عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919

مجدي عبد الحافظ صالح

ثورة 1919 والتاريخ الآني.. قراءة في جزئي كتاب محمد صبري السربوني "الثورة المصرية"

2019.05.01

ثورة 1919 والتاريخ الآني..  قراءة في جزئي كتاب محمد صبري السربوني "الثورة المصرية"

توطئة:

تُمثِّل مؤلفات المؤرخ المصري محمد صبري، الشهير بالسربوني (1890-1978)، امتدادًا للتراث الطويل للكتابات الوطنية في التاريخ المصري الحديث والمعاصر، والذي يُرجعه المفكر المصري أنور عبد الملك إلى مشروع رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873)، الذي استند فيه إلى مبادئ وأفكار الثورة الفرنسية في عام 1789، إذ يرى أن الطهطاوي حرص على تقديم هذه الأفكار فلا يجعلها تتناقض مع عقائد وتقاليد الإسلام (). هنا استطاع الطهطاوي –كما يرى أنور عبد الملك- أن يضيف إلى ذلك، المزج بين مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والعدالة وفكرة الوطن، مُقدمًا في الوقت نفسه بعض التحليلات الاقتصادية والاجتماعية على النسق الاشتراكي().ويرى عبد الملك أن الطهطاوي لم يخف مصادره التي ذكرها بنفسه والمتمثلة في فلاسفة عصر التنوير ممن مهدوا للثورة الفرنسية من أمثال: فولتير Voltaire (- 1694 (1778 وروسو (Rousseau (1712 -1778، ومونتسكيوMontesquieu(1689-1755)، وكوندياك Condillac (1714-1780)، نافيًا على الإطلاق أن يكون الطهطاوي قد استشهد بروبسبييرRobespierre(1758-1794)، ويرى أن الافكار التي دعا إليها هي أفكار الثورة الكبرى للشعب الفرنسي، مستعينًا ببعض عبارات الطهطاوي التي تؤكد ذلك من قبيل “إن سلطة الملوك تتناول جسد رعاياهم لا قلبهم وكذلك: ليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع” ().

على مستوى الآداء التأريخي يرى عبد الملك راصدًا أداء صبري في الفترة من 1919 إلى 1933، بأنه “مؤرخ متين يمت إلى الاتجاه الوطني الراديكالي، بحثًا عن بدايات هذا الزمن المستعاد، فيضعها على وجه الدقة انطلاقًا من النهضة التي قادها محمد علي والطهطاوي” (). ويركز عبد الملك على أن تأسيس التأريخ المصري الحديث، الذي دشنه السربونييظهر عليه “بوضوح بالغ تأثيرات الثورة الفرنسية”، وخصوصًا في جانب أفكارها الراديكالية الشعبية. 

ويدمج أنور عبد الملك مسيرة الطهطاوي مع أفكار الثورة الفرنسية وحتى أفكار السان سيمونيين، مع مسيرة رفاق وتلاميذ الطهطاوي، والذي ينسب إليهم “شرف منح مصر الناهضة بنيتها التحتية الثقافية، وذلك حتى الكارثة النهائية قبيل الاحتلال البريطاني” ()، ولعله يقصد بالكارثة هنا فشل الثورة العُرابية بهزيمة الجيش المصري على أيدي البريطانيين في معركة التل الكبير عام 1882. ولعلنا من جانبنا يمكن أن نمد قائمة الكتابة الوطنية حول تاريخ مصر، إلى عبد الرحمن الرافعي في سلسلة كتاباته القومية عن تاريخ مصر، وصبحي وحيدة في “أصول المسألة المصرية”، وشهدي عطية في “تطور الحركة الوطنية المصرية 1882-1956” وغيرهم.. وحتى المدرسة المعاصرة في كتابة تاريخ مصر الاجتماعي، المتمثلة في قائمة كبيرة من المؤرخين المعاصرين، فعلى سبيل المثال وليس الحصر نذكر محمد أحمد أنيس، وأحمد عبدالرحيم مصطفى، ورؤوف عباس، وعاصم الدسوقي، ونللي حنا، وعلى بركات وغيرهم.

