دراسات

سارة نجاتي

ثنائية الذاكرة والتاريخ

2018.01.01

ثنائية الذاكرة والتاريخ

تحتل الذاكرة مساحة لا بأس بها الآن من الكتابات الأكاديمية في الغرب، فبخلاف الرسائل العلمية والمقالات التي تصنف ضمن حقل علمي يحمل اسم “دراسات الذاكرة”، ظهرت أيضًا مجلات علمية تُعنى خصيصًا بهذا المجال. ولا يقتصر الاهتمام بالذاكرة على الحقل الأكاديمي

فمن الملاحظ أيضًا أن الكثير من الأعمال الفنية والأدبية وغيرها من المنتجات الثقافية تعبِّر -بشكل واعٍ أحيانًا، وغير واعٍ في أحيان أخرى- عن تعقيدات الذاكرة في عصرنا الحالي. وتعريف مفهوم الذاكرة كمفهوم مطلق ثابت، سواء في ثقافتنا الدارجة أو في المجال الطبي والنفسي -قدر أهميته- يغفل كون الذاكرة مفهومًا متغيرًا، غير منتظم، وغير ثابت ويكتسب معناه وأبعاده من الظروف التاريخية والاجتماعية والفردية التي تحيط به، ومن ثم فإن الذاكرة مفهوم نسبي، وما يمثله هذا المفهوم في مرحلة تاريخية معينة متغير.

 تطرح آن وايتهيد في كتابها “الذاكرةMemory ” أنه ليس هناك ذاكرة واحدة فقط بل “ذاكرات” عدة، فنسبية وتغير معنى الذاكرة يُرجح وجود ذاكرات متعددة، وهذا يظهر في عرضها لتاريخ المفهوم، حيث بدأت وايتهيد بأفلاطون الذي كان أول من عرَّف الذاكرة كمفهوم مستقل بذاته، مرورًا بالعصور الوسطى وكيف أن كلًا من مفكري الإغريق وأوروبا الوسطى لم يعتبروا الذاكرة استرجاعًا لأحداث ماضية فقط ولكنهم أيضًا رأوا فيها استحضارًا لمعارف أصيلة بالعقل. وتنتقل وايتهيد بعد ذلك لعصري التنوير والرومانسية حيث تطورت الذاكرة لتصير مفهومًا فرديًّا بحتًا ذا صلة بالتجارب الشخصية التى تختلف من شخص لآخر.

ولم يرتبط المفهوم بالمعاناة حتى القرن التاسع عشر عندما تزامن ذلك مع الثورة الصناعية التي غيرت في مفهوم الذاكرة وأصبحت هناك مُعضلة زخم الذاكرة وخوائها، ومن ثم ارتبطت الذاكرة بالألم أو الصدمة trauma في ضوء ما جاءت به الثورة الصناعية والحداثة من ازدياد الهجرات الداخلية والخارجية، والثورة التكنولوجية، وموجات التحرر من الاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط، خصوصًا في النصف الثاني من القرن العشرين، وما ترتب على ذلك من تغيرات سياسية جذرية لدى كلٍ من الشعوب المستعمَرة والمستعمِرة.

إن اقتران الذاكرة بالصدمة هو نتيجة هذه التحولات التي شكلت في مجموعها ما يعرف بالصدمة الجماعية “collective trauma”. وتصف كاثي كاروث (أحد أهم الأسماء في مجال دراسات الذاكرة) الصدمة في كتابها (الصدمة: اكتشافات في الذاكرةTrauma: Explorations in Memory ) بأنها: “استجابة، متأخرة أحيانًا، لحدث أو أحداث هائلة، تأخذ شكل هلاوس مُلِحة ومتكررة أو أحلام أو سلوكيات ناتجة عن حدث ما، ويصاحبها إحساس بالخدر النفسي الذي قد يظهر في بداية، (أو) في أثناء أو نهاية الحالة مع زيادة الاستثارة نحو محفزات الحدث أو تجنبها تجنبًا تامًا”.

أما الصدمة الجماعية، فكما يتضح من اسمها هي تحدث عندما يشترك مجموعة من الناس أو مجتمع بأسره في تلك الاستجابات الشعورية نتيجة لأحداث هائلة حلت بهم مما يؤثر على ثقافة وسلوكيات هذا المجتمع أو تلك المجموعة من الأفراد (على سبيل المثال: قصص أبناء الجاليات السكندرية عن رحيلهم بعد التمصير في النصف الثاني من القرن العشرين، أو الأثر الذي أحدثه اغتيال جون كينيدى للشعب الأمريكي أو أثر “نكسة”1967على الشعب المصري).

