عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919

حسام أحمد عبد الظاهر

ثورة 1919 في أيامها الأولى بالقاهرة.. قراءة في مذكرات الشيخ محمد الخضري

2019.05.01

ثورة 1919 في أيامها الأولى بالقاهرة.. قراءة في مذكرات الشيخ محمد الخضري

لم يقتصر الاهتمام بثورة 1919م – التي فاجأ بها الشعب المصري الجميع آنذاك – على مؤرخي التاريخ الحديث وباحثيه وحدهم، بل إنّ صداها، وروحها العالية، وما أحدثته في الشخصية المصرية من نتائج بارزة على كافة المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية دفع بعض إخوانهم في التخصصات التاريخية الأخرى إلى الاهتمام بها والكتابة فيها، وهو ما نراه –على سبيل المثال– في كتاب (دراسات في ثورة 1919)للدكتور حسين مؤنس (1911-1996م) صاحب الدراسات المهمة في التاريخ الإسلامي، وهذا الأمر لم يقتصر على المساهمة في البحث التاريخي حول الثورة، بل ساهم فيه مؤرخون في حقل التاريخ الإسلامي بصفتهم –هذه المرة– شهود عيان شاركوا في ثورة 1919، ومن أهم نماذج هذا الفريق اثنان من روّاد دراسات التاريخ الإسلامي الذين عملوا في تدريسه بالجامعة المصرية القديمة، وأقصد بهم الشيخين محمد الخضري (1872-1927م)، وعبد الوهاب النجار (1862-1941م)، وفي هذه المقالة سأتطرق إلى إسهام الشيخ الخضري في هذا الصدد. 

أولًا- محمد الخضري ومذكراته

هو محمد الخضري بن عفيفي الباجوري من العلماء بالأدب، والشريعة، والتاريخ الإسلامي تخرج بـ «مدرسة دار العلوم»، ثم عمل بالتدريس في بعض المدارس، وعيِّن قاضيًا شرعيًّا، ومدرسًا في «كلية غوردون» بالسودان، ثم مدرّسًا في «مدرسة القضاء الشرعي» بالقاهرة، فوكيلًا لها، ثم مفتشًا بوزارة المعارف، وقد تَتلْمذ الخضري على يد الإمام محمد عبده (1849-1905م) أثناء إلقائه محاضراته التاريخية في دار العلوم، وأَبْرزَ مصطفى صادق الرافعي (1881-1937م) الأثر الكبير لهذه التَّلمذة بقوله: «ما كان الخضري شيئًا قبل أن يتعلق بمدار ذلك النجم الإنساني العظيم، الذي أهدته السماء إلى الأرض، وسُمّي في أسمائها: محمد عبده... فكيف تأملت الخضري فاعلم أنك بإزاء معنى من معاني الشيخ محمد عبده». 

وكانت لكتابات الخضري العديدة في تاريـخ الإسلام دورُهـا في اختياره مدرّسًا للتاريخ الإسلامي في الجامعة المصرية، خلال الفتـرة (1910-1917م) .

ومـن أشهـر مؤلفاته التـاريخيـة: (نـور اليقيـن في سيرة سيد المرسليـن)، و(محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية)، ومن مؤلفاته أيضًا مذكراته التي نَشَرتْ بعضَها جريدةُ البلاغ، الناطقة بلسان حزب الوفد، تحت عنوان: (مذكرات الخضري بك عن الثورة المصرية في سنة 1919)، وذلك عبر ست حَلَقات في الأعداد من 3131 إلى 3136 خلال الفترة من: الخميس 8 إلى الثلاثاء 13 من شهر يونيو سنة 1933م، وقد هدفت الجريدة من نشر المذكرات أن يجعل القراء، وكُتّاب التاريخ منها «سندًا تاريخيًّا يرجعون إليه في فهم الحوادث، وتحقيق تطوراتها». 

وقد ذكرت الجريدة عن المذكرات أنها: «ليست تسجيلًا للحوادث يومًا فيومًا، بل هي بحوث على النسق الذي يكتب به المؤرخ، وهي تبدأ بذكر حوادث مصر من يوم الاحتلال في سنة 1882م، على أن يكون ذلك تمهيدًا موجزًا لما يليه من تاريخ الثورة، ولكن الكراريس التي بين يدينا للمؤلف ثمانية، منها: سبعة استغرقت تاريخ الاحتلال، والثامن –هو وحده – الذي شرع يكتب فيه تاريخ الثورة، وهو لم يكتب هذا الكرَّاس الثامن كله بل كتب حوالي نصفه في منشأ الثورة، وفي أن الطلبة كانوا أول من حمل علمها، وفي إضراب المحامين، ثم تابع الكتابة في أوراق منثورة في إضراب الموظفين، ثم وقفت الكتابة عند هذا الحد.

فهذا الذي كتبه في كراسِه الثامن في الثورة وفي الأوراق المنثورة هو الذي نبدأ من غدٍ بنشره».

وليس أمامنا –مع عدم النشر الكامل لمذكرات الخضري– إلا محاولة تحليل المعلومات الضئيلة السابقة، بجانب القدر المنشور منها؛ للخروج بالنتائج الآتية:

1 - أن كتاب الخضري يجمع بين الصبغة الذاتية التسجيلية للمذكرات، والصبغة البحثية التحليلية التي عُرف بها الخضري في كتاباته الأخرى.

2 - لم يكن كتاب الخضري خاصًا بالثورة وحدها، بل شمل قسمًا تفصيليًا يضم تأريخًا لمصر في ظل الاحتلال الإنجليزي منذ سنة 1882م حتى ثورة 1919، وذلك باعتبار هذا التأريخ هو التمهيد للثورة الواجب تفصيله قبل الشروع في الحديث عن الثورة ذاتها، ومن بين عناصر هذا القسم الحديث عما يتعلق بأحوال فئات الشعب المصري المختلفة في ظل الاحتلال الإنجليزي، وهو ما تُبيّنه إشارةُ الخضري التي قال فيها: “الحال التي أصبحت عليها الأمة – وبيَّنّاها فيما مضى– جعلت أكثر النفوس مُشرَبة كراهة الإنجليز”، وقوله: “بيَّنا فيما سبق ما آل إليه حال الموظف المصري في ظل الحكم الإنجليزي من الضعف، والاستسلام”. 

