رؤى

ماجد وهيب

جوابات حراجي القط.. الحب والسد والناس

2019.06.01

جوابات حراجي القط.. الحب والسد والناس

من بين كل ما كتب شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي، تظل «جوابات الأسطى حراجي القط» من أفضل ما كتب، ولا مبالغة إذا قلنا إنها من بين أفضل ما كُتب في شعر العامية المصرية على وجه العموم. وبعيدًا عن جماليات النص الشعرية ثمة جماليات أخرى في النص تجعلنا لسنا فقط أمام نص شعري متميز، بل أيضًا أمام دراما متماسكة البناء تنعم بالكثير من العناصر التي تقوم عليها أسس الحكي السينمائي؛ فنحن أولاً، وقبل أي شيء، أمام حكاية لها بداية ووسط ونهاية، حكاية لا يرويها راوي عليم، بل تروى من خلال بطليها الأساسيين في شكل خطابات يرسلها كلاهما إلى الآخر، أسلوب يذكرنا بتقنية الأصوات المتعددة في السرد الروائي.

حكايتنا تبدأ بفلاح يترك قريته ويذهب إلى العمل في بناء السد العالي. لدينا هنا الدافع وراء السفر، وراء الرحلة التي سيجتازها البطل، وهو البحث عن الرزق، وهو دافع قوي، ودرامي لتنطلق منه الرحلة التي ستأخذ البطل، ليس فقط من وسط أهله، وإنما أيضًا، وهذا ما يعطيها حسًّا دراميًّا أكبر، إلى مجتمع آخر غير مجتمعه، ستأخذه من عالم القرية والفِلاحة والفأس والمحراث، إلى عالم الديناميت والحفر والمعدات الثقيلة، من العمل الفردي الذي يعرف المرء فيه ماذا فعل بالضبط إلى العمل الجماعي الذي يُنسب للكل فيصعب على المرء تحديد منجزه فيه، وهو أمر سيثير تساؤل حراجي نفسه. ستأخذه من طقس إلى طقس آخر، من عالم له لهجة واحدة ينطق بها ولا يعرف سواها إلى عالم آخر متعدد اللهجات، وسيرى فيه للمرة الأولى بشرًا يحملون جنسيات أخرى غير جنسيته. هذا الاختلاف هو ما يجعل للرحلة هيبتها وقسوتها، وبطلنا يبدأ رحلته وحيدًا وهو الأمر الذي يزيدها صعوبة. قدره، كقدر كل أبطال السير الشعبية، أن يجتاز رحلته وحده.

وقبل أن نمضي معه في الرحلة يخبرنا العنوان باسمه، وهو أول ملمح نعرفه من شخصيته، ومعرفتنا بالاسم تطمئنا بأننا لسنا أمام بطل مجرد من صفاته، وكلما سيخطو بطلنا في طريقه سنعرف عنه أكثر حتى تكتمل صورته أمامنا، فالسارد/الشاعر هنا، حداثي في حكي حكايته، فلن يبدأ معنا بتقديم بطاقة شخصية عن بطله، ولكنه سيتركنا نكتشفه مع الرحلة شيئًا فشيئًا. اسمه حراجي، وهو اسم اختير بعناية، تصادفه قليلاً في سجلات الأسماء، لكنه أيضًا ليس أجنبيًّا، اسم جاء من طين القرية التي منها خرج البطل إلى رحلته، ولهذا سيعيش في الذاكرة، وأول ما يعيش من أي بطل، اسمه.