كتابيَّ السربوني عن الثورة المصرية

يأتي تأليف كتاب صبري السربوني تحت عنوان “الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التُقطت في أثناء الثورة”، إذن في السياق السابق نفسه. وقد خرج في جزئين وباللغة الفرنسية، صدر الجزء الأول منهما مصاحبًا لأحداث الثورة ذاتها في عام 1919، ولحقه الجزء الثاني بعد أقل من عامين؛ في مطلع عام 1921، وصدر كلاهما في العاصمة الفرنسية باريس، وبتقديم من البروفيسير ألفونس أولار (Alphonse Aulard) أستاذ تاريخ الثورة الفرنسية بالسربون وأستاذ محمد صبري نفسه (). وعندما نُشر الجزءان لم تكن الثورة المصرية قد خفت بعد أو أنتهت احداثها، في شتى أنحاء المديريات المصرية؛ سواء في دلتا النيل أو في صعيد مصر، لذا جاء الكتابان وكأنهما عمل صحفي يتوجه به صاحبه، إلى المواطنين في الغرب عمومًا والفرنسيين منهم على وجه التحديد، وكأنه نقل يقوم به أحد المراسلين من قلب الأحداث الملتهبة، والمفتوحة على كل الاحتمالات حيث لم تكن أحداث الثورة قد أعلنت عن كلمتها النهائية بعد.

في هذا الوقت المبكر لم يكن متاحًا لأيِّ من المؤرخين أو من الباحثين المتخصصين، أن يعرف أو يتحدث عما نطلق عليه اليوم في التاريخ المعاصر، مصطلح التاريخ الآنيL’Histoire immédiate، ذلك المصطلح الحديث الذي دشنه بعض أصحاب مدرسة الحوليات الفرنسية (مارك بلوخ Marc Bloch، وجاك لوجوف Jacques Le Goff ،وجاك لاكوتير Jacques Lacoture..وغيرهم).و«التاريخ الآني» هو ما يطلق عليه الأمريكيون «تاريخ اللحظة»، وهو التاريخ الذي يعتمد في الأساس على العلاقة الحميمة التي تتولَّد بين المؤرخ وموضوعه. لكن السربوني لم يكن قد سمع بعد عن هذا التوجه الجديد في الكتابة التاريخية، مما يجرنا لسؤال: كيف استطاع إذن أن ينجز تأليفه لكتاب من جزئين حول الثورة المصرية، دون الوعي بهذه المنهجية الجديدة لمثل هذه الموضوعات؟! ولكي نجيب على هذا السؤال سيكون علينا أن نعرض أولًا نبذة تحدد المقصود من منهجية «التاريخ الآني».

التاريخ الآني 

نعود في الفلسفة دائمًا لمقولة أساسية لدى الفيلسوف الألماني هيجل Hegel يقول فيها إن “بومة مينرفا لا تقوى على الطيران إلا بعد الغروب”، بمعنى أن الباحث الحقيقي مؤرخًا كان أو فيلسوفًا، لا يستطيع أن يرى الحدث في أثناء صنعه، أي في أثناء حدوثه، إذ ثمة ضرورة في أن يهدأ الحدث ويسكن وينتهي، حتى يمكن للباحث رؤيته في كليته وشموله ومن جوانبه المختلفة في جميع مناحيه، والسيطرة على مجمل مكوناته وعناصره في رؤية بانورامية واضحة، فلا يغيب عن الباحث شيء من محيط رؤياه، وذلك حتى يمكن أن نضع أيدينا على ما حدث وتم بل وانتهى فعليًّا على أرض الواقع، أي حتى نصل إلى الحقيقة الأقرب للصواب. ولهذا يؤكد هيجل في كتابه “أصول فلسفة الحق”، على أن الفلسفة أي الحقيقة التاريخية المتمثلة في الخط، الذي يمثله روح العالم، هذه “الفلسفة تأتي دائمًا متأخرة جدًا، فهي بوصفها فكرة العالم لا تظهر إلا حين يستوفي الواقع مسار تكونه ويأتي على نهايته”.