لماذا التاريخ والذاكرة - أبعاد نظرية

تضع محاولات فهم الماضي المشترك لدى مجموعة من الأفراد، من خلال ما يتذكرونه أو ينسونه، سرديات التاريخ السائدة محل تساؤل، وهذا لاختلاف ما يعرف بالحقائق التاريخية، أغلب الوقت، في المضمون عن روايات ذاكرة الصدمة، هذا بالإضافة لاختلافهما التام في آليات وشكل السرد. وبعبارة أخرى، إن روايات ذاكرة المهمشين تضيف أبعادًا أخرى لسرديات التاريخ الرسمية، بل وأحيانًا تختلف معها كلية في المضمون، ولا مفاجأة في ذلك، فصفحات التاريخ تسطرها علاقات القوة بين الحكام والمحكومين. أما من حيث آليات وشكل السرد، فنصوص التاريخ كما عهدناها تتميز بسرد أفقي، متتابع ومتراتب، على عكس سرديات ذاكرة الصدمة التي تقاوم الدمج في إطار أفقي متناغم. فالعلاقة بين اللغة وذاكرة الصدمة معقدة، فالأخيرة تعجز اللغة عن التعبير عنها، وذلك لأن ذاكرة الصدمة ليست بأفكار عقلانية ولكنها انفعالات وجدانية تُترجم أحيانًا بشكل أدائي، فعادة ما يسترجع الإنسان الصدمة من خلال الكوابيس و“الفلاش باك”.. إلخ. والصدمة هي “صدمة” لأن لا مرجعية لها في التجارب، والخبرات والمعارف السابقة لدى الفرد، وهي بالأحرى تجسيد بصري، أيقوني، لا يمكن دمجه في تتابعات التاريخ الأفقية المتجانسة. ويتضح لنا من كل هذا كيف أن الذاكرة هي استحضار لفجوات الماضي بشكل أساسي، بينما تسعى سرديات التاريخ لملىء تلك الفجوات.

 لقد قتلت ثنائية التاريخ والذاكرة بحثًا في عصرنا الحديث لتصاعد الاهتمام في النصف الثاني من القرن العشرين بسرديات المهمشين. فرأى الكثير من المؤرخين أن الذاكرة تنتمي لإطار أكبر وهو التاريخ، وذهب بعضهم إلى أن زيادة الاهتمام بالذاكرة بديلاً عن مفهوم التاريخ، ما هو إلا عَرَضٌ من أعراض ما بعد الحداثة التي تسعى لتضميد جراح الماضي خارج إطار التاريخ كمفهوم يستند لحقائق موضوعية، علمانية، أما على الجانب الآخر، فعقب ظهور دراسات الذاكرة، نهضت أصوات عدة تفترض وجود تعارض وتناقض بين التاريخ والذاكرة. هذه الأصوات تنحاز لمن يُمكن أن نُطلق عليهم “المهمشين رمزيًّا” الذين لا يساهمون في رواية التاريخ ولكن يُروى عنهم.

فعلى سبيل المثال يعرض تيم وودز في كتابه (African Pasts: مواض أفريقية) العديد من النصوص الأدبية من القارة الأفريقية في ضوء تناول تلك النصوص لثنائية التاريخ والذاكرة. ويرى وودز أن التاريخ “سرد إقصائي وعدواني” بطبيعته وذلك لتشكل سرديات التاريخ في أُطر تحددها علاقات القوة، بينما يعتبر الذاكرة بمثابة نقيض للتاريخ من خلال تحديها للسرديات الاُحادية الإقصائية، فالذاكرة مفهوم بلا حدود قاطعة، قادر على استيعاب واحتواء روايات عدة وأوجه مختلفة للحقائق التاريخية، ولذلك تلعب الذاكرة دورًا مهمًا في المقاومة السياسية بخلقها لمساحات تعبير موازية للمهمشين يتجاوزون من خلالها الإقصاء التاريخي. ومن ثم فإن الذاكرة الجماعية تلعب دورًا مقاومًا لسلطة السرديات التاريخية، وتكشف عن علاقات القوة المُشكِلة لسرديات التاريخ، واضعة بذلك ادعاء امتلاك الحقيقة من قبل أي سلطة دينية أو سياسية أو اجتماعية موضع الشك.