أما زوجة البطل فاسمها فاطنة، بالنون وليس بالميم، ولم يكن هذا اختيارًا اعتباطيًّا، فمن الطينة نفسها جاء هذا الاسم منطوقًا بالنون، والطينة كلها من قرية «جبلاية الفار»، مسقط رأس بطلنا، واسم القرية يصنع علاقة رمزية مع اسم البطل «حراجي القط» تتضح عندما يخرج القط من جبلاية الفار، ذلك الخروج الذي يشبه الهروب، ويأخذ فيما بعد شكلاً من أشكال الرفض والتمرد عندما يرفض القط العودة إلى جبلاية الفار، تفاصيل صغيرة لكنها تقول الكثير عن الشخصيتين، تخبرنا بريفيتهما وفلاحتهما وأميتهما، وتجعلهما شخصيتين من لحم ودم كما تكون كل الشخصيات في الحكايات الدرامية. وقبل الاسم يخبرنا العنوان بصنعة البطل، الصنعة التي سيكتسبها من الرحلة وليست الصنعة التي كان عليها قبل البدء.

«جوابات الأسطى حراجي القط» عنوان يخلد اسم البطل وصنعته ويبين التقنية التي ستحكى بها الحكاية. ومن الجملة الأولى في أول خطاب يتضح لنا ملمح آخر مهم من ملامح البطل يخص علاقته بزوجته، فهو يبدأ النص متغزلاً فيها «الجوهرة المصونة والدرة المكنونة»، العبارة تبين لنا الحب والتقدير الذي يكنه البطل لزوجته، ومنها يتضح، في اختزال شديد، تاريخ العلاقة بين الزوجين حتى قبل الأحداث التي تبدأ منها الحكاية، وفي مشهد بصري مكتوب بعين سيناريست يقدم الزمان والمكان وتنطق فيه الشخصيات بحوار مكثف سنرى مشهد البداية للرحلة، فبعد التحيات والاعتذار عن التأخير في كتابة الجواب الذي يرسله حراجي لزوجته، ينطلق السارد/الشاعر، ليصف لنا مشهد الوداع الذي تم في محطة القطار (مشهد خارجي) بين حراجي وفاطنة «لسوعتي بدمعك ضهر يدي».

في فن السينما إذا قالت الصورة فلا حاجة إلى الحوار، وفي هذا المشهد فالدموع قالت نيابة عن فاطنة ما ينتابها من شعور، وعرفنا منها أنها أضعف من أن تكتم مشاعرها وحزنها لسفر زوجها، ويكتمل المشهد بوعد من حراجي بأن يرسل خطابًا لفاطنة فور وصوله، فترد بنهنهة وتكمل «والنبي عارفاك كداب نساي، وهتنسى أول ما هتنزل في أسوان». وينتهي مشهد الوادع بلقطة أخرى معبرة يرسمها السارد/الشاعر بقوله «اتدلدلت بوسطي من الشباك/ خدي بالك م الولد راعي عزيزة وعيد». ليس هذا وحده هو المشهد البصري المرسوم في هذه الملحمة الشعرية، فمن سيراجع الخطابات سيجدها مليئة بالمشاهد، بعضها مكتوب بصورة مباشرة وصريحة كأنها مقطوعة من سيناريو إذ جاءت محتوية على كل الأركان التي يحتوي عليها المشهد السينمائي من مكان وزمان وحركة وشخصيات وحوار، وبعضها يمكن تخيله.

في فيلم سينمائي سيأخذ من الخطابات نواة له يمكن البدء بمشهد الوادع هذا ليكون مشهد الافتتاحية لتنطلق بعده الأحداث في خطين دراميين متوازيين بامتداد النص الشعري/السينمائي. القطار ينطلق بالبطل فيبدأ خط في أسوان؛ حيث العمال والمهندسون الذين يعملون في بناء السد العالي ومن بينهم بطلنا، خط يصور الحياة هناك في لحظة تاريخية مهمة من تاريخ الوطن، وهي لحظة بناء السد العالي، وتعود الزوجة إلى الدار بعد توديع زوجها وابتعاد القطار ليبدأ خط آخر يخص القرية، ويصور حياة أهلها وبالأخص الزوجة والطفلين الذين تركهم البطل. يبدأ الخط الذي سيستمر في أسوان بلحظة الوصول إلى محطة القطار هناك، ثم تتابع الأحداث في مشاهد بصرية سريعة ومكثفة جدًا تذكرنا ربما بتقنية الفوتو مونتاج في السينما.

