عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919
عماد أبو غازيثورة 1919.. ثلاث رؤى ماركسية
2019.05.01
ثورة 1919.. ثلاث رؤى ماركسية
منذ قامت ثورة 1919، صدرت مئات الكتب والدراسات والمقالات التي تتناولها من جوانبها المختلفة، ومن الطبيعي أن تختلف التحليلات والنتائج باختلاف المنطلقات الفكرية لأصحابها، وأتناول هنا قراءة الماركسيين المصريين للثورة؛ وتنقسم الدراسات الماركسية لثورة 1919 إلى نوعين:
الأول: الدراسات التي قام بها أكاديميون ينتمون إلى الحركة الشيوعية تنظيميًّا أو يتخذون المادية التاريخية منهجًا في البحث العلمي؛ مثل: د. محمد أنيس ود. عبد العظيم رمضان ود. عبد الخالق لاشين.
والثاني:كتابات بعض أعضاء التنظيمات الشيوعية المصرية عن الثورة؛ إما في كتب مستقلة أو في فصول من كتب أو في مقالات تتناول جانب من جوانبها.
ثلاثة مؤلفين وثلاثة كتب
اخترت تقديم ثلاثة نماذج من النوع الثاني كتبها ماركسيون لم يشاركوا في الثورة، ولكنهم نشأوا في الأجواء التي انتجتها، وقد قدموا رؤيتهم بعد مرور سنوات على الحدث، وبعد أن انتهت الحقبة شبه الليبرالية التي دشنتها الثورة.
والكتب الثلاثة حسب ترتيب صدورها «تطور الحركة الوطنية المصرية 1882–1956» لشهدي عطية الشافعي؛ و«دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ عصر المماليك» لفوزي جرجس؛ و»ثورة 1919 في ضوء التفسير المادي للتاريخ» لفتحي الرملي، وثلاثتهم ينتمون إلى الحلقة الثانية من الحركة الشيوعية في مصر؛ التي بدأت في النصف الثاني من الثلاثينيات من القرن الماضي وانتهت بحل الحزبين الشيوعيين الرئيسيين في عام 1965.
أولهم شهدي عطية الشافعي؛ ولد عام 1911 وكان واحدًا من القادة البارزين للحركة الشيوعية المصرية في حلقتها الثانية؛ وأصبح عضوًا في اللجنة المركزية لمنظمة «أيسكرا»، التي تعد من المنظمات الرئيسية في الحركة الشيوعية المصرية في الأربعينيات،وقد توحدت مع «الحركة المصرية للتحرر الوطني»، لتؤسسا «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو) في صيف عام 1947؛ وأصبح شهدي عضوًا في قيادة المنظمة الجديدة بعد الوحدة؛ في لجنتها المركزية، ثم في مكتبها السياسي؛وعندما بدأت الصراعات داخل التنظيم الجديد قاد شهدي «التكتل الثوري» داخل «حدتو» في نوفمبر من العام نفسه.
وفي مجال العمل العلني شارك في تأسيس دار الأبحاث العلمية مع عدد من رفاقه بعد عودته من بعثته لإنجلترا التي حصل فيها على الماجستير في الأدب الإنجليزي؛ وفي عام 1945 أصدر شهدي وبعض زملائه كتيبًا بعنوان «أهدافنا الوطنية»، كما قام بترجمة عدد من الكتابات الماركسية إلى العربية؛وكان أحد المشرفين على صحيفة «الجماهير» التي أصدرتها «أيسكرا» بشكل علني.
وقد سُجن شهدي عطية في العهد الملكي سبع سنوات؛ وبعد خروجه من السجن عام 1955 واصل نشاطه السياسي؛ وأصبح عضوًا في قيادة «الحزب الشيوعي المصري المتحد» الذي تشكل سنة 1957، وبعد فصله سنة 1958 مع مجموعة من قيادات الحزب أعادوا تأسيس «حدتو»؛وقد اعتقل مرة أخرى في أثناء فترة اعتقال الشيوعيين المصريين التي امتدت من سنة 1959 إلى 1964؛ واستشهد تحت التعذيب في أوردي ليمان أبو زعبل يوم 15 يونيو 1960.
هذا وقد انتهى شهدي من تأليف كتابه في شهر ديسمبر 1956 مع نهاية العدوان الثلاثي على مصر، وصدرت طبعته الأولى عام 1957؛ وكما يقول شهدي في التمهيد للكتاب؛ إنه يكتفي فيه بدراسة الملامح الأساسية للحركة الوطنية في تطورها منذ 1882.
أما فوزي جرجس فيعتبر واحدًا من قادة التنظيمات الشيوعية الصغيرة في الحلقة الثانية من حلقات الحركة الشيوعية المصرية؛ وقد بدأت علاقته بالفكر الماركسي في بداية الأربعينيات من خلال تردده على «الاتحاد الديمقراطي» أحد المنظمات العلنية للشيوعيين،ثم انضم إلى جماعة «ثقافة وفراغ»،التي وقفت منظمة «تحرير الشعب»خلف تأسيسها، وعندما بدأت علاقته تتوطد بالفكر الماركسي وتشكلت حوله حلقة من المثقفين الشبان سعى نحو التنظيم السري، فانضم إلى عضوية «الحركة المصرية للتحرر الوطني»، وشارك في جهود مكتب المثقفين بها لترجمة الأدبيات الماركسية إلى العربية.
وكان لفوزي جرجس خلافاته التنظيمية والسياسية مع «الحركة المصرية للتحرر الوطني»، أبرزها بناء التنظيم وقضية تمصير القيادة، وفي أعقاب الضربة البوليسية التي وجهتها حكومة إسماعيل صدقي للحركة الشيوعية في صيف 1946 انشق فوزي جرجس مع عدد قليل من أعضاء الحركة وشكلوا «العصبة الماركسية»وشغل فيها الرجل موقع المسئول التنظيمي، وسرعان ما تفكك هذا التنظيم؛ لكن جرجس أعاد جمع شتاته تحت اسم «نواة الحزب الشيوعي المصري»؛ وقد اتخذت كلتا المنظمتين موقفًا مضادًا لوحدة الشيوعيين دون حل الخلافات الأيديولوجية والتنظيمية حلًا كاملًا، وفي النهاية انضمت مجموعة «النواة» إلى «الحزب الشيوعي المصري الموحد» الذي تأسس عام 1956، وكان فوزي جرجس رافضًا لهذه الوحدة واستمر مع بعض رفاقه في «النواة».
يؤكد فوزي جرجس في نهاية مقدمته أن كتابه لا يغرق في التفاصيل ولكنه «يقدم المعالم الرئيسية لتاريخنا الحديث، مبينًا الظروف الاجتماعية الداخلية والخارجية التي تمت فيها الحوادث، ومحددًا هذه المراحل في اندفاعها وانتكاساتها، ومحددًا القوى الاجتماعية التي تلعب دورها في هذه الأحداث.»
وتظهر في الكتاب روح نقدية عالية لتحليلات ماركسية مصرية ربما أبرزها كتاب شهدي عطية الذي صدر قبل كتابه بشهور، وتكشف عن جانب من الخلافات الفكرية داخل الحركة الشيوعية المصرية.
ومع أن فتحي الرملي ينتمي إلى نفس الجيل إلا أنه يختلف عن رفيقيه في أنه كان يرفض الانضمام للتنظيمات السرية، وهو صحفي وكاتب وسياسي يساري، له عدة مؤلفات سياسية وتاريخية وأدبية غير هذا الكتاب، كما أشرف لفترة على إصدار صحيفة«البشير» وأضفى عليها الطابع اليساري.
وكان فتحي الرملي مستقلًا من الناحية التنظيمية في أغلب مراحل عمله السياسي، لكنه انضم لجماعات علنية مثل «جماعة الخبز والحرية»، وكان سكرتيرًا لها، ثم شارك في تأسيس «الجبهة الاشتراكية» عام 1944، ويصفها في تحقيقات النيابة معه بأنها كانت شبه تنظيم؛ بمعنى أنها كانت مجموعة تعمل علنًا وتنشط وتنافس دون أن تكون تنظيمًا بالمعنى المفهوم؛ولكن في كتابه «ضوء على التجارب الحزبية في مصر» يخصص للحديث عنها ثلاث صفحات «وفي أواخر سنة 1944، ظهرت فجأة هيئة تسمي نفسها «الجبهة الاشتراكية» تلتف حول مرشح شاب لها، هو كاتب هذه السطور، وكانت الجبهة الاشتراكية هي مجموعة الخلايا التقدمية المختلفة، بعضها شيوعي، وبعضها اشتراكي، وبعضها تروتسكي، ينتمي بعضهم مذهبيًّا إلى الدولية الثانية، والثالثة والرابعة»؛ويؤكد فتحي الرملي أن الجبهة استمرت تعمل حتى عام 1952 وسمت نفسها «الحزب الديمقراطي»، الذي ألغي مع الأحزاب كلها بعد وصول الضباط الأحرار إلى الحكم؛كما اشترك كذلك في تأسيس جمعية باسم «نحن أنفسنا»،وشارك في نشاط «لجنة نشر الثقافة الحديثة»،وألف «جماعة الدعوة لتأميم قناة السويس» عام 1950؛وقد خاض فتحي الرملي كثيرًا من المعارك السياسية، منفردًا أو مع مجموعات صغيرة من رفاقه؛ فرشح نفسه في الانتخابات البرلمانية في دائرة السيدة زينب عام 1945 على المبادئ الاشتراكية، كما أضرب عن الطعام مرتين؛ الأولى احتجاجًا على قانون الاشتباه السياسي، والثانية من أجل إلغاء معاهدة 1936 قبيل شهور من إلغائها؛وقد توفي فتحي الرملي في عام 1977.
وقد نُشر كتابه عن ثورة 1919 في الذكرى الأولى لوفاته، وتاريخ تأليف الكتاب غير واضح، لكن الراجح أنه كتبه في تاريخ تالي لضم مذكرات سعد زغلول إلى دار الوثائق القومية في منتصف الستينيات، إذ يستشهد بفقرات منها؛ وقد بذل جهدًا واضحًا في الرجوع إلى المصادر الأصلية مثل مذكرات سعد زغلول ومذكرات محمد فريد، وأوراق القضايا السياسية منذ بدايات القرن العشرين، والوثائق البريطانية، بالإضافة إلى بعض المصادر من الصحافة الأجنبية، وبعض المراجع التي تناولت تاريخ مصر أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ ونقل فقرات من كتاب شهدي عطية الشافعي.
ويجمع الكتب الثلاثة أنها نشرت بشكل علني وتم تداولها بين القراء بدرجات مختلفة، وكانت موجهة للجمهور العام، وليس لأعضاء التنظيمات السرية أو جمهورها المحدود، وقد تميزت الموجة الثانية من الحركة الشيوعية بالجمع بين الإصدارات السرية وأسلوب النشر العلني، فإذا كانت الموجة الأولى في العشرينات كانت علنية الطابع بالكامل، بينما أفرطت أبرز تنظيمات الموجة الثالثة في السرية؛ فإن تنظيمات الموجة الثانية جمعت بين الأسلوبين منذ نشأتها، ولجأت إلى النشر الواسع من خلال صحافتها العلنية ومن خلال إصدارات دور النشر التي أسستها الحركة.