3 - يُمكن من خلال الأوراق المنشورة استنتاج بداية تقريبية لشروع الخضري في تبييض مذكراته؛ إذ إنّ ما ذكره في الحلقة الأولى المنشورة من صيغة (المرحوم) مقترنةً باسم علي شعراوي يُفيد أنه قام بكتابة مذكراته بعد وفاة علي شعراوي سنة 1922م، أي بعد ثلاث سنوات على الأقل من بداية حوادث الثورة، ومن المعروف أنّ سنة 1922م تُعتبر – وفقًا لما يراه غالبية الدارسين– نهاية ثورة 1919 بتحقيق الاستقلال، وإن كان ناقصًا، وهو المطلب الأساسي للثورة، باعتبارها ثورة سياسية بالدرجة الأولى. 

4 - وجود أوراق منفصلة في الكراسة الثامنة، وهي تابعة لها، تدل على أنها ربَّما كانت ما يشبه المسوّدات التي كان الخضري يزمع تبييضها داخل الكراسة بعد ذلك، أي أنّ الكرَّاسَات الثمان كانت تمثّل المرحلة الأخيرة في كتابة الخضري لمذكراته، وأن الأجل لَم يُمهِلُه لاستكمال ذلك.

5 - لعل تفسير عدم اكتمال المذكّرات يرجع إلى أن الخضري نفسه توفي بعد سنوات قليلة من بدايته في الكتابة؛ إذ إنه توفي في العام نفسه الذي توفي فيه زعيم الثورة “سعد زغلول باشا”، أقصد سنة 1927م.

6 - ذكرت جريدة البلاغ أنّ الكراسة الثامنة التي ستنشرها هي الخاصة –وحدها– بحوادث الثورة، وكان عنوان هذه الكراسة: (الفصل الثاني: أيام الثورة في يوم السبت 8 مارس سنة 1919 إلى 7 أبريل سنة 1919)؛ إذن السؤال: هل هذا يعني أن الفصل الأول هو مجموع الكراسات السبعة المفقودة؟ أرى أنه لا يمكن القول بهذا؛ لأننا إذا حاولنا تقدير صفحات هذه الكراسات سنجدها بالضخامة التي لا تجعل اعتبارها فصلًا واحدًا أمرًا يتماشى مع المنطق؛ وتفصيل ذلك أننا إذا أخذنا الكراسة الثامنة –المنشورة أساسًا للفهم– سنجد عدد صفحاتها المكتوبة على الحاسب ستبلغ 22 صفحة، ومعنى ذلك أن الكراسات السبع الأولى ستبلغ 22 مضروبة في 7 أي: ستساوي 154 صفحة، وهو ما لا يمكن تصوره كعدد لصفحات فصلٍ واحد، ولكن ما هو مضمون الفصل الأول إذن؟ أُرجّح أنه يتضمن الحديثَ عن الفترة من: نوفمبر 1918 إلى مارس1919م، أي من مقابلة سعد وصحبه للمعتمد الإنجليزي إلى حادثة النفي التي أحدثت الشرارة الأولى في الثورة، وأكّدت جريدة البلاغ على ذلك قبل بداية نشرها لمذكرات الخضري بشهرين ونصف تقريبًا؛ إذ قالت: “وجدنا البرنامج الذي رَسَمه الشيخ الخضري لمذكراته يبتدئ بتاريخ مصر منذ سنة 1882- أي منذ الاحتلال- مع عقد العزم على الإفاضة في سرد الحوادث منذ 18 نوفمبر سنة 1918”.

7 - انتظام الكراسة الثامنة للفصل الثاني يدل على أن كل كراسة كانت تشتمل على فصل، وبالتالي فإن ما يتفق مع ما سبق بيانه هو أن نُرجّح أنّ الأوراق التي وصلت للجريدة لم تكن كتابًا واحدًا بل كتابين، وأن الخضري قام في كتابه باتباع واحدة من طريقتين ارتضاهما في تأليفه لبعض كتبه الأخرى، وهما:

طريقة تقسيم الكتاب الواحد إلى قسمَيْن كبيرَيْن، وهي طريقة اتبعها الخضري في كتابه: (إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء)، وبناء على ذلك يكون تقسيمه لكتابه إلى قسمين: قسم عن الاحتلال الإنجليزي لمصر منذ سنة 1882م، وأوضاع مصر في ظلِّه، وقسم آخر عن ثورة 1919.

طريقة تقسيم الكتاب الواحد إلى عدة كتب داخلية، وهي طريقة معروفة في حركة التأليف العربي، واتبعها الخضري نفسه في كتابه: (أصول الفقه) الذي قسَّمه إلى أربعة كتب. 

وأيًا كان التقسيم الذي اتبعه الخضري في كتابه فإني أُرجّح أن كلّ قسمٍ، أو كتاب داخلي انتظم في ستة فصول، ليس بين أيدينا مِنْ بينِها سوى ما نشرَتْه جريدة البلاغ ممثلًا في الفصل الثاني من القسم– أو الكتاب الثاني. 

ولمّا كانت أوراق الخضري هي مذكرات شخصية من نَمَط خاص فإنها –بطبيعة الحال– لم يغِبْ عنها بين حين وآخر النصُّ صراحة على مشاركات كاتبها ومشاهداته لحوادث الثورة منذ بداياتها الأولى، وهذا يبينه حديثه عن شهوده أول شرارة في الثورة، يقول: “في الساعة السابعة من مساء يوم السبت 8 مارس سنة 1919م عقب خروج سعد زغلول باشا من بيته زرتُ بيته، فوجدتُهُ قد امتلأ بالشبّان المصريين، وآثار التهيُّج بادية على وجوههم؛ تخرج من أفواههم الكلمة بعد الكلمة معبّرة عما انطوت عليه جوانحهم من الآلام ذلك؛ لأن لسانهم والمترجم عمّا في أنفسهم، والمدافع عن حقهم في الحياة قد قبضت عليه السلطة الإنجليزية ظلمًا، وعدوانًا”. 

ويبدو أن ما دفع الخضري إلى كتابة مذكراته يرتبط بمثلث ضلعه الأول: الناحية الوطنية باعتباره مصريًا مُحبًا لوطنه شديد الاعتزاز به، وضلعه الثاني: الناحية التاريخية باعتباره مؤرّخًا مُدركًا لأهمية تقديم شهادته حول الثورة، وضلعه الثالث: الناحية الوظيفية باعتباره موظفًا، أو مدرّسًا في مدرسة القضاء الشرعي إبان اشتعال ثورة 1919م، وهي الوظيفة التي أتاحت له احتكاكًا مباشرًا بعنصرين من أكبر عناصر الثورة، أقصد بهم الطلبة، والموظفين.

والملاحَظ في هذا السياق أن الفكرة العامة للمنشور من مذكرات الخضري تدور حول الحديث عن العناصر التي كان لها أكبر الأثر في اشتعال ثورة 1919م، مُتخللًا ذلك الحديث عن الإضراب العام في القاهرة، التي كانت المدينة التي شهدت ردَّ الفعل الأول في الثورة، وما نتج عن ذلك من تنظيم المظاهرات.