«رحنا المكتب/ طلعنا البطاقات ومضينا على الورقات/ آه يا فاطنة لو شوفتي الرجالة هنه/ قولي ميات ألوفات». ويصف حالهم فيقول «وتطلي في عين الواحد يا ولداه ع الغربة». الشاعر/السارد اقترب هنا من الوجوه بتقنية سينمائية، وتنقل بين أكثر من وجه فصوَّر لنا نحن القراء/المشاهدين، بؤسهم وكثرة عددهم واختلافهم باختلاف البلاد التي جاءوا منها. «قضينا الليلة الأولى في أي مكان العين مشقوقة». الليلة الأولى للمغتربين حيث لا نوم يجيء على الرغم من التعب؛ كل سيسرح فيمن تركهم من أهل، فلكل مغترب حكايته كما للبطل حكايته، وستكون الأحاديث الجانبية بين بعضهم البعض هي السلوى، ومنها نتوقع أن تبدأ الصداقات. ولأن بطلنا من لحم ودم، فسوف يشعر بالرهبة والحنين إلى قريته فور وصوله إلى أسوان، أرض الرحلة الجديدة، حتى إنه سيفكر في التراجع، شأن كل الأبطال في بداية رحلتهم، لكن الدافع القوي، وهو البحث عن الرزق، سيجعله يصمد ويستمر في رحلته، وسيقضي شهرين في رحلته قبل أن يرسل لزوجته أول خطاب «عارف فاطنة يا حراجي لا ليها عايل ولا خي»؛ ملمح آخر من شخصية فاطنة يظهر في جملة مكثفة، ملمح الوحدة بمعناها المعنوي والمادي أيضًا، ويستمر خطاب فاطنة في وصف حالها وحال البيت والابنين دون حراجي، ووصف فرحتها بالخطاب وما خلفه من أثر طيب. هكذا سيكون لدينا تصور درامي عن الشهرين اللذين قضتهما فاطنة في الوقت الذي كان فيه حراجي يخطو خطواته الأولى في رحلته الجديدة. لا أحداث مهمة، فقط رتابة وكآبة وحزن لسفر الزوج، رحلة البطل لا بد وأن تؤثر في المحيطين به، وأشد تأثير لها سيقع على زوجته التي عليها أن تعتمد على نفسها وتجرب الحياة دونه وتتحمل وحدها مسؤولية نفسها ومسؤولية الابنين. بعد ذلك سيكون أول حدث مهم في ذلك الخط الدرامي؛ خط فاطنة والقرية، هو وصول أول خطاب من حراجي «طب مش أول مرة البسطاوي يخطِّي عتبة الدار/ عمرنا يا حراجي ما جالنا جواب». لحظة درامية يصل فيها إلى امرأة بسيطة فلاحة خطاب من زوجها، هي التي لم تتسلم خطابًا قط، ولم يغب عنها زوجها قبل سابق، وبعدما كانت تراه بالعين، تراه للمرة الأولى عبر كلام مكتوب يقرأه عليها شخص آخر. هذا ليس مجرد حدث وإنما أيضًا باعث لتغير الشخصية، وإن كان تغيُّرًا معنويًّا بسيطًا، وفاطنة لا تقرأ ولا تكتب فعليها إذن أن تملي على آخر خطابها، ربما في القلب كلام تريد أن تقوله لكنها تخجل من الآخر الذي سيكتب لها الخطاب، هذه أيضًا لقطة درامية، حينما تجبر الأمية الإنسان على كتمان بعض مشاعره. بعد ذلك سيكون الحدث الثاني المهم في هذا الخط نفسه، هو وصول أولى هدايا حراجي لزوجته وابنيه مع الخطاب الثاني «دورت الحسبة في راسي وقلت يا واد يا حراجي هو يعني قانوني العيل مايدوقش الكسوة غير في العيد». هذا أول حدث مادي يترتب على سفر الأب. جاء المال فأرسل كساءً لابنيه، والجملة تبين أيضًا دون إسهاب التطور الأول في شخصية البطل، فقبل سابق لم يكن ليشتري لابنيه ملابس جديدة في غير العيد. ولا شك أن هدايا الأب خلَّفت أثرًا طيبًا، وجعلت حزن الابنين على سفر أبيهما يخبو قليلاً، فكانت اللحظة لحظة سعادة. بعد ذلك سيصل الشيخ قرشي مقترحًا أن يلتحق عيد بالكتاب. لحظة فارقة في حياة الابن ولكن تحدث في غياب الأب مما يجعلها لحظة درامية للأطراف الثلاثة: الابن والأب والأم.