ويُعد كتابي شهدي عطية الشافعي وكتاب فوزي جرجس من الكتب التي اعتمدها الشيوعيون المصريون كمرجعية في التعامل مع التاريخ المصري، وقد طُبع كتاب شهدي عطية وكتاب فوزي جرجس أكثر من طبعة، بينما لم يلق كتاب فتحي الرملي نفس القدر من الانتشار والتلقي في صفوف الشيوعيين المصريين، أو القراء بصفة عامة لأنه لم يطبع سوى طبعة واحدة محدودة التوزيع قامت بها أرملته.
المنهج والتناول
اتخذ المؤلفون الثلاثة المادية التاريخية منهجًا لهم في كتبهم، لكن فتحي الرملي الوحيد من بينهم الذي أفصح عن هذا في عنوان كتابه؛ وأكدفي مقدمته تبنيه للتفسير المادي للتاريخ، ولفكرة الحتمية والصيرورة في حركة التاريخ.بينما لم يذكر شهدي عطية الشافعي وفوزي جرجس المادية التاريخية بشكل صريح عند حديثهما عن منهجهما فيالتأليف، وربما يرجع الأمر إلى الاختلاف في الوضع السياسي وهامش الديمقراطية وحرية النشر بين فترة الخمسينيات التي نشرا فيها كتابيهما، وفترة السبعينيات التي نُشر فيها كتاب الرملي، بالإضافة إلى شخصية الرجل الرافض للعمل السري.
ويؤكد شهدي في كتابه على أنه يتبنى منهجًا علميًّا قوامه «أن تاريخ التطور الاجتماعي، هو، أولًا وقبل كل شيء، تاريخ الشعوب؛ وإن التاريخ لا يمكن أن يكون علمًا حقًا، إذا قصر نفسه على دراسة أعمال الملوك وقواد الجيوش، وأخبار الغزاة، وتفاصيل المفاوضات والمعاهدات»؛
كما يطرح فوزي جرجس منهجه دون أن يشير هو الآخر إلى المادية التاريخية أو المادية الجدلية تصريحًا «وقد راعيت في منهج البحث ألا أنظر إلى أحداث التاريخ على أنها منفصلة عن بعضها، أو منعزلة عن الظروف التاريخية المحلية والعالمية التي نشأت ونمت فيها، فالواقع ليس منعزلًا، بل مترابطًا ومتشابكًا، وتؤثر الأحداث على بعضها تأثيرًا إيجابيًّا، ويكيف بعضها البعض الآخر بصورة متبادلة، وفي حركة صاعدة دائمة التغيير، ومن هنا كان لابد أن ندحض تلك الخرافة القديمة التي تنادي بأنه «لا جديد تحت الشمس»، إذ أنه هناك دائمًا جديد تحت الشمس، وأن كل شيء في تغيير… إلا التغيير نفسه.»
ورغم تأكيد شهدي على أن منهجه يركز على تاريخ الشعوب؛ فهو لا ينكر دور القادة ولكنه يرهنه بقدرتهم على تمثيل مصالح شعوبهم وإدراكهم لقوانين تطور المجتمع. ويشير في التمهيد كذلك إلى أن الكتاب يجمع بين التحليل وسرد الوقائع، وإلى أنه محاولة لتطبيق المنهج العلمي على دراسة التاريخ المصري؛ ويؤكد أنها المحاولة الأولى من نوعها.بينما يطرح الرملي في الفقرات الأولى من الكتاب إشكاليات نظرية في الكتابة التاريخية، مثل: الذاتية والموضوعية في كتابة التاريخ، ودور الفرد والجموع في الحدث التاريخي أو دور الزعيم ودور الجماهير في الثورة، ثم تعريف الثورة، ثم إشكالية دور التنظيم والحركة التلقائية للجماهير؛ التي يعود إليها في أكثر من موضع في كتابه.
وتختلف مساحة الحديث عن ثورة 1919 بين الكتب الثلاثة، فقد خصص فتحي الرملي كتابه لدراسة الثورة؛ وانتقل بعد المقدمة المنهجية لتناول دوافع قيام الثورة في فصلين، ثم مناقشة حدث الثورة في أربعة فصول؛ من حيث تتابع الأحداث والتنظيم وعلاقة الزعامة بالجماهير؛واحتل تحليل شخصية سعد ودوره مساحة كبيرة من الكتاب؛ ثم نتائج الثورة.
بينما تحتل الثورة مساحة متفاوتة من كتابي شهدي عطية وفوزي جرجس؛ فالكتابان يتناولان الثورة في إطار قراءة أوسع للتاريخ المصري؛ فكتاب شهدي عطية معني بتطور النضال الوطني في مصر منذ الاحتلال إلى الجلاء؛ ويتضح هذا من مفتتح الفصل الأول المعنون «الاستعمار والسيطرة الاقتصادية»، والذي يستهله بفقرة «احتلال مشئوم».
ويشغل الحديث عن ثورة 1919الفصلين الرابع والخامس من الكتاب؛ في الفصل الرابع وعنوانه «ثورة 1919»؛ يناقش خمسة موضوعات: الموضوع الأول ظروف الثورة، إذ يستعرض الأوضاع التي مهدت للثورة محليًّا ودوليًّا، خصوصًا في السنوات السابقة على الثورة مباشرة؛ ثم يستعرض تكوين الوفد؛ وينتقل إلى اشتعال الثورة؛ ويخصص الموضوع الرابع للحديث عن الحركة العمالية وتأسيس أول حزب اشتراكي ثم أول حزب شيوعي في مصر؛ ويختم هذا الفصل بدراسة مفصلة حول انقسام قيادة الوفد؛أما الفصل الخامس فعنوانه «نتائج الثورة»؛ وينقسم إلى ثلاثة عناصر رئيسية: ما حققته الثورة؛ ما لم تحققه الثورة؛ لماذا لم تنجح ثورة 1919 في تحقيق أهدافها؟
أما فوزي جرجس فالدائرة لديه أكثر اتساعًا، إذ تمتد الفترة التي يتناولها في كتابه إلى عصر المماليك؛ يبدأ الكتاب بفصل يدرس فيه بإيجاز وضع مصر منذ القرن الرابع عشر، مؤكدًا أن مصر في هذه المرحلة كانت في نفس الدرجة من الناحية الاجتماعية مع الدول الأوروبية فكلاهما كان يُحكم بنظم إقطاعية، لكن مصر كانت أكثر تطورًا ورقيًّا من أرقى الدول الأوروبية؛ ثم يقارن بين حال الطبقة الوسطى في كل من مصر وأوروبا في محاولة لتفسير افتراق مسارات التاريخ؛ويتابع في الفصل الأول استعراض تطور مصر في ظل الحكم العثماني حتى مجيء الحملة الفرنسية، ويصنف نظام محمد علي بأنه مرحلة جديدة من مراحل الإقطاع؛ ويخصص الفصل الثاني لدراسة تأثير العصر الاستعماري في القرن التاسع عشر على أوضاع مصر الاجتماعية والاقتصادية، ثم ينتقل في الفصل الثالث لدراسة التدخل السياسي في مصر في العصر الاستعماري؛ وينتهي إلى «أن مرحلة حكم عباس ثم سعيد، كانت بداية مرحلة جديدة في تاريخ الشعب المصري، تبلورت وتطورت أكثر خلال حكم إسماعيل؛ ففي الغيبة الكاملة للرأسمال الوطني تدفقت رؤوس الأموال الأجنبية على البلاد، وأقام الاستعمار المشروعات الاستغلالية، وأوعز إلى الحكام بمد شبكة من الطرق والمواصلات البرية والنهرية، فربطت البلاد ربطًا سريعًا وسهلًا، وصدرت اللائحة السعيدية بتمليك الأرض للفلاحين.
وهذا التفتيت كان من المحتم أن يتم بالتطور الطبيعي للرأسمال الوطني، ولكنه لم يتم أيضًا في هذه المرحلة من تاريخ مصر، ولكن تطور الرأسمالية الأوروبية الذي يتخطى حد المقارنة إذا ما قيس بتطور الرأسمال الوطني جعلها هي التي تقوم بهذا الدور في مصر لمصلحتها هي وضد مصالح الطبقات الشعبية المختلفة، وضد الرأسمال الوطني. ولما كانت هذه السيطرة قد تمت في مرحلة تاريخية كان فيها الشعب المصري مضطهدًا، نتيجة الضربات العديدة المتلاحقة التي أصابته، لذلك فإن الفرصة كانت مواتية للاستعمار لكي يظل يعرقل تطوره سنينًا طويلة. لقد حدث التفتت في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإقطاعي، وأصبح المجتمع المصري مجتمعًا تابعًا شبه إقطاعي».
ومن الجدير بالملاحظة أن فوزي جرجس لم يخصص فصلًا من كتابه بعنوان ثورة 1919، وتعرض لها في سياق الفصل بعنوان «1914-1924 الحرب وإعلان الحماية على مصر»، كما تعرض لبعض نتائجها وآثارها في عدة مواضع من فصل بعنوان «1924-1939».
2 - أسباب قيام الثورة
تركز الكتب الثلاثة على تحليل الوضع الطبقي في مصر في السنوات التي سبقت الثورة؛ في محاولة لتفسير موقف كل طبقة من طبقات المجتمع المصري من الثورة ودوافعها للاشتراك فيها أو الوقوف ضدها، كما تحاول تقديم قراءة من منطلق المادية التاريخية لتأثير سياسات الاحتلال على كل طبقة؛ وفي السياق نفسه يتتبع الكُتّاب الثلاثة الوضع السياسي في مصر في أعقاب الاحتلال البريطاني، والبعث الجديد للحركة الوطنية في مطلع القرن العشرين في علاقته بالقوى الطبقية.
يرى شهدي عطية أن سياسات الاحتلال الاقتصادية منذ البداية كانت أحد الدوافع الأساسية للثورة؛ وإنها أدت إلى تحطيم بقايا الصناعات التي ظهرت في عهد محمد علي باشا، والقضاء على الاكتفاء الذاتي في الريف، وتدمير الحرف والصناعات المنزلية.
وأهم ما يرصده شهدي في تلك المرحلة على مستوى التحولات الاجتماعية الاقتصادية ازدياد الاستقطاب في المجتمع، الذي أصبح يتشكل من قلة من الأغنياء وكثرة ساحقة من الفقراء؛ وعندما يتحدث عن الوضع في الريف فإنه يؤكد أن الإقطاعيين ازدادوا ثراءً، وأن مركز أثرياء الفلاحين ازداد قوة، ولم تعد طبقة أثرياء الريف الطبقة المزعزعة أيام عرابي وأوائل عهد الاحتلال؛ وفي المقابل تفتت الملكية الصغيرة وزاد عدد فقراء الفلاحين، ويرصد كذلك التحولات الطبقية في المدن، حيث أثرى بعض التجار الوطنيين خلال الحرب؛ وظهرت بعض المصانع الصغيرة التي تضم خمسين عاملًا فأكثر، كما ثبتت مصانع كانت مراكزها متهاوية قبل الحرب.