ينتقد كيروين كلاين، من جهة أخرى، الفهم الحديث للذاكرة كسرد ميتا-تاريخي، ويرى أن هذا الطرح يفترض إمكانية إحلال الذاكرة محل التاريخ كعلم قائم بذاته. وعلى الرغم من رفض كلاين لوجود تعارض بين الذاكرة والتاريخ، إلا أنه يرى التاريخ مفهومًا أوسع من الذاكرة، فالتاريخ، بالنسبة له، وعاء شامل لجميع “الذاكرات” سواء كانت ذاكرة شفهية أو شعبية، إلخ. ومن ثم فإن طرح الذاكرة بديلاً عن التاريخ هو بمثابة نكوص لعلوم العصور الوسطى ذات الطابع الديني، التي تخلو من فكر موضوعي علماني ويشير إلى أن “الذاكرة تروق لنا نتيجة لإسقاطها لآنية نشعر أن التاريخ يفتقدها” وبناءً عليه، صُبغت الذاكرة بكل ما هو إنساني ووجداني، بينما تحول التاريخ لهذا الخطاب الإقصائي المروي من أعلى، وبهذا الاعتقاد ارتبط التاريخ بالحداثة والدولة والسلطة والإمبريالية، بينما ارتبطت الذاكرة بما بعد الحداثة، وقصص المهمشين، والشفاء من هذا الزخم النفسي. ويستخلص كلاين من ذلك أن الذاكرة مفهوم تقف حدوده عند تقديس أجزاء من التاريخ دون غيره، وخلق مساحات للتعبير أكثر خصوصية للمهمشين والمظلومين، ولكن تظل تلك المساحات جزءًا من مفهوم أوسع وأشمل وأكثر علمية ألا وهو التاريخ.

وتتناول الكثير من المنتجات الثقافية الحديثة من فن وإعلام وأدب، أزمة الذاكرة، وقد لا يتم الطرح بشكل واعٍ ومباشر في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال يٌلاحظ ازدياد الأعمال الأدبية المتناولة لمواد تاريخية وإعادة كتابتها من منظور ما بعد حداثي. ولعل أحد الأمثلة المهمة على مراجعة الأدب للتاريخ وإعادة سرده بصور مختلفة هي ثلاثية الكاتب الصومالي العالمي نور الدين فرح “تنويعات في إطار ديكتاتور أفريقي»، حيث تتخبط الثلاثية بين روايات التاريخ كما سطرها المحتل الأوروبي ومن بعده نظام سياد بري من جهة وذاكرة المقهورين المقاومين لبطش الديكتاتور من جهة أخرى. ويتضح لنا أن سرديات فرح تحاول أن تتلمس طريقها إلى «الحقيقة» من خلال إعادة قراءة التاريخ المكتوب من أعلى وإتاحة الفرصة للمهمشين رمزيًّا أن يعيدوا كتابة التاريخ.

وقد كان للصوماليين نصيبهم من الاضطرابات السياسية في القرن العشرين لما واجهوه من احتلالين بريطاني وإيطالي، وصعود ديكتاتوريات عسكرية شمولية للحكم وحروب أهلية وقمع للحريات وقهر للمرأة. وعلى غرار الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط، حَكَم سياد بري، الجنرال العسكري، في الستينيات بعد الاستقلال عن بريطانيا وإيطاليا معلنًا مولد روح قومية اشتراكية جديدة. وبالنظر إلى طبيعة تكوين المجتمع الصومالي نشأت أيضًا انقسامات قبائلية وعشائرية. وينتمي الصوماليون لتقليد قديم من الثقافة الشفاهية المختلفة تمامًا عن الخطابات التاريخية التي تُهيمن عليها النزعة المركزية الأوروبية والتي ترى في أفريقيا كلها كيان واحد بلا تمييز بين خصوصية الشعوب وثقافتها المختلفة. وقد تلونت الذاكرة الجماعية الصومالية بأفكار المحتل الغربي، ومن بعده الأنظمة الشمولية، وتفتت هذه الذاكرة الجماعية في متاهات الشفاهية القبلية. ويتناول فرح تلك الذاكرة الجماعية على مدار ثلاث روايات.

الثنائية مُجسدة: «تنويعات في إطار ديكتاتور أفريقي» نموذجًا

حاز الكاتب الصومالي المعاصر، نور الدين فرح، اهتمامًا بالغًا في الغرب، ليس فقط لأنه يكتب بالإنجليزية (فذلك أمر يشترك معه فيه الكثير من أدباء ما بعد الكولونيالية) لكن هذا الاهتمام الواضح هو نتيجة للموضوعات التي يطرحها فرح مثل قضية تحرير المرأة في روايته الأولى «من ضلع أعوج» وكذلك القمع المرتبط بالاحتلال والأنظمة الديكتاتورية في أغلب أعماله. وقد أمضى فرح حياته في المنفي بين الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا ونيجيريا بسبب حساسية كتاباته في الصومال.