الشيخ قرشي ومرزوق البسطاوي أول شخصيتين ثانويتين تظهران في حكايتنا من خارج عائلة البطل، وبالشخصيات الثانوية يكتمل كل عمل درامي، صحيح أننا لا نعرف عنهما أكثر من الاسم والمهنة، ولن نراهما إلا اقترانًا ببطلينا حراجي وفاطنة، لكنهما شخصيتان لهما تأثير، ولا سيما مرزوق البسطاوي، ساعي البريد. لدينا أيضًا، قبل البسطاوي والشيخ قرشي، عزيزة وعيد اللذان لا يكفان عن السؤال عن أبيهما، فوجود الأم لا يعوض غيابه «وعزيزة وعيد من غيرك يا حراجي زي اليتمى في العيد». وهو ما يؤثر سلبًا في نفسية البطل والبطلة أيضًا.

في الخط الثاني، حيث البطل في أسوان، تظهر شخصية ثانوية، لكنها ذات تأثير أكبر، المهندس طلعت، وأول ظهور له في نصنا هذا الشعري/السينمائي، سيكون في الأيام الأولى لبطلنا بعد سفره، ولم يكن قد اعتاد بعد على حياته الجديدة، ولا يزال يحمل حنينًا شديدًا لأهل بيته وقريته، في لحظة غاب فيها البطل عن الدنيا وتخيل نفسه في قريته مع زوجته وابنيه، لحظة أخرى كتبها الشاعر/السارد بتقنية السينما، حيث المشهد البصري المرسوم بدقة شديدة يحدد المكان والحركة والحوار ويمزج بين المتخيل، وهو وجود البطل في القرية ثم وصوله إلى البيت والزوجة تفتح له ويتعانقان ويلتف حوله الابنان متعلقين بجلبابه، وبين الواقعي وهو وجوده في مكان الحفر بين العمال «يمكن ساعة وقف المهندس على راسي». هنا يدور حوار مطول بين حراجي والمهندس ومنه تبدأ الصداقة بينهما. ظهور المهندس هو ظهور المعين للبطل في رحلته، ظهور مبكر وبالتدريج تبدأ الصداقة.

