مراجعات

شيرين أبو النجا

ثورة ١٩١٩ في الأدب والسينما.. سياسات المحو ضد السردية الثورية

2021.08.01

ثورة ١٩١٩ في الأدب والسينما.. سياسات المحو ضد السردية الثورية

كانت انتفاضة 1919 الشعبية ضد الاحتلال البريطاني في مصر، التي غالبا ما يشار إليها أيضًا بثورة 1919، حدثًا بارزًا في التاريخ الحديث للبلاد، إذ لعبت دورًا كبيرًا في تنمية وعي مصر بنفسها كأمة، وفي تطوير المؤسسات السياسية التي جلبت هذا الوعي. وقد انتقل تأثيرها على المخيلة الوطنية من جيل إلى جيل، ولا يزال حيًّا إلى اليوم بعد مئة عام، ليس في كتب التاريخ وقاعات المحاضرات فقط، بل أيضًا في الساحة العامة الأوسع نطاقًا، وأبرزها ميدان التحرير الشهير في القاهرة طوال شهري يناير وفبراير 2011، الذي شهد إحياء الصور والشعارات التي استخدمت للمرة الأولى خلال عام 1919. "رشيد العناني".

يتصدر هذا التقديم الذي كتبه الأكاديمي والباحث المعروف الدكتور رشيد العناني، كتاب ثورة 1919 في الأدب والسينما لأستاذة الأدب العربي دينا حشمت. وقد صدر الكتاب في الأصل باللغة الإنجليزية عام 2020 من جامعة أدنبرة ضمن سلسلة الأدب العربي الحديث، والتي يشرف عليها الدكتور رشيد العناني. ثم نقلته المترجمة المحترفة شهرت العالم إلى العربية في 2021 وصدر عن دار الشروق بالتعاون مع الجامعة الأمريكية. وبالرغم من النبرة الأكاديمية للكتاب (لكنها ممتعة) والاقتباسات من نقاد وفلاسفة فإن الترجمة جاءت احترافية، قادرة على التواصل السلس مع القارئ العربي، متحرية الدقة في الأسماء والمصطلحات. يضم الكتاب تقديم رشيد العناني، ثم مقدمة وسبعة فصول وخاتمة وقائمة مراجع باللغتين العربية والإنجليزية.

وكما يضعنا استهلال العناني مباشرة في حضرة الذاكرة الجمعية ومفرداتها، التي تشكل الرؤية الجمعية للعالم، وكما يربط بين لحظتين ثوريتين يفصل بينهما أقل من مئة عام بقليل، حيث تحضر الأولى في الثانية، تبدأ حشمت مقدمتها بالمشهد الذي أثار تساؤلاتها وتحديدًا في 12 فبراير 2011. حينها بدأ الشباب في تنظيف الميدان بشكل محموم وإزالة (محو/ طمس/ دفن) الشعارات من على الجدران، والتي ظهرت منذ 25 يناير ليحل محلها شعارات نخبوية. مع الوقت تحول الميدان إلى مزار سياحي، وصار مكانًا ملائما لالتقاط الصور والسيلفي وعقد القران. بعصا سحرية اختفت كل مشاهد العنف من حكاية الميدان؛ فلا يتذكر أحد كل من فقدوا حياتهم برصاص القناصين ولا الطائرات التي حلقت على ارتفاع منخفض للغاية، ولا وقائع التحرش والاغتصاب أو تعذيب الشباب. تبقى من الميدان مشاهد التنظيف والتسامح الطبقي والأيديولوجي، وهي الصورة التي سعت المؤسسة جاهدة لترسيخها عبر كليبات الأغاني التي كانت تبث على مدار الساعة والصور والشعارات ومقالات الصحف الحكومية. لكن ما يجب أن نتذكره بوضوح هو تأثير خطاب القوى العالمية على صعود هذا الخطاب المُختزل شديد التبسيط لثورة 2011. فقد اختزل على سبيل المثال باراك أوباما كل المشهد في الخطاب الذي ألقاه يوم 11 فبراير بعد تنحي مبارك مباشرة، وأكد على كل تلك اللحظات السلمية والرومانسية التي صنعت اليوم التاريخي للمصريين، بل إنه قال حرفيًّا "اليوم نشهد التاريخ".