تتغير شخوص فرح من رواية لأخرى، ولكن يظل القاسم المشترك بين الثلاث روايات: «حليب حلو ومُر» و«سردين» و«أغلق يا سمسم» هو تقاطع موضوعات النصوص نفسها. فتتناول الثلاث روايات شخوصًا يعملون في أنظمة سياسية سرية ضد نظام «الجنرال» وعلى الرغم من تغير الأبطال من رواية لأخرى، إلا أن فكرة النضال تجمعهم. والتيمة الغالبة على النصوص هي تيمة الرحيل والعودة، وتلك ليست فقط برحلات جسدية بين الصومال وغيرها من البلدان، ولكنها أيضًا رحلات نفسية تعكس حالة التخبط التي يعاني منها شخوص فرح بين سرديات التاريخ المختلفة.

ولنفهم رحلات الرحيل والعودة المتكررتين في روايات فرح، علينا أن نفهم كيف تتقاطع ذاكرة الصدمة في الثلاثية مع سرديات التاريخ تارة، وتتحداها تارة أخرى؟

أولاً: تيمة التذكر

تشترك جميع الشخوص الرئيسية في محاولات فهم الماضي، بداية من لويان في “حليب حلو ومر” الذي زَورَ نظام الجنرال تاريخ شقيقه النضالي بعد مقتله، مرورًا بأمينة في “سردين” التي تطاردها أشباح ليلة اغتصابها على أيدي معارضي والدها ذي المنصب السياسي الرفيع، وانتهاءً بدِري في “اغلق يا سمسم” الذي أمضى عقودًا في سجون المحتل الإيطالي. ويُلاحظ وجود فعل التذكر في الثلاث روايات فكرة ملحة على مدار الأحداث، ولا يقتصر التذكر في نصوص فرح على إعادة “حكي” قصصٍ من الماضي، ولكنه يتحول أيضًا إلى أداة لإعادة إنتاج الحاضر. بمعنى آخر، لا يغلب طابع النوستالجيا على أفعال التذكر في النصوص الثلاثة، بل الرغبة في تفسير وفهم عبث الحاضر بإعادة استرجاع ماضي تم الاغتراب عنه، فعلى سبيل المثال نجد في رواية “اغلق يا سمسم” كيف تختلط جُمل الراوي بمونولوجات الشخصية الرئيسية “دِري”، وقد نقرأ صفحات تلو الأخرى تسترجع ذكريات ما، ولا ندري إذا كانت تلك الصفحات يرويها الراوي أم دِري كالمثال الذي نُورد ترجمته كالتالي:

إن التاريخ سلسلة من تُرهاتٍ لا تُطاق، من سُلطة أُطلق عليها بعثات تمدين، لحملات “إحلال سلام” عسكرية نهبت وسرقت واغتصبت ووصفت القتل الجماعي بأنه ارتقاء بالرِعَاع، وحولوا دولاً إلى مُستعمَرات والمُستعمَرات إلى مراكز تجارية “مسالمة”.

ويصف دِري هنا تاريخ الصومال تحت الاحتلال بـ“تُرهات لا تُطاق” ولا يسترجعه كجزء من ماضٍ مليء بالعبث والزيف فحسب، بل يشير أيضًا إلى أن هذا الخطاب التاريخي -الذي جعل من الصوماليين أناسًا يستحقون القمع بحجة “تمدينهم” على يد المُستَعمِر- لا يزال يُلقي بظلاله على الحاضر الصومالي، حيث يستطرد قائلاً:

ماذا قدم النظام الحالي لمقديشيو؟” سأل دري نفسه “طرقًا كثيرة جدًا، ومبانٍ كثيرة جدًا، وتُحَفًا ثورية كثيرة جدًا وعجائب معمارية حديثة كثيرة جدًا”.

