ذخائر

جمال حمدان

جغرافية الثورة

2020.07.01

جغرافية الثورة

قد يحتاج هذا العنوان على شرح وتفسير، ولكننا لا نشعر بالحاجة للاعتذار عنه، فقد مضت على ثورتنا العربية في مصر إحدى عشرة سنة، تغيرت فيها معالم (اللاندسكيب) الحضاري، إن لم يكن الطبيعي أيضا، وأعيد فيها رسم خريطة مصر الاجتماعية والاقتصادية. وصنعت فيها جغرافيا بشرية كاملة جديدة. كل أولئك بمقياس ضخم جرئ وبسرعة حاسمة اختصرت في عقد ما كان ينتظر عقودًا. وإن لجغرافي الموضوعي المنصف لا يملك إلا أن يعترف، ولا يبالغ إذا يعترف بأنه إزاء ثورة حقيقية من (ثورات البيئات)- وهل الثورة، أي ثورة، إلا اختزال للتطور وتضاغط الزمن؟ هل الثورة إلا علم التغيير الاجتماعي... والطبيعي؟

 

وثورات البيئات Revoluation of environment تعبير ظهر كعنوان لكتابين يفصل بينهما نحو ربع قرن، وليس أحد منهما لجغرافي وإن كان الجغرافي بهما أجدر. وإنما أولهما لأثري نعرفه في مصر جيدًا، وهو فلندرز بتري، وثانيهما لمهندس مخطط هو جوتكند Gutkind فالأول لم ير-رغم البعد التلسكوبي- في دراما التاريخ المصري الطويل إلا قصة علاقة متغيرة حتى الثورية بين قوى الإنسان الخلاقة وطاقة البيئة الكامنة. والثاني وهو يخطط تخطيط معمار ومساح وبناء وجد أن عمله ليس في النهاية إلا علاقة إرادية عامدة بين الإنسان والطبيعة. لقد التقى الأثري والمهندس -أي النقيضان التاريخ والتكنولوجيا- على أرض جغرافية في الحقيقة، واجتمعا على فكرة إيكولوجية واحدة هي انقلاب البيئة على يد الإنسان.

 

ونحن الذين نعيش تجربة من أضخم ما عرفت البيئة المصرية في أي وقت من تاريخها نحجم حتى الآن أن نسمي الأشياء بمسمياتها الصحيحة كأنما نتحرج فيما يبدو عما قد يحسبه البعض زجا بالعلم في السياسة ومزجا للشخصية بالموضوعية.

 

ولكنا نود في هذا المقال أن نبين خطأ وخطر مثل هذه النظرة. فالحقيقة الواقعة هي إننا إزاء ثورة عارمة من ثورات البيئات -بهذا المعنى الذي حددت- وإن علينا أن نحتفل (بجغرافية الثورة) كل هذا الاحتفال وبغير ما تحرج أو مظنة من ابتذال.

 

وسنرى أن هذا لن يخرج بنا عن دائرة العلم الموضوعية البحث، ولن يشوه جغرافيتنا النظرية بل العكس هو الصحيح تمامًا.

 

فهذا الاتجاه وحده هو الذي سيخرج بها من جمودها ومن منطقة الظل إلى نور الثقافة الواسعة وإلى أفاق الجمهور العريض، وأكثر منه إلى ميدان العمل القومي البناء بالمعنى التطبيقي. والحقيقة الواقعة أن الجغرافيا التقليدية الكلاسيكية باتت بمعزل -أخشى أنه يتزايد- عن كياننا الفعلي وواقعنا الحي. والحقيقة الواقعة التي لا يجوز أن نماري فيها هي أن التاريخ وهو اكثر من شقيق -توأم- للجغرافيا قد احتل مكانه الفكري في الدفع الثوري بصورة أو بأخرى ونحن نرى اليوم حركة نشطة واسعة النطاق لإعادة كتابة تاريخنا استطاعت أن تشد إليها عقول المثقفين وقلوبهم وتكسب لها رأيًا عامًا. فإذا ما عرفنا أن الثقافة الجغرافية تتساوى على الأقل مع التاريخية في الأهمية، وأنها تنفرد بالقيمة العملية التطبيقية، جاز لنا أن نتساءل: أهو قصور في طبيعة الجغرافيا؟ أم تقصير طارئ من أصحابها؟ ولكن قبل أن نجيب على هذا السؤال يحسن أن نتتبع حركة الخط المنهجي العام في المادة كما يتكشف في الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في الخارج ثم نتوقف لنحدد العلاقة بين الجغرافيا والثورة عندنا، وأخيرًا نحلل جغرافية الثورة كما تراكمت وتبلورت في مصر.

 

الجغرافيا في عالم متطور

 

منذ بداية القرن الحالي بوجه خاص دخل العالم في مرحلة من التطور والتغير الجذري، فظهرت قوى واتجاهات جديدة أعادت تشكيل وجوده برمته في أجزاء، وهزته حتى النخاع في أجزاء أخرى ولعل أخطر هذه القوى والحركات ما تفجر منذ الحرب الأولى وتواثب منذ الثانية ليصبح كتلة سياسية واقتصادية واجتماعية، ليصبح عالمًا جديدًا له مثله وفلسفته الجديدة -أعني العالم الاشتراكي الذي اتسع ليشمل الآن نحوا من ثلث سكان هذا الكوكب. وثم تغير آخر لا يقل خطورة وليس مستقلًا تمامًا عن سابقه: انهيار الاستعمار وذوبان الامبراطوريات وتحرر المستعمرات حتى تكون منها ما أصبح يعرف (بالعالم الثالث) ويكاد هو أيضا ينتظم ثلث البشرية. وإذا كانت المجموعة الأولى الشيوعية تأخذ بنمط متطرف جامح من الاشتراكية، فإن المجموعة الثانية تجنح بلا استثناء تقريبا إلى اشتراكية معتدلة ولكنها أولا وأساسًا تنبذ التنظيم الرأسمالي للمجتمع الذي ارتبط في أذهانها بالقوى الاستعمارية الطريدة. ومعنى هذا أن الاشتراكية بصورة أو بأخرى تغطي الآن ثلثي مجتمعات العالم، بينما أوشك العالم الرأسمالي أن يصبح مجرد (اسفين)

في جسم العالم الاجتماعي.

 

وفي كل تلك الحالات الجديدة بدأت الدولة تتخذ أسلوبًا جديدًا في مجابهة بيئتها وتنمية مواردها، أسلوبًا لا يترك للأفراد حرية لعبة الإنتاج مع الطبيعة، والتلاعب بمواردها حسب أهوائهم أو مصالحهم أو عجزهم وجهالاتهم.. إلخ. فهذا هو أسلوب الفردية والرأسمالية، ومذهب العشوائية والاعتباطية في مواجهة الطبيعة:

(دعه يعمل دعه يمر). أما أسلوب الاشتراكية فهو ينبع من نظرية إيديولوجية محددة، ويشكل مذهبٍا سياسيًا وعقائديًا مقننًا. إنه أسلوب الضبط والتدخل والتوجيه والتخطيط. والشئ الذي لا جدال فيه هو أن هذا الأسلوب أيا كانت حدوده هو الذي استطاع أن يحقق للدول المتخلفة والجديدة التنمية التي ننشدها والتقدم. بل لقد بدأ يفرض نفسه حتى على المجتمعات الرأسمالية -على الأقل من قبيل الإسعاف وكمصحح لأخطائها التراكمية والدفينة.

 

والذي يهم الجغرافي في هذا أن يدرك أن المقابلة بين الرأسمالية والاشتراكية ليست مجرد مقابلة بين مذاهب ونظريات سياسية أو اجتماعية مجردة أو حتى من مناهج اقتصادية مطبقة، وإنما هي في صميمها وفي منتهاها مقابلة بين نمطين من الحياة، وبين مركبين من البيئات Envionmental Complex أنهما أساسًا منهجان في الإيكولوجيا البشرية.

 

إننا نخطئ كثيرًا إن تصورنا أن الاشتراكية قضية تخص علاقة الإنسان بالإنسان فحسب. إنها أولا وأخيرًا تعني علاقة الإنسان بالبيئة. فإذا كانت الرأسمالية تواجه الطبيعة كأفراد شتى مبعثرين متعثرين بين المصالح والانتهازية والأطماع، فإن الاشتراكية تجابه البيئة كتلة واحدة صلبة كمجتمع تراص، ولهذا تنتهي الرأسمالية في الحقيقة -وللغرابة- إلى نوع من القدرية والحتمية هو بعينه ما نعرفه كجغرافيين باسم الحتم الجغرافي. فظروف المجتمعات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية هي في نظر الرأسمالية النتيجة الطبيعية -والحتمية- لظروف البيئة الطبيعية التي تعيش فيها؛ البيئة سبب والمجتمع نتيجة. أما الاشتراكية فعلى النقيض تؤمن بما يسميه اقتصاديوها بالحتم الاقتصادي وما قد نسميه كجغرافيين بالحتم البشري. وهو على أية حال قدرة الإنسان على التغلب على تحديات الطبيعة وفرض إرادته عليها. أي أنها ترى شكل البيئة نتيجة لشكل المجتمع وليس العكس، هنا الإنسان فاعل والطبيعة مفعول به وربما اعتبرنا مدارس (الحرية) في الجغرافيا لونًا مخففًا بدرجة أو بأخرى من هذا الحتم البشري أو الاقتصادي: هناك كانت مدرسة الإمكانية possibilism وأقوى منها جاءت الاحتمالية، وأقوى من الاثنتين ظهرت الضرورية. وعلى أية حال فليس ها هنا مجال المفاضلة بين المنهجين أو المقارنة، وإنما يعنينا أن لكل منهما انعكاساته المباشرة والنهائية على شكل اللاند سكيب الحضاري ووجه الإقليم الطبيعي. وإنما يعنينا أن النتائج مختلفة اختلافا جذريًا. وإنما يعنينا -باختصار- أن العقيدة السياسية والمذهب الإيديولوجي أصبح الآن يترجم إلى خريطة جغرافية ولاندسكيب حضاري: يعني أنها قد أصبحت (عوامل جغرافية) كبرى. وإذا كان موريس لي La Lannou قد اعلن منذ سنوات أن الدولة اليوم هي أقوى عامل جغرافي مطلق، فإننا نستطيع الآن أن نوضح أنها أصبحت كذلك باعتبارها تجسيمًا وأداة لإيديولجية مذهبية معينة ونظرية عقائدية بعينها. وتصبح لدينا هذه المتتالية التي تترى كحلقات السلسلة الإيديولوجيا: الدولة: التخطيط: اللاندسكيب.

 

ذلك إذن وعلى المستوى العلمي الأكاديمي البحت، تحد منهجي خطير للعلم الجغرافي، وبالتحديد للعلم الجغرافي الغربي، فلقد واجه الجغرافيون السوفيت هذا الموقف من قبل منذ نحو نصف قرن الآن، وطوروا أساليبهم ومناهجهم بما يوائمه. فكانت (جغرافية الثورة) التي تتصدى لدراسة التغيرات الفجائية والحاسمة التي يفرضها التخطيط المحتشد على صفحة الإقليم، والتي تنظر إلى اللاندسكيب الراهن كلقطة في فيلم متحرك، وتعتبر المستقبل بقدر ما تحلل الحاضر. فلم تعد الجغرافيا علم الأرض أو وصف أشكال الأرض، وإنما علم إعادة تشكيل الأرض. ومن الأولويات الآن في جغرافية الاتحاد السوفيتي عكس انحدار واتجاه نهر أو أنهار لتصب جنوبًا بدل الشمال (الأوب مثلًا) أو إزالة جبل كلية عن طريق خط حديدي أو تحويل مسار تيار بحري (كذا) لإعادة توزيع الحرارة وإذابة الجليد وذلك بغلق مضيق أو وصل جزر.. إلخ (مضيق بهرنج وتيار كيروسيفو مثلا) ولهذا وبهذا أصبحت الجغرافيا علم هندسة وجه الأرض، وعملية جراحية ضخمة لصفحة الإقليم! وبديهي في هذا كله أن النظرة النفعية -التطبيقية- أصبحت هي الأساس: الجغرافيا للحياة والجغرافيا للمجتمع. ومن هذه الفلسفة الجديدة نبعت أفكار وطورت قوانين ومبادئ للعلم الإقليمي. والنتيجة النهائية بإيجاز أن أصبح هناك جسم جديد مختلف من الجغرافيا هو ما يسميه الجغرافيون في الغرب (بالجغرافيا السوفيتية أو الجغرافيا الاشتراكية Socialist Geog.