ومع حضور شعارات 1919 في 2011 وعبر تسليط الضوء على صور التوافق المسلم المسيحي في ميدان التحرير (الهلال والصليب)، إلا أن مصير 2011 لم يختلف عن مصير 1919 في التأطير الأحادي وطمس التعقيد الضروري لأي مسار ثوري. فتحول اعتصام الثمانية عشر يومًا في ميدان التحرير إلى دلالة على ثورة 2011، وتحولت اللحظة إلى مؤشر على خروج النساء للمشاركة في المجال العام. بشكل مماثل، تحولت التظاهرات التي اندلعت في مارس 1919 إثر قيام القوات البريطانية بنفي سعد زغلول إلى دلالة على ثورة 1919 وتم التركيز على التوافق المسلم والمسيحي، وخروج النساء للشوارع. وهو ما أدى كما تقول حشمت- "إلى إخفاء النضالات المتنوعة والمعقدة الكامنة وراء تلك اللحظة". انطلاقًا من هذا الاختزال أو بالأحرى التشويه والذي تسميه حشمت "سياسة المحو المنهجية" يتشكل السؤال الذي تنطلق منه الكاتبة في محاولة لتفسير الأسباب والعوامل التي بُنيت عليها إشكالية المحو للكثير من الطبقات كالعمال والفلاحين والفقراء، والعنف والفوضى، والانشقاقات.

وفي طرح مصطلحات مثل محو أو طمس أو اختزال فيما يتعلق بحدث ثوري لا يمكننا سوى أن نفكر في الكيفية التي تتشكل بها المخيلة والذاكرة الجمعية (والوطنية أيضًا). في أي حدث ثوري راديكالي تعمد الأنظمة مباشرة إلى التحكم في الذاكرة الجمعية (وهي تختلف عن الذاكرة الشخصية والفردية)، فتعمد على سبيل المثال إلى ترسيخ الاحتفال بيوم بعينه بشكل معين (30 يونيو و23 يوليو و6 أكتوبر)، وعام تلو الآخر يتم إضافة قصص لهذا الحدث (اللحظة) أو إخفاء بعض مفرداته. يتجلى الصراع المكتوم في القدرة على كتابة التاريخ: من منظور من؟ ولصالح من؟ هكذا يتحول الحدث الثوري إلى سردية تتوارثها الأجيال عبر الحكي الشفاهي، وعبر كتب التاريخ المدرسية (المليئة بالكوارث) وعبر السينما والفنون والأدب، ولكن ليس أي عمل أدبي بالطبع، بل ما يعتمد مؤسسيًّا أو ما تترجمه شُهرت العالم "الأدب المُقر"، أي الذي يقر كعمل معترف به من قبل النقاد والقراء حتى يحصل على مكانة راسخة في التاريخ الأدبي ويتعاظم رأسماله الرمزي.

وفي سعيها لكشف المسكوت عنه في السردية المستقرة لثورة 1919، تتناول حشمت العديد من الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والأفلام التي صدرت بين عام 1923 في أعقاب ثورة 1919 مباشرة وعام 2014 في أعقاب ثورة 2011. ومن وجهة نظري فإن الاختيار الزمني لهذه النصوص والأفلام يعتبر في حد ذاته جزءًا من المنهج الذي اختارته الكاتبة للوصول إلى تفسير لسياسات المحو المنهجية. فالهدف الرئيسي هو فهم الكيفية التي يساهم بها السياق السياسي والتاريخي في تقديم سردية 1919 وذلك من أجل تسليط الضوء "على عمليات التذكر والنسيان التي أسهمت في تشكيل [ما أسميه] المخيلة المهيمنة حول 1919، والتي صاغتها النخب السياسية والثقافية المتعاقبة.