ونرى في المقتطفين كيف استثار تدهور الحاضر الذي يعيشه دِري ماضٍ عبثي في سردياته المتضاربة بين حضارة غربية متقدمة، ومجازر ارتكبت باسم الحضارة والتقدم، ورعاع في حاجة لتمدين، ونظام يحمي “ثورة” لم يتبق منها سوى بعض التُحَف والنُصُب التذكارية. وعادة ما يشعر الشخوص التي يقع على عاتقها التذكر في روايات فرح بالاغتراب عن كل من حاضرهم وماضيهم. ونرى كثيرًا في “اغلق يا سمسم” كيف ينسحب دِري ذهنيًّا إلى عالمه الخاص ممضيًا أوقاتًا من الصمت الطويل وكذلك اختلاط أحلامه بيقظته، مما يدفعنا أن نتساءل إذا ما كان دِرى نفسه حقيقيًّا؛ ذلك لأنه يتحول إلى كيان غامض، غير مكتمِل، تمامًا كالذاكرة التي يستحضرها من آنٍ لآخر، وكأن شخصية دِري هي في حد ذاتها سرد متقطع لذاكرة ترفض تاريخًا اغتربت عنه.

وأحيانًا يرمز توظيف التناص في روايات فرح إلى الرغبة في إيجاد سرد متجانس منطقي للتاريخ السائد، ولفهم أحداث الماضي التي تتوارثها الأجيال وسنرى في المثال التالي من “حليب حلو ومر” كيف يعكس التناص جدلية التاريخ وذاكرة الصدمة الجماعية.

يحاول لويان أن “يُلملم” لا أن “يسترجع” فتات ذاكرته التي ورثها كما نَرِث صفاتنا الجينية تمامًا، ويُلاحظ هنا كيف يعي لويان ماضيه كصومالي في شكل كنايات لا جمل مكتملة وذلك لا لأنه يسترجع ما يتذكره أو حتي يفهمه بل لأنه يحاول مَنطَقَة ما نسيه أو اُضطُر أن ينساه، ونٌورد ترجمة خواطره كالتالي:

بالطبع كان هناك مجموعة من أكواخ الطوب اللبن التي تفتت وتآكلت بفعل النمل الأبيض الذي أتى من الكثبان الرملية المحيطة بهذه المدينة الساحلية. يا لها من حماقة! يعود الصوت مجددًا، الصوت الداخلي، سويان يتحدث إلى لويان “جاء المُؤرخون راكبين أمواج البحر العاتية بشعلات من النور، منشدين أذان الصلاة، ترتفع حناجرهم بأذان صلاة الفجر. المؤرخون، والطغاة، والهلال، والصليب. نجمة الدماء والتضحية الإنسانية الحمراء. ماذا أرادوا؟ آثارًا بُنيت على الحطام، على أنقاض البلد؟ لماذا أرادوا بشدة لنا أن نعلق في خضم رياح مصالحهم المتضاربة؟”.

إن التجسيد الرمزي لمواضٍ بعيدة في الفقرة السابقة يكشف عن محاولة للبحث عن المفقود في الذاكرة الجماعية الصومالية - وتحديدًا الصومال قبل سيادة الروايات التاريخية الأجنبية (بما فيها روايات الفاتحين العرب) والنزعات القومية السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين. فلا يُذكر في الفقرة السابقة عن تاريخ الصومال قبل العرب سوى الأكواخ البدائية التي يفتتها النمل الأبيض، واختيار تلك الصورة بالتحديد يعكس وعيًّا بفجوات الذاكرة. وكل كناية من الكنايات السابقة هي تناص مع عوامل تاريخية مختلفة شكلت ثقافة الصوماليين. فـ“المؤرخون” هم العرب، وتسميتهم تلك تعكس إحساسًا بعدم المساواة بين المؤرخين وساكني الأكواخ التي تهاوت بسبب النمل. وعلى الشاكلة نفسها، نجد أن “الطغاة” تشير لنظام الجنرال وأعوانه، بينما الهلال فهو رمز للإسلام والفتح العربي، والصليب هو المسيحية التي تَقَنَّع بها المحتل الغربي وجعل منها ذريعة لـ“تحديث” أفريقيا، كما أن النجمة الحمراء هي الاشتراكية التي تبناها نظام سياد بِري الذي راح ضحيته الكثيرين باسم الحرية. إن تَقَطُّع الجُمَل واستخدام الكنايات يعكسان ذاكرة معاناة خصوصًا أن التناص هنا -وفي سائر نصوص الثلاثية- لا يعبر عن علاقة بين الفرد وذاكرته الفردية، بل عن علاقة الفرد بذاكرات أخرى يشترك فيها مع آخرين.