 

أما في الغرب فقد حدثت تطورات هامة أيضا نحو التوجيه التطبيقي وجغرافية التخطيط وجغرافية التنمية، فرضتها على الأقل الضرورة القاسية كأثر الحرب الأخير التدميري. ولكن الفكر الجغرافي المعاصر هناك يمر في أزمة وصراع داخلي. فبعض من شيوخ المادة نظر نظرة عدم اكتراث وإهمال إن لم يكن معارضة وعداء للاتجاهات الحديثة. ولكن الجغرافيين الشبان استجابوا لهذا التحدي بالتطور واستكمال التكنيك والمهارات الجديدة اللازمة له. وذلك رغم ما وجه إليهم من اتهامات (بالهرطقة) من هؤلاء المجددين يمكن أن تذكر أسماء مثل جان جوتمان، ميشيل فيليبونو، جان لاباس، كيث بيوكنان، بينما يوصف بيرر جورج بأنه (جغرافي ماركسي). فهؤلاء أدركوا عقم هذا الجمود الذي تتشبث به ما يصفه المعسكر الآخر (بالجغرافيا البرجوازية)، وأعلنوا أنه لا يمكن أن تجابه جغرافيا الثورة إلا بثورة الجغرافيا. ومن ثم تصدوا لتطوير مناهجهم وطرائقهم وتوسيع آفاق بصيرتهم وتبني موقف واقعي في عالم يتجه بدرجة أو بأخرى إلى قدر من اشتراكية. فهم يجدون أن جغرافية الوصف والتعليل لم تعد كافية بمجابهة مواقف يصنع فيها اللاندسكيب صناعة وبدعم بشري، ويجدون أن جغرافية تستهدف (التعرف على، وتحديد وتفسير أنماط الأرض) أو دراسة (التباين الأرضي) لا تكفي لاستيعاب طفرات التخطيط الشامل. قد تصلح هذه المناهج وهذا التكنيك لوصف مواقف استاتيكية أو بطيئة التغير كالمجتمعات الزراعية التقليدية أو تتطور على مقياس فردي كالمجتمعات الرأسمالية. ولكن الانطواء على هذه الميادين التقليدية لن ينتج إلا عملية اجترار أو على الأحسن خض للمادة البالية المستهكلة. إنما المطلوب جغرافيا ديناميكية طافرة لا تبتلي قبل أن تكتب كما هو حال الجغرافيا التقليدية. والواقع أنهم لا يغالون حين يحتجون بأن كثيرًا جدًا من جغرافيتنا التقليدية هي في الحقيقة (جغرافيا تاريخية) بمعنى خاص.

 

ويحدد بيوكنان نقط ضعف الجغرافيا التقليدية في اثنتين أساسيتين: عقدة الوصف التي تجنح بها إلى النظرة التاريخية لا المستقبلية، وإلى الجغرافيا الاستاتيكية لا الديناميكية، أما العقدة الثانية فهي عقدة التخوف من الدخول في المناقشات السياسية أو الإيديولجية التي تتركها عاجزة -منطقيًا- عن فهم أو دراسة لاندسكيب تتحكم فيه هذه المذاهب والعقائد. والحل بالنسبة لعقدة الوصف أن نعني لا بالوضع الراهن فحسب وإنما بالهدف الموضوع أي الخطة المرسومة، فخطة التنمية هي ببساطة خريطة المستقبل. والحل بالنسبة لعقدة الإيديولوجيا منهجي وحاسم: إذا كان لابد لفهمنا لجغرافيا التضاريس والمناخ من أن يستقر على دراية كافية بالجيولوجيا والطبيعة..إلخ، فلابد لفهمنا للجغرافيا البشرية من أن يستقر على دراسة مماثلة بتلك العلوم التي تتصدى لهذه الأفكار الإيديولجية والمذاهب السياسية والعقائدية مثل الاقتصاد، واقتصاد التنمية، والاجتماع، والعلوم السياسية.. إلخ.

 

والذي نراه أن هذا التطور والتقارب آت لاريب فيه. ويمكن للمدرسة العربية في الجغرافيا وقد كانت دائما مفتوحة الأفق والنوافذ على كل الآراء والتيارات الصحية، أن تستفيد من هذا الجديد وذاك القديم محققة بذلك (حيادًا إيجابيًا) في العلم أيضًا! بل إن التناقض البادي بين الجغرافيا التقليدية والجديدة شكلي عارض. فالجغرافيا أصلا لا تهمل ولم تهمل البعد الزماني، ويستوي حينئذ أن يكون هذا البعد إلى الوراء أو إلى الأمام. أي أن الجغرافيا الديناميكية وجغرافية التطور والمستقبل ليست بدعا في الفلسفة الجغرافية المقررة. ثم أن الجغرافيا تستمد تعليل أنماطها من القوى والعمليات التي ترتبط بها وتدخل في اختصاص العلوم الأصولية المختلفة. وما دام هذا المبدأ مقررًا، فيستوي حينئذ أن تكون هذه القوى والعمليات مستمدة من العلم الطبيعي أو العلم السياسي. ولهذا فليس الضغط على الإيديولوجيا والسياسة، ما دام دورها في السببية الجغرافية قد زاد مع تطورات الحياة الحديثة والجديدة، بضلالة مستحدثة على جوهر المنهج الجغرافي، وإذا كان جغرافي كبير مثل فان فالكنبرج قد وجد منذ نحو ربع قرن حرجًا في أن يضمن كتابًا له عن الجغرافيا السياسية فصلا بعنوان الحكومة، وشعر بالحاجة إلى الاعتذار عنه، فربما صح اليوم أن يقال أولى بهذا الاعتذار لو كان عن عدم التوسع فيه التوسع الكافي.

 

أما الاتجاه التطبيقي فكامن في جرثومة الجغرافيا القديمة منذ كانت تصطنع (وتتعاطى)- ضمن أشياء أخرى لأغراض الحكم والإدارة ومصالح الدولة. ولهذا فليست جغرافيا التخطيط في حقيقتها إلا تكبيرًا وتنهيجًا لجانب أصيل وقديم في الجغرافيا.

 

ولهذا صح ما يقرره فالكنبرج في ثلاثية بليغة جامعة من أن تاريخ الجغرافيا كله يتحدد في مراحل ثلاث واضحة: الوصف (جغرافية الرؤوس والخلجان القديمة)، التعليل (مبدأ السببية عند همبولت وريتر في القرن الماضي)، وأخيرا التخطيط (الجغرافيا التطبيقية المعاصرة) وأن قليلًا من التفكير يكشف لنا أن هذه المراحل تقابل مباشرة مراحل تطور المعرفة عند الإنسان عامة. فحين كانت تحبو في أولها كانت قصاراها أن تعرف ما قد حدث وما هو قائم فكانت المعرفة شبه أدبية أو فلسفية، ثم مع توسع المعرفة حاولت أن تعلل وتفسر ما تراه بالقوانين فكان العلم، ومن القوانين قفزت إلى التنبؤ بما سيكون فكان التخطيط. فالتخطيط هو إذن ببساطة صناعة المستقبل، وجغرافية التخطيط هي لذلك جغرافية المستقبل. والتخطيط بذلك هو أعلى مراحل العلم.

 

الجغرافيا والثورة في مصر

 

لسنا إذن -مرة ثانية- بحاجة إلى اعتذار عن هذا العنوان. وإنما علينا بلا تردد أو خوف أن نلقي بكل قوانا في الميدان لنكتب جغرافية الثورة العربية في مصر قبل أن تصبح كتابتنا عنها جزءًا من الجغرافيا التاريخية. إن الفارق بين الانقلاب والثورة أن للأول تاريخًا ولكن ليس له جغرافيا. وللثانية جغرافيا تحيا بعد أن ينتهي تاريخها.

 

ولقد انتقل المجتمع المصري بالقطع من إطار اقطاعي - رأسمالي إلى إطار اشتراكي. وأصبحنا إزاء جغرافيا اشتراكية لا شك فيها. فكيف نعالجها؟ وما دورنا فيها؟ هل سنلهث وراء الأحداث والمشروعات بعد أن يتم البناء لنؤرخ له جغرافيا؟ أهو دور السجل الجغرافي دورنا إذن؟ أم -خيرًا من ذلك قليلًا- دور المسح، الحصر الجغرافي الذي يسبق البناء؟ هل سننقد ونعترض وننصح أم سننتهي إلى علم دعائي أو دعاية علمية؟ ما هو مكان أصحاب الثورة وصنعتها في جغرافية الثورة؟ كيف يتسع علم أشياء ومجتمعات لأسماء أشخاص وأفراد؟ كل هذه وغيرها قضايا علينا الآن أن نجيب عليها قبل أن نتقدم لنرسم لوحة جغرافية للثورة.

 

ما دمنا قد اتجهنا بالجغرافيا إلى المستقبل والعمل التخطيطي، فقد كفت في فلسفتها عن أن تكون علمًا وصافًا فقط وأصبحت إلى جانبه علمًا كشافًا كذلك. ومادمنا أصبحنا لا نبحث عن وصف فحسب وإنما عن وصفه أيضًا، فلم يعد هناك مجال للتساؤل عن حدود البحث الجغرافي في المجال التطبيقي. إن لنا بداهة أن نسجل كل ما يتم في مجال التخطيط والتنمية والبناء، ولنا -بهذه المناسبة- أن نطالب بتسهيل الحصول على كل التقارير والمشروعات والدراسات التي تتراكم في مكاتب الهيئات والمصالح المختلفة حتى تكون بين أيدي الجغرافي فهو من هذه الناحية مؤرخ الثورة العملي الوحيد. وبديهي أن التسجيل هنا يفترض النقد العلمي الكامل، فحتى أقل العلوم الوصفية طموحًا لا يمكن أن يكون علمًا بغير تقييم وتقدير لظاهراته. ولذلك فللجغرافي أن يطرح رأيه كاملًا في كل جوانب الجغرافيا ويحدد الأخطاء، إن رآها ويحللها، وينقد المشروعات والأعمال، وليس عمله أن يرسم صورة إقليمية للجوانب تاركًا السوالب والمثالب. ولكن هذا كله ليس إلا أضعف الإيمان. فهناك ما هو أخطر وأوجب على الجغرافي. ولقد يرى البعض بعد هذا أن يقوم بالمسح التفصيلي الذي يسبق الخطة على أن تترك الخطة للمخطط. ولا جدال في أن المسح للجغرافي. ولكن إذا كان المقصود إقصاءه عن وضع الخطة فهذا رأي مرفوض بلا تحفظ. فليس ثمة ما يمنع نظريا أو واقعيًا من أن يكون الجغرافي مخططًا. والتخطيط مفتوح لكل صاحب تخصص.

 

أما كيف يعرض الجغرافي للأفراد صناع الثورة علم أشياء لا إنسان ومجتمعات لا أفراد، فهذا سؤال لم يعد أيضًا بمشكلة، إن دور الفرد البطل في التاريخ يقدم لنا الحل، فلم يعد التاريخ -رغم كارليل- من صنع الأفراد أو الأبطال، ولكنهم لا شك يؤثرون فيه وهم من أدواته. وبالمثل في الجغرافيا البشرية، نحن ندرس الإنسان بوصفه معًا عنصرًا في البيئة وعاملًا جغرافيا. ندرسه كمجتمع لا كفرد أساسًا. ولكن الفرد البطل الذي يحرك مجتمعنا ويؤثر في أمة، يصبح معًا تجسميًا ومستودعا ومحركًا لإرادة وفعالية هذا المجتمع وتلك الأمة. فالفرد البطل لا يؤثر في البيئة الطبيعية كفرد وإنما عن طريق إيحائه وقيادته لمجتمع بأسره. وهو يتحرك ويصدر عن فكرة، وفكرة هو إذن بالتالي والفكرة كما حدد (لوسيان فيفر) منذ مدة عامل جغرافي كامل لا مجال للتقليل من أهميته وخطره، وقد لا نرضى -بل نحن بالقطع لا نرضى- عن محمد علي كأوتوقراطي دخيل ولكنا لا مفر لنا من الاعتراف بأنه هز البيئة الطبيعية لمصر وحولها تحويلًا حين قلب نظام الزراعة من الري الحوضي إلى الدائم. بل لقد تكون الفكرة شريرة كالصهيونية حيث تحول (الحقد) إلى عامل هدم وتعرية. ولكنا لا يمكن أن نتجاهل أنه أصبح عاملا جغرافيا. ونحن من قبل نتكلم عن (فرنسا نابليون) كجغرافيين دون ما خطر من الخروج عن الجغرافيا إلى التاريخ، ونترك للمؤرخ أن يتكلم عن (نابليون فرنسا). ولهذا فليس على الجغرافي جناح أن يتكلم عن مصر الثورة ومصر عبد الناصر، هو سيجد في هذا كفايته دون أن يحتاج إلى الكلام عن الثورة نفسها أو عبد الناصر شخصيا، فهذا مشروع متروك لغيره من مؤرخين وعلماء سياسة.. إلخ. ولكن الذي لا جدال فيه هو أن الثورة وعبد الناصر بما فعلا وأثرا وبما يمثلان من إرادة أمة وقوة مجتمع عوامل جغرافية لا شك فيها وبالمعنى الكامل في الجغرافيا. بل أننا سنجدنا بعد قليل مدفوعين إلى الانتهاء إلى أن عبد الناصر فلتة تاريخية بمثل ما أن مصر نفسها فلتة جغرافية.

 

على هذه الأسس إذن يمكن أن نقف أمام فلسفة الثورة في البناء لنزنها ونحللها. ولا شك أن التخطيط هو أداة ووسيلة هذا البناء، وتلك هي البداية الصحيحة. كما تمثل فكرة محورية قائدة في فلسفة الميثاق. (إن التخطيط الاشتراكي الكفء هو الطريقة الوحيدة التي تضمن استخدام جميع الموارد الوطنية المادية والطبيعية والبشرية بطريقة عملية وعلمية وإنسانية لتحقق الخير لجموع الشعب وتوفر لهم حياة الرفاهية). ولقد نمت الثورة لنفسها جهازًا تخطيطيًا ضخمًا رائدًا يمكن أن نفخر به وطنيًا. ووضعت خططها خمسية وعشرية، حددت أهدافها ورسمت برامجها ثم تابعت تنفيذها. وواضح أن منطق التخطيط في ذاته تجديد خطير في إيكولوجية مصر، لا سيما أنه تخطيط اشتراكي خلق قطاعًا عامًا يتضاءل بجانب القطاع الخاص في الإمكانيات والقوة، وفي المثل والمبادئ. بمعنى اننا الآن نجابه البيئة الطبيعية كقوة واحدة محشودة مجندة، ولهذا كان طبيعيًا أن تزداد إيجابيتنا إزاءها وتقل نقاط ضعفنا. والانقلابات الثورية في اللاندسكيب الطبيعي والحضاري أبلغ دليل.