 إن التاريخ الآني () بالمعنى الذي نعرفه اليوم، ينسف المقولة السابقة برمتها، بالنظر إلى أنه يقر بإمكانية الكتابة التاريخية، في أثناء صُنع أو حدوث الحدث التاريخي ذاته، بل وقبل نهايته وانقضائه. ويندرج التاريخ الآني ضمن ما يُعرف بالتاريخ الجديد، الذي كتب عنه كل من جاك لوجوف وجاك لاكوتير –كما أسلفنا- وهو ما قام به صبري السربوني، الذي كتب عن أحداث ثورة الشعب المصري في 1919، قبل أن تقول الثورة وأحداثها كلمتها الأخيرة، إذ كانت في هذا الوقت ما تزال مستعرة. وهنا نتساءل: هل يمكن لهذا التاريخ الذي يُسجَّل في الآن أو في الحال، أي الذي يتزامن تسجيله مع حدوثه ودون وساطة، هل يمكن بالحيثية السابقة، أن يكون مقبولًا بمنهجية التاريخ العلمية التي نعرفها؟

 إن الذي يدفع إلى الاعتقاد بصحة هذه المنهجية الجديدة في كتابة التاريخ الجديد –كما يرى البعض: أن الذي يسجل الحدث هو صانعه نفسه، أي هو المُنتج الحي للتاريخ، وهو الذي يقدم بنفسه تاريخه الذي صنعه إلى قارئه أو مستهلكه -إذا صح التعبير-يقدم أصحاب هذه الرؤية الجديدة منهجيتهم على شكل خط يُطلقون عليه خط التاريخ الآني، وهو يبدأ من الكتابة الصحفية ويسير حتى يصل لأبحاث التاريخ المعاصر، وبخاصة عندما تعتمد تلك البحوث على مناهج التحقق والاستجواب. 

كتاب صبري السربوني على ضوء التاريخ الآني

إن ما يميز التاريخ الآني يكمن في بُعدين تتم من خلالهما المقاربة: يتجلى الأول في القرب الزمني لعملية كتابته، ويتجلى الثاني في القرب الميداني بين المؤرخ الباحث، والحدث موضوع التسجيل. من هنا يصف البعض هذه العملية بأنها عملية من طرف فاعل، أو شاهد قريب من الحدث ومن القرار المُتخذ في الوقت نفسه().ولعل هذا ما يمكن أن ينطبق بتمامه على كتابيِّ صبري السربوني الذي لم يكن قريبًا في الزمن من الأحداث فحسب –كما رأينا- بل قريب من موقع الأحداث ذاتها، وسكرتيرًا للوفد المصري المفاوض في باريس، والذي يتخذ القرار بناءً على التفويض الشعبي العارم الذي مُنح إياه.

لعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ألا يمكن أن يختلط هذا التاريخ الآني بهذا المعنى بالعمل الصحفي، الذي لا يمكن على الإطلاق الاستناد إليه في الوصول إلى رؤية تاريخية متزنة، يقرها المنهج التاريخي الذي نعرفه؟ 