ثانيًا- الطلبة والإضراب

بالنسبة للعنصر الأول، وهو أحد القوى الوطنية المثقفة، يروي الخضري تجربة حية له من داخل مدرسة القضاء الشرعي التي كان يعمل مدرّسًا بها آنذاك، وكان لديه درسٌ في الفقه في أول أيام ثورة 1919 أي يوم الأحد 9 مارس، يقول: “توجهت إلى المدرسة فلم أكد أمْثُل بين يدي الطلبة لإلقاء درس الفقه حتى رأيت منهم نفورًا عن استماع الدرس، وشرعوا يتكلًَّمون في مصاب الأمس، ولا يَدرُون ماذا سيفعله الإنجليز بسعد باشا، وهذا أول يوم رأيت فيه الطلبة مُجمِعين على تمجيد سعد باشا، والغضب له فإنهم كانوا قبل ذلك –كسائر الناس– فريقين؛ فريق يميل إلى الحزب الوطني فأوقع في قلوبهم الوساوس من جهة الوفد المصري، وفريق يثق ثقة تامة بالوفد، وكنتُ أعرف من الطلبة لكل فريق لسانًا يُدلي بحجته، أما اليوم فقد صاروا جميعًا سعديّين”. ومن ذلك يُفهَم التعاطف الشديد للخضري ناحية سعد، وإن شئت فقُل: ميولُه الوفدية، واتهامه لخصومه بأنهم كانوا على خطأ في فهمه، وهو الأمر الذي كشفته الحوادث مما أدّى إلى التضامن الشعبي زمن الثورة.

ويرصد الخضري نشأة فكـرة “الإضراب” لدى الطلبة، وتناميها خطـوة بخطوة بصفته شاهد عيان عليها، مُشيرًا إلى أنه كان في بداية الأمر متحفظًا حول فكرة “إضراب الطلبة”، ولم يكن ممن يدعون إليه؛ لأنه كان متخوّفًا أن تفترق كلمة الطلاب في المدارس من أجله، فيكون شرًا.

ولم يكن رفضه للإضراب مُطلقًا بل مقيدًا ببعض التساؤلات، وهي: “هل فكرة الإضراب في المدارس كلها؟ وهل إذا حصل الإضراب يستمر أو يكون رهبة لا تلبث أن تقر؟”، وقد رد عليه ذوو التأثير، والكلمة من الطلاب بأن فكرة الإضراب شائعة بين جميع الطلبة، وأنهم مصمِّمُون على الإضراب حتى يضطروا السلطة الإنجليزية إلى الإفراج عن سعد باشا، ومن معه، وكانوا يقولون “ماذا نستفيد من هذه الدروس وحياة البلد مهددة”، وأمام ذلك لم يكن أمام الخضري إلا احترام هذا الشعور، وهو ما دفعه بالتالي إلى التقدير الكامل لما هُمْ فيه، ويقول: إنه تأثر بهؤلاء الشباب الذين نشأوا ملتهبين بنار الغيرة، والحَمِيّة القومية، أي أن حماسة الشباب، وقوتها الدافعة جعلته على يقين بأن هذا الأمر له ما وراءه، وأنه لن يقف فقط عند حدّ إيقاف الدروس.

غير أن الخضري – بشخصيته المتحفظة – ظلّ على وجَلِه من فكرة الإضراب على الرغم من أنها صارت حديث المعلمين – كما يقول–: حيث يجتمعون بعد الانتهاء من الدروس، ولما دخل الخضري قاعة الدرس مرَّة أخرى كانت كُرَة اللهب قد سارت شوطًا آخر، يقول: “دخلت على الطلاب في الدرس الثالث، فرأيت فكرة الإضراب قويت، ولم أَرَ من بينهم من يُعارض فيها”.

وهكذا انتقلت فكرة الإضراب من الخصوص إلى العموم، الأمر الذي جعل الخُضري يُفصِح عن المخاوف التي تنتابه منها، فتحدث مع الطلبة حديث الوالد، أو المُعلّم ذاكرًا لهم أنه يخاف “مِن أنْ تستفيد السلطة من هذا الإضراب إذا هبَّ وانقطع؛ لأنّه يكون مقويًا لحجة خصوم المصريين الذين يقولون: إن لهم هبَّات تَعقُبُها سَكَنَات فلا خوف منهم على حال”. غير أنَّ مخاوف الخضري هذه تبدَّدَت أمام الإصرار الشديد الذي أبداه الطلبة الذين أفصحوا على نحوٍ جلي عن أنهم “عازمون أن يستمروا في إضرابهم إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا”.

وما أن انتهت الحصة الرابعة حتى اجتمع الطلاب في فناء مدرستهم، وبلغهم أن المدارس الأخرى قد هجروا مدارسهم هم أيضًا؛ ومن هنا اتفقت رؤاهم جميعًا، وخرجوا جميعًا من المدرسة.

وإذا أخذنا ما حَدَث في مدرسة القضاء الشرعي – وفقًا لما يرويه الخضري، ولا نجده في المصادر الأخرى مُفصلًا على هذا النحو– حالة أو عيّنة على ما حدث في المدارس الأخـرى سنجد أن فـكرة الإضراب لدى طلبـة المدارس مرَّت بمراحل أربع، وصلت إلى ذروتها في النهاية بالتحامها مع فكرة أخرى هي التظاهر:

المرحلة الأولى: النفور من تلقي الدروس، والانشغال بالحديث عن الجُرْم الذي اقترفه الإنجليز في حق بعض زعماء الأمة.

المرحلة الثانية: وحدة الموقف، وتغير الرأي ناحية سعد زغلول عما قبل ذلك، إذ كان في الطلبة من يَمِيل لرأي الحزب الوطني، ومنهم من يثق في الوفد، أمّا بعد نفي سعد، وصحبه فإنهم – وفقًا لتعبير الخضري– “صاروا جميعًا سعديين”.

المرحلة الثالثة: الحديث المتصاعد عن الإضراب –على الرغم أنهم لازالوا في قاعات الدرس في المدرسة– بدأ هذا الحديث همسًا عن جدوى الإضراب، ثم تطوّر إلى المناقشة حوله بين الطلاب بعضهم البعض من ناحية، وبينهم وبين المدرّسين من ناحية ثانية، وترتب على هذه المناقشات شيوع الفكرة شيوعًا كبيرًا بين الطلبة، ثم تصميمهم وإصرارهم عليها.

