عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919

زينب البكري

ثورة 1919 في كتابات العقاد وطه حسين.. دراسة مقاربة

2019.05.01

تصوير آخرون

ثورة 1919 في كتابات العقاد وطه حسين.. دراسة مقاربة

اصطدم طه حسين بسعد زغلول في عام 1914، حين قدَّم رسالته عن أبي العلاء المعري إلى الجامعة، فقد قدَّم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحًا بأن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة لأنها خرَّجت مُلحدًا.. وكان سعد رئيس لجنة الاقتراحات، لكنه وقف إلى جانبه (1)، فلم يكن طه حسين في هذا الوقت قد اشتهر بولائه للدستوريين، ولا حزب الوفد قد وُجد بعد(2)، وطلب أحمد لطفي السيد من طه حسين أن يشكر له هذا الجميل(3)، أما الواقعة الثانية التي زادت من فتور العلاقة بين طه حسين وسعد زغلول، أن طه حسين لم يذكر اسم سعد زغول بين الإمام محمد عبده ومصطى كامل وقاسم أمين في المناسبة التي أقيمت لإحياء ذكرى الإمام محمد عبده في الجامعة(4)، وكان طه حسين يتباهى بأنه «أطول الكتاب لسانًا وأجرأهم قلمًا في مواجهة سعد ونقد سياسته»(5)، والموقف الثالث الذي أورده طه حسين في علاقته بسعد زغلول، قضية كتاب الشعر الجاهلي(6)، التي أثارها النائب (الوفدي) عبد الخالق عطية في 13 ديسمبر 1926، وكان سعد زغلول رئيسًا للمجلس، وخلال مناقشة هذا الاقتراح وقف رئيس الوزارء عبد الخالق باشا ثروت إلى جانب طه حسين، فذكر أن الإجراءات التي اتخذت تعتبر كافية، وأن المؤلف قد اعتذر (7)، بينما انحاز سعد زغلول ضده في مجلس النواب (8)، ووقف بتعنت أمام رئيس الحكومة بقصد إحراجه والنيل من مؤلف الكتاب، وقد دارت بينهما مناقشة حادة كادت تؤدي إلى طرح الثقة بالحكومة(9)، تقارير الحكومة البريطانية ذكرت أن سعدًا يريد بهذا أن يثبت لحكومة الأقلية الدستورية أنه قادر على مواجهة الحكومة(10).

يقول طه حسين عن نشأته «إن المدة التي قضيتها في الأزهر كانت فترة انتقال، فكان محمد عبده يفسر القرآن على طرق حديثة، والشيخ المرصفي يعلمنا الأدب، وكلاهما يذم الطرق الأزهرية، وكان قاسم أمين يدعو لحرية المرأة، وفتحي زغلول يترجم لنا كتبًا قيمة، والصحيفة تنادي بمعايير جديدة في السياسة والاجتماع، فكنا في اضطراب ذهني، لا نستقر»(11)، كان طه حسين يحمل بالنسبة لسعد زغلول ومن فترة مبكرة في حياته، كرهًا شديدا، فقد كان منتميًّا فكريًّا إلى الحزب الوطني، وكان وراء ذلك عبد العزيز جاويش الذي كان يبغض سعد زغلول، وقد هجاه في مقالته الشهيرة «ظلموك يا سعد». وكان طه حسين في هذه الفترة الأولى من حياته بعيدًا عن الحركات السياسية، في الوقت الذي اتخذ فيه عبد العزيز جاويش أبًا روحيًّا له، وبثَّ فيه الفكرة الأولى للسفر إلى باريس، كما شجعه على الكتابة في صحف الحزب الوطني، ثم شجعه للسفر إلى فرنسا (12)، وأحمد لطفي السيد، صاحب صحيفة «الصحيفة»، شجعه على الكتابة في صحيفته(13) التي اعتنقت فكرة الإصلاح والتطور بعيدًا عن العنف والتهيج السياسى والثورة(14)، وكانت تدعو إلى الاستقلال على أساس التدرج(15). 