لن نعرف عن المهندس كل شيء دفعة واحدة، سنعرف أولاً أنه مهندس، ثم سنعرف أن اسمه طلعت وأنه يلبس البدلة لكنه لم يرثها، وإنما اكتسبها بفضل التعليم، فأبوه كان فلاحًا بسيطًا مثل حراجي، ربما ذكره حراجي بأبيه، أو بالحال التي كان سيصبح هو نفسه عليها لو لم يتعلم. حكاية كبيرة وراء المهندس طلعت نتخيلها دون أن يخبرنا بها النص، ولقاء بطلنا به لقاء محوري في رحلته بل وفي حياته ككل، فالمهندس طلعت من الأسباب التي ستقوده إلى التغير والتطور، وتطور الشخصيات عبر الأحداث لتنتهي إلى غير ما بدأت به عنصر مهم من عناصر أي عمل درامي، وإلا أصبحت الشخصية، بلغة أهل الدراما «فلات». في الخط الدرامي الخاص بالقرية لدينا شخصيات ثانوية أكثر من الخط الدرامي الخاص بالبطل في أسوان، وهو أمر منطقي دراميًّا هنا، فالعالم الذي تركه البطل عالم قائم بذاته عكس العالم الذي رحل إليه، ذلك العالم الذي لا يزال في طور البناء، بل إنه عالم يتكون خصيصًا ليبني آخر، عالم ليس غاية في حد ذاته وإنما وسيلة لبناء آخر، والآخر هنا هو السد العالي، الذي فور أن يكتمل سينهي وجود عالم المهندسين والعمال والحفر والديناميت، علاوة على ذلك فقلة الشخصيات في عالم بناء السد منطقي أيضًا ليصور لنا حالة الوحدة التي يعيشها البطل، كأنه يقدم لنا صورة جماعية مليئة بالناس لكن وجوههم جميعًا باهتة إلا وجه البطل ووحده يتصدر الصورة، والشخصيات في عالم القرية بعضها يذكر سريعًا دون قصد بين السطور، وأخرى يطول الكلام عنها، مثل المرأة العجوز، أم علي أبو عباس، التي تركها ابنها أيضًا وسافر إلى السد، لكنه لا يرسل إليها الخطابات عكس ما يفعل حراجي، والمرأة دائمة الشكوى لقسوة قلب ابنها، وهي لحظة إنسانية درامية بجدارة، ولدينا أيضًا الحاج حسين العكرش، البدين ذو الكرش، كما يصفه لنا، وهو الشخصية التي ينتقدها البطل في أحد خطاباته، وكأنه الشخصية الشريرة في العمل «يقلب بيت اتنين زيي وزيك بمشاورة يد». لكن كما يحدث كثيرًا في الدراما، تكون الشخصية المنتقدة من البطل، الشخصية التي قصدت في البدء الإضرار به أو التحايل عليه لمصلحة لها، أو التي أرسلته لرحلته رغمًا عنه، أو دون رغبة حقيقية منه، تكون هي نفسها صاحبة الفضل عليه دون أن تقصد، فيشكرها البطل في النهاية. والعكرش هو أيضًا الشخصية التي تُعرض في العمل بخاصية الفلاش باك السينمائية، فبعد السفر وبعد خطابات عديدة يحكي حراجي في خطاب ما كيف عرض عليه حسين العكرش العمل في السد «يا واد يا حراجي أنت جدع بتبهدل نفسك هنا عشان إيه؟ ما تيجي نوديك أسوان». من هذا اللقاء يبدأ التغير الحقيقي وتبدأ الأحداث بالفعل. إذا كان مشهد الوداع في القطار هو أول ما رأينا، فهذا اللقاء بين حراجي والعكرش هو الممهد للرحلة، بعده فكر البطل وتشاور حتى اتخذ قراره بالرحيل. حسين العكرش من قبل أن تبدأ الحكاية هو الذي رمى البذرة الأولى وأصاب البطل بأول تطور، ومثل أي دراما مكتوبة بعناية وذكاء يحدث التطور هنا تدريجيًا، يحدث على المستوى الداخلي والخارجي أيضًا، فحراجي الذي كان قبل السفر «صاحب فاس»، سيتركه وينتقل لعمل آخر باقتراح من حسين العكرش «كيف صاحب الفاس يصبح أسطى؟» تسأله زوجته في خطاب ما، ثم ينتقل إلى مرحلة أخرى عندما تتوطد علاقته بالمهندس طلعت فيكون سببًا من أسباب تطوره على المستوى الداخلي بحوارات ستدور بينهما؛ وسيرى منها حراجي وجهًا آخر للدنيا لم يكن يراه.