المرحلة الرابعة: تناقل الأخبار عن تحقق فكرة “الإضراب” في المدارس الأخرى؛ مما مثّل دافعًا قويًّا لدى الطلبة، وقطع السبيل أمام أي تفكير آخر في التراجع عما اعتزموه من الإضراب عن الدراسة، وسعيهم إلى الالتقاء مع إخوانهم الآخرين من طلبة المدارس المختلفة.

لقد كان الوضع أشبه بالتدافع، والحلقات المتسلِّسِلة التي يأخذ بعضها ببعض للتوصل إلى النتيجة الحتمية من الخروج إلى الشارع، والتلاحم بين طلاب المدارس والتظاهر، ولم تكن الحالة بعيدًا عن ذلك في كافة المدارس الأخرى.

وإذا كان طلاب مدرسة (القضاء الشرعي)، وُوجِهوا ببعض المخاوف الوطنية من قِبَل مدرسيهم فإن مخاوف من نوع آخر وُوجه بها طلبة (مدرسة الحقوق)، ولكنها لم تكن وطنية هذه المرة، لقد كانت مخاوف تصب في صالح المحتل الإنجليزي.

ذكر الخضري أنه لمّا عزم طلبة الحقوق على القيام بإضرابهم عن الدراسة حاول ناظرها أن يُقنعهم بالعدول عن فكرتهم فأبوا، ثم استدعى لهم “مستر إيموس” نائب المستشار القضائي الذي قال لهم: إنه كان ناظرًا لهذه المدرسة سنة 1915م فاعتصم الطلبة يوم أن زار السلطان حسين كامل المدرسة، وكانت النتيجة أن رُفت جمعٌ منهم، وعوقب آخرون. أي أن الأمر هنا تحوّل إلى تخويف للطلبة من الآثار السلبية التي يمكن أن تلحق بهم من عقوبات، أو فصْلٍ من المدرسة، وأنّ لهم – أي: فيما حدث قبل ذلك بأربع سنوات في مدرستهم – عظةً وعبرة. غير أن موقف الطلبة كان قويًّا، ولما حاول إيموس أن يُثنيهم عن ذلك بقوله: “استشيروا آباءكم قبل أن تُقدِمُوا على ما تُريدون” ردّوا عليه قائلين: “إن آباءنا الذين كنّا نستشيرهم حبستموهم، ونحن لا ندرس القانون في بلد يُدَاس فيه القانون”.

وتتبع الخضري بعد ذلك تنامي روح “الإضراب” في كافة المدارس، وسريانه كالنار في الهشيم. 

ويقول عن طلبة الحقوق –بعد خروجهم من مدرستهم–: “مرّوا أمام مدرسة الهندسة، ومدرسة الزراعة اللتين بالجيزة، فخرج إليهم طلبة المدرستين، والجميع يهتفون لمصرَ أمِّهم، ولسعد زغلول باشا ممثل الأمة المصرية”، وعند مرور الطلاب على مدرسة الطب حاول ناظرها أن يَحُول بينهم وبين تلامذته؛ فأهين، وأُسقط إلى الأرض، وكادت ذراعه تنكسر، وخرجت الطلبة، وتلَا ذلك انضمام طلبة مدرسة التجارة. 

ويلفت الانتباه هنا حرص الخضري على ذكر الترتيب الزمني لخروج طلبة المدارس وفقًا لما سبق، ثم يقول بعد ذلك: “وفي هذا الوقت خرج طلبة مدرسة القضاء الشرعي، وعلى أثرهم طلبة مدرسة دار العلوم”؛ ويُلاحَظ في ترتيب المدارس ملاحظتان:

أولاهما: أن البدء بطلبة مدرسة الحقوق أمرٌ له تبريره فيما يذكره الخضري في موطن آخر من مذكراته، وهو أن المحامين كانوا هم أصحاب الفكر في مسألة “الإضراب”؛ الذين باتصالهم ببعض الطلبة انتقلت الفكرة من طور الكلام إلى طور الحَدَث الفعلي، ومَن مِن الطلبة سيكون على اتصال بالمحامين سوى طلبة مدرسة الحقوق.

وثانيتهما: ترتيب الطلاب – على النحو السابق الذي أورده الخضري– يدل على أنّ مَن جاء بعد طلبة الحقوق كانوا من المدارس العَمَليّة (هندسة- طب.. إلخ) التي يكون في طبيعتها العِلمِيّة، والعَمَلية – أكثر من غيرها – التطوير، والتجديد، والتغيير للأمور بحلول منظمة رافضة للركود والثبات، ثم أتى بعدهم أصحاب التخصُّصات التي تُضفي على طلابها صفات التحفظ والتأني (مدرسة القضاء الشرعي – دار العلوم).

وفي هذا السياق ينوّه الخضري بمشاركة طلاب المدارس الثانوية أيضًا، وهو الأمر الذي عظَّم من حشد التظاهر في اليوم الأول من أيام الثورة حتى وصل إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف، ويُبين الخضري حوادث مظاهرات اليوم الأول مُلخصًا لها بقوله: “كان فعلُهم في ذلك اليوم قاصرًا على مغادرتهم مدارسهم، والتّجَمْهُر والهُتَاف بما انطوت عليه جوانحهم يريدون إعلانه لهذه القوة المستبدة فيهم حتى تتنبّه لِمَا فعلت، وتشعر بخطر المستقبل”.

ويُستنتج من أوراق الخضري أن تصرفات الإنجليز بمساعدة بعض رجال الشرطة المصريين أدَّت إلى سكْبِ الزيت على النار المشتعلة؛ فبعد القبْض على بعض الطلبة المتظاهرين، واقتيادهم حَدَثَ – ما يَحدُثُ غالبًا– من صَلَفِ العَسْكَر؛ فبينما هم سائرون عند قنطرة الذي كفر دَاسَ حصانُ رجلٍ تلميذًا، فنُبِّهَ العَسكريُّ إلى أنه لا بد أن يحترس، فلم يكن منه إلا أن ضرب الطالب، فلمّا رأى ذلك إخوانُه انهالوا على العسكريّ ضربًا.

وشاهد آخر على ذلك؛ يترجمه تصرفات الشرطة مع التجمعات الشعبية، وكجميع تجمعات المظاهرات، والانتفاضات، والثورات فإنها تضم أخلاطًا شتّى ليس شرطًا أن تكون الثورة هي قِبْلَتُهم، أو هدفهم جميعًا من التجمُّع، والاصطفاف في صفوف المتظاهرين، والثائرين، وهذا الأمر يدل عليه رصد الخضري لعناصر المتجمعين في “ميدان بَاب الخَلْقِ” في اليوم الأول للثورة؛ فيقول: إن الميدان كان غاصًّا “بصغار التلاميذ، والمارّة، وعابري السبيل، والمتفرجين والسائلين، والباحثين من شتى الخلائق”، أي أنه كانت هناك ستة عناصر لا صلة لها بالمظاهرات، ولكن الفُضُول هو الذي دفعهم إلى التجمع. 