 

ولقد أتت اشتراكيتنا كقضية مزدوجة -بلغة الميثاق، قضية (كفاية وعدل). الكفاية هي زيادة حجم الثروة القومية والدخل القومي بدفع الإنتاج ورفع العائد، وذلك بكل وسائل الترشيد والتحسين والتجديد والتخطيط. أما العدل فهو بلغة -هربرت سبنسر- عملية (إعادة توزيع) أساسًا -إعادة توزيع في القيم والأولويات، في الملكية والثروة، في الأجور والدخول، في الخدمات والوظائف..إلخ. ولا مراء في أن هذه هي الاشتراكية الرشيدة التي تسير على قدمين. لأن الكفاية وحدها ليست بالضرورة حكرًا على الاشتراكية، فهناك كفاية تسعى إليها الرأسمالية. ولكن العدل وحده هو الذي يميز الاشتراكية. بينما كل هم الرأسمالية ألا تحفل به إن لم يكن أن تتحاشاه. على أن العدل وحده لا يقيم أود الاشتراكية. لأنه بغير الكفاية لا يزيد عن عدالة في الفقر وإعادة توزيع البؤس: اشتراكية العدل وحده بغير الكفاية ليست إلا اشتراكية الكفاف.

 

وإلى هذا المدى لا يمكن للجغرافي إلا أن يتقبل هذه المبادئ والأسس أحسن القبول. إلا أن النقطة التي نود أن نوضحها هي أن تخطيطنا حتى الآن ضغط دائمًا وبشدة على جانب معين ربما على حساب جانب آخر. إنه نظر إلى المجتمع كطبقات أكثر منه كأقاليم. ونظر إلى الدولة كنقطة واحدة أكثر منها كمناطق متعددة. فهو في غمرة سعيه الطموح إلى الكفاية ركز اهتمامه على زيادة الدخل بكل صورة وبأي صورة. ولذلك ألقى كل ثقله في مجال التخطيط القومي أساسًا والتخطيط الاقتصادي بالذات. ولن ينكر أحد أن التخطيط الاقتصادي هو أساس التخطيط وقلبه، وهو يسبق بالضرورة كل تخطيط آخر. وستظل الصدارة دائما في التخطيط هي للتخطيط الاقتصادي -تخطيط الموارد والإنتاج- لدفع عجلة الإنتاج ودفع المد الخلاق للثروة. ولكن الذي لن ينكره أحد كذلك هو أن بجانب هذا التضخم في التخطيط الاقتصادي ، فإن أنواع التخطيط الأخرى تبدو باهتة حتى الآن وتتراجع على أحسن تقدير إلى المؤخرة. وبعض من عرف التخطيط على أنه تخطيط مهندس أصلا وأساسًا يجد حيرة في أن يرى مفهوم التخطيط قد انتقل إلى الاقتصاد أولا وقبل كل شيء. هذا مع العلم أن (التخطيط الطبيعي Physical Plannig تخطيط الطرق والمواصلات والمباني والمدن القرى). هو على أية حال القطب الآخر بجانب التخطيط الاقتصادي في كل مجالات التخطيط القومي، هو بذلك أسعد حظًا من بقية الفروع الأخرى من التخطيط، أما المجالات الأخرى كالتخطيط الاجتماعي أو تخطيط المجتمع والخدمات والمرافق، فأقرب إلى الظلال ولا نقول الأشباح. وربما احتج بأن هذه الفروع من التخطيط أقرب في طبيعتها إلى الاستهلاك منها إلى الإنتاج، والاشتراكية أولويات وفي البدء يأتي الإنتاج، وفي النهاية يأتي الاستهلاك.

 

وقد يضاف كذلك أن هذه الفروع بالذات أكثر انسياحًا وتميعًا بذاتها وأصعب مثالًا في التخطيط، وأنها لكذلك بالتأكيد -لكن هذا لا يبرر ضآلة نصيبها في التخطيط. ونحن نستطيع أن نجد عشرات وعشرات من برامج ومشروعات التخطيط الاقتصادي، مدروسة وموقوتة، ونعجز أن نجد برنامجًا واضحًا للتخطيط الطبيعي دع عنك الاجتماعي. والخلاصة أن تخطيطنا يجنح بشدة إلى خط بعينه في التخطيط القومي، حيوي حقًا، لكنه ترك الخطوط الزميلة في دائرة الظل. هذا أول.

 

أما بعد ذلك فتخطيطنا يرجح بلا ريب كفة التخطيط القومي على كفة التخطيط الإقليمي. فهو في غمرة سعيه النبيل إلى تحقيق العدل نظر إلى المجتمع كطبقات، أو بالأحرى كطبقتين من أرث الإقطاع: الذين يملكون والذين لا يملكون- ونكاد نقول الذين يملكون والذين يملكون... فقام بتحديد الملكية الزراعية وأعاد توزيع الأرض على المعدمين وقام بتأميم أدوات الإنتاج وعمل بوجه عام على تحديد الدخول وتذويب الفروق بين الطبقات والتقريب بينها. وقد جاء محصول الثورة في هذا رائعًا حقًا. ويمكن أن نسمي هذا الجانب من العدل (بالاشتراكية الرأسية) أي التي تتعلق بتراتب الطبقات رأسيًا. ومن المؤكد أن إعادة توزيع الملكية والدخول رأسيًا يؤدي إلى إعادة توزيعها أفقيًا أيضًا أي بين أجزاء الوطن المختلفة. فنحن نعلم أن توزيع الثروة والقوة في مصر الإقطاعية لم يكن يتم على أساس الطبقات فحسب، ولكن على أساس الأقاليم كذلك. ذلك أن نظام (الملكية الغيابية absentee landlordisni) كان يؤدي إلى نزوح ثروات الأقاليم والريف كل عام بانتظام ليصبها في نقطة أو نقطيتن هي العاصمة أو العاصمتان. ولقد أدى الإصلاح الزراعي إلى إيقاف تيار الهجرة السنوي هذا للثروة وعائد الأرض وأعاده إلى حيث ينبغي له وحيث ينتمي. كذلك فمن الإنصاف أن نظام الحكم المحلي أعاد توزيع الثقل نسبيًا ووضع نواة (الإقليمية السياسية) في نظامنا ولكن هذا وحده لا يمكن أن يعوض عن الإهمال القرني البشع والاستنزاف المزمن الذي عاشه الريف والأقاليم. ولهذا فنحن لازلنا بحاجة إلى (الاشتراكية الأفقية) التي تساوي بين أجزاء الوطن في القيم البشرية والإمكانيات الحضرية. أما تركة الإقطاع الراهنة في الأقاليم فأبعد ما تكون عن (العدالة الإقليمية) وتمثل كما قيل (نظام الطبقات استلقى على الأرض).. نحن لازلنا بحاجة إلى تذويب الفوارق بين الأقاليم، كما ذوبنا الفوارق بين الطبقات. ولا يملك الجغرافي عند هذا الحد إلا أن يعجب بين قوسين من أن كلمة (الإقليمية Regionalism) -فلسفة الريجيوناليزم السديدة التي تلعب دورًا حيويًا في الاشتراكية في الخارج- لم تعرف مصر حتى الآن أننا ندعو تخطيطنا الاشتراكي أن يتبنى هذه المثالية التي ليست إلا الترجمة الجغرافية لتقريب الطبقات، وذلك حتى يحقق ديموقراطية المكان والاشتراكية الإقليمية. وبغير هذا لن يكون تخطيطنا إلا تخطيطًا (نصفيًا) وإن بدا شاملًا: تخطيطًا ينظر إلى الدولة كنقطة لا كمناطق، وكطبقات لا كأقاليم. ولكن المجتمع ليس نقطة تحت ناقوس زجاجي مفرغ بل هو عوالم لها امتدادها الفيزيقي وفروقها في مستويات التنمية والحياة والمعيشة. والمشكلة تتلخص في النهاية في التناقض الرهيب بين المتروبوليتانية في العاصمتين وبين فراغ الريف الحضاري. بين الرأس الكاسح والجسم الكسيح، مصر المتخمة ومصر المأزومة، وهذا هو التحدي الحقيقي للتخطيط في مصر.

 

والحل في رأينا هو إعادة التوزيع: أولًا بتجميد كل تنمية في الجانب الأول لفترة ما، ثم ثانيا تحويلها إلى الجانب الأخير لنخلق فيه (أقطاب التنمية) التي لابد منها لتكون نوى لرفعه وخمائر لتطويره. ولن يكون هذا إلا تطبيقًا أفقيًا لمبدأ (من كل بحسب طاقته إلى كل بحسب حاجته) الذي طبق بين الطبقات رأسيًا. لن يكون إلا تطبيقًا بين أجزاء الوطن لمبدأ تكافوء الفرص بين أبناء الوطن. الحل بمعنى آخر يكمن في التنمية -لا القومية فقط (التنمية الإقليمية) أساسًا، ولعل مما له مغزاه أن الفكر الاقتصادي الفرنسي وغيره يشهد في السنوات الأخيرة دعوة ثورية تحت اسم (الاقتصاد الإنساني) إلى عدم الاقتصار بالاهتمام على (الاقتصاد القومي) وإلى نقل البؤرة إلى (الاقتصاد الإقليمي).

 

والخلاصة بإيجاز هي أن تخطيطنا الإقليمي مهمل بل هو أضعف حلقة في كل تخطيطنا وذلك رغم أنه ليس إلا (توزيع التخطيط القومي) ولا يمكن تنفيذ الخطة القومية ككل، بل لا بد من أن تتحلل إلى عواملها الأولية وهي الخطط الإقليمية. والذي نود أن نؤكده بقوة هو أن التخطيط القومي ليس وحده السمة المميزة والمحتكرة للاشتراكية فإن الرأسمالية تعرفه أو تمارسه بصورة أو بأخرى.

 

أما علامة الاشتراكية الحقة فهو التخطيط الإقليمي. إنه الفيصل والمحك. ولذا فنحن إذ ندعو إلى الاهتمام به نصر على مغزاه الحيوي بالنسبة لقضية الاشتراكية. وليس هو دعوة إلى (التخطيط التكاملي). وليس التخطيط القومي والإقليمي في النهاية إلا جانبان لنفس الشيء، وساقان للاشتراكية. ومن حسن الحظ أن الاتجاه إلى الاهتمام بالتخطيط الإقليمي، بدأ يظهر لدينا في عدة مشروعات كتجربة الاستغلال الزراعي في كفر الشيخ وبني سويف وكمشروع محافظة أسوان.

كذلك يبدي الميثاق وضوحًا تاما في الرؤية، ويدرك إدراكًا عميقًا وثوريا قيمة الجانب الإقليمي في التخطيط. ففي الباب السادس يقول عن التخطيط الاشتراكي الكفء (إنه الضمان لحسن استغلال الثروات الموجودة والكامنة والمحتملة، ثم هو في الوقت ذاته ضمان توزيع الخدمات الأساسية باستمرار رفع مستوى ما يقدم منها بالفعل، ومد هذه الخدمات إلى المناطق التي افترسها الإهمال والعجز نتيجة لطول الحرمان الذي فرضته أنانية الطبقات المتحكمة المستعلية على الشعب المناضل). فهذه بلا تردد دعوة مباشرة إلى التخطيط الإقليمي. ثم يعود الميثاق ليضع يده على جذر المشكلة الأساسي، فيوضح كيف أنها تستقطب في النهاية في الفارق الصارخ بين القرية والمدينة فيتكلم الباب السابع عن القوى (التي تستطيع أن تنسج خيوط الحياة في الريف من جديد، وتصنع منها قماشًا حضاريًّا يقرب القرية من مستوى المدينة).

ثم يضيف (إن وصول القرية إلى المستوى الحضري ليس ضرورة عدل فقط، ولكنه ضرورة أساسية من ضرورات التنمية من غير تعال عليها ومن غير خيلاء.. إن المدينة مسؤولة مسؤولية كبرى عن العمل الجاد في القرية. إن وصول القرية إلى مستوى المدينة الحضاري وخصوصًا من الناحية الثقافية سوف يكون بداية الوعي التخطيطي لدى الأفراد).

والحق أن هذا النص نفسه بداية وعي تخطيطي جديد يضيف بعدًا جديدًا ويطعم وعينا الراهن ويجدد شبابه: أعني الوعي الإقليمي. وواضح أن جغرافية الميثاق تؤكد تقدميته التي لا تختلف عن أحدث الآراء والاتجاهات في التخطيط الاشتراكي التي لا ترى في التخطيط الإقليمي ترفًا كماليا أو بذخا باهظ الثمن. ونحن ندرك تماما أن خطوة ضخمة قد اتخذت وتمت فعلا في سبيل تحقيق العدالة الإقليمية والتنمية الإقليمية. والدولة تنشر الخدمات والمرافق وتبث المصانع الجديدة في الأقاليم وتهدف إلى تصنيع الريف، ولكن عقدًا واحدًا لا يمكن أن يصلح ما أفصد قرن برمته. ولا زال ميزان القوة والموارد والمواهب والفرص يجنح بعنف نحو العاصمة والمدن الكبرى، حيث تصل إلى حد ضغط الدم، بينما لا زالت الأقاليم تشكو فقر الدم.