ولأن السؤال جاد ويحتاج إلى إجابة مقنعة، دعونا نتوقف قليلًا للمقارنة بين كل من الصحفي والمؤرخ فيما يتصل بموضوعنا. إذا كان الصحفي يشترك مع المؤرخ، في أن المعطيات والحالات والملاحظات التي يحوزها حول موضوعه، شديدة الضآلة وتكاد تكون غير كافية للإمساك بثنايا الحدث كافة ()، فإن ما يميز المؤرخ عن الصحفي هو الرغبة في التجميع وعدم التسرع في البحث، بالإضافة إلى أن كتابات المؤرخ عن الحدث، ستحكمها إرادته العقلانية التي ستتدخل في تنظيم وتحديد مشاهد الحدث، وستدفعه منهجيته إلى إيجاد معنى إشكالي يربط به ما يعرضه من جهة، ومن جهة أخرى ستدفعه إلى أن ينوِّع من مصادره ومن حجم وثائقه، كما سيكون مسكونًا بأهمية الفحص والتحري، ومقاطعة الأحداث بعضها بعضًا. ولننظر هنا في كتاب السربوني بجزئيه وما استطاع جمعه من معطيات وملاحظات ووثائق وشهادات ومقالات لم تكن ضئيلة، بحكم أنه كان ممسكًا بكل خيوط الحدث من خلال موقعه كسكرتير للوفد، ومن ثم استطاع الإمساك بتفاصيل الحدث، فتخطى في عمله التوثيقي والتأريخي عمل الصحفي، مع أنه لم يحصل على الوقت الكافي لإنجاز عمله. كما لا يغيب عن الرؤية مدى ما بذله السربوني من جهد ودأب في اختيار وتنظيم وترتيب المشاهد المختلفة لأحداث الثورة في المديريات والقرى والنجوع المختلفة في كل أنحاء مصر، وعلى كل مستويات المجتمع المصري آنذاك. 

 لعل منهجية صبري السربوني هنا قد دفعته إلى خلق معنى إشكالي في كتابه المزدوج، وهو ما ظهر جليًّا في الجزئين على هيئة جدلية تؤيد القضية الأولى فيها، كون الثورة قد جاءت بناءً على وعي سياسي لدى المصريين، أججته الثورة الفرنسية عندما دعت إلى الحرية والأخوة والمساواة، وعندما تبنت حقوق الإنسان والمواطن، وهو ما كانت تؤيده بعض القوى السياسية والوطنية في مصر. وترى القضية الثانية أن ما اعتبرته القضية الأولى ثورة، ما هو إلا هبة عفوية حرَّض عليها المتآمرون من بعض المصريين، للإضرار بالعلاقات المتميزة بين الشعبين المصري والبريطاني الصديقين، وهي القضية التي كان يؤيدها الاستعمار البريطاني، ونشرها على نطاق واسع من خلال أبواقه الإعلامية في العالم.وعمل صبري جاهدًا وفي محاولة حثيثة لتأكيد القضية الأولى وتفنيد القضية الثانية وإثبات عدم صحتها، ليبين للأوربيين عمومًا وللفرنسيين على وجه الخصوص أصالة التحرك الشعبي الواعي في مصر. ولم يدخر السربوني وسعًا في تنويع مصادره في ذلك، فاحصًا ومتحريًا ومحللًا كل ما يقع في يده من وثائق وتقارير أحداث، مقارنًا بينها ومستخلصًا منها النتائج الموضوعية، مطبقًا عليها المنهج التاريخي في مستوياته المختلفة.

ولعل كل ما سبق سيكون على العكس من عمل الصحفي الذي ستحكمه المصادفة، أي مصادفة وجود الصحفي عفوًا في مكان الحدث، من هذا المنطلق تصبح كتابة المؤرخ عن الحدث أكثر انضباطًا والتزامًا، بل وقربًا مما حدث، وهذا ما عايناه في عمل صبري السربوني عن الثورة المصرية.

هناك سؤال آخر يمكن أن يفرض ذاته، يتصل بجهل المؤرخ الآني لنهاية الحدث، وذلك على عكس المؤرخ العادي الذي نعرفه، والذي يمسك بتلابيب الحدث من بدايته إلى نهايته، التي خبرها وعلم مسبقًا بما آلت إليه الأمور تمامًا: هل من الممكن إذن أن يؤثر هذا الجهل على الحقائق التي يمكن أن يصل إليها المؤرخ الآني؟