تتوالى الخطابات من الطرفين، فتوضح لنا أكثر ملامح الحياة في العالمين، عالم القرية وعالم السد «قسمنا مع بيت العطار بلح النخلة الشرك»، تقول فاطنة في خطابها الثالث، وزوجة ساعي البريد تلد فيتأخر في توصيل خطاب حراجي لها، يبدو حدثًا عاديًا، لكنه لزوجة تنتظر بشوق خطاب زوجها قد لا يكون كذلك «قولي يا فاطنة للكل إن احنا كنا هبل وضيعنا العمر فاشوش»، هكذا يرد حراجي على خطاب فاطنة الذي تطالبه فيه للمرة الأولى بإجازة لتنعم بلقائه، وتحكي له عن حال «أم على أبو عباس» وشوقها لابنها. حراجي في عالم آخر، ويوحي خطابه بأول بشائر التغير، ففي الوقت الذي تستمر فيه الحياة في القرية على نهجها المعتاد يتغير هو في عالمه الجديد، يرد على شوق المرأة لابنها قائلاً «خليها في حالها هناك وسط الحريمات». وعلى طلب فاطنة بالإجازة «وأما يعدلها المولى هناجي». لكنه، دون أن تعلم فاطنة، تكلم مع بلدياته، علي أبو عباس، وأوصاه بأن يكتب لأمه، فكتب الابن ووصل منه أول خطاب، ويرسم الشاعر/السارد ببراعة فرحة الأم بخطاب ابنها.

«اتغير قولك يا حراجي». هي أدرى به من الكل، ورأت في خطابه ما طرأ عليه من تغير، ربما لم تنم يوم قرأ البسطاوي لها الخطاب، أي زوجة ستقلق إذا أحست أن زوجها لم يعد يشتاق إليها وشغلته الغربة عنها. في الخطاب نفسه يتضح لنا ملمح آخر من ملامح شخصية فاطنة، ملمح الزوجة المُحبة لأهل زوجها، فهي التي تخبره بأن أخته على وشك الولادة وبضرورة أن تقوم معها بالواجب.» دي ناظلة يا حراجي خيرها علينا». فاطنة أيضًا لا تنكر الجميل، ومن الجملة نتخيل علاقة مودة بين الشقيقين، حراجي وناظلة، وبين ناظلة وفاطنة. الشاعر/السارد يريدنا أن نرى شخصياته من نواحي كثيرة لنعيش معهم ونحبهم ونتحقق منهم جيدًا، وهو طموح درامي قبل أن يكون طموحًا شعريًّا.

حراجي ترق لهجته في الخطاب التالي، ربما بكلامها عن أخته لمس عظمة فاطنة فرقَّ كلامه وامتلئ، عكس الخطاب السابق، بالغزل والمديح «زوجتي وأختي ستري وغطايا والكتف اللي تملي شايلني» لكنه أيضًا يُظهر، بعد الغزل مباشرة، تمرده «والله ما ضيعنا يا فاطنة غير الفاس»، ويفوح خطابه كله هجاءً للحياة في جبلاية الفار، لكنه يكمل لنا ما جرى معه، فنعرف أنه بعد لقائه بالمهندس طلعت، وبينما الحياة تمشي في جبلاية الفار على ما سبق توضيحه من خطابات فاطنة، كان حراجي قد انتقل إلى العمل في عهدة «الحاج بخيت» شخصية ثانوية أخرى، يكتفي السارد/الشاعر بإخبارنا بأنه بدين. يبدأ حراجي بنقل الحجارة ثم يختاره الحاج بخيت لزرع الديناميت، فيتغير أول ما يتغير ملبسه «قلعت التوب قال؟» وهو، ومن معه، لا يعرفون لماذا يفجرون الصخر بالديناميت، والمهنة الجديدة تشغله عن كتابة الخطابات، اختراع غريب بالنسبة له فكر فيه فتأخرت خطاباته، وابن بلده، على أبو عباس، يرفض هذه المهنة ويكتفي بالحفر بالفاس ونقل الحجارة، لكن حراجي لا يرفض المهنة رغم مخاطرها، وهنا يتضح الفارق بينه وبين علي، بين البطل الدرامي والشخص الثانوي العادي. في المقابل يتقدم عيد في تعليمه «كمان جوابين وأكون اتعلمت أقرا الورقة وأفك الخط». يتطور الأب ويتطور الابن في خطين متوازيين، عيد يتعلم القراءة والكتابة، وحراجي يتعلم أشياء جديدة عن الدنيا والحياة، وعزيزة أيضًا تبدأ في النطق «فيه عيل يقول امبو قبل ما ينده على أبوه!» غير أنها لحظة درامية، فهي أيضًا بداية تطور للطفلة يتوازى مع تطور الأب الذي بدأ هو أيضًا بالنطق بكلام جديد «ما أنت بتكتبلي كلام يكسر صندوق القلب ويطلع وحده». والجملة نفسها تأتي في سياق تحكي فيه فاطنة عن حكيها للجارات بفخر عن عمل زوجها في السد. وهنا بداية تغير في شخصية فاطنة، بدأت تتوحد مع حياة زوجها الجديدة «وأما رجعت البيت حسيت إني حراجي»؛ وتطالبه بأن يحكي ويصوِّر لها بالكلام كل شيء.