أما عباس محمود العقاد فقد التقى بسعد زغلول أول مرة في مايو 1908، وكان في ذلك الوقت يعمل في صحيفة «الدستور» التي كانت تنتقد سياسة سعد في المعارف(16)، و في هذا اللقاء يذكر العقاد» كنت أعجب بسعد، وأرجو لمصر خيرًا كثيرًا على يديه، ولا يسبغ طبعي أن يكون مثل هذا الرجل ممن يخون عهده وينسى واجبه وينقاد على خير بصيرة لأمر الموظفين الإنجليز في النظارة... وزادنى ثقة به أنه من أصحاب الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده، وكنت لكتابته متتبعًا وبسيرته جد معجب... ولم أكن رأيت الرجل قبل ذلك، ولا نظرت إلى صورته، ولا عرفت شيئًا عن شخصه غير ما سمعت عن عدله واشتراكه في الثورة العرابية وملازمته للشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني(17) وكان أشد إعجابًا باعتقال سعد إبان الثورة العرابية(18)، ولم ينس العقاد تشجيعه إياه عندما قال له «ما أجدر هذا أن يكون كاتبًا... بل وأوصاه بألا يقنع بوظيفة الحكومة(19)، وزاد من عظم شأن سعد زغلول في عين العقاد رؤيته الإصلاحية للجامعة المصرية(20).

ثورة 1919 من منظوري العقاد وطه حسين؛ 

أولًا: الاشتراك في ثورة 1919: 

ارتبط العقاد ارتباطًا مباشرًا بحزب الوفد في أثناء قيام ثورة 1919(21)، فشارك فيها وهو في الثلاثين من عمره(22)، كان سعد زغلول في عين العقاد «يتغنى به كما يتغنى عشاق الطرب بأم كلثوم، كان قاسمًا مشتركًا في أحاديث سعد، يردد أمامنا فقرات من كل مقال يكتبه ويهز رأسه إعجابًا وكأنه يردد لحنًا موسيقًّا، لذلك شعرت بأن الصحافة أعظم مهنة في العالم، ما دام في استطاعته أن يهز سعد زغلول ويعيش في ذاكرته، ويحوِّل كلمات مقاله الصحفي إلى أغنية على لسان زعيم الأمة»(23)، هذه هي الصورة التي كانت دائمًا في مخيلة العقاد، رسم بها وبوضوح إعجابه الشديد به، وكان انضمامه للوفد قد دفع الكثير من الشباب للانخراط به (24)، فكانت مبادؤه هي مبادئ حزب الوفد الأولى(25)، وعلى ذلك الأساس دافع عن الحزب، وأيده عن عقيدة وطنية(26)، فكان بمثابة المفكر المعبر في تلك الثورة عن فلسفة الطبقة المتوسطة، لا سيما المتعلمين منهم، فالتقت أهدافه بسعد زغلول والوفد المصري في مواجهة الملكية المطلقة من جهة(27)، والاستعمار البريطاني من جهة أخرى، وبانضمامه لحزب الوفد أصبح كاتبه الأول(28)، ووصفه البعض بأنه «كاتب الشعب الأول»(29)، و»السند الفكري لحزب الوفد»(30).

كانت كتابات ومقالات العقاد المتعددة بمثابة منشورات ثورية(31)، فقد كانت الصحافة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين تعد من أهم العوامل الرئيسية في تشجيع الحركة الوطنية (32)، وكان العقاد في طليعة كتاب الثورة (33)، فمقالاته اتسمت بالرؤيا السياسية العميقة والحجج التاريخية والقانونية، ثم توطدت علاقته بسعد زغلول أكثر(34)، والتي تعود إلى الفترة التي عمل فيها العقاد محررًا في صحيفة الدستور 1909 - 1907(35)، كان من أكثر الفئات تقدمًا وثورية(36)، فكتب العقاد منشورًا في عام 1919 بعد نفي سعد زغلول، جاء فيه «الأمة تطالب برد سعد زغلول إليها لأنه مصري ولا يجوز لإنسان أن يحرم عليه أرض مصر، لأنه زعيمها في طلب الاستقلال ولا قيمة لأمة يؤخذ منها زعيمها كما يؤخذ الجناة ..»(37)، وأظهر ميلًا واضحًا نحو حزب الوفد وأهدافه(38)، من بينها أربعة عشر مقالًا وصف فيهم رجال حزب الوفد الذين وكَّلهم الشعب المصري للمطالبة بحقوقه(39)، وكانت تلك المقالات بمثابة التعريف بهؤلاء وجهودهم الوطنية(40). ثم قام بعد ذلك بنشر مقالات سياسية في الصحيفة نفسها، منها مقال «كليمنصو ومصر»(41)، في العدد الصادر في 19 سبتمبر 1919، بخصوص موقف تنكر رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو لحقوق الشعب المصري في المطالبة بحقوقه في الاستقلال (42)، كما نشر مقالًا بعنوان«المصري كفء كريم» في 25 سبتمبر، ومقال آخر بعنوان«ثقتنا بأنفسنا»(43). وهنا أدرك سعد زغلول إمكانات العقاد وطبيعة شخصيته الثورية وحسه الوطني، فأصبح من المقربين لدى زعامة الوفد(44)، ومن ثم اطلع العقاد على تفاصيل السياسة المصرية، وتجاوز مرحلة الكتابة وأصبح واحدًا من الذين يعول على رأيهم(45)، ثم ازداد ارتباطه بسعد زغلول، حتى أصبح قلمه «سلاحًا لتحقيق أهداف الثورة»(46)، وعلى النقيض من ذلك كانت صورة سعد زغلول في عين طه حسين، التي لا تعترف به بطلًا وطنيًّا. 