ما قام به السربوني، وعند قراءته اليوم ونحن نعرف ما آلت إليه الأمور بدقة عقب أحداث الثورة، لا تجعلنا نقول إن عدم معرفته بنهاية الحدث قد أثَّر على رؤيته الكلية للموضوع، فتركيزه على بعض الأحداث بحدسه التاريخي جاء في صالح الأحداث التي عرض لمشاهدها، وفي إطارجدلية الإشكالية التي وضعها السربوني بين ثورة الشعب الواعية، والهبة العشوائية المثارة من قِبل آخرين. وإذا أضفنا إلى ما سبق أن جهل المؤرخ الآني بالنهايات، لا يجعله معزولًا أو أعزل، لأن العمل الذي يقوم به نفسه يعتبر فصلًا من فصول الدراما، مستندين في ذلك إلى أن هذا المؤرخ يعي تمامًا بهذا الأمر، بل ويتحمل مسؤوليته في التواصل غير الواضح، بل أكثر من ذلك يرون، أن ما يكتبه يظل حاضرًا، إلى الحد الذي يجعل كل التطورات اللاحقة فيما بعد، لا تستطيع أن تطول معنى أو جوهر أو طبيعة ما كتبه بصورة جذرية، وهم يضعون كأمثلة حية على ذلك: ما كتبه المفكر الفرنسي إدجار موران E. Morin عن ثورة الطلاب بفرنسا في 1968 في جريدة اللوموند، أو ما كُتب في جريدة الواشنطن بوست عن فضيحة وترجيت، أو حتى ما كتبه ميشيل فوكوM. Foucault عن الثورة الإيرانية من طهران.

هنا سيمكننا أن نضيف وبالقدر نفسه إلى ما سبق، ما كتبه صبري السربوني عن ثورة 1919، وهو سابق لهم جميعًا في هذا المضمار، وسنرى أن ما ميَّز كتابته وعيه بأنه يكتب أو بالأحرى يؤرخ لثورة 1919، بينما كان معاصرونا واعين بأنهم يقومون بعمل صحفي لا أكثر ولا أقل، إضافة إلى أن السربوني كان لصيقًا لأقصى حد بالحدث الذي كان يؤرخ له، وكأن فصول الدراما التي كان يكتبها السربوني، يمثلها في الوقت نفسه، إذ يصبح فعل الكتابة هو فعل التحقق على أرض الواقع. ولعل إذا ما نظرنا إلى كتاب السربوني في جزئية سيمكننا التحقق من ذلك، فتطورات المواقف اللاحقة لم تؤثر على جذرية معنى أو جوهر وحضور النص الأول، الذي قام بتحريره.

أكثر مما سبق، هو إمكانية أن يتحول الجهل بمعرفة نهاية الحدث التاريخي، واستحالة التكهن بنهاية الفترة موضع الدراسة، من نقطة سلبية إلى نقطة إيجابية بامتياز، عندما يدرس الحدث بعمق مقتصرًا على دلالته، دون أية تأثيرات من أفكار أو من نهايات مسبقة، الأمر الذي يجعله أقرب للحقيقة المأمولة، أي حقيقة الحدث في ذاته كما حدث على أرض الواقع. ولعل مصدر قوة وفاعلية النص التاريخي للسربوني لأحداث ثورة 1919، يكمن في هذه النقطة بالذات، فلولا ما كتبه لم نكن نعرف حتى الآن مدى ما بذله المصريون رجالًا ونساًء ومسلمين وأقباطًا من جهد وتضحيات في أثناء الثورة، تكتيكاتهم وردود فعلهم وتظاهراتهم وتقنياتها وتخطيطاتهم، وفي المقابل تفاصيل ما قام به الإنجليز على الأرض من محاولات لإفشال هذا الحراك غير المسبوق للمصريين.

إن معرفة المؤرخ بنهاية معركة ما، قد تجعل الحقيقة تفلت من بين يديه، عندما يؤدي به ذلك إلى سوء تقدير صلابة المهزوم في المعركة، أو عندما ينزع عنه الحيوية وشجاعة المقاومة، التي أبداها أمام من هزمه، وبغض الطرف عما يمكن أن تؤول إليه الأحداث، ففضيلة التاريخ تكمن في البحث عن وقياس التغييرات، عندما يقوم المؤرخ بتقدير مسارات الحدث، دون أن يربطه بما يمكن أن تؤول إليه الأمور. وإذا كان التاريخ يطلعنا على أن المصريين لم ينتصروا عقب ثورتهم، إلا أن فضيلة كتاب السربوني تطلعنا على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هزيمة الثورة والالتفاف عليها وعلى أهدافها، وتدلنا أيضا على خلفيات وكواليس الإخفاق داخليًّا وخارجيًّا، كما تحدد بدقة المتعاونين والخونة ومن تسببوا في إهدارهذا الزخم الشعبي العارم الذي لم تشهد له مصر نظيرًا، إلا في أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011 في العصر الحديث، مع اختلاف المنطلقات والاسباب وطبيعة الزخم بطبيعة الحال.