وفي المحصلة النهائية لرصده للوضع الذي أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى يقول «لقد تطورت الرأسمالية الوطنية المصرية إذن في الريف والمدن، وازدادت ثراءً، وازداد نفوذها الاقتصادي، وأصبحت تتطلع خلال الحرب إلى الصناعة فلقد علمتها الحرب وانقطاع الواردات مقدار الأرباح التي يمكن أن تجنيها من هذا الباب، وزيادة نفوذها الاقتصادي جعلها تتطلع خلال الحرب إلى مزيد من السلطان السياسي الذي يحقق لها مصالحها الاقتصادية، ومن ثم زاد التناقض بينها وبين الاستعمار، كما زادت الطبقة العاملة المصرية في المدن والريف عددًا، ولكنها ازدادت بؤسًا.»
ويعرض لمظاهر الاستغلال الاستعماري لمصر خلال سنوات الحرب ويرى فيها سببًا من أسباب الغليان ضد الاحتلال؛ كما يستعرض مظاهر الكبت السياسي التي تعرض لها المصريون على يد الاستعمار، ويخلص إلى النتيجة التالية «لم تبق في مصر طبقة إلا وعانت من الكبت الاستعماري الاقتصادي والسياسي؛ أثرياء الريف بالاستيلاء على أقطانهم بالسعر البخس، تجار المدن وأصحاب المصانع الجديدة بما تهدده السلع الأجنبية من إغراق للسوق المصرية إثر الحرب، حتى اضطرت صناعات كثيرة ناشئة إلى إغلاق مصانعها وورشها؛ المثقفون الوطنيون بسبب الاضطهاد والاعتقال من جهة، والحرمان من الوظائف الهامة من جهة أخرى؛ متوسطو الفلاحين بسبب ما استولت عليه السلطات العسكرية البريطانية من محصولات ودواب بأرخص الأثمان؛ فقراء الفلاحين وأجرائهم بسبب تجنيدهم في الحرب؛ العمال بسبب الغلاء الفاحش وبقاء الأجور على ما كانت عليه؛ البلاد كلها بسبب الحماية، وما فرض عليها من أحكام عرفية وسجن واعتقال ومصادرة لأبسط الحريات.
ثم كانت الأفكار التي بذرها الأفغاني وعبد الله نديم ومصطفى كامل ومحمد فريد؛ والتي تبلورت في كلمتين: الاستقلال والدستور؛ فالثورة كانت لا مفر منها.»
ويناقش فوزي جرجس سياسات الاحتلال حتى الحرب العالمية الأولى، وتأثيرها على مختلف الطبقات؛ إذ يرى أن طبقة واحدة فقط هي التي لم تضر منها بل استفادت، هي طبقة كبار ملاك الأراضي.ويستعرض فوزي جرجس نتائج الحرب العالمية الأولى، التي فتحت الطريق للثورة؛ ويلخصها في التطورات الداخلية التي بدأت مع إعلان الحماية وإنهاء علاقة مصر بالدولة العثمانية وتسخير موارد مصر لخدمة المجهود الحربي البريطاني، وقد أدى هذا إلى معاناة لمعظم طبقات المجتمع، خصوصًا الطبقات الفقيرة، وإلى تزايد السخط بين المصريين، لكن ضعف قيادة الحركة الوطنية من ناحية والقوانين المقيدة للحريات وإعلان الأحكام العرفية من ناحية ثانية أضعفا من قدرات المقاومة، ويرى أن هذا الوضع أدى إلى «ظهور انفجارات ثورية غير واعية، انفجارات فردية وفوضوية تعبر عن وطنيتها المكبوتة في محاولة اغتيال السلطان مرتين.»
ويؤكد مثل شهدي عطية أن ظروف الحرب أرغمت سلطات الاحتلال على السماح بتطور محدود في الصناعة المحلية، كان له تأثيره على التركيبة الطبقية في المجتمع. ويلخص فوزي جرجس الوضع «لم يعد المجتمع المصري كما كان قبل الحرب، ولم يكن الكبت السياسي والاستغلال الاقتصادي الاستعماري البشع إلا ستارًا واهيًا يخفي التحفز الشعبي نحو الانقضاض على الاستعمار والتخلص من سلطته».
ويتفق فتحي الرملي مع هذا الرأي؛ ويؤكد أن الجماهير لم تنم طول الوقت منذ الاحتلال حتى قامت الثورة؛ «بل كانت يقظى تتألم أحيانًا، وتتقلب على جمر الأمل أحيانًا، ولكنها في أسواء الأحوال كانت تغمض عينًا وتفتح أخرى، متأهبة دائمًا، مستعدة باستمرار.»
كما يستعرض الرملي بالتفصيل انعكاس سياسة الاحتلال على أوضاع مصر الاقتصادية والسياسية،وتأثيرها على مختلف طبقات المجتمع المصري؛ ليدلل على أن هذه السياسات ساعدت على اختمار الوضع الثوري، ويكاد يتفق في تحليله مع تحليل شهدي عطية، ويختتم هذا الفصل بأبيات من قصيدة لأحمد شوقي تعبر عن الحالة التي وصل إليها المصريون؛يقتبس منها الأبيات التي يقول فيها
«عبادك رب قد جاعوا بمصر... أنيلًا سقت فيهم أم سرابا».
وفي سياق الحديث عن أسباب الثورة ومقدماتها قام الكُتاب الثلاثة بتتبع تطور الحركة الوطنية في مواجهة الاحتلال منذ حلوله بمصر والمآل الذي انتهت بها إلى قيام ثورة 1919، ودور الأحزاب السياسية التي نشأت في العقد الأول من القرن العشرين، خصوصًا الحزب الوطني، مع محاولة دائمة للبحث عن التأصيل الطبقي لتلك التطورات.
فيرى شهدي عطية أنه رغم ترحيبا لإقطاعيين وعلى رأسهم الخديو توفيق بالاحتلال فإن المعارضة للاحتلال بدأت من جانب بعضهم بعد أن تبينوا نوايا الاحتلال في الانفراد بالسلطة، خصوصًا بعد أن أصبح عباس حلمي الثاني خديو، وكانت خطتهم الاستعانة بفرنسا وتركيا، وتطور الأمر بعد صدام عباس وكرومر، فظهرت المؤيد صحيفة السراي، وكان ظهور الحزب الوطني حزب مصطفى كامل بداية انفصال جزء من المعارضة عن الخديو والإقطاعيين، وظهر حزب الأمة كحزب للإقطاعيين وتبنى حزب الأمة مطالب إصلاحية تافهة.
ويصف القيادة الجديدة للحركة الوطنية التي بدأت في كنف الخديو متطلعة للخارج، قبل أن تستقل حركتها وتتوجه للداخل عقب الوفاق الودي سنة 1904 بأنها كانت تمثل المثقفين الذين يعبرون عن التجار الذين أصابهم الضيق بسبب سيطرة الاحتلال والصناعة الناشئة التي كان الاستعمار يحاول تدميرها بكافة الأساليب، ثم أثرياء الريف الذين يضرهم الاستعمار والإقطاع.
ويعتبر أن التحول الجذري جاء مع قيادة فريد للحزب الوطني وتبنيه اتجاهات جديدة، ويلخص الأمر«لقد كان الحزب الوطني يمثل عدم النضج للطبقة القائدة للحركة الوطنية: ضعفها السياسي، وضعفها الاقتصادي، فقد كان دورها في الاقتصاد ضئيلًا صغيرًا، نطاقه محدود في بعض التجار وأثرياء الريف، كما كانت خبرتها السياسية قاصرة، فتخبطت أول الأمر بين تركيا وفرنسا وأوروبا والخديو عباس، ولم تتجه إلى الشعب إلا بعد أن أدركت بخبرتها الذاتية عبث هذا الطريق، ثم كان لها مواقف رجعية بالنسبة لتحرير المرأة وموقفًا خاطئًا من ثورة عرابي بإدانتها للكفاح المسلح، ثم موقفًا خاطئًا آخر بوقعها في الاستفزاز الديني؛ ورغم اتجاه الحزب بقيادة محمد فريد إلى العمال والفلاحين إلا أن الاستعمار لم يسمح لهذا الاتجاه أن يدعم، إذ سرعان ما أجبر محمد فريد على الهروب خارج القطر، ومن ثم وقعت قيادة الحزب الوطني في المؤامرة التي دبرها لها الاستعمار، مؤامرة تفرقة صفوف الأمة، أقباط ومسلمين؛ واستمرت الحركة الوطنية، حركة مثقفين أساسيًا، فلم تنجح في تكوين جذور قوية لها بين الطبقة العاملة، كما لم يكن لها جذور بين جموع الفلاحين؛ ولم يكن ثمة بعد تنظيمات شعبية واسعة النطاق.»
ويذهب إلى أن ضعف الطبقة العاملة المصرية وغياب تنظيمها المستقل واتخاذ كفاحها السياسي طابع النوبات والانفجارات الوقتية المتباعدة، وتبعيتها من الناحية السياسية لقيادة المثقفين في الحزب الوطني، وغياب الدور السياسي للفلاحين حرمالحركة الوطنية من أكبر قوتين لنجاحها: العمال والفلاحين، «فاستحال على الحركة الوطنية أن تبلغ من القوة ما يتيح لها القضاء على الاحتلال أو التخفيف من قبضته، لكن بذور الثورة الوطنية كانت قد بذرت».
ويعتبرفوزي جرجس الثورة العرابية جاءت نتيجة لتفاعل التطورات الداخلية في مصر والظروف الخارجية خصوصًا في أوروبا؛ ويستعرض القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في الثورة؛ ودوافعها؛ ويرى في عزل إسماعيل بعد موافقته على العريضة الوطنية ضربة للحركة الوطنية ومحاولة لحصارها؛ ويستعرض التطورات التي قادت إلى الثورة، ثم الخلاف بين أجنحتها، إلى أن انتهى الأمر بالاحتلال البريطاني لمصر.
ويفسر مواقف مصطفى كامل التي اعتمد فيها على تناقض مصالح الدول مع بريطانيا بعدم وجود الحزب السياسي الذي يلعب دور الطليعة في المعركة. ويذكر«وإذا كان مصطفى كامل بدأ يقود المعركة ومن ورائه الخديو وتركيا وكل المناوئين لبريطانيا؛ فإن الشعب عندما يخوض المعارك فإنه لا يخوضها لمصلحة هذه الطبقة أو تلك، إنما يخوضها لمصلحته الخاصة، وإذا تحرك فإنه يستمر في التحرك مهما أصيب به من ضربات، لهذا فإنه سرعان ما تفاعل مع ذاته، ومع كل التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في داخل المجتمع، فأخذ يشق طريقه لأهدافه الخاصة، وبعيدًا عن المؤثرات الخارجية… إن تأسيس الحزب الوطني دليل على أن طبقات الشعب بدأت تشعر بذاتها وتحدد كيانها داخل المجتمع، هذا الكيان الذي يبرزه ويحدده الوجود الاقتصادي، والخبرات الكفاحية التي تفرضها ظروف المجتمع في مرحلة معينة؛ إن وجود الحزب الوطني كان تعبيرًا عن المصالح الاقتصادية والوطنية، وعن الخبرات التي اكتسبها الشعب في نضاله ضد الاستعمار وكل القوى المناهضة للتطور، ولكنه تعبير ما زال فجًا، فالطبقة نفسها ما زالت فجة لم تنخرط بعد في ميدان الصناعة الفسيح.»