الثورة من وجهة نظر العقاد ليست محددة، ولا تعدو كونها مجرد سخط غاضب من الشعب، بل هي رفض عام وشامل لمجمل الأوضاع المتردية(47)، آملًا بذلك نشوء دولة عادلة يقوم فيها نظام حكم لا مصلحة له في الحرب، ولا صراع فيه بين الطبقات، وبذلك فهو مثل الطبقة التي انتمى إليها، وهي الطبقة البرجوازية الوطنية الصغيرة والمتعلمة التي شاركت في الثورة، وكان من أهم مطالبها هو وضع دستور للبلاد لحماية مصالحها وترسيخ امتيازاتها(48)، عد العقاد الدستور قضية مهمة وأساسية في إدارة البلاد، فطالب بأن يكون نظام الحكم في مصر ملكيًّا دستوريًّا(49)، فسجن في عام 1930 تسعة أشهر بتهمة العيب في الذات الملكية، بسبب دفاعه عن الدستور(50).

ولطبيعة العلاقة التي ربطته بسعد زغلول، الذي كان يلقبه بـ"الكاتب الجبار"(51)، جعلته يطلب منه كتابة المقالات والمنشورات المؤيدة للثورة للتأثير على الجماهير(52)، جاء ذلك بطريقة غير مباشرة، لأن سعد زغلول وقتها كان في باريس لإجراء المفاوضات بشأن المسألة المصرية(53).

تعددت كتابات العقاد، فحينما برزت الإضرابات العمالية واعتصامات العمال(54)، لا سيما وقد وجدت تلك الفئة في الحركة الوطنية الفرصة المناسبة (55)، كتب العقاد في سبتمبر 1919 في صحيفة الأهرام مقالًا بعنوان «حركة العمال في مصر.. سنان السياسة مشرع في صدورنا»، دافع فيه عن حقوق العمال، كما هاجم الشركات الأجنبية في مصر وأصحاب الأموال الذين اتهمهم بمعاداة الحركة النقابية، لتحقيق هدفهم بتحصيل المنافع على حساب تلك الفئات الفقيرة(56)، وبالفعل ما أن حل أكتوبر 1919 حتى نجح حزب الوفد في تنظيم أغلب أصحاب الحرف والصناعات ضمن النقابات العمالية، (57)، للحصول على دعم تلك الشريحة الوطنية(58). ومن جهة أخرى كتب العقاد مقالًا في نوفمبر1919، بعنوان «ستنال الأمة ما تستحقه»، هاجم فيه سياسات بريطانيا(59)، بل وأخذ يحث الشباب المصري مثيرًا فيهم النخوة الوطنية(60)، بكتابة القصائد لإثارة مشاعرهم، وحثهم على التضحية(61).