 

جغرافية الثورة في مصر

 

آن لنا بعد أن قدمنا بمقدمة منهجية في فلسفة العلم وبمدخل إلى مبادئ وأسس تخطيطنا الاشتراكي آن لنا أن نحاول أن نرسم لوحة متكاملة لجغرافية الثورة كما تشكلت عندنا حتى الآن. فعلينا أن نحدد ونحلل ما أضافته الثورة إلى أركان خريطتنا الجغرافية سواء بالتعديل أو بالتأصيل. وطبيعي أننا سنرسم بفرشاة عريضة وفي ضربات سريعة لا تركز على التفاصيل والجزئيات حتى لا تضيع الغابة في الأشجار. ولتكن أرضية اللوحة اللاندسكيب الطبيعي، ومنه نتدرج إلى موارد الأرض الزراعية، التي تؤدي بنا تلقائيا إلى الجوانب الاقتصادية: الزراعة والصناعية والتجارة. ومن الاقتصاد ندلف أخيرًا إلى العمران سكانًا ومدنًا حيث تمثل قمة اللاندسكيب الحضاري.

 

اللاند سكيب الطبيعي

 

هو النواة الصلبة التي قل أن تلين للإنسان، ولكنها دانت لضبط الحضارة والتكنولوجيا في أخطر صورها: السد العالي. فهذا نقطة الابتداء في سلسلة من التغييرات الفيزيقية المباشرة في البيئة الطبيعية. والسد في ذاته وموضوعه يعيد خلق وصنع اللاندسكيب الطبيعي، ويعيد تشكيل الفيزيوغرافيا المحلية من أساسها: إنه يحول الجغرافيا الطبيعية هنا إلى جغرافيا تشكيلية. فهو أولا سيخلق نهرًا جديدًا تمامًا في قلب الصخر الجرانيتي، نهرًا مغطى يزدوج به النيل لمسافة عدة أميال (قناة التحويل) ثم إليه يتحول مجرى النهر، بينما يتحول النيل الطبيعي القديم إلى زقاق مغلق، على الأقل لمسيرة مثل هذه الأميال. فهنا إذن تضاريس لا نقول ميكروسكوبية micro-relief ولكنه تضاريس محلية جديدة ستصنع صنعًا بيد المهندس الذي هو بذلك عامل جغرافي بكل معنى الكلمة. هنا إذن عملية جراحة جغرافية من أدق وأشق ما أجرى الإنسان على وجه الأرض، ستفعل بالنيل ما فعلت جراحة قناة السويس للعالم القديمة.

 

ثم أمام هذا ستخلق لأول مرة ظاهرة جغرافية جديدة في النهر هي بحيرة ناصر التي ستمتد 500 كم حتى شلال دال (الثاني) في السودان، وتصبح بذلك أطول بحيرة في مجرى النيل وأعظم بحيرة صناعية في أفريقيا بل في العالم. وهنا نجد أن مندفعات الشلال الثاني ستتحول مع كل حوض البحيرة إلى منطقة أرساب لا تعرية. وبدلا من أن تبري المياه المندفعات وتنحتها وتتراجع بها إلى الوراء ستطمر تحت طبقة متكاثفة من طمي الحمولة السفلى bottom load. هذا بينما أمام السد ستبدأ تتكون دلتا داخلية لن تكون خطرًا تكنولوجيا قبل 500 سنة. وإلى منسوب 183 مترًا سيغرق كل قطاع النهر وتختفي بذلك النوبة من صفحة الخريطة. سواء في دلتا عليا معلقة غارقة، مقدر أنها ستبتلع جزءًا من النوبة المصرية أو السودانية لتصبح (إقليما حفريا) متزايدًا باضطراد من كفاءة تخزين البحيرة، ولكنها قطعة من الجغرافية التاريخية. وفي مقابل هذا ستحتفظ البحيرة برصيد مائي تصل طاقته القصوى إلى 30 مليار متر مقابل 5 مليار لخزان أسوان الحالي. وإلى الأبد سينتهي الري السنوي والحوضي بفضل (التخزين القرني) أي التراكمي المستمر، ولن تتبدد نقطة واحدة من مياه البحر. وبدل (صهريج الماء) الذي كان دور خزان أسوان سيكون دور السد العالي دور (بنك الماء). وبتعبير آخر سيصبح لدينا أعظم قصر من قصور الماء في القارة. لقد ألفنا أن نعد ادخال الري الدائم في القرن الماضي، نقطة التحول العظمى في تاريخ مصر الاقتصادي والبشري وخط التقسيم بين حقبتين حضاريتين. ولكن منذ الآن سيصبح السد العالي المحرك لأخطر قوة ري واقتصاد في تاريخ النيل.

أما خلف السد فلن تكون التغييرات الفزيوغرافية بأقل خطورة وثورية. أولها أن الفيضان سيدخل ذمة التاريخ: لن يكون فيضان بعد الآن. سيظل فيضان النيل أساس الجغرافيا الطبيعية في السودان والحبشة، ولكنه في مصر سيتحول إلى متحف الجغرافيا التاريخية. وبالتالي فلن يصبح نيل مصر إلا ترعة ري كبرى. وقد يكون من الأصح أن نقول إن الفيضان الطبيعي الموسمي في مصر سينتهي ليعطي مكانه لفيضان اصطناعي مستمر. أدق من أن نقول إنه لن يكون فيضان قط بعد الآن أن نقول إن النيل سيعيش منذ الآن في فيضان أبدي. وأيا كان هذا أو ذاك، فبه سيتم ترويض العنصر الطبيعي كما لم يروض من قبل: سننزع عنه أسنانه ومخالبه، أو كما عبر البعض أن النهر الذي كثيرًا ما فقد عقله سيمنح لأول مرة عقلاً بل وضميرًا.. كذلك ينبغي أن نضيف أن السد يحول النيل في الحقيقة إلى مركب من نهرين: الأول يسير طبيعيًّا إلى أن يصب صناعيًّا في بحر جديد هو بحيرة ناصر وله داله المغمورة النامية، والثاني يأخذ صناعيًّا من مصب الأول ثم يمضي طبيعيًّا ليصب في البحر المتوسط بداله الظاهرة المنكمشة. وإذا كان عهدنا بالنيل أنه جيولوجيا وفيزيوغرافيا نهر مركب، فإنه الآن ولأول مرة يصبح نهرًا مركبًا تكنولوجيا واصطناعيًّا. وليس إذن من المغالاة في شيء أن نقرر أن السد يخلق (طبيعة ثانية) للنهر، أو هو يخلق شكلاً رابعًا للمادة.

خلف السد أيضًا ستتعدل كل ظاهرات الإرساب والتعرية في مجرى النهر. الإرساب سيقل لأن حمولة النهر من الطمي ستتضاءل إذ تحتجز أمام السد.. والتعرية بالتعويض ستشتد وتقوى على طول الوادي في الصعيد أو في أطراف الدلتا. ولهذا لا بد أن ننتبه إلى أخطار زيادة «النحر» في المجرى، وتآكل دلتا السواحل، وكلها ظاهرات بدأت من قبل على نطاق محدود نسبيًّا منذ مشاريع الري الدائم في القرن الماضي. من ثم لا بد من تكسية جوانب النهر وانحناءاته في الداخل، وحماية سواحل الدلتا في الخارج. تلك إذن مورفولوجية النهر كما سيكون: نهرًا جديدًا فيه من صنع الإنسان قدر ما فيه من صنع الطبيعة. ولو قلنا T.V.A على النيل لما أنصفنا السد العالي ولظلمنا مشروع التنسي أيضًا. يكفي أن نتكلم عن ثورة النيل، وعن «تبشير» النهر Humanism. وثَم عدا هذا أثر جغرافي آخر للسد لا ينبغي أن نغفله، وهو تغيير المناخ الدقيق Microclimate للوادي عامة والمناخ المحلي Mesclimate، لأعاليه خاصة. فارتفاع واستمرار المياه في الترع جدير بأن يرفع درجة الرطوبة العامة في جو الوادي بدرجة طفيفة حقًا، ولكنها قد تمثل تغيرًا ثانويًا للبيئة الإيكولوجية والوسيط البيولوجي Biotic، لتربة الوادي ومناخه وبالتالي المركب الحشري والمرضي Pathogenic Complex. وقد يلزم أن نفكر من الآن في تأثير هذا كله على آفات القطن وغيره من المحاصيل الزراعية. هذا عن الوادي في جملته.

أما في إطار السد العالي وبحيرته العظمى فمن المحقق أن ظهور جسم مائي مسطح بهذا الامتداد وتحت شمس مدارية مباشرة سيخلق مناخًا محليا جديدًا بدرجة أو بأخرى. سيخلق أولاً حركة انتقالية من البخر قد تلتقطها الرياح العامة لتتساقط بضع سنتيمترات من المطر في منطقة هي إلى قطب الجفاف العالمي أقرب. وستخلق تيارات من نسيم البر والبحر محلية تلطف من درجة الحرارة القائظة في هذه العروض الحارة. على أنه لما كانت الرياح السائدة هنا هي الشمالية الغربية فأغلب الظن أن خير مفعول هذه الطاقة الملطفة ربما ينتقل من أسف الجنوب والجنوب الشرقي، وذلك في منطقة ستكون أقرب إلى اللامعمور منها إلى المعمور.

وتكاد في الحقيقة تناظرها على الضلوع الغربية للوادي وفي نفس العروض تقريبًا. ثم يتحول المنخفض حتى كنتور معين إلى بحيرة داخلية ضخمة من كبريات البحيرات الصناعية في القارة. وإذا كانت القناة تذكر بقناة السويس، فإن بحيرة القطارة نفسها ستذكر بمشروع وضع في القرن الماضي وأعيد التفكير فيه حديثًا لتحويل منخفض مشابه وغير بعيد إلى خليج بحري عن طريق قناة رقبة. ذلك هو منخفض شط الجريد في جنوب تونس. ولئن تحقق مشروع القطارة لكانت أبرز التغييرات الطبيعية هي خلق ساحل جديد للبحر المتوسط، حيث يصبح ساحل القطارة الجنوبي أكثر نقطة في البحر المتوسط جنوبية. وحيث يصبح لساحل البحر المتوسط الجنوبي لأول مرة ذراع جنوبية ضخمة تتوغل فيه بمثل ما تتوغل أذرعه العديدة في الساحل الشمالي.

 

وبقدر ما ستزيد أطوال سواحل البحر المتوسط، ستزيد أطوال سواحل مصر. ولعل الأثر المناخي المترتب على هذا المشروع أوضح من نظيره في مشروع السد. فهنا سيمتد مسطح مائي واسع في قلب الصحراء الليبية ولكن في إطار لا يبعد كثيرًا عن نطاق المطر الشتوي الإعصاري في شمال مصر. ولذا فقد تعدل درجة الحرارة واتجاهها من القارية المتطرفة إلى البحرية المعدلة. فإن تكثيفا للمطر لابد سيحدث في دائرة المشروع، هل يؤثر هذا على أمطارنا الراهنة في شمال الدلتا وعلى طول الساحل المتوسطي؟ من المعروف أن تغيرات الرطوبة والتساقط الإقليمية تخضع لقانون التعويض أو الأواني المستطرقة بمثل ما تخضع التغيرات القشرية لقانون التوازن. ولما كان مصدر أمطارنا الحالي هو من الغرب، فإن القطارة لن يستلب رطوبة أحد غربه وإنما رطوبة من هو شرقه. وعلى هذا فتساقط المطر في حدود إقليم القطارة قد يسبب انتقاصًا منه في حدود مناطق كمريوط أو شمال الدلتا حيث يعتمد عليه حاليا في زراعة بعلية جافة، وفي تدعيم حياة رعوية متوطنة من قديم. فإن صح هذا فلا بد من اعتبار هذه المشاكل في التخطيط الإقليمي. وأيا ما كان، فإن تكثيف الرطوبة المحتمل حول القطارة نفسه كفيل بأن يخلق حولها هالة من حياة الرعي، شبيهة بما يتركز حول وادي النطرون حاليًا مثلاً. وعدا هذا فإن احتمال العثور على البترول في النطاق الشمالي الغربي من مصر إذا تحقق قد يجعل لخليج القطارة دورًا هامًا استراتيجيًّا كمخرج للبترول، كما يمكن أن يتحول إلى مغناطيس للصناعة والعمران، ولكن هذا موضوع أدخل في باب الجغرافيا الاقتصادية للثورة.