ويواصل تحليله للحزب الوطني وقيادته وتأثير غياب الصناعة على تبلور المواقف السياسية وفقًا للمصالح الاقتصادية، كما يرصد جوانب القصور في مدركات القيادة لطبيعة المرحلة الاستعمارية على النطاق العالمي، والتحولات التي حدثت في مواقف الحزب مع انتقال القيادة إلى فريد؛ ولكنه يعتقد أن خطاب فريد السياسي يوضح درجة معينة من نضج القيادة تمكنها من كشف ظواهر المشاكل دون لبابها، وعدم القدرة على تقديم الحلول السليمة، وذلك لعدم توافر القوى المادية التي تقف عليها وتكون لها الأساس الفكري والنضالي، إنها تدل على أن الرأسمال الوطني لم يكن بعد قد حدد أهدافه البعيدة، وأن هذا التحديد كان في دور التكوين؛ ويرى أن الحزب الوطني قد أصبح حزبًا يعبر عن مصالح الشعب الواسعة تعبيرًا يتفق مع القوة المحددة التي يمثلها فكريًا، وقد دفعته ظروف التطور التاريخية الحتمية نحو هذا الاتجاه، فإن حالة الفقر المدقع التي كان يعانيها الفلاحين، وفداحة الضرائب، جعلتهم يلتفون حول الحزب الوطني دون سواه من الأحزاب الأخرى التي أوجدها الاستعمار بالتعاون مع كبار الملاك مثل حزب الأمة؛ كما يرى أن وجود الطبقة العاملة وتسرب الوعي النقابي والوطني إليها دفع الحزب الوطني إلى الأمام؛ لكن المشكلة الأساسية في رأيه كانت غياب القوى القادرة على إنجاز شعارات الحزب في الجلاء و«الديمقراطية»؛ ونظرًا للضعف الاقتصادي للطبقة المتوسطة التي كان يعبر عنها فكريًا هذا الحزب، فقد تأثرت الأساليب التنظيمية الكفاحية بهذا الضعف، خصوصًا وأن الحزب نفسه كان يحمل في داخله تيارات، ولم يكن التكوين الفكري لقيادته بقادر على أن يتجه بالحزب نحو خوض المعارك العنيفة والإيجابية ضد الاستعمار المسلح.
ويخلص فوزي جرجس في تحليله للقوى السياسية في المرحلة التي انتهت بقيام الحرب العالمية الأولى وإعلان الحماية البريطانية على مصر سنة 1914، إلى أنه «إذا كان الحزب الوطني هو النتاج الثوري لسياسة الوفاق وانفصال جبهة الشعب عن الجبهة الرجعية، فإن حزب الأمة هو أيضًا نتاج هذه السياسة، إلا أنه النتاج الرجعي، والمعبر الحقيقي عن سياسة الوفاق بين كبار الملاك والاستعمار، لقد تكون هذا الحزب على أيديولوجية استعمارية بحتة، وهي أن بريطانيا أقوى الدول الاستعمارية في العالم ماديًا وأدبيًا، وإنها لا تهزم، وأن الدستور واسع فضفاض لا يتلاءم مع حالة الشعب، وأن الاتساع في الحياة النيابية يتم على سنوات طويلة، وبهدوء وفي علاقات ودية مع الدولة المحتلة، ومع أن هذا الحزب تحلل وانتهى إلا أن هذه الأفكار لم تزل، بل ظلت تعبر عن نفسها بشكل أو بآخر في المجرى الطويل للأحداث السياسية، وهذا هو السر في تشكك محمد فريد سنة 1919 عندما وصلته في منفاه أنباء الثورة من قدرة زعمائها على الاستمرار بها إلى النهاية، فإن معظم قادة الثورة كانوا من أعضاء هذا الحزب الذي انهار وتشتتت عناصره لتتلاءم بعد ذلك مع ذاتها، ومع الظروف الاجتماعية التي تجتازها البلاد.»
أما فتحي الرملي فبدأ دراسته للثورة بالبحث عن الجذور والمسببات، فيالمرحلة التي تمتد إلى بداية الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882؛ بل عاد إلى السنوات الأخيرة في عصر إسماعيل ثم مرحلة الثورة العرابية، وركز على السنوات الأولى من القرن العشرين مع الموجة الثانية من الأحزاب في مصر، انتهاءً بفترة الحرب العالمية الأولى.
يرى الرملي أن ثورة 1919»كانت هي المرحلة الثانية من الثورة العسكرية التي قامت سنة 1881، أو لعلها كانت امتدادًا لها»؛ وإنها نتاج اختمار ظروف موضوعية التقت بتنظيم ظل يعمل بشكل متواصل منذ الاحتلال البريطاني لمصر؛ الظرف الموضوعي يتمثل في الوضع الذي أدى إليه الاحتلال البريطاني لمصر، والاستنزاف المستمر لثرواتها لصالح بريطانيا؛ أما التنظيم ففي اعتقاد الرملي أنه تنظيم سري ظل يعمل في الخفاء باسم جماعة الانتقام، منذ عام 1884، ويرى أن سعد زغلول كان أحد أعمدته الأساسية،ثم أصبح قائدًا لهذا التنظيم السري؛ إذ يربط بين جماعة الانتقام التي قبض على سعد زغلول بتهمة الانتماء إليها عام 1884 وجماعة الانتقام التي اغتالت بطرس باشا غالي، والتنظيم السري لثورة 1919 الذي حمل اسم جماعة الانتقام من بين عدد من الأسماء الأخرى؛ ويدلل على هذه الفكرة التي تتردد بطول الكتاب بأكثر من شاهد، بدأها من قول ينسب إلى الأفغاني في أواخر أيامه «إني ليذهب بي العجب ويأخذ مني كل مأخذ عندما أرى المصريين في جمود، كيف يمضي الشيخ محمد عبده في همته ونهضته، وله من تلاميذه مثل سعد زغلول وإخوانه خير عون؛ ولم تتألف منهم إلى اليوم عصبة حق!» كما يستند إلى ظهور اسم شفيق منصور في عدد من القضايا بداية من اغتيال بطرس باشا غالي حتى اغتيال السردار لي ستاك على استمرارية هذا التنظيم السري المفترض.
ويحلل الرملي موقف الحزب الوطني، وما شهده من تحول في مرحلة قيادة فريد للحزب؛ خصوصًا فيما يتعلق بالموقف من تبعية مصر للدولة العثمانية، ويقارن بين تلك الرؤية والرؤية التي جاءت بها ثورة 1919 وقيادتها.
ويلخص رأيه في الحزب الوطني «وبدأ حزب مصطفى كامل يحول الحركة الوطنية إلى شعارات رومانتيكية مثل: بلادي بلادي لكي حبي وفؤادي… ولا شيء غير تلك الخطب الحالمة، والاشتغال بأعمال هي أقرب ما تكون إلى اختصاص الجمعية الخيرية الإسلامية في ذلك الوقت؛ وهي إنشاء بعض المدارس، وبدلًا من أن يركز الحزب كفاحه في الداخل أولًا جعل هذا الكفاح في فرنسا وسويسرا، وبدلًا من أن يهتم بالعمل مع الشعب المصري بعماله وفلاحيه، اهتم بالعمل تحت الراية العثمانية، بحجة الاستعانة بتركيا على الإنجليز»
ويأتي باستشهاد مهم من مذكرات فريد يؤكد على تحول الرؤية مع قيادته للحزب وتخلصه من فكرة الولاء لتركيا... «إن القوم هنا في تركيا يداعبون حزبنا الوطني ليساعدهم على فتح مصر، وبعدها ينفذون إرادتهم الاستبدادية في بلادنا»ويشير إلى»أن جمال باشا استصحب معه فؤاد سليم بك وأحمد فؤاد ومحمد علي سالم الكاتب بالخارجية، ثم تبعهم الشيخ جاويش - وكلهم قادهم شدة حبهم للدولة والإسلام إلى نسيان مصر ومصالحها؛ فأصبحوا يقولون إن مصر للمسلمين لا للمصريين.»
ويتعرض ثلاثتهم كذلك لتأثير الظروف الدولية على اختمار الوضع الثوري في مصر، فيختم شهدي عطية الجزء الذي يحلل فيه أسباب الثورة بالحديث عن الظروف الدولية التي يلخصها في أمرين: الأول الثورة الروسية، ثم مبادئ ولسن؛ والتي صدقها قادة الحركة الوطنية في مصر وعلقوا عليها الآمال، لكن الرئيس الأمريكي خذلهم عندما اعترف بالحماية البريطانية على مصر في أبريل 1919.
كما يرى فوزي جرجس أن الأحداث العالمية كانت عنصرًا مساعدًا في تحقيق الاندفاع نحو طريق الثورة؛ فمن ناحية الإنهاك الذي أصاب الدول الاستعمارية بما فيها الدول المنتصرة نتيجة للاستنزاف الذي أدت إليه الحرب، ومن ناحية ثانية انفجار حركات التحرر في عدد من بلدان العالم واشتداد قوة الحركات الثورية في عدد من البلدان؛ فمن وجهة نظره أن «كل هذه الأحداث السياسية تفاعلت مع الأحداث الاجتماعية داخل البلاد، ودفعت بها لكي تلتحم مع الاستعمار في معارك ثورية طاحنة».
أما الرملي فلم يركز على التأثيرات الدولية كثيرًا كسبب من أسباب الثورة، وإن كان قد أشار إلى أن الوضع الدولي في عام 1918 مع الإعداد لانعقاد مؤتمر الصلح، دفع المثقفين المصريين إلى التفكير في استغلال هذه الفرصة الذهبية ليطرحوا قضيتهم على الساحة الدولية؛ كما يتناول الرملي بالتفصيل التحول في الوضع السياسي والقانوني لمصر مع إعلان الحماية البريطانية في أواخر عام 1914.
تكوين الوفد المصري وقيام الثورة
يستعرض الكُتّاب الثلاثة تكوين الوفد وما حدث يوم 13 نوفمبر 1918؛ ويرى شهدي عطية أن بداية الحركة كانت مهادنة؛ وإن مقابلة 13 نوفمبر أسفرت عن «مطالب متواضعة كل التواضع، وسبيلها أشد تواضعًا للتفاهم والمفاوضة والمساومة، ثم التحالف والضمانات…»
ويتفق فتحي الرملي مع الرأي بأن ما حدث يومها كان أضعف ما في الثورة؛وفي تقييمه لكلمات سعد مع المعتمد البريطاني، فيما يبدو أنه الرد على شهدي عطية؛ يذكر»وإذا قلنا بأننا يجب أن نضع أي زعيم في زمانه ومكانه، فلا يجب أن تنكر إذن ما قام به سعد فيما بعد من أعمال مجيدة، وأقوال جريئة، تعصف بكل ما قيل من كلمات نارية في جميع الثورات.»
أما فوزي جرجس فيرى أن سعد وصاحبيه في 13 نوفمبر لم يكونوا مدركين لكل هذه العوامل التي تجيش في صدر المجتمع المصري، ولا لحجم التغيرات التي شهدها المجتمع، ولا التأثير الذي ستحدثه زيارتهم على حركة الجماهير، وأن هدفهم لم يكن يتجاوز أفكار حزب الأمة في الحصول على استقلال داخلي تمنحه بريطانيا، وأن قيادة الثورة تشكلت في أغلبيتها من أعضاء حزب الأمة القدامى، والاستقلال الذي كانت تسعى إلى تحقيقه، كان الاستقلال بالطرق السلمية المشروعة.