 وكان للعقاد نشاطه السرى، فعندما تشكلت لجنة الوفد المركزية(62)، كان الجهاز السري للحزب مسؤولًا عن الجمعيات السرية(63)، كانت مهمتها توزيع المنشورات السرية، والقيام بعمليات اغتيال للموظفين والعسكريين الإنجليز والمتعاونين معهم من المصريين(64)، وتهديدها للشخصيات السياسية التي تؤلف الحكومات في ظل الحماية البريطانية (65)، وهنا برز نشاط العقاد في أثناء عمله في صحيفة الأهرام كمندوب قضائي يقوم بتغطية الجلسات، كمحاكمة أعضاء شباب حزب الوفد المنتمين إلى «جمعية اليد السوداء»، وهي أبرز الجمعيات السرية التابعة للجهاز السري لحزب الوفد(66)، التي انضم إليها العقاد وأصبح يحرر ويصوغ منشوراتها المناهضة للاحتلال(67)، وكان يقوم بتوزيع تلك المنشورات بنفسه(68)، وكانت له لقاءات سرية مع أبرز رجال الجهاز السري لحزب الوفد(69)، وبسبب الرقابة على الصحف العلنية، تركز الاعتماد على المنشورات والصحف السرية(70)، وكانت لقاءات أعضائها تتم داخل طابق سفلي يقع في شارع مجلس النواب سابقا (71)، ونتيجة هذا النشاط أصدرت السلطات البريطانية عام 1919 بلاغًا عسكريًا بمعاقبة كل من يشترك في إصدار النشرات أو توزيعها أو حيازتها، وعد الشخص الذي يطبع المنشورات مرتكبًا لجريمة الوقوف بوجه الأحكام العرفية (72)، وبالفعل تم القبض على عدد من أعضاء جمعية اليد السوداء(73)، ولكن استمر العقاد في تلك الجمعية(74)، التي لعبت دورًا كبيرًا في الحركة الوطنية(75).

وبعدما اطمأنت بريطانيا للاعتراف الدولي بحمايتها على مصر في مؤتمر باريس 1919، أرسلت لجنة لتتحقق من أسباب الثورة سميت لجنة ملنر 1920-1919 (76). إلا أن الشعب المصري يتقدمه حزب الوفد أصر على مقاطتعتها(77). وإزاء ذلك أصدرت بلاغًا في 29 يناير 1919(78)، أعربت فيه عن دهشتها من الاعتقاد السائد بأن هدفها حرمان الشعب المصري من حقوقه، وأن هدف اللجنة هو التوفيق بين أماني الشعب ومصالح الدولة البريطانية، مع إدارة شؤون البلاد في ظل الحكم الذاتي(79). وقامت الحكومة المصرية بترجمة البلاغ والنص الإنجليزي في اليوم نفسه وبصورة رسمية على أن يمنح لمصر الحكم في ظل الأنظمة الدستورية (80)، وردت لجنة الوفد في اليوم نفسه بالرفض، لأنه لا يعترف باستقلال مصر التام، وفي اليوم التالي بادر العقاد وأمين الرافعي(81) مساعد السكرتير العام للجنة الوفد المركزية بمناقشة وتأييد موقف الحزب منه(82)، وقام العقاد بترجمة نص البلاغ ونبه إلى أن النص العربي يختلف عن النص الإنجليزي، فأوضح أن self governing institutions والتي تعني أنظمة الحكم الذاتي وليس أنظمة دستورية كما ادعت اللجنة والحكومة المصرية(83)، ثم أشار العقاد إلى أن مطالب الشعب الحقيقي الاستقلال التام(84). 

نشرت الصحف المصرية وفي مقدمتها الأهرام ترجمة العقاد، وكان لذلك صدى واسع في الأوساط السياسية(85)، إذ كان اختلاف الترجمة أحد أسباب الخلاف بين رؤية سعد بعد عودته إلى مصر وعدلي يكن(86)، في موقفهما تجاه لجنة ملنر(87)؛ إذ أخذ الوفد وزعيمه سعد زغلول بترجمة العقاد(88)، وأرسل سعد برقية إلى عدلي يكن في 15 ديسمبر 1920، ثم أعقبها بكتاب في الحادي والعشرين منه؛ فصَّل فيه أسباب رفض المفاوضة (89)، وأوضح أن الغاية منه وضع مصر في دائرة الحكم الذاتي(90)، فرد عليه يكن بأنه أجرى مناقشة مع اللورد ملنر، الذي أوضح أنه يريد من النص الإنجليزي حكومة دستورية(91). 

وبالنسبة لطه حسين، فبخلاف موقفه الرافض لشخص سعد زغلول، فإنه في ذلك التوقيت كان بباريس؛ حيث سمح له مجلس الجامعة بالبقاء حتى منتصف 1919، لإكمال رسالته للدكتواره عن ابن خلدون(92). ولكنه كان يؤمن بأن ما يقوم به سعد لا طائل من ورائه، فيقول على لسان سعد «بأن جهده وجهد أصحابه كله لن تغني عن الوطن شيئًا»(93). 

