين في المشهد المصري.

يمكن قول الشيء نفسه، بشكل عام، عن كتابات القلة المثقفة في مصر التي كانت تدعو إلى الاشتراكية في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى. في الحقيقة، نرى إلى أي مدى واجهت شخصيات مثل شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى ومصطفى حسين المنصوري، فشل ربط الاشتراكية في مصر بالطبقة العاملة أو تحديد الصراع الطبقي كظاهرة اجتماعية محتملة.

إعادة تشكيل الطبقات الدنيا

إذا كان ممكن أن نقول إنه في السنوات الأولى من القرن العشرين، عمل الأفندية المصريون من قلب رؤيتهم لمجتمعهم الذي لم يكن فيه مكان للطبقة العاملة. فبحلول عام 1911، كتبت اللواء، صحيفة الحزب الوطني، عن عمال ترام القاهرة، الذين كانوا قد أنهوا إضرابهم آنذاك "أسبابكم لا تقتصر على الترام فقط، بل شملت كل عمال مصر. جاءت بعد إضراب العنابر، وأثبتت أن هناك قوى جديدة في مصر ولا يمكن تجاهلها... دع المجزرة التي قامت بها الشرطة في إضراب العنابر، وعمال الترام بالعباسية أن تكون درسًا لك. اتحدوا وقووا أنفسكم واجعلوا أعدادكم تزيد بالاتحاد مع العمال الأوروبيين".

كان واضحًا أن شيئًا ما قد تغير في النصف الثاني من العقد الأول من القرن العشرين، أن هذا الجزء من الأفندية الذين كانوا نشطاء في الحزب الوطني، بدأوا في تبني خطاب خاص بالطبقات. ولم تكن الظواهر الاجتماعية التي أشار إليها هذا الخطاب جديدة بالطبع، فقد كان هناك العديد من أماكن العمل الكبرى التي عمل بها عدد كبير من الأُجراء لبعض الوقت. ومنذ عام 1899، كان بعض هؤلاء العمال ينخرطون في إضرابات ويحاولون تنظيم نقابات. لكن الآن بدأت هذه الظواهر في اكتساب معان اجتماعية جديدة ضمن مفهوم جديد للمجتمع المصري، وعبِّر عنها ضمن سرد للنشاط العمالي على غرار نموذج أوروبا الغربية. من خلال هذه العملية، ظهر بعض المصريين ليروا مجتمعهم يتكون من طبقات ويشيروا إلى الآخرين أو إلى أنفسهم كشخص يدعي "العامل" الذي شكل مع "رجال من نوعه" طبقة عاملة تمتلك بعض الصفات المميزة. (وأقول هنا "رجال من نوعه" لأن بالرغم من وجود عاملات من النساء، فإنه يفترض ضمنيًّا أن العامل ذكر). لكن كيف حدث هذا التحول في الخطاب؟ كما أشرت سابقًا، لعب العمال أنفسهم دورًا رئيسيًّا في هذه العملية، لكن هذا الدور ليس هو ما أردت الحديث عنه هنا. الهيكلية والظرفية الاقتصادية والعوامل السياسية كانت مهمة أيضًا، لكن هذا التحول شمل أيضًا تبني شرائح الأفندية، خصوصًا المثقفين القوميين وتصورهم طريقة جديدة للطبقات الدنيا.

القوميون "يكتشفون" الطبقة العاملة

إذا كانت حادثة دنشواي قد قدمت فرصة أولية لإعادة تصور الفلاحين في الخطاب القومي، فقد طور الحزب الوطني استراتيجيته الشعبوية الجديدة استجابة لظروف سياسية واقتصادية محددة. كان أحد هذه العوامل هو الاتفاق الودي الذي عقد بين إنجلترا وفرنسا عام 1904، الذي بموجبه قبلت فرنسا سيطرة بريطانيا على مصر مقابل رفع يدها عن المغرب. وقد أصاب هذا مصطفى كامل وزملاءه بضربة قاسية، إذ كان يأمل أن يجبر الضغط الفرنسي البريطانيين على مغادرة مصر. ولم يبد أن الآمال التي وضعها مصطفى كامل في الخديو عباس حلمي ستتحقق. أما الحركة القومية فقد كانت أضعف من أن تستمر بنجاح في مواجهة الاستعمار البريطاني. وهكذا كان هناك حاجة ملحة لم يتم العمل عليها إلا بعد رحيل مصطفى كامل، لتوسيع الحركة الوطنية وإيجاد طريق للاستفادة منها وتعبئة جماهير محلية من أجل بناء حركة استقلال على نطاق واسع.