 

قاعدتنا الأرضية

 

لقد كان «التوسع الأفقي» شعارًا في أزمان مصر الحديثة للاستهلاك المحلي دون أن يحقق شيئًا مذكورًا. ففي النصف الأول من القرن لم يزد متوسط عمليات الاستصلاح الزراعي عن نحو 10 آلاف فدان سنويًّا، وربما قصر دون ذلك. وكانت كلها جهود فردية مبعثرة كالشظايا أو تخضع لمضاربات الشركات الاستغلالية، وكانت جغرافيا تأخذ نمطًا نقطيًا ورقعيًا، لا نمط «جبهة ريادة» حقيقية. ولقد كانت البراري تمثل «صحراء سوداء» طبيعيًّا. وتؤلف «الربع الخالي» من الدلتا بشريًّا. وفي نبوءة عراف لم تحقق تصور ويلكوكس منذ أكثر من نصف قرن هذا النطاق يعود إلى الحياة بالهجرة: «في بحر خمسين سنة من الآن ستكون كلمة «براري»، أي الأرض البور قد اختفت من مصر. ولكن ظلت البراري منذئذ أسوأ كلمة في قاموس الإيكولوجيا المصري ولا تزال.

ولقد بدأت الثورة تواجه هذا التحدي بمعدل استصلاح لا يقل حتى الآن عن بضعة عشرات آلاف الأفدنة سنويًّا. ولقد نعد أن هذا أعطى الزراعة المصرية حدًا Frontier بالمعنى المعروف في الغرب الأمريكي. إلا أن هذا يعد برنامجًا ثوريًا. غير أنه من الناحية الأخرى ثمة ثورة كاملة ستتم في غضون السنوات القليلة القادمة. فقد كان الماء هو العامل المحدد. ومن أجله دخلت الثورة في أخطر تجربة إيكولوجية عرفها تاريخ البيئة المصرية. فالسد العالي سيوفر هذه المياه. وقد بدأت من قبل المراحل الأولية في استصلاح بضع مئات من الآلاف من الأفدنة في البراري حتى توضع تحت المحراث مع قدوم المياه، بدأ هذا في شمال وسط الدلتا، وبدأ في صحراء الصالحية والحسينية في الشرقية وسهل جنوب بورسعيد. فالهدف هو في النهاية ضم 1.6 مليون فدان هي البراري إلى الرقعة المزروعة. وبهذا تصل الزراعة والحياة إلي سيف البحر بعد أن ظل هذا الشريط الذي يمثل أعدل مناخ بحري في مصر المدارية مفقودًا من المعمور المصري.

 

ولم يقتصر زخف الاستطلاع على «الصحراء السوداء» الاصطناعية في الشمال، وإنما بدأ يسعى إلى «الصحراء الصفراء» الطبيعية يمينًا وشمالاً، فمنذ البداية قامت تجربة في استصلاح هوامش الدلتا الصحراوية على أطراف البحيرة وحتى وادي النطرون في مديرية التحرير حيث التربة صفراء شبه رملية يمكن أن تصلح لمحاصيل معينة.

 

ولكن لا زالت التجربة بعد عشر سنوات أقرب إلى المرحلة التجريبية، وعلينا أن ننتظر نتيجتها النهائية، هذا بينما تتصل التجربة في الجنوب بمشروعات الاستصلاح والتعمير في قوته وغيرها بالفيوم، وفي الشمال بمشروعات أبيس وإدكو. وإلى الغرب من الأخيرة تمتد جبهة واسعة من الاستصلاح على طول ساحل مرمريكا مريوط ابتداء من راس الحكمة حتى مطروح، حيث تعتمد على الأمطار وضبط سيول الأودية في توسيع الزراعة الجافة الواسعة. ويناظر هذه الجبهة على الجانب الشرقي من الدلتا شريط سيناء الشمالي ابتداء من البردويل حتى ما بعد العريش. ولأول مرة في تاريخ النيل يعبر برزخ السويس ليوسع حوضه أو بالأحرى واديه ليشمل قطاعًا من سيناء.

أما جنوبًا على طول الصعيد فإمكانيات التوسع محدودة، ولكن رقعًا كثيرة وجيوبًا وأحواضًا معلقة على جانبي الوادي خاصة في منطقة كوم أمبو قد انتزعت من قبل من الرمال. إلا أن أعظم قفزة في قلب الصحراء هي بلا شك تلك التي اتخذت من الواحات نواة لها، ومتكأ تتوسع منها وبينها خطًا يوازي النيل بالتقريب، ويخلق ما سمي «بالوادي الجديد» وبهذا سيكون هناك الوادي الأخضر والوادي الأصفر جنبًا إلى جنب. وقد بدأت من قبل مشاريع الاستصلاح واستخراج الماء الباطني بعد أن ثبت وفرة الخزان الجوفي تحتها وصلاحية التربة. ولكن لا زالت النتائج تدور في حدود الأرقام الثلاثية أو الرباعية على الأكثر. والذي لا نعلمه على التحقيق هو حجم إمكانات التوسع هنا، ولو أن الأرقام التي أعطيت في البداية تجاوز بعضها حدود العلم إلى مجال الخيال! ومن واجب الجغرافي أن يسجل هذا وينبه إليه، فليس أسوأ من رد الفعل العكسي الذي تحدثه مثل هذه التقديرات الخيالية على الدراسي الجاد.

 

ما محصلة كل هذه المشاريع؟ بديهي أن حصاد الثورة حتى الآن لا يمثل إلا كسرًا ضئيلاً من خطة الاستصلاح. ولا زالت رقعتنا الزراعية في حدود 6 ملايين فدان. ولكن المقدر أنها ستصل إلى 9 ملايين فدان بعد استكمال هذه المشروعات، وربما أوصلها البعض إلى 10 ملايين باعتبار أن هناك إمكانات لم تكتشف بعد حول بحيرة ناصر تتمثل في مدرجات بحيرية قد تحتاج إلى رفع المياه إليها آليًا ولكنها لا تقل عن مليون فدان. والسنوات القليلة القادمة خاصة ابتداءً من 1967 و1970 ستشهد الطفرة المركزة في تمدد المعمور المصري. وساعتئذ ستكون قد تحققت دورة من دورات القاعدة الأرضية المصرية، كما تتبدى من خلال حركة التاريخ في حركة «نبض هامشي» تتمثل في توسع الرقعة الزراعية في فترات القوة السياسية والحضارية، ثم في انكماشها وتقلصها في مراحل الضعف والتأخر.

ولكن المحقق أن هذه الدورة التوسعية ستكون أعظم دورة عرفتها البيئة المصرية. عند إذ ستكون قد تحققت «ثورة زراعية» من أخطر ما حركت الثورة، لأنها تعني توسعًا بنسبة 50 % من الرقعة الحالية.

ولكن الدرس الذي يمكن أن نسبق الحوادث إليه هو أن إمكانيات التوسع الأفقي في مصر محدودة في النهاية بحكم طبيعة النمط البيئي، وبعد عقد واحد سنكون قد وصلنا إلى «نهاية العالم» بالنسبة لنا وإلى آفاق بيتنا الجغرافي، وستغلق بهذا آخر كوة أو طاقة أرضية أمامنا. قبل السد كانت المشكلة المباشرة هي قلة المياه لا قلة الأرض الصالحة للزراعة، بلغة الإيكولوجيين: كانت المياه هي العامل المحدد Limiting Factor، والأرض هي العامل المسيطر Master Factor، أما بعد السد العالي فسندرك سريعًا أن المشكلة النهائية لن تكون المياه بل الأرض، ستكون المياه هي العامل المحدد في المدى الأخير ونهاية المطاف. وهنا نرى أن أمل مصر الحقيقي والأخير لا يرقد في التوسع الأفقي بقدر ما يكمن في التوسع الرأسي، بل بعد هذا وأبعد من هذا سنرى أنه لا يكمن في الزراعة بقدر ما يكمن في الصناعة، وفي الكل لا يتحدد بالكم بقدر ما يحدد بالكيف.

 

الزراعة

 

طبيعي أن يمتد أثر الثورة إلى جغرافية الزراعة، ولكن طبيعي أيضا ألا يمتد هذا الأثر إلى حد الانقلاب على الثورة، ذلك أن الزراعة هي أقدم نظام في مصر وأكثره تطورا ونضجًا من قبل، وكل مجال لهزها لا يمكن أن يلحق الجذور الضاربة المتغلغلة. ومع ذلك فقد كان التطور هامًا وبعيد المدى، شمل المساحة والإنتاجية والنمط الزراعي والمركب الزراعي -بتعبير آخر شمل التوسع الأفقي والرأسي، ويكفي هنا ما قلناه عن توسع القاعدة الأرضية للمعمور المصري حديثًا عن التوسع الأفقي. أما الإنتاجية فقد اتجهت إلى الزيادة في أغلب المحصولات، وإن كان متوسط العائد من الفدان لازال أقل من الأرقام القياسية التي تسجلها بعض الدول الحديثة والمتقدمة. فإذا تذكرنا أن زراعة الري هي بطبيعتها نوع غال باهظ الثمن من الزراعة سواء بمشاريعها من ري وصرف أو بعملها اليدوي الكثيف المسرف، أدركنا أن على عائد الإنتاج أن يقطع شوطًا بعيدًا حتى يبرر هذه التكلفة. كذلك فإن بعض المحصولات تسجل انخفاضًا طفيفًا في العائد بسبب عوامل عارضة كالدودة في القطن أو نقص الماء في الأرز وبسبب الضغط المتواصل على التربة الذي يبلغ أحيانا حد الإجهاد. وتكاد الدودة أن تصبح وباءً متوطنًا في الزراعة المصرية الرطبة. وليس هذا مرتبطًا بتكرار الزراعة فحسب وإنما بوجود الماء والرطوبة المزمنة في تربة الري الدائم حتى تحولت إلى بيئة إيكولوجية مثلى للحشرات. ولذلك فلابد من مزيد من الاهتمام بهذه المشكلة وبالصرف السليم بعد السد العالي الذي سيضاعف من معامل الرطوبة في التربة.

 

وهناك محاولات جدية لمقابلة كل نقاط زراعتنا الموروثة، فمن ناحية تتجه الزراعة إلى الآلية أو «الميكنة» بخطى وئيدة لكنها أكيدة، وإلى الصبغة الكيماوية بخطى حثيثة إن لم تكن لاهثة، بل لعل زراعتنا الآن بحسب ما تستهلك من أسمدة كيماوية ومبيدات حشرية هي من أشد زراعات العالم كيماوية وإن كانت لاتزال من أقلها ميكانيكية. ولعل من الطريف هنا أن نذكر أن كلمة الكيمياء نفسها خرجت من مصر القديمة (كيمي = الأرض السوداء) ومن المناسب الآن أن تعود «كيمي» لتحمل الزراعات الكيماوية .. ولكن لا ننسى أن لكل هذا ثمنه المادي الذي يخصم من حساب الأرباح: إن زراعة الري الرطبة تزداد تكلفة كلما ازدادت كثافة. وهناك جوانب أخرى لترشيد الزراعة تتقدم بسرعة، فإذا كان انخفاض عائد بعض المحاصيل يرد في سنوات إلى نقص المياه، فإن كثيرًا من المحاصيل الأخرى يرجع النقص فيه إلى زيادة المياه عن طريق الإفراط في الري Over-Watering ولقد قدر أن هناك إسرافًا في الري يؤدي إلى خفض المحصول بنسبة 30 % أحيانا. ولقد بدأت دراسات وتطبيقات ضبط المقننات المائية لتحقيق الري الأنسب. ومن الناحية الأخرى قدر أن توفير المياه من السد العالي سيكفل كفاية الري في حالات ومناطق نقصه بما يرفع الإنتاجية العامة بنفس النسبة 30 %.

 

ثم نصل إلى التغير الهام في نمط الزراعة، وهو إضافة أصيلة من جانب الثورة وتمشيًا مع اتجاهات عالمية سائدة. فقد كان تفتت الملكيات الزراعية تفتتًا ميكروسكوبيًا يؤدي إلى تبعثر استغلال الأراضي الزراعية Land Use بعثرة غير اقتصادية تنعكس على خطط الري والصرف وعمليات الحقل نفسها ابتداء من الحراث والبذار حتى مقاومة الآفات والحصاد، مما يؤدي إلى مضاعفة ومضاعفات الفردية الزراعية ويجب إمكانيات التعاونية الزراعية للقرية: جاء مشروع التجميع Rememberment الذي يتألف من جانبين: التجنيب والتركيز: التجنيب بإبعاد محاصيل معينة عن محاصيل معينة أخرى مثل كل منها للأخرى مشاتل للدودة والآفات. والتركيز بتجميع حقول كل محصول في حوص واحد لتسهيل كل عمليات الزراعة المشتتة. والتجميع يمكن أيضا للآلية. وقد بدأت الحركة بتجربة نواج المشهورة وسرعان ما انتشرت حتى تقترب الآن من التعميم. وقد أدى التجميع إلى زيادة محققة في عائد الفدان في كل المحاصيل، ويقدر أن تصل هذه الزيادة وحدها إلى ربع الإنتاجية عند اكتمالها.

 

ومن التجميع الزراعي داخل القرية نتوسع إلى التجميع الزراعي على مستوى القطر. فهل يمثل توزيع محاصيلنا الآن أنسب خريطة زراعية ممكنة؟ إن هناك تخصصات محلية وإقليمية واضحة في بعض المناطق، خاصة في النطاقات الهامشية في أقصى الشمال والجنوب، ولكن بوجه عام فإن الزراعة المصرية أقرب إلى الزراعة المنوعة التي تتألف من مركب متشابه العناصر غالبًا. وتأتي ضرورات التموين عاملًا مساعدًا في هذا الاتجاه حيث تفرض على كل الملكيات نسبة معينة من القمح لا تتعداها إلى أسفل ومن القطن لا تتعداها إلى أعلى -هي الثلث في كلتا الحالتين عادة. والنتيجة أن يضعف معامل الارتباط بين المركب المحصولي وبين المركب البيئي- أي يضعف التخصص أو يتلاشي. ولهذا عيوبه بالنسبة للأرض وبالنسبة للإنتاج على السواء. ولقد جاء الوقت لتخطيط المحاصيل على أساس إقليمي عريض يحد من نسب المحاصيل في مناطقها الحدية ويكثفها في مناطقها الطبيعية.