يؤكد شهدي عطية أن الثورة لم تكن ثورة مثقفين فقط، ويقارن بين ثورة 1919 والحراك الوطني في مطلع القرن العشرين «لقد كانت ثورة 1919 تمثل قفزة كبرى في تاريخ الحركة الوطنية بالنسبة لما كانت عليه أيام مصطفى كامل ومحمد فريد - فقد كانت الحركة الوطنية في أيامهم حركة مثقفين أساسيًا؛ أما ثورة سنة 1919 فقد كانت ثورة على نطاق جماهيري اشترك فيها الملايين من العمال والفلاحين والطلبة والتجار، هبوا جميعًا، وفي وقت واحد حول هدف واحد.»
ثم يتعرض لأساليب الكفاح؛ فيشير إلى الطابع العنيف والمسلح للثورة في بعض الأحيان،وينتقل لمناقشة أساليب التنظيم؛ وكيف شكل جموع المتظاهرين بوليسًا وطنيًا لحفظ النظام، ولجان ثورية في المدن والقرى؛ ويشير إلى تجربتي زفتى والمطرية، ويذكر«لقد تمخضت عبقرية الشعب إذن عن أشكال من التنظيم السليم، كان من شأنها دفع الثورة، ألا وهي اللجان الوطنية، تقوم هي بوظيفة الحكم، وتتصل بالشعب اتصالًا مباشرًا.»
ثم يناقش ما أسماه تردد القيادة؛ فيذكر»ولكن قيادة الثورة/الوفد لم تكن تملك النضج الكافي، ولم تكن تملك الوعي، كما لم تكن ثورية بالمعنى الثوري إلى النهاية، لهذا لم تكتشف في هذه الأشكال من التنظيمات الشعبية أشكالًا ثورية حقًا للتنظيم لو شجعتها ودفعت بها إلى الأمام لاستطاعت أن تمضي الثورة خطوات أكبر إلى الأمام. لقد كانت قيادة الثورة تخشى على أملاكها، ويزيد الأمر خطورة أن كان فيها أول الأمر كثير من كبار الملاك. ولهذا أصابها التردد، فكان صعبًاأن تدرك أن السلاح وأن مزيدًا من السلاح في يد الشعب، وأن الجرأة ثم مزيدًا من الجرأة ثم مزيدًا أيضًا من الجرأة هو السبيل الوحيد لنجاح الثورة…. لقد كانت قيادة الثورة سياسيًّا وفكريًّا للوفد، ولكن القيادة الفعلية اليومية للتحركات الثورية كانت في يد الطلبة وصغار التجار والمحامين وبعض متوسطي الملاك في الريف، وكان أن استمرت قرابة ثلاثة أعوام، على فترات متقطعة، تشتعل ثم تهدأ لتنفجر من جديد.»
ويرجع هذا القصور في تصوره إلى أن القيادة الرأسمالية الوطنية كانت تضع آمالها في المفاوضات وليس في كفاح الأمة المصرية، وتركز على توجيه خطابها إلى معتمدي الدول الأجنبية في مصر، وإلى الرئيس الأمريكي ولسن، لا إلى الطبقة العاملة المصرية والفلاحين المصريين؛ ويُرجع ذلك إلى تأثير ما يسميه العناصر الإقطاعية في قيادة الوفد.
وفي المقابل يثمن فتحي الرملي دور التنظيم في الثورة، فيتساءل «هل كانت ثورة 1919 وليدة تنظيم ثوري مسبق، أو أنها كانت انفجارًا تلقائيًا جاء نتيجة ضغط طويل وشديد منذ جثم الاحتلال البريطاني على قلب مصر سنة 1882؟»
والجواب العلمي «الديالكتيكي» الصحيح من وجهة نظره؛ إن ثورة 1919 كانت نتيجة اتحاد العاملين معًا؛ ويستطرد شارحًا الفكرة «لو أعد كل شيء لإشعال ثورة في بلد غير مهيأ لها لما أمكن لها أن تقوم؛ وكل ما قد يصل إليه الأمر هو أنه قد يحدث انقلاب وليس ثورة؛ كذلك فإن بركان الثورة لو أنه ترك يغلي ـ بلا تنظيم ـ ولا ضبط، ولا تحكم في تحريكه، لما أمكن أن يجنى منه سوى انفجارات عاطفية عفوية ومتباعدة ومفاجئة.»
ثم ينطلق لمناقشة شخصية سعد زغلول الملغزة؛ وما فيها من تناقضات ظاهرة؛ لينتهي إلى تفسير التناقضات بأنها تناقضات ظاهرية؛ وأن سعد كان كادرًا ثوريًّا متخفيًّا طول الوقت منذ ألف جماعته الأولى جماعة الانتقام سنة 1884، ويذهب إلى أن هذه الجماعة استمرت وأنها ذات الجماعة التي اغتالت بطرس باشا غالي وألقت قنبلة على السلطان حسين كامل، وعملت كتنظيم سري للثورة بعد ذلك! ويعتقد أن التنظيم السري الذي قاد الثورة كان يتكون من أربعة أقسام ذكر منها النائب العام الإنجليزي ثلاثة أقسام هي: قسم المنشورات وقسم القنابل والاغتيالات وقسم شراء الأسلحة وأضاف له الرملي قسم مخابرات الثورة؛ ويصف الثورة بأنها حرب تحريرية؛ وعندما يستعرض أحداث الثورة يخرج منها بأنها كانت حرب عصابات منظمة تنظيمًا دقيقًا يقف وراءها تنظيم سري قوي؛ ورغم إشارته إلى التظاهرات وأشكال الاحتجاج التقليدية كالإضرابات؛ لكنه يركز على العمل المسلح في أثناء الثورة خصوصًا الاغتيالات والهجوم بالقنابل على معسكرات قوات الاحتلال؛ ويبرز عمليات حرب العصابات والاستيلاء على مراكز البوليس في عدد من المدن نجاح الثوار في الاستيلاء على السلطة بالكامل في المنيا وزفتى.
وفي صفحات طويلة من كتابه يسعى للتأكيد على فكرة التنظيم الذي وقف وراء الثورة؛ ويبدأها «وهنا… لا بد من وقفة قصيرة لنقول إن كل هذه الأحداث لا يمكن أن تجيء تلقائيًّا، وعفو الساعة بلا تدبير ولا تنظيم.»
ويدلل على ذلك باستمرار التظاهرات، ونجاح مقاطعة لجنة ملنر، وملاحقة من يقبلون بتولي الوزارة، وإغراق البلاد بالمنشورات، ومنع خطباء الجمعة من الدعاء للسلطان؛ ويتساءل «كل هذا؛ هل يمكن أن يتم تلقائيًّا، وبلا إعداد، ولا ترتيب شعبي؟» ويجيب «كلا بالتأكيد، وإنما حرب العصابات… حربًا تحريرية بمعناها الكامل، ولا عبرة بما يقال إن حرب العصابات تحتاج إلى جبال وغابات، فهي تصلح أيضًا في السهول والوديان، ولكل منها طبيعته واحتياجاته، ولقد كانت تلك الحرب كاملة بما تم فيها، لولا أخطاء وقعت فيها قيادة الثورة.»
ونستطيع أن نتبين الرؤية التي تحكم تحليل فوزي جرجس لثورة 1919 من نص أورده في مقدمة كتابه، يقول فوزي جرجس في المقدمة «كانت هناك نظريتان تبرزان دائما من خلال الكفاح العملي ضد الاستعمار، النظرية الأولى يعتنقها الشعب وهي الاستمرار في الكفاح بلا أية مهادنة أو توقف حتى تتخلص البلاد تمامًا من كل سيطرة استعمارية، اقتصادية كانت أو عسكرية، وهذه النظرية كانت تحتم وبالضرورة ربط حركة التحرر الوطني في مصر بكافة الحركات التحررية في العالم عامة وفي الشرق بوجه خاص؛ أما النظرية الثانية والتي تعتنقها الدوائر الحاكمة، فكانت ترى أنه بالرغم من عدم توافق المصالح مع الاستعمار، فإن الارتباط به مسألة ضرورية ومفروغ منها، ومن هنا كانت كل حلولها للمسألة الوطنية تدور في الفلك الاستعماري، ومن خلال الارتباط به في حدود الدوائر الاستعمارية، وهذه النظرية كانت تحتم وبالضرورة العداء المطلق لحركة التحرر العالمية.»
ويرى أن مفهوم الاستقلال يختلف من طبقة إلى أخرى وفقًا للمصالح الاقتصادية والاجتماعية للطبقة» فبينما يعني في نظر كبار ملاك الأراضي منحة من الحكم الذاتي، يعني عند الجناح الرأسمالي الوطني ضمانات لإنشاء صناعة بسيطة، وفقًا للتراكم المالي البسيط لديهم، أما من ناحية الشعب بطبقاته وفئاته المختلفة فإن الاستقلال يعني التخلص من الاستعمار، وأن تحكم البلاد حكمًا دستوريًا كاملًا».
وانطلاقًا من هذا التحليل يرى أن الثورة أخذت في البداية شكل الجبهة العامة ضد الاستعمار؛ ثم انسلخت كل طبقة بمجرد تحقيق هدفها من المشاركة في الثورة، وانضمت للمعسكر المعادي؛وأدى هذا إلى حالة من الاستقطاب، وإلى تبلور القيادة.
ويشرح مفهومه للثورة باعتبارها ليست عملًا عفويًّا؛ إنما نتاج تطورات معينة داخل المجتمع، وتعبير عن أن الشعب لم يعد يقبل أن يُحكم بالطريقة القديمة، وكذلك لم تعد السلطة الحاكمة بقادرة أن تستمر في الحكم بنفس الأساليب، ولا بد للثورة أن تتوفر ظروف داخلية وخارجية تمكنها من الاشتعال، وليس من المحتم أن تشتعل الثورة وفقًا لشعارات كاملة محددة، فإن هذا نادر الحدوث، إنما في الغالب أن تشتعل وتتحرك على شعارات بسيطة ثم تتطور وتتفاعل، حتى تصل لأهدافها المحددة في المجرى الطويل وفي سنوات لا في أيام أو شهور.
ويطبق هذا المفهوم على ثورة 1919 فيقول: «وقد وجدت الثورة المصرية الظروف المحلية والخارجية الملائمة لاشتعالها، وقد بدأت شرارتها الأولى متواضعة، ولكن سرعان ما أخذت تتطور وتتسع، ويرتبط بها الشعب أكثر وأكثر، حتى أصبحت ثورة اجتماعية عامة، تهدف إلى إرساء المجتمع على أسس جديدة.
وكان لا بد لقيادة الثورة أن تتسع وتتطور وفقًا للتغيرات الجديدة في مجرى الثورة؛ فأخذت أفواج جديدة تنضم إلى الوفد المصري، ومعظمهم من المثقفين والتجار والملاك المتوسطين في الريف، وكان من الطبيعي أيضًا أن يحدث صراع داخل هذه القيادة التي بدأت وأهدافها محددة ولا تتفق مع هؤلاء الوافدين الجدد.