ثانيًا: ضبابية الزمن:

يتضح لنا سبب آخر لاعتبار التاريخ والذاكرة فكرتين متقابلتين وهو كيفية إدراك الزمن في سرديات كل منهما. لقد تحدثنا من قبل عن رأي كيروين كلاين في أن جاذبية الذاكرة تكمن في قدرتها على استحضار آنية يفتقدها التاريخ، أو بعبارة أخرى، فإن الذاكرة تشيد جسرًا يربط بين الماضي والحاضر، وتخلق إحساسًا بالقرب من ماضي تم تهميشه، وفي رأيي، أن الذاكرة التي تحمل تلك الآنية هي ذاكرة صدمة بطبيعتها، هذا لأن الذاكرات العادية عادة ما تنصهر في نسيج تاريخي متجانس على عكس ذاكرة الصدمة غير المحدودة بإطار الزمن الفيزيائي. وقد شرح دومينيك لاكابرا ذلك مشيرًا إلى وجود طريقتين للتعامل مع ذاكرة الصدمة، فالمرء إما يتعامل مع الصدمة بالتعبير عنها وتجاوزها (وعندها تتحول هذه الذاكرة إلى حدث من الماضي) أو يعيد إنتاجها واختبارها فيما يعرف في علم النفس بـ“التنفيس” أو “التفعيل”. ويجد دومينيك لاكابرا علاقة بين «التفعيل» والتكرار القسري، فعادة ما يُعاد إنتاج الصدمة بشكل أدائي وتُعاش من جديد كما لو كانت جزءًا من حاضرٍ يصعب الانفصال عنه. ومن صور التكرار القسري الأدائي لذاكرة الصدمة «الفلاش باك» وتقول كاثي كاروث عن هذا النوع من التفعيل:

« التاريخ الذي يورده الفلاش باك هو تاريخ بلا مكان في الماضي، حيث إنه لم يُتسوعب تمامًا آنذاك، ولا في الحاضر، فصوره وتفعيلاته تظل غير مفهومة» . 

وفي ثلاثية “تنوعات في إطار ديكتاتور أفريقي” نجد أن شخوص فرح تقوم بتفعيل ذاكرة نقلت إليهم ولم يعيشوها ويختبروها بشكلٍ مباشرٍ، والذاكرة هنا تطارد الجيل الثاني والثالث للصدمة الجماعية اللذان يواجهان تحديًّا إضافيًّا ألا وهو تحديد جذور هذه الصدمة أو قصص الأصول. ومن ثم فإن الأجيال التالية للجيل الذي عايش الصدمة مباشرة يتحملون عبء ملء ثغرات في ماضي لا يتذكرونه أو يفهمونه. ولذلك لا يأخذ التفعيل بالضرورة هنا شكل الفلاش باك لكن إعادة الإنتاج. ويمكن أن نقرب الفكرة إذا أخذنا مثال الأجيال التي تلت النكسة 67، فهذه الأجيال ورثت أزمة الهوية المصرية من إحساس بكراهية الذات واليأس دون أن تشهد تفتت المشروع الناصري وانهيار القومية العربية، فقد لا يربطون الإحساس العام بفقدان الأمل أو تضخم الذات -الذي يميز المصريين بين أبناء العرب-  بالنكسة ولكنهم بالتأكيد يعيشون تبعاتها ويفعّلون آثارها في الحاضر.

 وما يضيفه أبطال فرح بخصوص تعقد علاقة الذاكرة بالزمن هو أن البعد الوجودي لهؤلاء الأبطال أنفسهم يدخل في علاقة معقدة مع الزمن، فوارثو ذاكرات القهر والقمع والظلم الجماعي، في روايات فرح، تتلاشى الحدود الفاصلة بين ماضيهم وحاضرهم، ويتميزون بعلاقة ضبابية مع الزمن، تمامًا مثل ذاكرة الصدمة التي ورثوها. ومع الوقت نرى كيف أن شخوص الثلاثية تستعير سمات ذاكرة الصدمة التي يمتلكونها، حيث إنهم يتحولون، تدريجيًّا إلى ذاكرات، كما لو كانت تفاعلات الإنسان مع الحياة يحددها نوع الذاكرات التي يمتلكها. وكذاكرة الصدمة، يظل الأفراد في إطار زمني عالق بين الماضي والحاضر، خصوصًا وأن شخوص فرح تميل إلى وعي وجودها ووجود الآخرين بشكل زمني مُشَوِش. والذاكرات المُشوشة زمنيًّا التي يمتلكها شخوص فرح هي أقرب لحالة من التعامل مع المجهول وعدم القدرة على الفصل بين الماضي والحاضر، مما يدفعنا إلى التساؤل إذا ما كان تعبير“امتلاك ذاكرة” بالدقة الكافية أم أن الذاكرة هى التي تمتلكنا؟