 في مطلع 1920 وقد برز دور العقاد، حينما غيرت السلطة البريطانية من سياستها، بهدف التقرب إلى الرأي العام المصري من ناحية، ولإقناع الوفد بالدخول في مفاوضات من ناحية أخرى، فقامت بإطلاق سراح عدد من المعتقلين، وخففت من الرقابة على الصحف(94)، وفي هذا السياق برزت عدة مقالات للعقاد في صحيفتي الأهالي والأهرام، مثل «حول رد الوفد على بلاغ ملنر» في الثلاثين من يناير 1920، شرح فيه موقف الوفد من المفاوضات مع لجنة ملنر، ومقال «استقلال أو تجربة كفاءة» في 3 فبراير، انتقد فيه بريطانيا لعدم منحها الاستقلال التام لمصر بحجة إنها لم تصل لمرحلة تؤهلها لذلك(95). وبعد أن وافق الوفد وسعد زغلول على إجراء مفاوضات مع لجنة ملنر في لندن، بدأت المفاوضات في يونيو 1920، ثم طرح ملنر مشروعًا نهائيًّا لا يقبل المناقشة(96)، فاضطر الوفد إلى عرض المشروع على الشعب المصري(97)، وعلى الرغم من عدم اقتناع سعد به، لأن مضمونه تعزيز الحماية وليس الاستقلال(98)، وعندما تم عرض المشروع على الرأي العام امتلأت الصحف بآراء ومواقف الهيئات والكتاب منه (99)، فبادر العقاد بكتابة ثلاثة مقالات متتابعة في سبتمبر 1920، الأول تناول فيه ملاحظاته على المشروع البريطاني(100)، المقال الثاني هاجم فيه العقاد المشروع البريطاني، وذكر أنه على الرغم من نصه على تشكيل حكومة دستورية عبر وضع دستور جديد للبلاد، وهو المطلب الأساسي لحزب الوفد، إلا أنه تضمن مواد مثل: حماية الأجانب، والوجود العسكري في مصر الذي سمح بإعلان الأحكام العرفية، وعدم مناقشة المشروع المسألة السودانية في أثناء المفاوضات، إلا بتقديم ضمانات وصول مياه كافية من السودان (101)، وبيَّن المقال الثالث أن اعتراف بريطانيا بحق مصر في التمثيل الخارجي لا يعني شيئًا أمام رفع الحماية أو إعلان الاستقلال، وأنه تم ربط مصر بالسياسة البريطانية(102)، وفي 14 سبتمبر 1920، كتب العقاد مقالات تجاه لجنة ملنر(103)، ومن ثم لم يقبل الرأي العام المشروع(104). وعندما استؤنفت المفاوضات وأبدى الوفد تحفظاته على المشروع(105)، ونشر العقاد مجموعة من المقالات في صحيفة الأهالي، منها «ماذا يطلب ملنر؟»، و«نحن والوفد أو نحن والاستقلال التام»، و«على من يعتمد اللورد ملنر في مجاوزاته تصريحات الوفد»(106). ولما توقفت المفاوضات بين الوفد وملنر في 11 نوفمبر1920، غادر الوفد المصري عائدًا من لندن وباريس(107)، وكتب العقاد في اليوم نفسه مقالًا بعنوان «دهشة بعض الصحف من مسلك اللورد ملنر»، ومقالًا آخر بعنوان «الاستقلال التام أو لا شيء»(108)، ثم مقالًا بعنوان «نداء سعد باشا الجديد بمناسبة انقطاع المفاوضات»(109)، وفي 6 ديسمبر 1922، استطاع الأستاذ عبد القادر حمزة أن يحصل على ترخيص له من وزارة الداخلية بإصدار صحيفة يومية باسم «البلاغ»، وأرسل سعد زغلول برقية تهنئة من منفاه بجبل طارق(110).

 بدء هجوم طه حسين العلني ضد سعد زغلول: 