وقد لعبت العوامل الاقتصادية دورًا أيضًا في تدفق رؤوس الأموال الأجنبية الذي بدأ في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر مما أدى إلى طفرة في النمو الاقتصادي وإنشاء شركات صناعية وزيادة عدد العاملين بالأجرة في المؤسسات الحديثة والكبيرة. عانى هؤلاء العمال من تدني أجورهم وسوء ظروف العمل، وتفاقم محنتهم بسبب التضخم. أدت الأزمة الاقتصادية عام 1907 إلى توقف النمو، وحاول أرباب العمل تقليل الأجور أو حتى تجميدها. وكانت النتيجة موجة استياء العمال والاحتجاج الذي لعب به المصريون للمرة الأولى دورًا بارزًا، خاصة بين عمال الترام بالقاهرة والإسكندرية وعمال السكة الحديد وعمال العنابر في بولاق. في الوقت نفسه، تعرض مصدر رزق الحرفيين المصريين إلى التهديد بسبب تدفق السلع المستورد والمنافسين الأجانب. واستمر هذا الوضع لسنوات، احتج فيهم العمال المصريون وشاركوا في الإضرابات وسعوا إلى تنظيم أنفسهم دون دعم القوميين. وقد اكتسبت هذه الممارسات معاني جديدة، وسرعان ما أعيد إدراجها في خطاب القومية المصرية.

وبتفسير هذه التطورات، فإن قادة ونشطاء الحزب الوطني اعتمدوا على ما اقترحته سابقًا من أنه يمكن بسهولة تصور النموذج الأوروبي القابل للتعميم لهوية الطبقة العاملة. وهذا ما حدث في مصر، حيث أدرج الأفندية عناصر هذا النموذج في الخطاب القومي، وطالبوا بتنظيم العمال ولعبوا دورًا حاسمًا في بناء الطبقة العاملة المصرية وتوطينها في المجتمع المصري.

بدأ الحزب الوطني بإنشاء مؤسسات عام 1908، مثل مدارس الشعب ونقابة عمال الصناعة اليدوية التي تأسست برعاية حزبية عام 1909. كما تأسست اتحاد عمال ترام القاهرة في نفس العام. وقد ساعدت تلك المؤسسات والممارسات الاجتماعية المرتبطة بها، في كشف تأثير الطبقة العاملة على المجتمع.

الخلاصة

قدمت حتى الآن بناء الخطاب الطبقي كما لو كان يتعلق حصريًّا بالمثقفين القوميين. ولأي مدى بدأ بعض المصريين في تصور أنفسهم كعمال، وأنهم لم يكونوا مفوضين للقيام بذلك من قبل رؤسائهم الاجتماعيين. فقد أسهم العمال في صياغة وفهم هويتهم وعالمهم الخاص. كما اقترح هذا المقال أن السرد المصري للطبقة العاملة السائد وتاريخ سوق العمل، يحتاج إلى أن يكون إشكالية. حيث تستمد هذه السردية الكثير من قوتها من حقيقة أنها تسمح لتاريخ الطبقة العاملة المصرية أن تلائم بشكل سلس سرد تاريخ سوق العمل العالمي، وهي نفسها مشتقة من قراءة إشكالية معينة لتجربة أوروبا الغربية التاريخية. وهكذا تم تصوير مصر وكأنها خضعت لنفس التحولات التي شهدها الغرب.

لقد أكدت هنا أننا بحاجة إلى توسيع مفهومنا للتكوين الطبقي ليشمل بناء المعنى الاجتماعي. في مصر حيث ظهر العامل كنمط اجتماعي والطبقة العاملة كعنصر فاعل اقتصاديًّا وسياسيًّا، نتيجة لتطور رأس المال، لكن بشكل حاسم كان نتيجة أيضًا لصراعات سياسية وأيديولوجية كثيرة، وهو بلا شك طرح صعب سيتطلب قدرًا كبيرًا من البحث الإضافي وإعادة التفكير.