غير أن تعامل السلطة مع هذه التجمعات أدى إلى انضمام الكثيرين منهم إلى صفوف الثائرين؛ إذ قامت الشرطة بقيادة ضابط اسمه “حيدر”بالمواجهة العنيفة لهذا التجمع، وأن هذا الضابط كان يهجم، ومعه جنود مُسلّحون بالهِرَاوي “فيضعونها في الناس، ويلهبونهم بها حتى إذا ما قضوا حاجة في أنفسهم، وأنفس ضباطهم عادوا إلى موقفهم، ثم يوجههم إلى جهة أخرى، والناس لا ملجأ لهم، ولا منجى من هذا الموقف الحَرِج، والمأزق الذي لا مَهْرَب منه، وقد ظلّ الأمر على ذلك عدة ساعات”.

والشاهد الثالث على ذلك؛ ما حدث يوم السبت 15 مارس من قيام رجال البوليس بضرب الأطفال في الشارع القريب من المحكمة الشرعية بالعيارات النارية المملوءة بالرش، والبارود في أَرجُلِهم، وقد أصيب منهم بذلك نحو اثنى عشر طفلًا. 

والنتيجة العامة التي ترتبت على هذا الفهم، والسلوك الشرطي الخاطئ تمثلت في أمرين:

أولاهما: الانضمام الفعلي لكثير من هؤلاء المتجمعين إلى صفوف المتظاهرين.

وثانيهما: انتقال التظاهر من الناحية السلمية إلى الناحية غير السلمية، والتي ترجمتها ما ذكره الخضري؛ تفسيرًا لقيام البعض بإتلاف المصابيح في “شارع محمد علي” إذ قال: “ما مبلغ ثورة الطلاب. هل عندهم من القوة ما يُلجئ ظالمًا إلى فعل ما يرغبون؟ ولكن الإنسان إذا استولى عليه الغضب بعثه على الانتقام مما في الكون من الأشياء، فيعمد إلى إتلاف ما يراه أمامه حتى لو كان له” . 

ثالثًا- إضراب المحامين

قام الخضري بترتيب عناصر الاشتراك في الإضراب ترتيبًا زمنيًا، فبدأ بالطلبة، ثم المحامين، ويُقدم الخضري – في هذا السياق– ملاحظة ذكية تربط بين العنصرين معًا؛ إذ يذكر بأن الداعين إلى الإضراب من المحامين كانوا من “الطبقة القريبة في السن من الطلبة”، كما أنه يَرصد مَلمَحًا آخر خاصًّا بالمحامين، وهو: “أنهم، وإن تأخروا عن الطلبة في البدء سابقون عليهم في الفكر”. والخضري يُفرّق هنا بين بداية الفكرية النظرية، والفكر، وبداية التطبيق العملي، راصدًا بذلك لحظة الالتقاء بينهما المتمثلة في أنه: “كان هناك اتصال كبير بين شبيبة المحامين، ورؤوس الطلبة فأُشْرِبَ هؤلاء من معنى الاستياء ما زاد على ما عندهم، وأعدهم؛ ليكونوا في الطليعة”، أي أن المنطقة المتاخمة، واللحظة الفاصلة في الالتقاء بين الجانبين النظري والتطبيقي هي الأداة الحاسمة الموجِّهة للفعل التاريخي المتمثل في الإضراب الذي يُعتبر أول مظاهر ثورة 1919.

وتأكيد الخضري على عنصر الشباب في كل من فئتي: الطلبة والمحامين أمر له دلالته في فهم سياق آخر، عبّر عنه قليلٌ من المحامين، ولكنهم من الكبار هذه المرة، وهم من يصفهم الخضري بقوله: “في المحامين فريقٌ شاخت عزائمُهم لما ورد على أسماعهم، وأبصارهم من الحوادث الجِسَام التي أفهمتهم أن كلَّ نضالٍ مع العدو المُتَغلِّب... لا نجني منه ثمرة؛ ومن أجل ذلك كان اليأس يُقعِدُهم، والرضا بالموجود صبغتهم”. وعلى الرغم من وجود هذا الفريق المثبّط لإرادة الاحتجاج، والتغيير إلا أنّ الفريق الأكبر من المحامين كان لهم الحسُّ الوطني الكافي فانضموا إلى “الفريق الفَتِيّ العزائمِ الذي لم يُظلِمْ اليأسُ قلبَه، ولم تُوهِن الحوادثُ عزيمتَه”.

وقد أشار الخضري إلى الكيفية التي تم بها “إضراب المحامين”، وأضافت مذكراته – في هذا الصدد – معلومات مهمة جدًا فيما يختص بالصراع النفسي، والفكري الذي ألَمَّ بالمحامين، ومحاولاتهم إحداث التوازن بين اشتراكهم في الإضراب، وتعبيرهم عن وطنيتهم من ناحية في مقابل التزاماتهم المهنية، والأخلاقية الخاصة بالدفاع عن موكليهم من ناحية ثانية. إذ كانوا “يرون من صَوْلَة القانون، وهم رجالُه ما يَمنَعُهم عن إعلان الإضراب، والمحاكم مُفتَّحة الأبواب، والقضايا تُناديهم أن هَلُمّوا للدفاع عن موكليكم، فإذا هم أَبَوْا أن يُجيبوا هذا النداء فليس من البعيد أن تقرّر حبس اسم الممتنع من سجل المحامين، وهو أمر يَحسِبون لمثله حسابًا كبيرًا”، وكان الحل الذي توصّلوا إليه هو أن يطلبوا نقل أسمائهم من جدول المحامين المشتغلين إلى جدول المحامين غير المشتغلين، ويتنازلوا عن توكيلات المتخاصمين. 

وأمام ذلك الموقف الظاهر تدخّل المستشار القضائي “فكتب إلى نقابة المحامين خطابًا ينصح لهم فيه بالعدول عما شَرَعوا فيه، ويلفتهم إلى التبعة المُلقاة على عواتقهم للأمة وموكليهم”، فما كان من المحامين إلا أن اجتمعوا – كما يحدد الخضري بدقة كبيرة – في الساعة الخامسة من مساء الأحد 16 مارس سنة 1919م؛ ليتفقوا على ما يجيبونه به، وكانوا نحو مائتي محامٍ، وقرّروا “الإضراب عن المرافعة بعد أن كانوا يريدون نقل الأسماء فقط”.