ولنوضح إشكالية إدراك الزمن في ذاكرة الصدمة سوف نستعرض مثًالين من روايتي “سردين” و“أغلق يا سمسم”. تعاني أمينة في “سردين” من فلاش باك متكرر لحادث اغتصابها وما ترتب عليه من حَمل. أمينة هي ابنه أحد رجال نظام الجنرال، وتربط الرواية واقعة الاغتصاب بقضية أعم وأشمل؛ وهي النظام السياسي القمعي بالصومال، وكيف أن ما عانت منه أمينة ما هو إلا رمز لما تدفعه بلد بأكملها جراء استمرار حكم الجنرال، يقول فرح “أمينة غارقة الآن في فيضان أفكارها وقالت لنفسها: أنا قادمة من الأمس، لقد كسرت الحاجز وأتيت إلى أرض لا عودة منها. نعم، أنا قادمة من الأمس. لم تتوقف أمام عدم منطقية الجملة؛ ماضيها هو حقيبة كبيرة تُلقي فيها كل ما لا تقوى على حمله”.

نَرى هنا كيف يعكس استخدام زمن الحاضر مع كلمة “أمس” وعيًا متخبطًا بالزمن، فقد “كسرت الحاجز” الذي يفصل ماضيها عن حاضرها غارقة بذلك في حالة لا تستطيع أن نُطلق عليها تذكر ولا نسيان بل غياب، غياب ذاكرة متجانسة. أما “الحقيبة ” فهي ترمز لثقل الأفكار المكبوتة التي لم تخرج من مخبأها وبالتالي لم تُستوعب بعد. ويستمر الفلاش باك لدى أمينة على النحو التالي “ونهض من الثقب الآن أشباح الرجال الثلاثة الذين اغتصبوها...“نحن لا نفعل هذا بكِ بل بوالدك” قالها لها واحد منهم... وبقيت هناك، دماء على ساقيها، وسكين ملقى بجانبها، وألم، ويا له من ألم!” .

الثقب” هو التشبيه الأقرب لذاكرة أمينة وتشبيه “المغتصبين” بالأشباح يكشف عن إدراك سوريالي لمشهد الاغتصاب، فارتكاب الجريمة على أيدي “أشباح” ناهضين من خواء يجعل من الواقعة أمرًا خارج الزمن، كما لو أنها لم تحدث في العالم الحقيقي. وبالتالي فإن اغتصاب أمينة لم يدمج في سرد متجانس، بل إن الجمل الوحيدة التي اقترنت بهذه الصدمة هي “نحن لا نفعل هذا بكِ بل بوالدك” مما يحول حادث الاغتصاب من اعتداء فردي إلى اعتداء سياسي جماعي. وبتشرذم وتفتت إدراك أمينة لما حدث لها، تتوقف ابنة السياسي الرفيع عن الوجود في صفحات فرح كإنسان وتستمر في الوجود كذاكرة صدمة.

أما دِري من “أغلق يا سمسم” فهو خير مثال على إشكالية العلاقة بين ذاكرة الصدمة وإدراك الزمن. وجود دِري في الرواية هو وجود رمزي إلى حد كبير، حيث يوجد كفكرة أكثر منه كشخصية تدفع بأحداث الرواية إلى الأمام. وقد نال دِري حظه من البحث والتدقيق من قِبل نُقاد فرح، واعتبره الكثيرون أفضل شخوص فرح على الإطلاق. نُسجت شخصية دِري بشكل يُلقي الضوء على صفحات التاريخ الصومالي المتباينة: العرب، والمحتل الأوروبي، وديكتاتورية الجنرال. ويجسد دِري رحلات الرحيل والعودة المتكررة بين قصاصات التاريخ الصومالي في أُطر زمنية غير واضحة “وشعر دري بأن صدره على وشك الانفجار، كتم أنفاسه وانتظر متوترًا، متألمًا. وقد أصبح متأكدًا إلى حد ما أنه لم يحلم بوفاة مختار... لكنه لم يجرؤ على أن يطلب من أحد أن يفسر له الثقب الذي حدث في غٌربال ذاكرته. ماذا حدث؟ هل تعرض لهجوم عنيف؟” .