يخطو حراجي خطوة أخرى إلى الأمام، عندما ينقله المهندس طلعت من العمل في الديناميت إلى العمل معه في مهنة أخرى. السارد/الشاعر يعطينا ملمحين آخرين عن حراجي والمهندس في اللقاء الذي يقترح فيه المهندس على حراجي العمل معه؛ المهندس متواضع يعد بنفسه الشاي لحراجي، وحراجي عزيز النفس يرفض العمل في البداية عندما يظن أن المهندس يريده ليعمل قهوجي للعمال، مهنة لا يرضاها حراجي، هو يريد لما يعود إلى جبلاية الفار يقول إنه كان يعمل عملاً مهمًا مؤثرًا يفتخر به، حتى ولو كان خطيرًا ومرهقًا، إلى هذا يطمح البطل الدرامي.

«برضو كان لازمه بنت أجدع منك مش يعني تخن وطول حراجي عمره ما شافني كدا» تقولها فاطنة لحراجي، ومنها نتخيل وصفًا جسمانيًّا لفاطنة، ونعرف ملمحًا آخر لحراجي، ملمح رجل يرى في الأنثى جوهرها قبل أن يرى شكلها. الشاعر/السارد يصف لنا فاطنة جسمانيًا ويصف لنا حراجي دون أن يقول: ها أنا أصفهما لكم، وهو فعل درامي ذكي يتكرر كثيرًا، يتكرر أول مرة بعد ذلك عندما يخبرنا حراجي بأنه يقول لزوجته الدرة المكنونة وهو لا يعرف معنى كلمة درة، حراجي صريح وذكي، أحس أن لفظة درة تعني شيئًا جيدًا لكنه لا يعرف ما هو بالضبط، فقالها لزوجته، وتغير شعوره فأحس أنها أكبر من جوهرة مصونة ودرة مكنونة. وذكاء حراجي في تساؤله لنفسه عن كل ما يراه في عالم السد، يرى المعدات فيفكر كيف اخترعوها، كيف فكروا أصًلا في اختراعها وكيف تعمل «والدماغات دي برضو كانت تعمل ونش لولا إنها عارفة إنه يشيل عربية القطر»، ويعاشر المتعلمين فيعرف قيمة العلم ويندم على أنه لم يتعلم، هذه ليست أسئلة لشخصية رسمت لتكون بطلاً في عمل شعري، وإنما هي أجدر بأن تكون أسئلة لشخصية في عمل درامي، والبطل ماض في طريقه نحو التغير، وتقوده الأسئلة إلى ذلك، فيتغير مفهومه عن أشياء عديدة، كالغربة مثلاً التي تكلمه زوجته عنها كثيرًا.