 إن البعض يمثل دراسة المؤرخ الآني التي يطرحها باعتبارها سُلّما يتركه إلى جوار حائط (الحدث التاريخي)، على المؤرخ أن يتسلق بسرعة، ويسبر في عجالة، ويكتشف في الحال، ويعبر بطريقة تملؤها العجلة والحماسة والحرارة، معوّضا وبشكل تدريجي –كما يرون- قصر المدة بتنوع المصادر المعروضة أمامه وكثرتها، ومع ذلك فقد ترك السربوني في كتابيه مادة علمية غزيرة يمكنها أن تساعد الباحثين والمؤرخين اليوم ممن يريدون الكتابة عن أحداث ثورة 1919، يجد فيها الباحث حرارة بل وطزاجة الحدث التاريخي، صحيح غلبت الروح الوطنية على نص السربوني، لكننا ذكرنا منذ البداية أن ما قام به السربوني هو امتداد للمدرسة الوطنية عند الطهطاوي في كتابة التاريخ الوطني لمصر. 

ويبقى السؤال المهم والمتمثل في الكيفية التي يمكن للمؤرخ الآني، أن يحافظ بها على موضوعيته، إذ أن ارتباطه بالعصر والثقافة التي يحياهما، وبقضية بلاده في الحرية والاستقلال، إضافة إلى إطاره الإبداعي، هي في حقيقة الأمر عبارة عن تأثيرات، تنيخ بوطأتها على بحثه، بل ويمكنها أن توجه تأويلاته وتأملاته، بحيث يمكن لها أن تتدخل، في طبيعة الحقيقة التي سيتوصل إليها، وهذا نفسه ما يمكن أن ينطبق على مؤرخنا، بل وعلى أي مؤرخ آخر. 

في الواقع لا يمكننا استثناءأي مؤرخ كان من هذا النقد، إذ أنه أيضا يرتبط بعصره وبثقافته وبإطاره الإبداعي –كما سبق وبيَّننا- حتى لو عالج أحداثًا تاريخية من الماضي، فلن يقرأها إلا على أساس حاضره، فليس ثمة بحث تاريخي إلا بالنسبة لحاضر ما –كما سبق وبيّننا أيضا-، يُضاف إلى ذلك مواقف وقناعات المؤرخ وايديولوجيته السياسية أو الدينية... إلخ. 

يمكن القول إذن، إن المؤرخ الآني وما يتعرض له من إغراءات وتأثيرات، ليست حكرًا عليه وحده، بل هو عامل مشترك لكل من يتصدى للكتابة التاريخية في أي عصر أو مصر، ومن ثم المؤرخ النزيه هو الذي يعي بكل هذا، ويعلن خياراته ويوضح اتجاهاته وتوجهاته وأيديولوجيته منذ أن يشرع في كتابة بحثه التاريخي، ولن يكون هذا خروجًا عن أسس الحقيقة، بل سيكون تأكيدًا على هذه الأسس، بل وتفعيلًا لما يتناساه –جهلًا أو قصدًا- بعض المؤرخين، وهذا ما فعله السربوني منذ البداية، أراد بكتابه عن ثورة 1919، أن يدافع عن قضية بلاده في الحرية والاستقلال عن البريطانيين، وأراد أن يثبت للعالم أن المصريين قد وصلوا إلى الوعي اللازم لكي يخرجوا عن حماية دولة عظمى مثل إنجلترا، وأنهم جديرون بهذا الاستقلال الذي يطالبون به، وأنهم على علم ووعي كامل بكل القيم الإنسانية العليا في عالمهم المعاصر.