وإذا كان ما سبق يختص بالمحامين الأهليين فإن إخوانهم من المحامين الشرعيّين لم يكونوا غائبين عن الصورة كذلك؛ إذ إن جماعة كبيرة منهم ذهبوا إلى المحكمة يوم السبت 15 مارس وهم متفقون على طلب تأجيل القضايا؛ للتنازل عن التوكيلات، ولمّا “فُتحت جلسة المحكمة العليا قال المحامون ذلك القول للرئيس الشيخ محمد ناجي، فأبى أن يتقبل منهم هذا العذر، وبينما هو، ونقيب المحامين في أخذٍ وردٍّ إذ المتظاهرون قد اقتحموا باب المحكمة، وأمروا القضاة، والعمّال بالخروج، فكتب على الرُّول بأن القضايا تأجّلت لعدم انتظام الجلسات”(2).

وأظهر الخضري قراءته للنتائج المترتبة على إضراب المحامين قائلًا إنه: “بتصرف المحامين الأهليّين، والشرعيّين وقف التقاضي –تقريبًا – في محاكم البلاد بأسرها، ولا يخفى ما لِهَذا بين الجمهور من الجرأة على إعلان الغضب من السلطة الإنجليزية، ومظاهرتها العداء من رجال القانون الذين يفهمون الأمور”. وأضاف أن ذلك كان “هو المدفع الثاني الذي أَعْلَنَ للجمهور أن هناك حركة استياء جدِّية، أو بدء ثورة حقيقية أشعلت نارها الطبقة المتعلّمة في الأمة”. 

وقد نتج عن مدفعَي الطلبة، والمحامين –وفقًا لتعبير الخضري– اتساع حركة الاستياء لتشتمل على من لم يُتوقع اشتراكهم في الإضراب، والمقصود بهم (الموظفون).

رابعًا- احتجاجات الموظفين وإضرابهم

تأخّرت مشاركة الموظفين في الإضراب، وقد أشار الخضري إلى الرؤية الشائعة لدى الناس تجاه الموظفين، وأنهم يجبُنون عن الاشتراك في حركة الإضراب، ووصفهم النفر القليل الذي شارك منهم في بدايته بأنهم “شُجعان قوِيّوا العزائم”، ويرى الخضري أنه على الرغم من بُعد الموظفين الظاهر عن الإضراب في بدايته إلا أنهم “كانوا مشاركين للجمهور في آلامه، وربما كان تأثرهم أشدّ؛ لأن سلْبَ الإنجليزي لحريتهم في الفكر، والعمل كان أشد، وتحكمه فيهم أقوى”.

الدعوة إلى الإضراب عن العمل: حدَّد الخضري بداية الدعوة إلى إضراب الموظفين، وأنها جاءت أولًا في وزارة المعارف، ويمكن إرجاع السبب في ذلك إلى التأثر بإضراب الطلبة في الوزارة نفسها. 

وقد قام الإنجليز بالقبض على هؤلاء الموظفين، غير أنهم سرعان ما أفرجوا عنهم، وهو الأمر الذي “كان محل غرابة عند الجمهور الذي كان يتتبع الحوادث باهتمام”. ويُفسر الخضري ذلك الموقف من الإنجليز تفسيرًا ذكيًا بقوله أن الإنجليز “رأوا أن هذا القبض ربما أثار نار الحماسة والجرأة في قلوب الآخرين فأفرجت عمن قبض عليهم وأعيدوا إلى وظائفهم بعد أن قدموا اعتذارًا عما فعلوا”. 

عرائض الاحتجاج على القبض على زعماء الوفد المصري: تتضاعف أهمية مذكرات الخضري فيما يختص بمشاركة موظفي مدرسة “القضاء الشرعي” الذين كتب بعضهم الاحتجاج، ووقّع عليه الكثيرون، غير أن ناظر المدرسة ذكر لهم أنّ بوزارة الحقانية عريضة وقَّع عليها موظفو الوزارة، وأنه يُستَحسن أن يأخذوها، وينسجوا على منوالها؛ “لأنها مكتوبة بالاحتياط القانوني”. وهذا يُعطي مؤشرًا، ودليلًا على روح التضامن، والتعاون بين الهيئات المختلفة في سبيل إنجاح الإضراب، واتخاذ الاحتياطات القانونية الكفيلة بحماية المضرِبين من الناحيتين: الأدبية والمادية، وعدم تهديدهم، أو إلحاق أي ضرر بهم من الناحية الوظيفية.

نتيجة لذلك سارع الخضري -كما يحكي بنفسه-: “سارعتُ إلى الوزارة لرؤية صورة العريضة فرأيتُها، وأُعلِمتُ أن موظّفي الحقّانية أمضوها، وأوصلها بعضُهم إلى قصر عابدين” .

وبطبيعة الحال لابد من وجود التخوفات، والحذر الزائد الذي يُصاب به كثير من القانونيين إزاء الأعمال السياسية، فيذكر الخضري أنه علم أنّ القائمين بشأن العريضة في وزارة الحقانية قاسوا مصاعب في حمل بعض المستشارين على إمضائها حتى كان بعضهم يقول: إن هذا عمل سياسي، ولا يجوز لهم قانونًا الاشتغال بمثله، فإذا سُئلوا عن القانون الذي يمنع الموظف عن العمل السياسي لم يحرّروا جوابًا. 

ويُقدم الخضري تفسيره لذلك الموقف بقوله: “وما هذا الفكر إلا أثرٌ مما وقَرَ في نفس الموظّف أن بينه وبين سياسة بلده حاجزًا لا يَسهُل اختراقه، وأنه إنِ اشتغل به عرَّض نفسه ووظيفته للخطر الشديد”. وقد أدَّى هذا الخوف إلى امتناع بعض ذوي الوظائف الكبيرة في وزارة الحقانية من إمضاء عريضة الاحتجاج. وبعد كتابة العريضة، وتوقيع غالبية أساتذة مدرسة القضاء الشرعي، ومدرسة الحقوق عليها اختير من المدرستين اثنان قدَّماها إلى كبير الأمناء بقصر عابدين. 

وعلى الرغم مما قد يبدو من صغر هذا الدور إلا أن الخضري يُعلق فيقول: “كنا نرى أنا عملنا عملًا كبيرًا، وصرنا نتحدث بما عملنا في المجالس”؛ إذ أنه لا يمكن تقدير هذا العمل إلا في سياق العقلية الوظيفية المصرية المُتحفظة –غالبًا- عن اتخاذ إي إجراء احتجاجي يُهدد وضعيتها الوظيفية، أو يُحتمل قيامه بهذا التهديد، عندها سندرك أنَّ ما فعله الخضري، ومن معه كان عملًا كبيرًا كما قال، وأيًا كان التفسير فإن الأمر لم يتوقف عند هذا “العمل الكبير” وحْده؛ إذ تفاقم، وتخطى حدود ذلك إلى آفاق لم تكن في حسبان أحد.