يُضاف إلى المنهج الزمني أيضًا الاختيار المحدد للنصوص التي يتضمنها الكتاب. إذ لا يمكن فهم الكيفية التي تعمل بها المخيلة المهيمنة والتي تظهر في النصوص المقرة مثل "عودة الروح" لتوفيق الحكيم و"بين القصرين" لنجيب محفوظ دون قراءة نصوص مهمشة -لأنها لا تعزز الخطاب المهيمن - تناولت نفس اللحظة الثورية بكل خيبة أملها وتعقيداتها، مثل مسرحيتي أمين صدقي "الانتخابات" (1923) و"امبراطورية زفتي"(1924)، حتى إن تلك الأخيرة مخطوطة غير منشورة. إلا أن الاختيار لم يرتكز فقط على النص المعترف به والآخر المهمش، بل عمدت الكاتبة إلى توضيح استراتيجيات الإقصاء والاحتواء عبر قراءة الكيفية التي تقدم بها الذات نفسها في جنس السيرة الذاتية، فاختارت على سبيل المثال رواية" الضاحك الباكي" (1933)، لفكري أباظة والتي توضح موقع الأفندي المتميز المنتمي للطبقة الوسطى وموقفه من "الغوغاء" (كل من لا ينتمي لطبقة الأفندية) وهو ما يفسر الخوف من الغوغاء الذي استمر حتى 2011. لكن ما يلفت النظر حقيقة هو الكيفية التي تم بها إعادة كتابة التاريخ في أعقاب ثورة 2011 وهي الإشكالية التي يتناولها الفصل الأخير في الكتاب الذي يقدم قراءة في مسرحية "هوى الحرية" لليلى سليمان (2014) ورواية 1919 لأحمد مراد (2014). يحمل العملان الشعور بالهزيمة والمرارة، لكن من الواضح أن سليمان تعمد إلى مسرحة تشظي الأحداث والذاكرة بما يجعلها تتنقل بين 1919 و2011 رغبة في الربط والفهم والتذكر، وهو ما يجعل المسرحية تعمل كأرشيف مضاد لأرشيف الدولة. أما مراد فيحول"الماضي إلى عرض" متوجهًا إلى جمهوره من الطبقة الوسطى فيقدم لهم الماضي من وجهة نظر الحاضر السياسية (لا غرابة في وصوله إلى ما يسمى البست سلر). بالفعل كما يؤكد فالتر بنيامين "كل حاضر يخترع ماضيه الخاص". 

أما الرؤية النظرية المنهجية التي انطلقت منها حشمت في التحليل (أي القراءة) والتساؤلات (لماذا الإقصاء) والفرضيات القائمة على أن الماضي الكامن في أي سردية هو "إعادة بناء وليس استعادة سلسلة من الأحداث" فهي مبنية على أفكار هايدن وايت الذي يوضح الكيفية التي يتم تحويل أحداث التاريخ بها إلى قصة، وأفكار فالتر بنيامين الذي يؤكد أن "كل صورة من الماضي لا يعترف بها الحاضر كأحد اهتمامًاته، تهدد بالاختفاء بشكل لا رجعة فيه". ويُضاف أيضًا بول ريكور الذي تناول علاقة التذكر والنسيان بالسرد فيرى أنه "يمكن أدلجة الذاكرة عن طريق إمكانيات التعديل التي توفرها عملية السرد... بمقدور المرء دائمًا أن يروي بشكل مختلف، من خلال الحذف، ومن خلال تحويل المنظور، ومن خلال تغيير دور الأبطال العمل في ضوء مختلف، جنبًا إلى جنب مع خطوط العمل العريضة" . وهذا هو تحديدًا ما تقوم به الكاتبة في تحليل النصوص مرتكزة على تتبع ديناميات الطبقة والجندر، بمعنى تتبع هيمنة الطبقة الوسطى (الأفندية) على الثورة المنظمة السلمية الحضارية مع التهميش الذي وقع لكل الأصوات الأخرى وبالطبع يتضمن التهميش مسألة الجندر طالما أنه لا يتوافق مع صورة أم المصريين وهي صفية زغلول. ربما كان عامل الجندر يتحمل أكثر مما جاء في الكتاب لكن ما تم تقديمه يعكس نفس ما حدث مع التهميش الطبقي.

لم يكن من الممكن اكتشاف ما تم محوه من السرديات السائدة دون العودة إلى الأرشيف بكل صوره، ومن الواضح أن دينا حشمت بذلت مجهودًا علميًّا مضنيًا للوصول إلى ما هو مسموح للباحثين الاطلاع عليه في الأرشيف. يظهر ذلك بوضوح في متن التحليل، لكن هوامش كل فصل تُعد في حد ذاتها بمثابة جزء رئيسي من المتن وليس مجرد توثيق مراجع واستشهادات، كما أن تضمين الكتاب واستفادته لكل الدراسات السابقة يشير إلى وعي الباحثة المتقد بما وصل إليه المجال، ويؤكد قناعتها التي أعلنتها في البداية أن الأدب والسينما هما الموقع الذي يمكن فيه فهم سياسات المحو التي شكلت المخيلة المهيمنة والذاكرة الجمعية عن ثورة 1919. كما أنها تحرص على إبقاء المجال مفتوحًا للمزيد من الدراسات المستقبلية حول ثراء ما حدث بين 1918 و1923 "فمن المأمول أن تفتح الجهود الجماعية الحالية الباب أما عملية أكثر تعددية لتذكر ثورة تم اختزالها على مدى قرن من الزمان إلى عدد قليل من الصور والشعارات الأيقونية.