واندفعت الثورة مطالبة بالاستقلال التام والحياة النيابية الكاملة؛ إن سهم الثورة أصبح ذو شعبتين، شعبة ضد الاستعمار، والشعبة الأخرى ضد الحكم الأوتوقراطي الممثل في السراي وكبار ملاك الأرض… ثورة ديمقراطية تحررية».
ويرصد فوزي جرجس الصراع داخل الوفد، والذي دعمته الحكومات المتعاقبة وسلطة الاحتلال، وأدى إلى خروج مجموعات من كبار الملاك من الوفد دون أن يؤثر هذا على موقف قيادة الوفد أو يغير من خطط الثوار؛ ويصل إلى أن واقع الحال في مصر في أعقاب مرحلة الثورة العنيفة أسفر عن حالة من ازدواج السلطة؛ فقد أصبحت هناك حكومتان على أرض الوطن «إحداهما الحكومة الرسمية التي تستمد وجودها من الاستعمار، والحكومة الأخرى هي حكومة الوفد المصري برئاسة سعد زغلول، وتستمد وجودها من الشعب، الذي لا ينفذ إلا توجيهاتها، ويتحرك وراء قيادتها، لقد حاولت الحكومة الرسمية أن تهيئ أرضًا للجنة ملنر لكي تنزل عليها، ولكن توجيهات الوفد بالمقاطعة، نفذت بالكامل، وبصورة رائعة».
ويعتبر أن انشقاق مجموعة كبار ملاك الأراضي الذين شكلوا حزب الأحرار الدستوريين كانوا بذلك يعيدون تأسيس حزب الأمة؛ بينما سبقهم إلى الانشقاق مبكرًا جناح كبار الملاك الذي اتجه إلى الصناعة وأبرز ممثليه إسماعيل صدقي، ويرصد في هذا السياق التطور الذي شهدته الصناعة، ويؤكد أن طلعت حرب لم يشارك في الأحداث السياسية للثورة لكنه جنى في هدوء الثمار الثورية.
ويرى أن الأحداث أسرعت بتبلور معسكر الثورة ومعسكر أعداء الثورة: الاستعمار وكبار الملاك وكبار الماليين من جانب، والفلاحين والعمال في جانب آخر؛ ثم يقول: «ولكن القيادة الشعبية وبها جزء من كبار الملاك لا يمكنها أن تمضي بالثورة إلى نهايتها، فطبيعة هذه القيادة التردد والتذبذب، فهي تميل أحيانًا إلى الشعب وأحيانًا أخرى إلى جانب أعداء الشعب، هذه هي طبيعتها؛ لذلك فقد مالت إلى التهادن مع أعداء الثورة».
ويناقش شهدي عطية كذلك الانقسامات من خلال تحليل التركيبة الطبقية للوفد فيقول: «تكون حزب الوفد أول ما تكون من عناصر تمثل الرأسمالية الوطنية الناشئة في المدن والريف، التجار وأصحاب المصانع الوطنية في المدن، ثم أثرياء الفلاحين في الريف، وأبناء هؤلاء، كانت قيادة الوفد تضم أيضًا أول الأمر عناصر تمثل الإقطاعيين، ومعظمهم ممن كانوا أعضاء في حزب الأمة، وكان لهؤلاء الأغلبية في قيادة الوفد، وكان لسعد ممثل الرأسمالية الوطنية أقلية من الناحية العددية.»
ويحاول أن يرصد الاتجاهات المتعارضة داخل الوفد المصري؛ ويتتبع مسارات الصراع والانقسامات، واختلاف المواقف فيما يتعلق بقضية الاستقلال وتكتيكات المواجهة وتطور الشعارات السياسية للوفد في ضوء الانتماءات الطبقية؛ فمن وجهة نظره أن «الانقسام كان واضحًا في قيادة الوفد منذ اللحظة الأولى من تكوينه، بين ممثلي طبقتين: طبقة كبار الملاك الذين يرضون بتنظيم الحماية، وبين ممثلي الرأسمالية الوطنية الذين يريدون الاستقلال التام.»
وينتهي من تحليله لخطابات سعد زغلول ومواقفه إلى القول «إن قيادة الوفد بعد انفصال كبار الملاك من جهة، وتحت ضغط الثورة الشعبية وارتفاع الوعي من جهة أخرى؛ قد أصبحت أكثر تعبيرًا عن مصالح الرأسمالية الوطنية في المدن والريف، وقد كانت مصالح هذه الرأسمالية بعكس الإقطاعيين متضاربة مع مصالح الاستعمار، ومن ثم كان الوفد أقرب إلى التعبير عن الأماني الوطنية لمجموع الشعب في ظرف تاريخي معين… ولكنك رغم هذا تحس بالتناقض القائم بين هذه الرأسمالية الوطنية الثائرة وبين الطبقات الشعبية… هنا موطن الضعف في القيادة الرأسمالية للحركة الوطنية… وإذا لم ترتبط الحركة الوطنية برفع مستوى العمال والفلاحين، فسرعان ما تفقد قوتها الدافعة،وسرعان ما تنعزل القيادة عن القاعدة الجماهيرية، فتفشل القيادة بذلك في دفع الحركة الوطنية إلى الأمام؛ وهذا ما حدث - كما سترى - بالنسبة للوفد.»
أما فتحي الرملي فيستشهد بفقرات من مذكرات سعد ومراسلاته السرية مع عبد الرحمن فهمي في أكثر من موضع ليدلل على إدراك سعد لطبيعة النخبة السياسية، واختلافه عنها ومعها حتى مع أعضاء الوفد، مؤكدًا فكرة الجناحين في الوفد.
ويذهب إلى أن سعد والجناح الذي كان يقوده في الثورة تبنى فكرة الجمهورية، ويستشهد بدعوة سعد لشباب الوفد إلى إصدار منشور بعنوان «الشعب ينتخب حاكمه» ويعتبر أنها دعوة صريحة للنظام الجمهوري؛ ويفسر بيانات الثورة الداعية للتهدئة بأنها صدرت في غيبة سعد.
نتائج الثورة
يعتبر شهدي عطية أن الثورة نجحت في تحقيق أربعة أمور رئيسية وهي: إرغام بريطانيا على إلغاء الحماية على مصر؛ وإجبار الاستعمار والسراي على إعلان الدستور والحياة النيابية؛ وإحداث نهضة صناعية وتجارية أبرز مظاهرها قيام بنك مصر وشركاته؛ ثم النهضة الاجتماعية والأدبية في مجالات تحرير المرأة وتطور التعليم والانطلاقة الكبيرة في مجالات الإبداع الأدبي والفني.
بينما يرى أن الثورة لم تحقق أربعة أمور: أولها الفشل في القضاء على سيطرة الاستعمار فقد استمر وجود قوات الاحتلال، كما استمرت سيطرة المندوب السامي البريطاني على السياسة الداخلية للبلاد وظلت سيطرة الاحتلال على الجيش والبوليس في مصر؛ وثانيها استمرار سيطرة الإقطاع وعلى رأسه السراي، فقد زادت مساحات الأراضي المملوكة للملك والأمراء والنبلاء؛ كما استمر تركز الملكية الزراعية في يد قلة من كبار الملاك؛ وتآمرت السراي وأحزاب كبار الملاك مع الاحتلال لتقويض الحياة النيابية والدستور؛ الأمر الثالث كان عجز الثورة عن مواجهة الآثار التي ترتبت على ظهور نواة بارزة من كبار الماليين المصريين المتصلين بقوة بالشركات الأجنبية ورؤوس الأموال الاستعمارية، ويورد شهدي عطية قائمة بأبرز النماذج من أفراد هذه الطبقة الجديدة، والمواقع التي تولوها في كبرى الشركات الأجنبية في مصر، والمناصب الوزارية التي تبوأها هؤلاء وأسهموا من خلالها في تقويض الحياة النيابية والدستور بمشاركة كبار الملاك متعاونين في ذلك مع السراي والاحتلال؛ الأمر الأخير الذي لم تنجح الثورة في تحقيقه من وجهة نظر شهدي عطية كان فشلها في إقامة صناعة وطنية قوية؛ فقد أسهمت الأمور السابقة مجتمعة في التأثير سلبًا على تقدم الصناعة المصرية التقدم المنشود.
يختم شهدي عطية حديثة عن ثورة 1919 بمحاولة الإجابة على سؤال: «لماذا لم تنجح ثورة 1919 في القضاء على أعدائها الثلاثة: الاستعمار والإقطاع وكبار رجال المال المتصلين بالاحتكار الأجنبي؟» يجيب: «إن ما يحدد نجاح الثورة في تحقيق أهدافها، هو توازن القوى بين المعسكرين: معسكر الشعب ومعسكر أعداء الشعب؛ وقد كان توازن القوى في غير صالح الشعب».
ويفسر ذلك الوضع بسيادة النظام الرأسمالي العالمي الذي تسيطر عليه حفنة من الدول الكبرى الاستعمارية، وفي المقابل كان النظام الاشتراكي ما زال نظامًا وليدًا محصورًا في نطاق دولة واحدة، أما مصر فقد كانت على أرضها قوات احتلال مسلحة بأحدث الأسلحة في مواجهة شعب مسلح بالعصي والأحجار وبعض البنادق القديمة، وعلى رأس الدولة سلطان ثم ملك يدين لسلطات الاحتلال بتثبيته على عرش البلاد، وطبقة من كبار الملاك لها جذورها القديمة من زمن الثورة العرابية، مرحبة بوجود الاحتلال ومستفيدة منه؛ برزت إلى جانبها فئة جديدة من كبار رجال المال المرتبطين بالاحتكارات الأجنبية، مع كل هؤلاء أجهزة الدولة المصرية الخاضعة للقبضة الاستعمارية.
لكنه في المقابل يعود ويرصد ما يسميه ضعف قيادة الحركة الوطنية ممثلة في الوفد والطبقة التي يمثلها؛ ويحدد أسباب ضعف الوفد في ضعف الطبقة التي قادت الثورة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وعدم إدراكها لقوانين التطور، وعجزها عن دفع الحركة الثورية إلى الأمام وخشيته على مصالحها من الطبقات الشعبية.
ويعدد المواقف التي تدلل على هذا التحليل، مثل: رفض العرض المزعوم للينين على سعد زغلول إمداد مصر بالسلاح، خوفًا من أن يتهم بالشيوعية، والخوف من الاتصال بالأحزاب الاشتراكية في باريس لمساندة القضية المصرية والتوجه بدلًا من ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ وتفضيل ما تسميه قيادة الوفد بالوسائل المشروعة على الكفاح المسلح؛ وتحويل لجان الوفد إلى لجان للدعاية الانتخابية بدلًا من أن تحولها إلى تنظيم ثوري حقيقي، وحل الاتحاد العام لنقابات العمال والحزب الشيوعي المصري -وإن كان لا يعفي الحزب الشيوعي من المسؤولية عن الصدام - كذلك الخشية من تنظيم الفلاحين لأنفسهم؛ ويرى أن النتيجة كانت إضعاف للثورة الوطنية وشل لتطورها إلى الأمام.