 يمكن رصد أول هجوم حاد لطه حسين في 25 يونيو 1921، حين كتب في الأهرام مقالًا بعنوان «الديمقراطية أم الطغيان»، على سبيل المقارنة بين سعد زغلول وعدلي يكن، يذكر طه حسين «ثم وقع بينهما الانقسام، وقع لمسألة شخصية لا يستطيع أحد مهما يبلغ من المهارة السياسية... أن يجد بينهما صيغة سياسية حقيقية، ولكن سعدًا كان الزعيم، فما كاد يعلن خلافه لخصومه، وانشقاقهم عليه حتى اجتمع عليه الجمهور فأيده ونصره، وعلى غيره منشقًا، ووصفه خصومه بالمارق، وليس ما يقع في مصر الآن من جدال ومناقشة، وليس ما يقع في مصر منذ أسابيع من اضطرابات ومظاهرات إلا حربًا بين مبدأين مختلفين: أحدهما مبدأ قيادة الجمهور إلى منفعته المحققة من طريق النظام والقانون أي من طريق الديمقراطية المعتدلة المنظمة، والآخر مبدأ الاستئثار بما للجمهور من قوة وسلطان، والاستبداد باسم هذا الجمهور وسلوك الطرق المعقولة وغير المعقولة إلى إكراه الخصوم على الإذعان، أو كم أفواههم وعقد ألسنتهم»(111)، وواصل هجومه على سعد بهذه القوة، ففي صحيفة الاستقلال 10، 9/11/1921 كتب مقالًا بعنوان «ويل للحرية من سعد»، جاء فيه «سعد باشا رجل حر، يعشق الحرية ويكلف بها، ويبذل فيها حياته وعقله وما أنعم الله به عليه من خير، ولكن ذلك لا يمنعه أن يكون عدو الحرية وقاتلها مرتين، لا نمزح ولا نتفكه ولا نختلق ولا نلقي بالقول جزافًا، إنما نقول حقًا لا شك فيه(112). ويستطرد في ذلك بأسلوب ساخر، فيقول «سعد وكيل الأمة في كل شيء، حتى في قراءة الصحف، أيتها الأمة المصرية طيبي نفسًا وقري عينًا، اهدئي واطمئني فقد فيض الله لك رجلًا يريحك من كل شيء، لا تطالبي بالاستقلال فسعد يطلب بها، لا تعشقي الحرية فسعد يعشقها، لا تؤمني بالله فسعد يؤمن به، ولا تقرئي الصحف فسعد يقرأها(113)، ولا ننسى أن طه حسين قد انتمى فكريًّا إلى حزب الأحرار الدستوريين، الذي ورث عن حزب الأمة القديم اعتداله، ونظرته الواقعية للأمور(114)، في مواجهة حزب سعد(الوفد).

وبالنسبة لموقف طه حسين من الثورة، فإنه عندما دب الخلاف بين الوزارة والوفد حول المفاوضات من يجريها، فإنه مال إلى وزارة عدلي باشا(115)، ثم هاجم الوفديين، فكتب في المقطم، ساخرًا من السعدين «يقول الوفديون لا رئيس إلا سعد كما يقول المسلمون لا إله إلا الله(116)، وكان يردد» ليحيا عدلي باشا»(117). واعتبر طه حسين تصريح 28 فبراير 1922 « أتاح للشعب أن يكون له دستور، وأصبح لمصر أن ترسل ممثيلها إلى البلاد الأجنبية بعد أن عادت إليها وزارة الخارجية التي ألغاها الإنجليز حين أعلنوا الحماية(118). وهنا يجب التركيز على موقف طه حسين المؤيد لتصريح 28 فبراير 1922، الذي رفضه سعد زغلول، ونتيجة لذلك تم نفيه إلى جزيرة سيشل.

كانت السودان إحدى القضايا المصيرية في مشروع الدستور، عبرت عنه الأهرام «ليس الأمر مسألة السودان، ولكن أمر مصر بجملتها» (119)، وكتب العقاد في العدد الثالث من البلاغ بتاريخ 1 يناير 1923» ماذا تصنع الوزارة المصرية إذا أصر الإنجليز على حذف السودان من الدستور المصري(120)، وعند انعقاد مؤتمر لوزان، كتب «مصر ومؤتمر لوزان... مشكلة السودان»(121)، بدأ أنصار عدلي باشا يطالبون الوزارة بتنفيذ الدستور، مع عدم التمسك بالنص على السودان(122)، عوَّل العقاد على موقف عدلي في مقالاته، واعتبر رشدي وعدلي وثروت وصدقي رجال«سياسة الحماية»(123)، ولذا هاجم وزارة نسيم باشا، في صحيفة البلاغ(124)، وعقب استقالتها، هاجم عدلي باشا، الذي دافع عنه طه (125).