 

من المركب المحصولي الإقليمي ننتقل أخيرًا إلى المركب القومي. إن محاصيلنا التقليدية الآن معروفة وراسخة. وهي تتوازن فيما بينها في توزان دقيق حساس يفرضه اقتصاد المكان وثبات الرقعة الزراعية الكلية، فلا تغيير لأحدها إلا بتغيير مقابل في غيره، وليس من السهل مطلقًا التفكير الثوري في تعديلها. ولكن على التخطيط القومي والزراعي أن يبدأ -وقد بدأ فعلًا- أن يتساءل عما إذا كان هذا فعلا أمثل استغلال ممكن.

 

وهنا لابد أن ننظر إلى إطار أوسع من الإطار القومي: إلى الإطار العالمي بما يحدث فيه من متغيرات وتطورات تؤثر مباشرة على «أربحية» إنتاجنا لقد بعدنا كثيرًا عن الكفاية الإنتاجية الذاتية الغذائية، ولا سبيل إلى العودة إليها إلا على حساب القطن. ولكن القطن هو عماد الاقتصاد النقدي. وهو بدوره يلقى منافسات متزايدة في السوق العالمية. وعدا هذا فكثير من محاصيلنا تبدو حاليًا كأربح وأمثل استغلال للأرض، ولكن الحقيقة أن هذا أغفل حساب عنصر الماء ماء الري كلية. ولو أدخلناه لضاعت الميزة الموهومة لبعض المحاصيل على البعض الآخر. ومنذ سنوات اقترح البعض أن تقوم ثورة جريئة في المركب المحصولي مثل ما عرفت الدنمارك في في تاريخها الزراعي حين تحولت من الحبوب إلى مراعي الألبان، فهم يتخيلون مصر وقد أصبحت «كاليفورنيا أوربا» بما تنتجه للتصدير من فواكه مدارية وزهور وألبان .

 

ولهذا كله فإن تعديل المركب المحصولي في الزراعة المصرية ليس أمرًا سهلًا، ولكنه يحتاج إلى تخطيط بعيد المدى لاقتصاديات المحاصيل، ولهذا لم تؤخذ بعد اتجاهات حاسمة فيه. ولكن الشئ الثابت والذي ينبغي للجغرافي أن يلح فيه هو أن امتداد المركب الزراعي الحالي بكل عناصره ونسبه كما هي إلا مناطق التوسع الأفقي في المستقبل القريب يبنغي أن يمنع بتاتًا. وإنها لتكون سخرية تخطيطية -ولا نقول فضيحة تخطيطية- أن يبتلع المركب التقليدي صمام الأمن الأخير المتبقي لدينا. فالمناطق الجديدة ينبغي أن تتجه إلى المحاصيل التجارية أولًا، والمحاصيل التجارية المربحة ثانيًا، والمتلائمة مع البيئة ثالثًا. فنطاق الشمال الأقصى ينبغي أن نستفيد من مناخه باعتباره أعدل أقاليم مصر حرارة ورطوبة وأبعدها عن المدارية، بينما في الجنوب الأقصى ينبغي أن نركز على المحاصيل المدارية الحارة الثمينة ذات القيمة. وفي الشمال الأقصى مجال الزراعة المختلطة Mixed Farming التي لا تعرفها مصر حتى الآن، كما يمكن أن تكون حديقة معتدلة لمصر المدارية. وفي كل الحالات سيساعد على هذا التوجيه الجديد أن المناطق الجديدة ستكون قليلة السكان مما يحررها من ضغط الزراعة المعاشية التقليدية.

 

الصناعة

 

نستطيع أن نقول -ربما بقليل من مبالغة ولكن بكثير من صحة- أن الزراعة كما هي اليوم هي إلى حد كبير من صنع الإقطاع القديم بينما الصناعة هي إلى أبعد حد من صنع الثورة الاشتراكية. أي أن أضخم بصمة أصابع للثورة على الاقتصاد المصري أتت في الصناعة في الصناعة تحددت. ففي الثلاثنيات والأربعينيات، ولكن بوجه خاص منذ وأثناء الحرب لم تعرف مصر إلا دفعة صناعية، أما «الثورة الصناعية» الحقة فهي بنت العقد الأخير وحده، إن ثورة الصناعة في مصر هي أساسًا صناعة الثورة. وبين الثورة والصناعة علاقة وظيفية صميمة لا مجرد اتفاق: علاقة أصولية لا وصولية فالاستقلال الحقيقي في هذا العصر يزداد كل يوم وضوحًا أنه ذو ثلاثة أبعاد: يبدأ من السياسي ليجد وراءه الاستقلال الاقتصادي، ومن وراء هذا بدوره الاستقلال العلمي، فالعلم اليوم هو الزاوية القائمة في مثلث الاستقلال القومي، وهو المسمار المحوي في آلة القوة السياسية الحديثة. والعلم هو التكنولوجيا، والتكنولوجيا هي الصناعة. من هنا كان طبيعيًا للاستعمار أن يحارب التصنيع ويئده، وكان على التحرير أن يلده.

 

وهنا لابد أن نقف عند مغزى هذا الانقلاب من حيث فلسفة الفكر الجغرافي. فلكي يحتكر القوة، معروف أن الاستعمار احتكر لنفسه الحرف الثانية والثالثة وفرض على المستعمرات الحرف الأولية وحدها. هكذا كان تقسيم العمل الاستعماري، وهكذا كان التخصص الإمبريالي.

 

وكانت الدعوى التي يؤسس عليها هذا الابتزاز السافر دعوى جغرافية في التحليل الأخير، وهي أن ذلك توجيه الظروف الطبيعية وحتم البيئة. فمصر «بطبيعتها» زراعية، و«لطبيعتها» ليست للصناعة. وواضح على الفور أن هذا هو الحتم الجغرافي في أعتى صوره، ولكن الحقيقة أن الحتم الجغرافي -على علاته- طالما اتخذ من الناحية العلمية السياسية أو الطبقية كبش فداء لمصالح مكتسبة وحجة ملفقة لاستغلالات وأوضاع فاسدة. وكادت هذه الدعوى المغرضة أن تقر في الأذهان كحقيقة جغرافية من معطيات البيئة: «أن أجيالا متعاقبة من شباب مصر لقنت أن بلادها لا تصلح للصناعة ولا تقدر عليها» (الميثاق) ولكن التجربة التحررية أثبتت خطأ هذه النظرية الحتمية الجامدة ولم تعد النظرية الاقتصادية الحديثة تميز بين دول زراعية ودول صناعية، هكذا صارمة وإلى الأبد، وإنما تميز بين مراحل تطورية، بين دول متخلفة ودول نامية ومتقدمة. وقد فجرت الثورة في مصر دعوى الاستعمار حتى فجرت الثورة الصناعية، وإذا كانت قد قابلتها صعوبات من قبل فتلك كانت «آلام المخاض»، وأما ما يصادفها من بعد فهذه «آلام النمو». لا وليس التصنيع هو مجرد انعكاس أو رد فعل «للوطنية الاقتصادية» Economic Nationalism كما يردد الاستعمار، وإنما انعكاس للطبيعة الكامنة ورد فعل جغرافي كما قد نقول.

 

وينعكس انقلابنا الصناعي على هيكل الاقتصاد القومي كله من ناحية وعلى هيكل الصناعة نفسها من ناحية أخرى، ثم على توطنها الجغرافي من ناحية ثالثة. فاما من الاطار القومية فقد سجلت الصناعة أعظم نسب نمو في نسب وقطاعات الإنتاج والدخل القومي. فمن 8.7 % من قيمة الدخل القومي في 1950، ارتفعت الصناعة إلى 21.3 % في 1960 - أي أكثر من تضاعفها في عقد.

 

وهذه النسبة الأخيرة تقابلها الزراعة بنسبة 31.2 %، والمعنى الواضح: أنه وإن كانت الزراعة لا تزال الحرفة الأساسية، فإن مصر قد أصبحت في معنى أو آخر «دولة صناعية»، وتدل آخر أرقام 2 - 1963 على نفس الاتجاه. فمن جملة الإنتاج القومي بما فيه القطاعات السلعية وقطاعات الخدمات بلغت نسبة الصناعة نحو 42.7 % مقالبل 20.2 % فقط للزراعة. أما من جملة الدخل القومي فلاتزال الصدارة للزراعة: 27.8 % مقابل 21.4 % للصناعة. ولكن الانكماش النسبي في دور الزراعة في اقتصادنا واضح، وذلك لتوسع الصناعة في الدرجة الأولى، والخطة العشرية التي تهدف إلى مضاعفة الدخل القومي بين 1960 و1970 تهدف داخليًا إلى أن تقلب الحصص النسبية لكل من الزراعة والصناعة في الاقتصاد والدخل القومي بحيث تكون في النهاية من 24.5 % للزراعة مقابل 31.3 % في الصناعة. فإذا تم هذا فلا مفر من أن نقول حينئذ أن مصر الزراعية قد تركت مكانها لمصر الصناعية نهائيًا وإلى الأبد.

 

وطبيعي لا يزال دور الصناعة في العمالة وسيظل طويلًا محدودًا -كان يمثل 10.6 % من القوة العاملة 1960 مقابل 54.3 % للزراعة. وهذا لأن الصناعة -تكتيكيًا- كثافة بينما الزراعة مساحة. وإذا كانت لا تفسر إلا هذه النسبة المحدودة من العمالة، فإن ما تفسره من الكفاية الذاتية أقل، ومن الصادرات أقل وأقل فمن حيث الكفاية، بديهي أن صناعتنا لازالت تستهدف أساسًا الحد لا التخلص التام من الاعتماد على الأجنبي. ورغم أن هناك خطوطًا من الصناعة تحقق الكفاية التامة بل وتترك فائضًا للتصدير، فإن الصناعة في مجموعها بعيدة عن هذا حتى الآن، أما في الصادر فقد بدأت الصناعة تظهر في القائمة، أولا على استحياء ثم بعد ذلك في مضاء، حتى لقد سجلت متناقضة فذة حين أصبحت مصر -حقل قطن لانشكير التقليدي- تصدر المنسوجات والغزل إلى دول أوربا بما فيها بالذات بريطانيا! ومع ذلك فالصناعة حتى الآن لا تفسر إلا كسرًا ضئيلًا من قيمة الصادر، على أن الهدف الأخير من تحويل كل صادرنا من خام القطن في يوم ما إلى صادر مصنوع من الغزل والنسيج.

 

أما عن هيكل الصناعة نفسها فقد تأثر كثيرًا وبعيدًا بالثورة، فمن ناحية تغير التركيب الداخلي للصناعة الخفيفة من النمط البدائي إلى المتطور، ومن البسيط إلى المركب، فترتيب قطاعات الصناعة كلها في مصر كان الترتيب التقليدي للصناعات المتخلفة: الصناعات الغذائية في المقدمة، تليها النسيجية، وأخيرا المعدنية. ولم يكن ترتيب الأهمية والنسبة وحده هو العلامة المميزة، وإنما كذلك نوعية هذه الصناعات، فقد كانت الغذائيات تعني أساسًا الاستهلاك المحلي البسيط، بينما النسيجيات كانت أولية في طبيعتها بمعنى أنها ترادف القطنيات وحدها أو تكاد، وفي القطنيات كانت تعني الغزل اكثر من النسيج، أما المعدنيات فلم تكن إلا صناعة الحدادة والسمكرة التقليدية الحرفية واليدوية التي هي أبعد شيء عن الصناعة بالمعنى الحديث. كل هذا المركب قد انقلب في صميمه ترتيبًا وتركيبًا، فأولًا انقلبت الأولويات في الأهمية النسبية، فتقدمت النسيجيات إلى المرتبة الأولى المطلقة وتراجعت الغذائيات إلى المرتبة الثانية، وأعطت الصناعات المعدنية مكانها للكيماوية. ومثل هذا الترتيب في ذاته هو علامة تركيب الصناعة الراقية الحديثة. عدا هذا فقد تطورت طبيعة كل قطاع منها تمامًا.

 

ففي النسيجيات أضيفت خطوط الصوفيات والحرير إلى القطنيات، وفي القطنيات أخذت كفة النسيج ترجح الغزل، أي زاد الاتجاه من الاتجاه المصنوع إلى المصنوع التام. ونحن نصنع الآن نحو 30 % من محصولنا من القطن. والغذائيات توسعت كمًا وكيفًا وتطورت في مستواها. أما الكيماويات فقد أضافت خطوطًا جديدة من الإنتاج وتوسعت في الخطوط القديمة. وأصبحت المعدنيات تعني بلا تردد الصناعات الهندسية المعقدة بمعنى الكلمة.