الخلاصة التي ينتهي إليها أوجزها في الفقرة التالية: «ومن ثم لم يكن يكفي أبدًا ألفاظ الاستقلال التام والموت الزؤام التي هزت أفئدة الملايين في ثورة 1919 ولم تعد تكفي الدعوة للجهاد، إن الثورة الوطنية هي ثورة فلاحين أساسيًا وثورة الفلاحين أصبحت مرتبطة أشد الارتباط بتوزيع الأرض، بمصادرة الملكيات الكبيرة وتوزيعها على الملايين الجائعة للأرض؛ وكان مستحيلًا على قيادة الوفد أن تنزل ببرنامج ثوري كهذا، وخصوصًا كلما ازداد بعض أفراد هذه القيادة ثراءً، وأصبحوا من أصحاب العزب والأطيان، أو كلما ضموا بعض كبار الملاك طمعًا في امتلاء الخزينة الوفدية بالأموال.»
أما السبب الثاني الذي يقدمه في تحليله فكان تهادن الوفد؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور أحزاب جديدة اجتذبت قطاعات من الشباب، وهي في الأغلب أحزاب ذات توجهات فاشية؛وهو هنا يتحدث عن فترة تالية للثورة، بداية من 1928.
وتحت عنوان «نهاية مرحلة من مراحل الثورة» يحلل فوزي جرجس المآلات التي انتهت إليها ثورة 1919، ويقرر أنه: «بتهادن قيادة الثورة انتهت مرحلة من مراحل الثورة الديمقراطية التحررية، ووصلت على يدي الطبقة المتوسطة إلى المرحلة التي تتفق مع قدرتها الثورية»، الأمر الذي تثبته الثورات التحررية الوطنية في كل بلدان العالم حيث تكتفي هذه الطبقة بتحقيق مصالحها وتتخلى عن مصالح الجماهير الشعبية التي وثقت فيها وأعطتها تأييدها.
ويناقش بعض التحليلات الماركسية الأخرى التي تقدم تفسيرات لهذا التهادن محاولًا تفنيدها، خصوصًا تلك المقولات التي ترجع اتجاه القيادة للتهادن إلى عامل خارجي يتمثل في قيام الثورة الاشتراكية في روسيا، وعامل داخلي يتمثل في قوة اندفاع الحركة الشعبية؛ وفي رده على هذا التحليل يستشهد بتجربتين لثورتين وطنيتين ديمقراطيتين قريبتين زمنيًا من ثورة 1919، وفي دولتين ملاصقتين لروسيا؛ الثورة الصينية والثورة التركية، ويعرض كيف تحالفت البرجوازية في البلدين مع الاتحاد السوفيتي حتى حققتا أهدافهما؛ ثم انقلبتا إلى المعسكر المضاد؛ كما يرى أن القول بخشية هذه القيادة من قوة اندفاع الحركة الشعبية قول مبالغ فيه، فإن الشعب في تلك المرحلة لم تكن له قيادة مستقلة تعبر عن مصالحه الخاصة، كما أن التحركات الشعبية مهما بلغت قوتها لا تشكل خطرًا حقيقيًا على قيادة الوفد، ما دامت لا تتبلور خلف قيادة تنظمها وتقودها لتحقيق أهدافها؛ «وهذه القيادة لم تكن موجودة، بل كان الوفد هو الذي يحوز ثقتها وتنضوي تحت لوائه»؛
ويذهب إلى أن الرأسمالية التي كان يقودها الوفد لم تكن تعمل في الصناعة، بل في مجموعها العام أغنياء ريف وتجار ومثقفون، وأن هناك فارق جوهري بينها وبين الجناح الذي خرج من ملاك الأرض واتجه نحو الصناعة، وظل مرتبطًا بطبقة كبار ملاك الأرض وتخلى عن الثورة.
ويكتب«لو أخذنا برأي هؤلاء الكتاب لكان معنى هذا أن هناك تضحية منها بمصالحها الاقتصادية، مع أنه لو كان هناك مصالح اقتصادية تتعارض بشكل حاسم مع الاستعمار لما تنازلت عنها... حقًا أن الرأسمالية الوطنية التي يقودها الوفد لم تكن لها أية مصلحة اقتصادية في الارتباط بالاستعمار، ولكنها في الوقت نفسه لم يكن لها مصالح متعارضة معه للدرجة التي تجعلها تقاتل حتى النهاية.»
وفي التحليل النهائي يرى: «إن قدرات التطور الاجتماعي والاقتصادي لم تكن بقادرة أن تصل بالثورة إلى أكثر مما وصلت إليه، وإن أي تفكير خلاف ذلك فهو تفكير مثالي، لا يقف على أساس علمي، وإعطاء هذه الطبقة قدرات ثورية ليست في طاقتها أن تحققها.»
ويستعرض بعد ذلك وضع رأس المال الأجنبي والمحلي في الصناعة في مصر، وعلاقة رأس المال الأجنبي بالوطن الأم وبلد الاستثمار (مصر)، وعلاقة رأس المال المحلي برأس المال الأجنبي وتطور هذه العلاقة في ارتباطها بالمشاركة المحدودة في الثورة لممثلي الجناح الصناعي الذي خرج من كبار ملاك الأراضي ونشأ متداخلًا مع رأس المال الأجنبي، ويرى أن الوفد الذي يمثل أغنياء الريف والتجار والمثقفين، كان من المحتم عليها أن يتهادن رغم قدرته على حشد الجماهير؛ بسبب العقلية السلمية التي لا تحبذ الدخول في المعارك المسلحة ضد الاستعمار.
ويعتبر أن هذا يفسر عودة الحركات الإرهابية للظهور في شكل موجة الاغتيالات السياسية الواسعة التي انتشرت في مصر، سواء ضد الإنجليز أو ضد الوزراء المصريين؛ ويُرجع الظاهرة إلى نقص الوعي السياسي والإدراك العلمي لقوانين التطور الاجتماعي لدى هؤلاء الشبان الذين لجأوا إلى الإرهاب ليقينهم بأن الاستعمار لن يقضى عليه بالطرق السلمية وبأن القيادة التي تسيطر على الجماهير لا تتبنى سوى المنهج السلمي؛ ومن ثم فقدوا الثقة في القيادة وفي الشعب واتجهوا إلى الإرهاب؛ ويدين فوزي جرجس النهج الإرهابي الذي لجأ إليه بعض الشباب الوطني؛ باعتباره نهجًا فرديًا «لن يحل المشكلة، أو يدفع إلى الأمام... وأن الارتباط بطبقات الشعب وتنظيمها وتوعيتها بمصالحها الحقيقية، هو الطريق الوحيد للكفاح الشعبي ضد كل القوى الأعداء.»
ويكرر الفكرة الشائعة عن رفض دعم الاتحاد السوفيتي للثورة، كما يؤكد على غياب الفلاحين عن المشاركة الفعالة في النضال الوطني منذ الحملة الفرنسية، كما يؤكد على أن «الطريق الوحيد لسحق الاستعمار هو طريق التعبئة المسلحة للشعب، وخصوصًا كتل الفلاحين، ولما كان الوفد لم يلجأ، ولم يكن في إمكانه أن يلجأ إلى هذا الطريق، فكان من المحتم أن يتهادن ويلجأ إلى أنصاف الحلول، فإن طريق الكفاح ضد الاستعمار طريق شاق وطويل ومليء بالتضحيات، ويجعل الثورة مسألة سنين طويلة، وليست مسألة أيام أو شهور».
ويرى أن الثورة حققت جزءًا من مهامها؛ لأن نضال الحركة الوطنية منذ مطلع القرن العشرين كان احتكاكًا مباشرًا بين القوى الشعبية وبين العلاقات الاجتماعية في مجتمع شبه إقطاعي، وأن ثورة 1919 كانت التعبير عن هذا التطور الذي حدث داخل المجتمع، وبلورة هذا الصراع الداخلي المتفاعل مع التطور العالمي.
ويرى أن الثورة رغم عدم نجاحها في تحقيق الاستقلال الكامل والديمقراطية الحقيقية إلا أنها نجحت في تحقيق جزء من أهدافها؛ وقد حدد أربعة مكاسب أساسية للثورة:
أولًا: وضع حد للسلطة المطلقة التي كان يتمتع بها الاستعمار البريطاني ويفرضها على المجتمع المصري ويسيطر من خلالها على كل إمكانياته الاقتصادية والسياسية.
ثانيًا: حطمت الثورة نسبيًا الخطة الاستعمارية التي أعلنها اللورد كرومر بجعل مصر مزرعة القطن لبريطانيا، وفتحت الباب أمام الصناعة المصرية، وبالذات صناعة الغزل والنسيج.
ثالثًا: وضعت حد للحكم المطلق الذي يمارسه كبار الملاك تحت إشراف الاستعمار، فأصبح هناك حكمًا نيابيًا ودستورًا يحدد العلاقات بين مختلف السلطات.
رابعًا: رغم أن الدستور أعطى ضمانات للرجعية ممثلة في الملك، فإنه أعطى بالمقابل ضمانات للشعب مكنت حزب الوفد ممثل الرأسمالية الوطنية من الوصول إلى السلطة وقيادة المجتمع عن طريق صناديق الانتخاب.
ويقدم خلاصة تقييمه للثورة «هذه هي المكاسب التي حققتها الثورة؛ لذلك فإن تهادن الوفد سنة 1924، وتشكيله الوزارة يعتبر نهاية مرحلة من مراحل الثورة.
أما الثورة نفسها فلم تستكمل وتنتهي أغراضها، فهي ثورة ديموقراطية تحررية، لتصفي الاستعمار وتحكم البلاد حكمًا ديموقراطيًّا بالقضاء على سلطة كبار ملاك الأرض وكبار رجال المال الاحتكاريين.
وكما أن الثورة انتقلت إلى مرحلة جديدة من مراحلها لتكتمل أهدافها، فإن قوات الثورة لا بد وأن يحدث فيها هي الأخرى تغييرًا يتناسب مع الواجبات التي تواجه الثورة في مرحلتها الجديدة، وبدلًا من أن يكون الوفد هو القيادة، أصبحت الضرورة تحتم أن تتولى القيادة قوى جديدة، أكثر شعبية، ومصالحها ضد الاستعمار وحلفائه أعمق جذورًا وأكثر أصالة.»
ويؤكد أن ثورة 1919 فتحت الباب لرأس المال المحلي لكي يتطور وينمو، لكنها في الوقت نفسه لم تغلق الباب أمام تدفق رأس المال الأجنبي على البلاد، وإن كانت معدلات التدفق قد تغيرت؛ فقد كسبت الثورة جولة ضد الاستعمار، وفتحت البلاد للتطور البطيء الكسيح، وظلت تبعية مصر للاستعمار ممثلة في جيوشه المنبثة في مدن البلاد الرئيسية، وفي الحق السامي الممتاز لمندوب بريطانيا في مصر، وفي سيطرة رؤوس أمواله على الاقتصاد المصري، ولكن الثورة على كل حال قد فتحت باب التطور للمجتمع، وكشفت عن أوجه جديدة للصراع بين قوات كانت جنينية قبل سنة 1919، وأبرزتها الثورة وأوضحتها.