ضربات القلب المتلاحقة، وصعوبة التنفس، والتوتر الذي أصاب دِري غير منفصلين عن الغياب الذي عادة ما يغرق فيه، فأحيانًا نجده محلقًا في حالة بين الحلم والواقع، غير قادر على أن يحدد، بعد تعافيه منها، إذا كان ما رآه حلمًا أم حقيقة، وتقترن ذاكرته بالثقوب، وبالغُربال الذي تختفي الأشياء من بين ثناياه.  ويسيطر على دِري حالة من عدم التأكد من الأحداث حوله، ويفشل في تحديد مكان لهم في ذاكرته، أو خلق كيان مفهوم من حدوثهم. وتوضح الفقرة السابقة كيف أن دِري نفسه يتفاعل مع من حوله بطريقة لا تختلف كثيرًا عن ذاكرته، فدِري هو فكرة بلا مكان أو خط زمني أفقي، وهو أيضًا تجمعات من قصاصات مشوشة من الماضي، غير قادر على إدراك وجوده تمامًا في بعد زمني واضح.

نستخلص من هذا أن عصرنا يتميز بتساؤلات كثيرة حول مفهوم التاريخ، ومن يكتبه وإن كان هناك “حقيقة” تاريخية بالفعل وهل يروي المهمشون رمزيًّا بالفعل جوانب أغفلتها السرديات التاريخية؟ والخوض في هذه التساؤلات هو الخوض في الذاكرة الجماعية لدى مجموعة من الأفراد لنكتشف ما تحتفظ به أو تتخلص منه تلك الذاكرة مقارنةً بصفحات التاريخ الرسمية. فهؤلاء الذين يخشون النسيان، أو يعونه، أو من أرهقتهم أشباح التذكر أو من فشلوا في نسج ذاكراتهم في ماضٍ متجانس، هؤلاء جميعًا هم المهمشون رمزيًّا الذين يضعون التاريخ والذاكرة محل مقابلة والذين أيضًا بالتبعية يجعلون ارتباط الذاكرة بالـ trauma أو الصدمة في عصرنا الحديث أمرًا لا مفر منه. إن ما طرحناه من ثنائية التاريخ والذاكرة متمثلاً في آراء كيروين كلاين وتيم وودز ليس الطرح الوحيد من نوعه في مجالي التاريخ ودراسات الذاكرة. وأود أن نعطي أهمية لدلالات الطرح ذاته بغض النظر عن تفاصيله. فالطرح ذاته إن دل فإنما يدل على الروح ما بعد الحداثية التي تُسلط الضوء على الفرد وآلامه، وعلى طرح أسئلة أكثر من تقديم إجابات وحقائق عامة. وتهتم أيضًا ما بعد الحداثة بقصص المهمشين الغائبة عن التاريخ بما يسيطر عليه من نزعة مركزية أوروبية لا تعترف سوي بالتدوين، وهو أمر يغفل العديد من الحضارات غير الغربية التي تعتمد بشكل أساسي على ثقافة شفاهية.

وأرى أن افتراض وجود "ثنائية" أو "مقابلة" بين التاريخ والذاكرة هو اختزال لدلالات صعود سرديات الذاكرة في كونها رد فعل لتهميش فئات دون أخرى في الكتابات التاريخية. وقد يكون هذا صحيحًا بشكل جزئي ولكن الذاكرة ليست خطابًا بديلًا عن التاريخ، بل محاولة لإعادة هيكلة شكل ومضمون سرديات التاريخ التي تهتم بكل ما هو أفقي وعقلي. فالذاكرة من شأنها خلق مساحة للتجارب الفردية والجماعية، الوجداني منها والعقلي، ليدمجوا في سرديات التاريخ. ولعل ثلاثية نور الدين فرح من أفضل الأمثلة على ذلك، فمن الممكن أن نعتبر أن الذاكرة الجماعية المجسدة في الروايات الثلاث ليست نقيضًا للتاريخ بل سرديات لما أغفله التاريخ. لذا يمكننا القول إن الذاكرة تسمح للأفراد بشكل عام والمهمشين منهم بشكل خاص بالتعبيرعن المسكوت عنه أملاً في أن يُدمج في نسيج تاريخي لا تتحكم فيه علاقات السلطة. ويُعتبر ما كتبه فرح عن الصومال في النصف الثاني من القرن العشرين نموذجًا لحقيقة أن صدمة الفرد لا يمكن أن تبدأ وتنتهي عنده، بل تنصهر في نسيج صدمة جماعية تتدخل في جميع تجارب الحاضر ومدركات الماضي.