 

ذلك كله لا يتعلق بالصناعة الخفيفة. ولكن تغيرًا جذريًا آخر لا يقل بل يزيد خطورة هو إضافة عالم جديد من الصناعات إليها، ونعني به الصناعة الثقيلة. وقد تكون الصناعة الثقيلة شيئًا أقل انتشارًا وامتدادًا، عمالة وإنتاجًا، ولكنها بالنسبة للصناعة الخفيفة كالصناعة بالنسبة للزراعة: هذه مساحة ولكن تلك كثافة، هذه شرنقة منتفخة وتلك نواة صلبة، فهي أساس أي تصنيع حقيقي وهي المقياس الصحيح له. ومن الأوليات الأوليات أن الأفران العالية هي قلاع الصناعة القومية. ورمز القوة الصناعية في العصر الحديث. ومن قبل كانت صناعتنا الخفيفة تحت رحمة السوق الخارجية من حيث الوقود والخامات. ولكن منذ صناعة الصلب والحديد، بدأ الاستقلال الصناعي الحقيقي. وإذا كانت الصناعة قد بدأت معتمدة على خام الحديد المحلي وفحم الكوك المستورد، فليس معنى هذا بالضرورة كما أشاع الشانئون أنها «صناعات سياسية»، فالتحليل الاقتصادي السليم يثبت أنها «صناعة جغرافية» بمعنى الكلمة: صناعة انبثاقية لا مفروضة. كما أنها بدأت أخيرا تستعيض عن الفحم بالبترول مسجلة بذلك طفرة ريادية من أولى ما في العالم. وهي منذ بدأت آخذة في التوسع والانتشار طاقة وتوزيعًا. فإذا كانت تسجل الآن ربع مليون طن إنتاجا، فإن هدفها القريب 2 مليون طن. وإذا كانت تتركز حاليًا في حلوان فقد بدأت الإعداد لوحدات أخرى في وسط الصعيد وأسوان. والكلام عن ثورة الصناعة ينقلنا إلى الكلام عن ثورة التعدين. ونقول ثورة لأنها في الواقع تمثل انتفاضة عارمة على الصحراء لتكشف عن أسرارها.

 

 

فرغم أن واقع الإنتاج حتى الآن لا يبلغ حد الثورة فقد كشفت عن رصيد في كثير من المعادن يبشر بها. على أن من أسف أن الثورة المعدنية المصرية تمتاز تقليديًا بأنها أقرب إلى قائمة مطولة لعيناتر -مجرد عينات- من المعادن فهي شديدة التنوع ولكنها قليلة الثراء. ولكن معدلات الإنتاج في أغلب المعادن زادت أو تضاعفت، ونسب التصدير منها زادت، ومثلها نسب التصنيع في هذا المصدر. ولعل أثمن عناصر هذه الثروة هي ثلاثية البترول -الحديد- الفوسفات التي تذكر في هيكلها بثورة المغرب العربي المعدنية. وأثمنها هو الآن البترول لا شك الذي ارتفع إنتاجه في عقد من نحو 2 مليون طن إلى نحو 6 مليون طن ولا ريب أن هذا الرقم الأخير يمثل معدلًا متواضعًا ضئيلًا بمقاييس الإنتاج في الشرق الأوسط، ولكن لا جدال أنه يمثل أرقى مراحل التصنيع والاستثمار في المنطقة كلها. فمن الحديث المعاد أن مصر هي الوحيدة في العالم العربي والشرق الأوسط التي استثمر فيها البترول الاستثمار المنتج الكامل ولعب فيها دوره الصناعي الكامل. فمنذ الحرب الأخيرة وهو القوة المحركة الأولى في كل تصنيع مصر ومحرك الثورة الصناعية، وهي أيضا التي تصنع كل بترولها الاستهلاكي وقد نمت لنفسها صناعة وطنية كاملة من البتروكيماويات، كما كونت على دلتاها شبكة أولية من خطوط الأنابيب السوداء والبيضاء، بل وفي مياهها أسطولًا من الناقلات. إن إنتاج البترول في الشرق الأوسط تعدين، ولكنه في مصر وحدها تصنيع، هو في الشرق الأوسط صناعة استخراجية ولكنه في مصر وحدها صناعة تحويلية.

 

يبقى بعد هذا جانب أخير ولكنه خطير من ثورتنا الصناعية: توقيع وتوزيع الصناعة فمن المسلم به أن أسوأ ما أصيبت به بداية الصناعة في مصر قبل الحرب أنها سلمت نفسها لضبط عوامل توقيعية بورجوازية ورأسمالية، فتكدست في المدينتين العاصمتين القاهرة والإسكندرية بلا مبرر سوى السوق ورأس المال متجاهلة الضوابط التوقيعية الحقيقية والأكثر خطرًا وبقاءً هي والمادة الخام والوقود والعمل. وبصرف النظر عما تضمنه هذا من عدم اقتصادية في التكلفة نقلت إلى المستهلك الصغير، فإنها قد جاءت بذلك لتؤكد وتضاعف الاقتصادية المركزية العنيفة والصارخة في مصر، وزادت من توسيع الهوة بين العاصمتين والأقاليم ومن المتناقضات بين المدينة والريف. وإذا كانت الصناعة النسيجية قد غامرت في المحلة فلم يكن ذلك إلا فلتة ريادية لم تتكرر. هكذا كانت اللاإقليمية أبرز عيوب صناعتنا قبل الثورة.

 

ولقد واجهت الثورة هذه الصورة المعوجة فبدأت في نشر الصناعة ونثرها في أوسع نطاق ممكن سواء في المدن الإقليمية أو في صميم الريف، لا تحقيقًا للأربحية الاقتصادية فحسب ولكن للأربحية الاجتماعية أيضًا بمعنى العدالة الإقليمية وتحقيق شبكة متكافئة من الفرص الإنتاجية والقيم البشرية. ولا ريب أن دور الصناعة في إمكانيات اللامركزية البشرية وفي الاتجاهات الإقليمية لا يفوقها أو يعادلها نشاط اقتصادي آخر، لأنها الوحيدة التي يخضع جزء كبير من توقيعها للضبط والتخطيط البشري ولهذا فإن قيمتها في إعادة توزيع الأثقال والأوزان المادية والحضارية داخل إطار الدولة وفي جسم المجتمع قيمة حيوية كبرى، وإهمالها يمثل ضربة قاضية لآمال الإقليمية والإقليميين، وإنه لهذا السبب بالذات لابد أن نقرر أننا نخشى أن اتجاه الصناعة بعيدًا عن العاصمتين ونحو الأقاليم لازال يقصر دون أهداف الاشتراكية الإقليمية الحاسمة. ولنا فيما نشرته وزارة الصناعة أخيرًا أكبر دليل. فمن 727 مصنعًا أنشأتها الثورة في الإحدى عشر سنة الماضية لا نجد خارج منطقتي القاهرة والإسكندرية الصناعيتين إلا 203 مصنعًا، الغالبية العظمى منها من الصناعات الغذائية أولًا والحرفية والريفية ثانيًا، ثم الغزل والنسيج ثالثًا، أي من الصناعات البسيطة أساسًا، كما أن وحداتها صغيرة الحجم غالبًا. كذلك فإن كثيرًا من المشروعات الصناعية الكبرى قد وقع توقيعًا لا يمكن أن يزكيه الجغرافي أو أن يبرره رجل الاقتصاد. مما يكشف أحيانًا عن داء الاكتفاء باعتبارات التخطيط القومي وإهمال اعتبارات التخطيط الإقليمي -كأنما بينهما تعارضًا او حتى ثنائية. وصناعة الحديد والصلب في حلوان مثل بارز. وليس من مبادئ الاقتصاد الاشتراكي الخضوع والرضوخ لمبدأ الوفورات الخارجية المكتسبة. فهو في الصناعات كمنطق الأمر الواقع في السياسية: ليس عدلًا وإن بدا كفاية. وفي اعتقاد الكاتب الحالي أنه قد آن الأوان لكي تعلن مدينة القاهرة -وربما الإسكندرية- «مدينة مغلقة» للصناعة لمدة عشر سنوات مؤقتًا بحيث يجمد فيها كل توسع صناعي ويحول إلى الأقاليم ومدن الأقاليم لاسيما أن كهربة الريف بعد السد ستمكن لهذا الانتشار والمتبعثر من ناحية، كما ستجعل التركيز المخيف في العاصمتين أمرًا غير مفهوم اشتراكيًا أكثر من أي وقت مضى.

 

والتجارة الخارجية..

 

مرآة أمينة لهيكل الإنتاج الداخلي، وأكثر منها للقوة السياسية ولهذا تعكس تطورات انقلابية مماثلة، والواقع أننا نستطيع أن نقرأ كل ملامح ثورتنا السياسية والاقتصادية في قائمة تجارتنا الخارجية، فيمكن أن نقول أن تجارتنا قبل الثورة كانت مثالًا نموذجيًا -وإن لم يكن متطرفًا بالقياس إلى بلاد كثيرة من «العالم الثالث»- مثالًا نموذجيًا لما يعرف «بالتجارة الاستعمارية». فقد كانت تعكس كل خصائص الاقتصاد التابع الذي يخضع للسوق الخارجية ويقع تحت رحمة عميل بعينه أو أكثر. ويمكن أن نلخص هذه الخصائص في أربع هي اقتصاديات الخامات، واقتصاديات المحصول الواحد، والتبعية الاقتصادية، والعجز التجاري. ولكن هذه جميعا صيغت في طفره ثورية كاملة، فربما لا يعرف القرن العشرون دولة تغير فيها هيكل تجارتها الخارجية بالقدر الذي عرفته مصر.

 

ففي الثورة كانت قائمة الصادر كلها من الخامات والوارد قوامه من المصنوعات. وكان قوام الخام الصادر هو القطن وحده. مثلًا في 1938 بلغت قيمة القطن نحو 22 مليون جنيهًا من مجموع الصادرات البالغ 24 مليونًا أي بنسبة 91 % تقريبًا! وفي 1955 كانت الأرقام 88.127.122 % على الترتيب. وهذه تلك نسب تذكر بقوة الدولة الأفريقية المدارية المتخلفة. ولكن بعد هذا تطور الموقف كثيرًا، وأخذ القطن -وإن ظل ملكًا- يتراجع تدريجيًا ليفسح المجال لاقتصاد أكثر اتزانًا وأقل إعوجاجًا. ففي 1961 كانت قيمة القطن 104.6 مليون جنيهًا من مجموع الصادر البالغ 159.7، أي بنسبة 65.5 % وهو تطور ضخم حقًا يعني أن الاستقلال السياسي قد ضوعف باستقلال اقتصادي.

 

كذلك كانت تجارتنا الخارجية تدور في دائرة «المتروبول» المغلقة وفي فلك الاحتكار الاستعماري بصورة تجعل من الاستقلال السياسي حتى إن وجد سخرية كبرى ووهمًا عريضًا، ولو أن ارتباط مصر بالمتروبول، كان أخف بكثير مما يتصور البعض ومما عرفت مستعمرات أخرى. فحتى في 1938 لم يزد ارتباط مصر ببريطانيا تجاريًا عن الربع أو الثلث من كل تجارتها الخارجية. فكانت بريطانيا تقدم 23 % من واردتنا، وتأخذ33 % من صادراتنا. وفي 1951 كانت هذه النسب قد انخفضت إلى 17 %، 19 % على الترتيب، وهذه الدولة لا تزيد عن مجرد عميل من بين أو بعد عشرات أكثر منها أهمية في تجارتنا. ولقد أصبحت شبكة علاقاتنا التجارية صادرًا وورادًا تتوزع على جبهة عريضة جدًا تشمل أغلب دول العالم، وجزء كبير منها يرتبط بالكتلة الشرقية كالذي يرتبط بالغرب بينما جزء نام نشط يأخذ مكانه إلى جوارهما مع دول العالم الثالث وخاصة العالم العربي. بمعنى آخر إن عملاءنا اليوم انعكاس لسياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ووجهة القومية العربية. وبذلك تحطمت نهائيًا علاقة منطقة النفوذ التقليدية اقتصاديًا كما تحطمت سياسيًا.

 

هناك بعد هذا الميزان التجاري الخاسر. فقد كانت مصر منذ عقود تعاني من ميزان خاسر مزمن حيث أن التجارة الدولية تتحيز باستمرار تحيزًا صارخًا لأسعار المصنوعات ضد الخامات. وقد كانت مصر تعتمد في موازنته لفترة طويلة على أرصدة الإسترليني المجمدة لنا في لندن. ولكن العجز قد زاد أخيرة زيادة كبيرة وأصبح ظاهرة مستمرة. ففي 1961 كانت الورادات 238.5 مليون جنيه، والصادر 161.2 بعجز قدره نحو 77.3 أو 193 % من جملة التجارة الخارجية. وللوهلة الأولى قد يبدو أن هذا خطوة إلى الوراء وأنه نقطة سوداء في التركيب الاقتصادي للدولة ولكن هذه نظرة سطحية خاطئة. فالحقيقة أنه لا يدل إلا على مرحلة انطلاق اقتصادي نشطة كل النشاط حيث نستورد رؤوس الأموال الأجنبية على شكل قروض وسلع رأسمالية ائتمانية لمشاريع التنمية. فالعجز التجاري الحالي يدل على أننا إنما نشتري المستقبل بالحاضر، ويشير إلى عجز مؤقت ولكن لا يعني أننا دولة عاجزة، بل إن بعضًا من أخص خصائص التجارة الاستعمارية قد انقلب تمامًا في مصر. فالعادة في التجارة الاستعمارية أن الدول المتخلفة تمتاز بأن صادراتها تزيد وزنا على وارداتها لان الأولى من الخامات الثقيلة والثانية من المصنوعات الخفيفة. ويترتب على ذلك أيضًا أن العلاقة بين القيمة والوزن علاقة عكسية، وأن متوسط قيمة طن الوارد إلى الدول المتخلفة يعادل أكثر من أو عدة أمثال قيمة طن الصادر. ولكن هذه الظاهرات تنعدم بل تنعكس في مصر. وتمثل بذلك حالة نادرة في أفريقيا. ففي 1960-1961 كان مجموع وزن الصادرات 5.850.000 طن مقابل 6.170.000 للواردات. والسبب أن الواردات أصبحت تشمل نسبة كبيرة من خامات المناجم والمحاجر اللازمة للتصنيع وقدرًا من المواد الزراعية لعدم الكفاية الذاتية في الغذاء. ولذلك نجد تقاربًا معقولًا في قيمة وحدة الصادر والوارد، فهي الأولى 30.9 جنيهًا للطن وللثانية 35.2 جنيهًا، والسبب أن الصادر أصبح يشمل نسبة لا بأس بها من السلع المصنوعة (23.2 %).