ولا يطرح فتحي الرملي قضية نجاح الثورة وفشلها بالصورة الواضحة التي تظهر فيها عند شهدي عطية ولا حتى بأسلوب التحليل الذي طرحه فوزي جرجس، بل لا نجد السؤال مطروح عنده أصلًا، كما لو كان يعتبر أن نجاح الثورة أمرًا مفروغًا منه، ويركز الرملي على المكاسب السياسية المتعلقة بحسم الولاء الوطني أو قضية بناء الدولة الوطنية المصرية، فيرى أن الثورة حسمت بشكل قاطع قضية الولاء المزدوج.
كما يؤكد في عبارة صريحة في سياق رفض القول بتلقائية الثورة على نجاحها فيتساءل:«هل يمكن أن توصف هذه الحركة التي دامت حوالي الخمس أعوام وانتهت بالنجاح، إذ لم تجد إنجلترا بدًا من دعوة مصر للتفاوض، وإلى الرضاء بزعمائها الذين كانت تسميهم إرهابيين، والمتطرفين الذين يحرضون الرعاع؛ ولكن هؤلاء الإرهابيين حتى بعد أن وصلوا إلى الحكم استمرت ثورتهم… وبعد فهل يمكن لمثل هذه الثورة أن تكون تلقائية».
كما إنه يطرح أسئلة مختلفة؛ مثل: «إن المؤرخ ليتردد، أيعتبر تلك المغامرة من جانب سعد شططًا، وقصر نظر، وقلة وعي، أو كانت حكمة مقصودة لغاية محددة، ولفترة مرحلية من السياسة التي خططها في سراديب عقله الهندسي الثوري؟»
ويبدو كأن كتابه يهتم بشكل أساسي بالدفاع عن سعد، وتقديمه في صورة المناضل الثوري الذي تواصل نضاله منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى نجح في إشعال الثورة، كما لو كان يرد على رفيقيه، بل يذهب إلى أن هناك تشابه بين الثورة الوطنية في مصر والثورة الشيوعية في روسيا، وبين الزعيم سعد في مصر! والزعيم لينين في روسيا!
ويؤكد فتحي الرملي أن الأفكار الاشتراكية والشيوعية تغلغلت في المجتمع المصري، ويزعم أن سعدًا تأثر بها! لكنه يرى أن الطبقة العاملة كانت ضعيفة؛ ويرى أن الخطأ الذي وقعت فيه الثورة كان أنها أعطت ظهرها لحركة اليسار في مصر والعالم «وقد أخطأ سعد قطعًا حين أهمل التعاون مع الكادر الذي كان موجودًا بالفعل في الحزب الاشتراكي في ذلك الحين في مصر؛ كما أخطأ قطعًا حين أهمل حركة اليسار التي كانت تفتح له ذراعيها في أوروبا، وفي الاتحاد السوفيتي.
وأخطأ حين اعتبر الثورة الوطنية مختلفة عن الثورة الاشتراكية، فالثورة الوطنية تحرر جزئي من المستعمر، أما الثورة الاشتراكية فإنها تحرر كلي من الاستغلال بكل أشكاله خارجيًّا وداخليًّا؛ ويمكن التخلص من الاثنين معًا في وقت واحد.»
كلمة أخيرة
إننا أمام ثلاث رؤى لثورة 1919 تنطلق من خلفية فكرية واحدة، كانت محاولات مبكرة لتحليل الثورة باستخدام المادية التاريخية منهجًا من خارج الإطار الأكاديمي، وتكاد الكتب الثلاثة لا تختلف من حيث البناء وتتابع الموضوعات في تناولها لثورة 1919، إذ تبدأ بالمقدمات التي قادت إلى الثورة، وتحولات المجتمع المصري ووضع الطبقات المختلفة قبل الثورة؛ ثم تنتقل إلى أحداث الثورة وتطورها؛ ومحاولة تحديد الطبيعة الطبقية للثورة ولقيادتها والقوى المشاركة فيها؛ وأخيرًا تقييم نتائج الثورة، ما نجحت في تحقيقه وما فشلت فيه؛ مع الاختلاف في النتائج التي وصل إليها كل كاتب من الكُتّاب الثلاثة رغم انطلاق ثلاثتهم من المادية التاريخية منهجًا.
كُتبت الدراسات الثلاث في زمن معادٍ لثورة 1919؛ في ظل رؤية رسمية تروج لفشل ثورة 1919 وتسعى إلى نفيها، وكانت دراسة شهدي عطية الشافعي أكثرها تأثرًا بالرؤية السائدة وقتها، ويظهر ذلك بجلاء في تحليله لما نجحت فيه الثورة وما فشلت فيه، والذي يكاد يتطابق مع ما ورد في فلسفة الثورة لجمال عبد الناصر،كذلك في الإصرار على وصف قسم من طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعيين بالإقطاعيين؛ رغم انتهاء الأشكال الإقطاعية في علاقات الإنتاج قبل سنوات طويلة.
واللافت للنظر هنا أيضًا أن شهدي عطية يرى أن قيادة الوفد لم تفكر في تنظيم الوعي الذي أثارته حركة جمع التوقيعات على توكيلات الوفد، ولا في تكوين لجان وفدية في القرى والمدن! ولا أعرف من أين توصل إلى هذه الفكرة؛ فربما كان النجاح الأكبر للوفد يتمثل في إقامة تنظيم قوي، له جناحه السري، وقد حافظ هذا التنظيم على استمرار الثورة لخمس سنوات دون توقف، رغم كل الضربات التي تعرضت لها قيادة الوفد، وبل واستمر في مراحل الانقلابات الدستورية قادرًا على الحشد في مواجهة السلطة.
وإذا كان شهدي عطية لا يستطيع أن يرى تنظيم الوفد، فإن فتحي الرملي في المقابل يقدم صورة تبدو مبالغًا فيه لهذا التنظيم الذي يرجع به إلى زمن الثورة العرابية! ويذهب إلى أن هذا التنظيم امتداد لجماعة الانتقام التي اعتقل سعد زغلول بتهمة الانتماء إليها عقب الاحتلال البريطاني؛ لقد كان الرملي أكثر الثلاثة دفاعًا عن الثورة وعن قائدها لدرجة حاد فيها أحيانًا عن المنهج الذي أعلن بوضوح أنه يتبناه.
أما فوزي جرجس فقد وقف في موقف بين الموقفين، وكان الأقرب إلى التحليل الطبقي للثورة؛ ويرى أن دور الطبقة التي قادت الثورة انتهى دورها، وإن الحركة الوطنية تحتاج لقيادة جديدة لم يفصح عنها؛ فما هي هذه القيادة إذًا؛ هل يقصد الحركة الشيوعية أم ضباط يوليو؟
ويبدو جرجس متأثرًا بوضوح بتجربة الثورة الصينية وكان نموذجها حاضرًا في ذهنه بقوة، ويرى الحل في حرب التحرير الشعبية والكفاح المسلح، المستند إلى الفلاحين؛ ويفسر قصور الثورة في غياب دور الفلاحين، ويرى أن غيابهم متواصل من زمن الحملة الفرنسية متغافلًا عن دور الفلاحين الواضح في مقاومة الحملة وفي الثورة العرابية وفي ثورة 1919 نفسها.
وفي هذا السياق يدين عمليات الاغتيالات، ويعتبرها أعمالًا فردية تعبر عن قصر نفس الشباب ويأسهم من الأحزاب، سواء في مرحلة الحرب العالمية الأولى، أو في سنوات الثورة الخمس؛ ويتناسى هنا عن أن هذه العمليات لم تكن عمليات فردية؛ ففي الحالة الأولى كانت أغلبها بتدبير الحزب الوطني أو عناصر قريبة منه، وفي الحالة الثانية كانت تتم من خلال التنظيم السري للوفد وبعلم قيادته.
وفي السياق نفسه يرصد جرجس الصراع على السلطة عقب تولي حكومة سعد سنة 1924؛ ويرى أن الصدام كان محتومًا بين المعسكر المعادي للثورة وحكومة الوفد التي تدعمها أغلبية برلمانية كاسحة، والتي كانت مؤيدة تأييدًا شعبيًّا، ويتتبع مسيرة حكومة الوفد طوال عام 1924، والمؤامرات التي تعرضت لها والتي انتهت بالإطاحة بها عقب حادثة اغتيال السردار لي ستاك، والتي يشير بشكل واضح أنها كانت جزء من خطة الإطاحة بالحكومة، والتي أعقبها الإطاحة بالبرلمان؛ الأمر الذي يشير إليه أيضًا فتحي الرملي عندما يتساءل هل كان قتل السردار مؤامرة على الثورة؟
ويعيب شهدي عدم الدقة في التواريخ وفي المعلومات في أكثر من موضع، خصوصا عند حديثه عن المرحلة ما بين الاحتلال والحرب العالمية الأولى، كذلك في حديثه عن برنامج الحزب الاشتراكي.
وموضوع الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي من الموضوعات التي تختلف فيها الرؤية بين الكتب الثلاثة؛ فيناقش شهدي عطية وضع الحركة العمالية وتأسيس أول حزب اشتراكي ثم أول حزب شيوعي في مصر؛ ويدين بشكل واضح حل حكومة الوفد للحزب والنقابات العمالية التابعة له، رغم تأكيده على أن الحزب لم يدرك طبيعة اللحظة؛ بينما اعتبر فوزي جرجس أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي أسسه عدد من الشبان في سنة 1920 كان من المحتم أن يولد ميتًا؛والجدير بالذكر هنا أنه لم يشر إطلاقًا إلى الحزب الشيوعي، كما أنه أطلق على الحزب مسمى «الحزب الاشتراكي الديمقراطي»، فكأنه جمع بذلك بين الحزب الديمقراطي والحزب الاشتراكي، وهما حزبان مختلفان، رغم أن بعض مؤسسي الحزب الاشتراكي كانوا من بين مؤسسي الحزب الديمقراطي السابق عليه في التأسيس؛ أما فتحي الرملي فيشير إلى الحزب الاشتراكي في سياق رصد خطأ سعد التاريخي من وجهة نظره في عدم الاعتماد على قوى اليسار.
ومن اللافت أن الكتب الثلاثة وقعت في ترديد المقولة الرائجة حول رسالة لينين إلى سعد زغلول التي عرض فيها دعم الثورة، وهي مقولة لا سند لها من الوثائق أو المصادر الأولية.
أخيرًا فإن الكتب الثلاثة تقدم رؤى ماركسية متنوعة لثورة 1919 ومحاولات جادة لتحليل الثورة ودراستها في سياق المتغيرات التي عاشها المجتمع المصري منذ الاحتلال البريطاني، وفهم الحدث السياسي في سياقات التحولات الاجتماعية والاقتصادية، ومن منظور الصراع الطبقي في المجتمع المصري، وفهم الحدث في إطار مصالح كل طبقة من طبقات المجتمع؛ وغلب على عمل شهدي عطية الشافعي وفوزي جرجس الفهم الستاليني البسيط للمادية التاريخية، فقد كتبا دراستيهما في منتصف الخمسينيات؛ بينما تحرر فتحي الرملي إلى حد كبير من ذلك الفهم.
ولكن يبقى سؤالان: هل نجحت هذه الدراسات في تطبيقها للمادية التاريخية على حدث الثورة؟ وهل يكفي التحليل الطبقي الكلاسيكي وحده لتفسير الحدث؟