الإضراب: هذا التطور المؤدي إلى الإضراب يرويه الخضري كما ترويه الكتابات الأخرى الخاصة بثورة 1919، وهو ما حدث يوم الأربعاء 26 مارس من نشر تلغراف يتضمن تعليق “لورد كرزون” بمجلس الإشراف البريطاني على الحوادث بقوله: “إن المظهر الباعث على الارتياح في هذه الحوادث التي يؤسف لوقوعها في مصر سلوك جانب كبير من الموظفين، وسلوك الجيش، والبوليس”. 

وقد أدّى هذا التصريح إلى ثلاث نتائج تُفهم ضمنيًا من مذكرات الخضري:

أولها: القول بإن الحركة المصرية لا أساس لها طالما يُقال مثل هذا التصريح عن الموظفين.

ثانيها: النقد والتعريض والسخرية من الموظفين في هتافات الناس، وفي خطبهم، وفي أنديتهم، بل وفي نشرات مؤلمة مثل: تلك التي تم تصديرها بـ “من النساء إلى الموظفين”.

ثالثها: الألم الكبير الذي ألَمَّ بالموظفين، والمجتمعات الوظيفية من جرّاء ذلك.

ونتج عن ذلك تفكير البعض -ومن بينهم الخضري نفسه- في كتابة احتجاج على ذلك الأمر، واجتمعوا من أجل ذلك بدار الشيخ محمد عز العرب؛ ورأوا أنه “من العار العظيم أن تمرَّ عبارة كرزون على جمهور الموظفين من غير أن يحتجوا عليها، ويعلنوا الرأي العام الأوروبي أنهم مشتركون في عواطفهم مع الشعب الذي يُنادي بالاستقلال”. فكتب “الشيخ عبد الوهاب النجار” الاحتجاج في عبارة لا تزيد على ثلاثة أسطر، غير أن الخضري استشعر شدة كبيرة فيها، فقام بتخفيفها. وقد أدّت احتجاجات الموظفين تجاه تلغراف كرزون دورها في التمهيد إلى الاشتراك الفعلي في الإضراب، على النحو المعروف في الكتابات الخاصة بثورة 1919.

ولا تتركنا مذكرات الخضري إلا وتُضيف إلى معلوماتنا بعض المشاهد من بدايات الإضراب في أوساط الموظفين، خاصة في مدرسة القضاء الشرعي. ويذكر أنه بعد كتابة الاحتجاج لم تمض إلا ليلة واحدة حتى بلغه وجود “عريضة تُكتب لا للاحتجاج فقط بل للدخول فعلًا في الإضراب”. 

ويُضيف الخضري: “عـلمتُ أن العـريضة كُتبت فعلًا من موظفي الحقـانية، فتوجهـت إلى تلك الوزارة... فطلبتُ من “عطية أفندي حلمي” أن يكتب منها صورة، وأخذتُها إلى المدرسة، وهناك أمضاها المدرّسون، واشترك معنا في إمضائها أساتذة مدرسة الحقوق، وبينهم من امتنع من إمضاء العريضة... ورُفعت هذه العريضة يوم الثلاثاء أول أبريل سنة 1919، وقد سبقنا إلى رفع مثلها موظفو الداخلية وغيرهم”. 

وبطبيعة الحال فإن التمدد الثوري يدفع كثيرًا إلى التخلي عن التردد، والحيرة التي تُلم بالبعض، وتجعلهم يُشاركون في حوادث الثورة، ومن ذلك ما يُلمّح إليه الخضري بقوله: “الغريب أن الشيخ الذي امتنع من إمضاء العريضة الأولى وهي المتواضعة المستندة إلى القانون أمضى هذه العريضة وهي المنذرة بالإضراب العام ثلاثة أيام”.

وأشار الخضري إلى تراوح مواقف الموظفين الكبار بين كتابة عريضة ليس فيها إضراب، وبين الامتناع عن التوقيع على العرائض، فقال: “وقدّم مستشار الاستئناف عريضة خاصة بهم ليس فيها إضراب إلا أنهم ذكروا فيها أنهم مشاركون للأمة في عواطفها التي ترمي إلى طلب الاستقلال؛ ومن الغريب أنه امتنع من إمضائها أربعة منهم في الوقت الذي يرون فيه القانون مُنتهَك الحرمةِ، والعدل ضائعًا، وقال للناس: إن أعينهم تتطلع نحو الوزارة، وكتب وكلاء الوزارات عريضة -أيضًا- خاصة بهم كعريضة المستشارين”. 

وتوالت الحوادث، وفي اليوم التالي –الأربعاء 2 أبريل– ابتدأ الإضراب في بعض المصالح كالأشغال، والسكة الحديدية، ولكن لأن العريضة لم تُحدّد أيام الإضراب الثلاثة التي ذكرتها فقد ظنتها بعض الهيئات (الأربعاء والخميس والجمعة)، وظنتها هيئات أخرى (الخميس والجمعة والسبت)، ونتج عن ذلك أن يوم الخميس كان هو اليوم الذي وضح فيه الإضراب على نحو كبير؛ إذ إن المصالح كانت خالية فيه من الموظفين إلا قليلًا منهم ليسوا مصريين.

ولم يكن الإضراب لثلاثة أيام إلا إعلانًا عامًّا بالتوحّد مع بقية الشعب في موقفه، وكان -في الوقت نفسه- بداية فقط لسريان النار في الهشيم، وفكّر بعض الموظفين – كما يقول الخضري –: “أن يمدوا إضرابهم اشتراكًا مع المصريين، حتى يفك أسر المأسورين، ويُسمح للوفد المصري بالسفر، وذلك كان الغاية الكبرى من إضراب الطلبة، والعمَّال وغيرهم من الذين اشتركوا اشتراكًا فعليًا في الحركة المصرية”. ولما انتهت الأيام الثلاثة، وبوجود الفكر السابق، فإن يوم الأحد 6 أبريل “كانت المصالح مضطربة، وقليل من الموظفين عاد إلى عمله، وأكثرهم امتنع من العودة”، واجتمع مندوبون عن المصالح في بيت أحد كبار الموظفين، وقرّروا أن يضربوا يومًا واحدًا في الأسبوع؛ لئلا تتعطل مصالح الجمهور”.