 

في العمران

 

نال الغلاف البشري -ولم يكن له بد من أن ينال- من آثار الثورة علامات بعيدة المدى سواء في شكله أو توزيعه أو تركيبه. فإن التغيرات الإيكولوجية والاقتصادية والثورة الاجتماعية الاشتراكية كان لابد أن تترك بصماتها عميقة على جسم المجتمع وعلى تنضيده في إطار طبيعي. ولكن هذه الآثار تختلف من جانب إلى جانب. فمن حيث حجم السكان ورثت الثورة حالة من إفراط السكان المخيف تمثل خطرًا يتعدى فيه حجم السكان الموارد والإنتاج وينخفض مستوى المعيشة إلى ما يقرب من «خط الفقر» ويجعل جغرافية السكان في أغلبها فصلا في «جغرافية الجوع» وقد ذهب الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية وإعادة توزيع الدخل القومي وقوانين يوليو الاشتراكية إلى مدى بعيد في سبيل تخفيف هذه الحالة المرضية. ولكن موجة الرواج تحولت إلى موجة من الزواج، وتغلبت خصوبة السكان على خصوبة التربة، فأخذ المد السكاني الزاحف يطغى وارتفع عدد السكان في العقد الأخير نحو 7 ملايين نسمة. وأصبحت العلاقة بين الموارد والسكان أشبه بشخص يصعد سلمًا آليًا هابطًا. ومن المحقق الآن أن التحدي الذي يهدد التنمية الاقتصادية إنما هو نمو السكان، وأن لابد إلى جانب تخطيط الإنتاج الاقتصادي من تخطيط الإنتاج البشري، أو كما عبر البعض كثافتنا هي قدرتنا، ولهذا فلعل ضبط النسل هو أهم المبادئ التي تبنتها الثورة أخيرًا في مجال التخطيط الاجتماعي. وفي هذا يقول الميثاق: إن مشكلة التزايد في عدد السكان هي أخطر العقبات التي تواجه جهود الشعب المصري في انطلاقه نحو رفع مستوى الإنتاج في بلاده بطريقة فعالة وقادرة»، ويضيف أن «محاولات تنظيم الأسرة بغرض مواجهة مشكلة تزايد السكان تستحق أصدق الجهود المعززة بالعلوم الحديثة».

أما عن نمط العمران فمرتبط بالتغيرات الجذرية التي تلحق نمط المعمور نفسه، ويمكننا أن نلاحظ في هذا الصدد عدة اتجاهات وخطوط حيوية. فأولًا بدأت الثورة ببتر ذيل المعمور في النوبة. فمنذ بدأ خزان أسوان والنوبة تتقلص وتتشرنق على نفسها باطراد منفصلة عن كتلة وجسم العمران في الوادي. وقد حدث تحرك ذيل النوبة في اتجاهين أو على مستويين، فهي أولا كانت تغرق ابتداء من الشمال إلى الجنوب مع كل تملية، بحيث أصبحت في النهاية جزيرة صغيرة منفصلة عن كتلة الصعيد ومعزولة على أقصى الحدود. وهي ثانيًا كانت تغرق من أسفل إلى أعلى، مهاجرة بذلك إلى كنتورات أي مستويات ارتفاع أعلى باطراد. وبهذا انتهت النوبة إلى أن تصبح جزيرة معزولة «معلقة» تعشش على جانبي النهر عند أقصى الحدود ومع السد آن لها أن تختفي نهائيًا في بقعتها وأن تنتقل في هجرة جذرية فتهبط مع انحدار النهر وتياره شمالًا إلى كوم إمبو حيث تمت عملية من أكبر عمليات إفادة التوطين Resettlement في المنطقة، وقد أتت عملية التهجير هذه كقطعة من التخطيط الإقليمي المقنن الذي جعل إعادة التوطين أيضًا تجربة في التحضير في التوطيد الاجتماعي وإذا كان في هذه العملية الجراحية العمرانية تكثيف للسكان في الوادي فإنها بتر لذيله وتقصير له. وقد يجوز لنا، وقد زالت نهائية همزة الوصل السكانية الضئيلة بين كتلتي العمران في مصر وفي السودان أن نقول أن تلك العملية قد حولت كتلة العمران في مصر من شبه جزيرة إلى جزيرة كاملة.

 

ولكن إذا كان ذيل المعمور قد بتر في الجنوب بضع مئات من الكيلو مترات الضيقة المختلفة شبه الخطية، فإن العمران في سبيله إلى أن يتمدد تمددًا ضخمًا في أقصى الشمال حين يتم السد واستصلاح البراري. ولعل هذه الحركة الآن في مرحلتها الجنينية من قبل. ولكن لن تمضي سنوات حتى تحدث أضخم حركة هجرة مدية في تاريخ العمران المصري منذ قرون، حين تنطلق عارمة موجات السكان الحبيسة في كظ وتزاحم الدلتا والصعيد. ولنا أن ننتظر حينئذ -على غرار «إذهب إلى الغرب أيها الشاب» في أمريكا- صيحة قومية تقول «إذهب إلى الشمال أيها الشاب».

 

وبديهي أن هذه العملية ستنتظم على الأقل بضع مئات من الآلاف من السكان، ومن ثم ستكون أعظم عملية تهجير في تاريخنا على الإطلاق تتضاءل بجوارها حركة تهجير النوبة إلى مجرد تجربة عينة. وعلى الدولة من الآن أن تحشد كل قواها في التخطيط الإقليمي لتواجه ذلك اليوم. وإذا كان تهجير النوبة قد قصر المعمور من ناحية وكثفه محليًا من الناحية الأخرى، فإن تعمير البراري سيؤدي إلى العكس، فأولًا سيطيل المعمور إلى الشمال بعرض يصل في متوسطه إلى المائة كيلو مترًا وعلى طول جبهة تبدأ من مشارف العريش وتنتهي إلى ختوم مطروح، ثم هو ثانيًا سيخلخل كثافة المعمور في الدلتا خاصة والوادي بمقدار ما ينقل من السكان من الجنوب إلى الشمال. وبهذا سيتحقق على الجملة اتجاه نحو مزيد من التجانس في توزيع الغلاف البشري وفي سمكه.

 

ولكن سيلاحظ على الفور من مجموع التغييرات الجذرية في كتلة المعمور -وهي التغييرات التي تتحدد أساسا في الأطراف القصوى سواء في الشمال أو في الجنوب- سيلاحظ أنها تعني في الحقيقة عملية «انتقال» زاحف نسبي لهذه الكتلة ككل من الجنوب إلى الشمال. أي أن جسم العمران سيتحرك حركة طفيفة غير منظورة، أشبه بالزحزحة أو الزحف، من عروض مدارية إلى عروض أقل مدارية ومن كنتورات عالية إلى كنتورات أوطأ قليلًا. إن الثورة تنقل مصر قليلًا نحو البحر المتوسط. وفي داخل هذه الحركة ستتم عملية إعادة توزيع داخلي تنقل السكان بدورهم من الضغط الثقيل إلى الضغط الخفيف أي من الجنوب إلى الشمال. وإلى جانب هذه الحركة المحورية الكبرى، ستحدث تغيرات ثانوية تتعامد عليها. فبدلًا من أن تتجه الهجرة السكانية من خارج الوادي من الواحات ومن أطراف الدلتا والصعيد إلى قلب الأرض السوداء، سيحدث العكس وتنعكس الهجرة من وادي النيل إلى هوامشه وإلى الواحات وسواحل البحر الأحمر، ومعها تتسع دائرى العمران ويقل الانحدار الرهيب الراهن في درجة الكثافة.

 

من شكل العمران ونمط السكان ننتقل الآن إلى النسيج الذي يتألف منه هذا العمران وإلى وحداته الخلوية، فنجد أن يد الثورة قد وصلت إليه في أكثر من ناحية. فأولًا يمكن أن نقول أن عصر الثورة كان عصر تمدين واتجاه نحو المدنية، فعند بدايتها كانت حياة المدن تنتظم نحو ربع أبناء الأمة، وهي الآن تتعدى الثلث ومن المقدر أننا لن نصل 1970 حتى يكون واحد من كل مصريين يعيش في مدينة. وفي رأينا أن التمدين في الحدود المعقولة نعمة وليس نقمة لأنه دليل التطور الحقيقي وارتفاع المستوى الحضاري بكل معانيه ومحمولاته. والمحركات التي تكمن خلف هذا الاتجاه هي عوامل التصنيع السريع وترشيد الزراعة و«تعصير» الحياة بوجه عام. ولكن الذي لا يدعو إلى الاطمئنان كليًة إن حركة التمدين لازالت تأخذ اتجاهًا عاصميًا أساسيًا، وتمثل بهذا امتدادًا لما كان في ظل الإقطاع فمثلًا بدأت الثورة والقاهرة الكبرى نحو مليونين ونصف، ومن حينها وصلت الآن إلى نحو أربعة ملايين. ولقد رأينا أن المركزية العاصمية في مصر كانت وظيفة مباشرة للإقطاع والملكية الغيابية التي حولت الأمة إلى ضاحية شاسعة للعاصمة وجعلت من مصر «إمبراطورية القاهرة» تقريبًا. ولقد كنا ننتظر مع إعادة توزيع الملكية وعودة الأرض إلى أصحابها أن تجف بعض الروافد الاقتصادية غير الشرعية التي تصب في القاهرة فتتباطأ في النمو لتعطي الفرصة للمراكز الإقليمية الموءودة للتنفس والحياة. ولكن مازال منطق التمدين عندنا هو اتجاه للأغنياء إلى أن يزدادوا غنى وللفقراء أن يزدادوا فقرًا.

 

وهنا نعود فنكرر أن الحل الإقليمي الوحيد هو عكس هذا الاتجاه بأن نضع «سقفًا» لنمو العاصمة و«أرضية» لنمو المدن الإقليمية. وطريق هذا بالتحكم في توزيع مشروعات التنمية وتوزيع الوظائف لأن المدينة في النهاية ليست إلا «حزمة من الوظائف» والشعار الذي لا مفر منه مرة أخرى هو إعلان القاهرة لفترة موقوتة «مدينة مغلقة» لكل نمو في كل نشاط يمكن أن يؤدي إلى زيادة في حجم السكان بها. ويجب أن يكون الحكم المحلي أداة مباشرة في عملية إعادة توزيع نمو المدن هذه، بل لعل هذه هي الوظيفة الأولى والمبرر الأكبر لهذا النظام الجديد، وسيتعين علينا أن نلقي اهتمامًا خاصًا بتنمية موانينا الآسنة على البحرين وغلق مواني جديدة إذا دعى الأمر، هذا عدا إنشاء مدن جديدة في المعمور الجديد في البراري حيث ستكون إضافة الثورة إضافة بكرًا أصيلة بالضرورة.

 

هذا عن المدن. أما الريف فأصعب بطبيعة الحال في محاولة إعادة تشكيل، وهو بهذا يمثل التحدي الحقيقي للثورة، ولازالت الجهود حتى الآن رقعية جزئية. ومن الإنصاف أن هنا بالذات نتراكم تركة تاريخ ألقى برمته ومن المؤكد أنها آخر ما سيمكن التصدي له في إعادة تشكيل كياننا لفداحة التكاليف وتعقد المشكلة. وقطاع الريف في ذاته آخذ في الانكماش النسبي مع التمدين، ولكنه أخذ في النماء والتوسع على الإطلاق. وقد كان هناك في بعض إطاراته إلى التبعثر من القرية إلى العزبة، ولكن التنظيم الاجتماعي والتعاوني للحياة الريفية الجديدة لا يحبذ هذا الاتجاه. ولسنا نعرف بعد بالدقة أثر إعادة توزيع الملكية الزراعية أو التجميع الزراعي أو -في المستقبل- كهربة الريف على نمط السكنى فيه. وعلى كل فقد بدأ الريف يعرف أوليات الحياة الحضرية من خدمات شبكية ماء أو إنارة ومن منشآت عمرانية ومعمارية كالوحدات المجمعة والمرافق المتطورة..إلخ، وكلها جراثيم مدن تطعم بها خلايا الريف وتمثل خطوة على الطريق نحو هدف الميثاق من وصول القرية إلى المستوى الحضري.