ثانيًا: موقف العقاد وطه حسين من وزارة سعد زغلول 

استقبلت وزارة سعد بحفاوة، وعرفت بوزارة الشعب(126)، ولكن هاجمها أنصار الحكم الوطني (127)، أخذوا عليها أنها استبقت ما سموه آفة المحسوبية في وظائف الدولة، وراحت صحيفة السياسة تحت عنوان «حكومة دستورية أم أسرة زغلولية»، وكذلك أمين الرافعي في صحيفة «الأخبار»(128)، وفي هذا التوقيت كانت الهوة قد اتسعت بين الحزبين، حزب الأحرار الدستوريين (منهم طه حسين)، و«حزب الوفد»، خصوصًا بعد أن أسفرت الانتخابات عن أغلبية وفدية، وتشكيل وزارة برئاسة سعد زغلول في 28 يناير 1924(129)، لقد أكدت المصادر على انحراف وزارة سعد عن كثير من المبادئ التي نادت بها وهي خارج السلطة «... بل إن سعدًا اعترف بذلك في مذكراته (130)، وذكر عبارة «تطهير الإدارة من الأدران»(131)، ولم تكن واسعة الصدر إزاء المعارضة البرلمانية(132)، وفي تلك الفترة صادرت الحكومة بعض أعداد السياسة، يومي 10 و12 عام 1924، وقدمت محرريها للمحاكمة أمثال حافظ عفيفي، وتوفيق دياب، وحسين هيكل، وطه حسين(133)، لقد ظل طه حسين حتى هذه الفترة لا يعترف بالثورة، فقد أورد في مذكراته الموقف الذي جمع بينه وبين السلطان، منذ أن كان رئيسًا للجامعة، ومؤازرته إياه عندما قدم استقالته للجامعة، مقابل «الاعتراف بالثورة»(134)، ومنذ ذلك التاريخ وطه حسين ينكر ما يصدر عن سعد زغلول «إنكارًا لكل ما كان يصدر عنه من قول أو فعل، لا لشيء إلا لأنه صدر عن سعد»(135).

 وتطورت الأحداث بسفر سعد زغلول في 23 يوليو للخارج لاستئناف المفاوضات، فكتب العقاد في البلاغ «يوم السفر... استقبال ووداع... ليحيا سعد! وقد حيا سعد! وسيحيا سعد!(136). أما مقالات طه حسين في السياسة، التي غدت صحيفة الطبقة المعروفة بحرية الفكر، في مواجهة «صحيفة الوفد» التي بدت وكأنها صحيفة الغوغاء والعامة(137)، كانت أعنف ما كتب في الأدب المصري الحديث، أغلبها دون توقيع، وبعضها بتوقيع ساخط غاضب يتحدى سعد زغلول بعنف شديد في لهجة لاذعة، إلى درجة أن سعد زغلول طلب من النائب العام التحقيق مع صاحب المقالات التي تنشر دون توقيع، بتهمة إهانة رئيس الوزراء(138). 

وعندما استقالت وزارة سعد زغلول في 1924، اعتبر العقاد أن ذلك بسبب أن « جماعة من المجانين الذين لا يخلو منهم حزب دبروا قتل السير لي ستاك باشا...»(139)، في حين وجد طه حسين الفرصة في أن يمعن في هجومه على سعد زغلول بعد حادثة مقتل السرادر الشهيرة 13 نوفمبر 1924، فكتب في السياسة بتاريخ 25 ديسمبر 1924 «وأقسم بالله لقد بغي سعد وأصحابه على إخوانهم فأسرفوا في البغي، وأقسم بالله لقد طغى سعد وأصحابه، فأسرفوا في الطغيان»، بل ووجه دعوة صريحة للناس للتصدي له «ينهض لهذه الطائفة الباغية الطاغية فيردها إلى طورها وينزلها منزلتها ويأخذها بالإذعان لكلمة الحق، والخضوع لأمر الجماعة، والنزول عند إرادة الوطن»(140). وما كتبه في صحيفة الجهاد في 25 يوليو 1925، يؤكد الطابع الشخصى في عدواته لسعد، فيسخر من غروره «إلى من أراد الاتحاد فليستظل بلوائي يجد ما يشاء من نعمة وثراء... حتى كانت هذه الكارثة فأسلم سعد وولى مدبرًا، وانزوى في طرف من أطراف الصحراء»(141). وفي هذا المسار يستطرد «لما لا يقاس بالأستاذ واحد من هؤلاء الأبطال وأنصاف الأبطال وأرباعهم، ففي البلد أبطال سيسل، وفيه أبطال ألماظة وأبطال المحاريق، وفيه أبطال مصر النيل، وفيه أبطال آخرون ملأوا الأرض ضجيجًا وعجيجًا وملأوا النفوس تهوينًا وتضليلًا.. وأفسدوا على الناس حياتهم وعقولهم وأعمالهم وآمالهم وشوهوا طريقهم في فهم الأشياء»(142)، والأكثر من ذلك أنه بعد وفاة سعد زغلول كتب مقالة عن عبد الخالق ثروت بعنوان«ثروت» والمتأمل لقراءتها يجده لا يزال يتذكر الجميل الذي فعله عبد الخالق ثروت معه إبان أزمة «في الشعر الجاهلى»، ومناصرته إياه، فقد احتفظ بكلمات عبد الخالق ثروت له «إن حرية الرأي أكرم من أن يعبث بها العابثون مهما يكونون، وثق أن أول أثر لما يمكن أن ينالك إنما هو استقالتي من مجلس الجامعة وانقطاع الصلة بيني وبين الذين يعنيون عليك»(143). هذا من الممكن التغاضي عنه، من منطلق حفظ الجميل، ولكن طه حسين ذهب أبعد من ذلك، فعظَّم من دور ثروت في الحركة الوطنية على حساب سعد زغلول، فمما جاء أن ثروت باشا أخبره أنه كتب كتابًا إلى سعد يقترح عليه الاحتكام إلى جماعة من صفوة المصريين فيما شجر بينهما من خصومة، فكتب طه حسين «وقد أثبتت الأيام بعد ذلك أن كتاب سعد هذا وما جاء بعده من خصومة عنيفة بين الرجلين لم يغيِّر من ود ثروت لسعد ولا من حبه له، كما أنه لم يغيِّر من مضاء عزيمة ثروت على ما كان قد عزم عليه من جمع كلمة الأمة، وقد وفق لما أراد»(144).