خامسًا- نتيجة الإضراب

غير أن فكرة الاستمرار في الإضراب على الرغم من أنها كانت “بعيدة عن بعض الأفكار إلا أنها سهّلت عن ذي قبل بتجرّؤ الموظفين أول مرّة على الإضراب”، وباتت هذه الفكرة حديث كل المنتديات في المجتمع القاهري، ويؤكد الخضري أنه: “لا تكاد تجد ناديًا خاصًّا، ولا عامًا إلا وكلامه دائر على هذه النقطة، وأينما جلسْتَ تسمع الحديث من الأزهر إلى جروبي، إلى بار اللواء، إلى البيوت التي يجتمع فيها السياسيون إلى الشوارع، والقهاوي إلى غير ذلك لا حديث إلا هذه المسئلة”، وهذا يُشير إلى تفاعل الخضري مع هذه المنتديات، وتجواله بينها ورصْده لأحاديثها حول الإضراب. وكان للإضراب، والمظاهرات قوتهما التي أدّت – وبعد يومين فقط من مهلة إضراب الموظفين– إلى أنه في يوم الاثنين 7 أبريل “صدر الأمر بالإفراج عن المعتقلين، وبالسماح بالسفر فكان اليوم المشهود في تاريخ مصر هو ويوم الثلاثاء الذي يليه”.

وهكذا كان للإضراب والمظاهرات أثرهما..، ودخلت ثورة 1919 في مرحلة جديدة من مراحلها المستمرة إلى سنة 1922م.

سادسًا- الفقه التاريخي عند الخضري في أوراقه عن ثورة 1919

يجب الالتفات إلى أمر له دلالته الكبيرة تختص بهذا المثلث الذي شملته أوراق الشيخ الخضري عن الإضراب، والممثل في (الطلاب – المحامين – الموظفين) هذا الأمر مفاده ارتباط أضلاع هذا المثلث الوثيقة بكاتب المذكرات باعتباره أحد المدرسين (الموظفين) في مدرسة “القضاء الشرعي”، وهي المهنة التي جعلته على صلة وثيقة بـ (الطلاب) من ناحية، وبـ (المحامين) من ناحية أخرى، وهو ما يدفع إلى القول بإن رؤية الخضري مسكونة أساسًا في نواحٍ كثيرة منها بعمله مدرّسًا في مدرسة القضاء الشرعي.

ولأن الخضري كان مدرسًا في هذه المدرسة، وقاضيًا شرعيًّا، وكان أحد العلماء في الشريعة الإسلامية والفقه، وله مؤلفات في ذلك الجانب مثل كتابيه الشهيرين: (أصول الفقه)، و(تاريخ التشريع الإسلامي) فإنه قد ظهرت بعض (ملامح للفقه التاريخي) في مذكراته، وفيما يأتي بعض هذه اللمحات أذكرها هنا في ختام هذه المقالة، وهي دالة على أسلوب الخضري الفقهي التاريخي في أوراقه:

1 - “إن المصريِّين قد استعبدوا زمنًا طويلًا فمهروا في مقدرتهم على إخفائهم ذات أنفسهم شأن الأمم المستعبدة، فبينما أنت تكلّم من يبغضك، ويشتد حنقه عليك، ويضمر لك السوء إذا أنت تراه قد تكلّف لك الابتسامةُ يُخفي وراءها كل ما هنالك من حقد، وضغن وإذا كان في حاجة إليك أبدى لك من عبارات المجاملة، والثناء ما لا يبقى في نفسك معه شك في أن مُحادثك يحبك، هكذا كان الإنجليز يظنون جمهور المصريِّين من موظفين وفلاحين، ولا يخطر ببالهم أن يهموا بامتعاض بله الثورة عليهم”. 

2 - “إن الله – سبحانه – أراد توحيد كلمتنا، وتقوية أنفسنا فأزلَّ الإنجليز أكبر زَلة، وجعل قادتَهم يفهمون أن هذه الأزمة التي ظهرت بوادرها تحل بالقبض على زعماء الوفد؛ لأن الناس إذا رأوا ذلك انقطعت آمالهم، فسكتت أصواتهم، وبذلك يعودون سيرتهم الأولى في الاستبداد بهذا الشعب الذي ألِفَ الدِّعَة، والسكون، واستنام إلى أعدائه. ويُقال إن بعض ذوي الكلمة من المصريين هم الذين زيّنوا لهم هذه الزّلة؛ لأنهم كانوا يجهلون روح الشعب. نعم: كانوا يجهلون ما ثار في أنفس شبانه من حب الحياة الحقيقية، وهي حياة العزِّ بالاستقلال، فكان من وراء عملهم ما رأيناه من اتحاد الكلمة، واتفاق الأمة على الغضب لوفدها”. 

3 - “إن الحاكم المستبِد يستهين بشعور المحكومين؛ لأنه يعتبرهم قوة مسخّرة لا شأن لهم في أن يُفكروا فيما يراد بهم، ولا في إظهار شيء من عواطفهم، يراهم إذا فعلوا شيئًا من ذلك قد تعدّوا طورهم، واستحقوا النقمة تنزل بهم، وهكذا فعل الإنجليز مع التلاميذ بمساعدة بعض ضباط الشرطة من المصريّين”. 

4 - “مجموعة التلاميذ هي – بدون ريب – روح الأمة، فهم أبناؤها الذين تعطف، وتحنو عليهم لا يجد واحدًا منهم إلا وهو مرتبط بعدد كثير بين أب، وأخوة، وأعمام، وأخوال كلهم يخشون أن تعدو عليه العوادي، ويتأثرون بكلمة تصدر منه لا تجد فيهم من يرجو بعمله شيئًا من أغراض الدنيا الكاذبة، وهي الجاه والمال؛ فجميع الأمة تثق بصدقهم، وإخلاصهم وأنهم لم يقوموا بعملهم إلا ابتغاء تخليص وطنهم مما أصابه من استبداد الوحش الكاسر”.

ومما سبق يتبين الأهمية البالغة لمذكرات الخضري عن ثورة 1919، ومدى ما يُمكن أن تُضيفه للباحثين، والدارسين المعنيين بهذه الثورةسواء من أمور متوافقة، ومؤكدة لِمَا ورد في المصادر الأخرى من ناحية، أو أمور بها تفصيلات لما جاء مختصَرًا في كتابات أخرى من ناحية ثانية، أو أمور جديدة تختص –غالبًا – بمشاهدات الخضري، ومشاركاته في حوادث الثورة من ناحية ثالثة. 

ويحدوني الأمل في العثور على جميع أوراق هذه المذكرات، وأن لا تلحق بغيرها من مؤلفات الخضري الضائعة مثل: سيرته الذاتية، أو كتابه عن الأدب المصري.