سلطنا الضوء على كاتبين من جيل ثورة 1919، كانت لكل منهما خلفية ثقافية وبيئية متباينة، لعبت دورًا كبيرًا في توجيه أفكارهما في هذه الحقبة المفصلية من تاريخ مصر، فعباس العقاد بتوجهه اليسارى، رأى في ثورة 1919 تحقيقًا لآماله التي تطلع إليها بحكم «المادية التاريخية» التي عولت على تغيير الظرف التاريخي كي ينجح في أن يجد مكانًا له على هذه الساحة التي شهدت محطات عديدة كانت تبوء بالفشل، وإثر هذه النكبات لم يجد المخرج سوى في تأييده لثورة 1919، وزعيمها سعد زغلول، ومن ناحية أخرى فإن هذا التأييد كان يرضي طموحه الوطني» في ظل بيئة اتصلت اتصالًا مباشرًا بأفكار الأفغاني، ومحمد عبده. 

وعلى النقيض من ذلك، وجدنا طه حسين برؤيته الأرستقراطية التي لم تؤيد الثورة، ربما لأسباب شخصية في المقام الأول، فلم ينس طه حسين موقف سعد زغلول معه في أزمة كتابه «في الشعر الجاهلي»، بالإضافة إلى طبيعة مكونات شخصية طه حسين، التي كانت تميل إلى إبراز دورها في معرض الحديث عن أناس يشهد لهم التاريخ ببصماتهم وتأثيرهم الذي لا يمكن إنكاره، في هذا الوقت كان طه حسين يتبنى أفكار الحزب الوطني (خصوصًا أحمد لطفي السيد) الذي كان على قناعة بأن الاحتلال سيأخذ مساره الطبيعي ثم ينتهي من تلقاء نفسه، وأن الثورات ليست من تذهب بالاحتلال، بالإضافة إلى اختلاف طبيعة الاستقلالية المادية، التي حتمت على طه حسين أن يعوِّل على أفكاره وقناعاته، دون أن يضع آمالًا على «ثورة» لكي تحقق له مكسبًا ماديًّا. ومن ثم نحن أمام نموذجين من جيل ثورة 1919 تباينت مواقفهم واختلفت توجهاتهم الفكرية، ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك بتسليط الضوء على التركة المثقلة التي خلفتها الثورة العرابية وتبعاتها على الموقف الفكري على الساحة المصرية في ذلك الوقت، ومن ثم اختلاف توجهات هذين النموذجين من مصطلح الثورة؛ فالعقاد كان أشد إعجابًا بسعد زغلول الذي اعتقل إبان الثورة العرابية، وطه حسين الذي حمل آراء الحزب الوطني لا يعترف بالثورة. 

والقارئ المتمعن لذلك الذي يحلل المضمون الخطابي لهذه الكتابات سوف يكتشف ذلك. وفي النهاية فإن الموقف السياسي للأدباء والكتاب لا يقلل من جهودهم الفكرية في شيء، إنما فقط يجعلنا نقف على ماهية خطاباتهم وتوجهاتهم الفكرية، لنقف على أسباب وماهية مواقفهم.