نحن الآن في وسط الحكاية، الإيقاع بطيء ربما، الأحداث ليست تشويقية، لكن الحكاية تمضي، تتطور ومعها تتطور الشخصيات حتى تصل إلى الذروة ثم النهاية، حراجي الآن، الذي سافر إلى السد بحثًا عن الرزق، امتلك دافعًا آخر للبقاء في السد غير البحث عن الرزق، ربما لو جاءته فرصة عمل في جبلاية الفار بمرتب يعادل مايحصل عليه في السد لرفضها، مفضلاً عليها الغربة على الرغم من شوقه الشديد لزوجته وابنيه. إن امتلاك دافع آخر للبقاء في الرحلة فعل درامي، ولا سيما إذا كان الدافع هو استكشاف الحياة من جديد، وهو ما يحدث لحراجي الآن. ويمكننا القول إن ما يفعله حراجي يحدث له في آن، فهو فاعل ومفعول به في وقت واحد، لآن الدافع هو استكشاف الحياة فلا بد أن يكون هو نفسه لديه الرغبة، لهذا فهو فاعل، ومفعول به لأن الظروف هي التي قادته إلى ذلك، والكلام عن الظروف يقودنا للحديث عن المصادفات في رحلة حراجي، عرض حسين العكرش له العمل في السد كان المصادفة التي قامت عليها الدراما، وهي مصادفة منطقية لكون حراجي فلاح أجير من المنطقي أن يعرض عليه العكرش العمل في السد، ثم كانت المصادفة الثانية، المنطقية أيضًا، هي لقاء المهندس طلعت به، لكن إعجاب المهندس به لم يكن مصادفة، فنجاح حراجي في عمله في الديناميت وحبه لما يقوم به جعل المهندس يعجب به وتتوطد علاقتهما، هكذا نحن أمام دراما قوية لا تعتمد على المصادفات كثيرًا، وحتى وإن اعتمدت لا تأتي بمصادفات غير منطقية.

في المقابل بدأ شوق فاطنة يزيد عن الحد فتقترح أن يعود أو تذهب هي له، تقلبات يفعلها الغياب والحب، وتقترح أن تعمل في فلاحة قيراطين أرض إلى أن يعود، وهذا تطور في شخصيتها سببه غياب حراجي وكلامه عن العمل وأهميته، ولأن حراجي تغير يوافق على عمل زوجته، وابنه عيد مستمر في التعليم «عيد أحسن عيل عندي في الكتاب»، وعزيزة تكبر، وهو مستمر في استكشاف الدنيا، ومستمر في هجاء جبلاية الفار، يهجو عاداتها وتقاليدها وانغلاقها على نفسها، لكنه لم ينسها، كلامه الكثير عنها يؤكد أنها تعيش بداخله. يرى السينما ويعترف بأهميتها «ودي حاجة من المية حاجة المحتاجها البني آدم» لكن النور له ضريبة، يدفعها حراجي من راحة البال، فبعدما كان سعيدًا بالمعرفة صارت حملاً ثقيلاً لكنه يحبها على الرغم من ذلك ويسعى إليها «لكن حراجي أبو ضحكة ترج النجم ضاع مني يا فاطنة وبقيت دلوقت حراجي تاني حزين» اعتراف منه بأنه تغير، لكن هو وحده يعرف أنه تغير للأفضل، أما فاطنة فتقلق عليه، وكل يوم تتوطد علاقته أكثر بطلعت أفندي. سيدخل النادي ويرى البلياردو ويتشاجر مع مهندسين يرفضون دخوله النادي لأنه من العمال والنادي للمهندسين فقط، تقف الطبقية كحجر عثرة أمام البطل هنا، لكن صديقه، المُعين والرفيق في الرحلة، ينقذه منهم، سينقذه لأن بين حراجي والمهندس تشابهًا على الرغم من الفارق، تشابه في الأصل والجذور، في الطبقة الاجتماعية بمعنى أدق. المهمش هنا هو البطل وليس المهندس، التابع وليس المتبوع، وهي لفتة درامية بجدارة يكون البطل فيها هو الماعون الذي يمتلئ بكلام الصديق وليس العكس. حراجي الذي بدأ متلهفًا للرجوع حتى إنه فكر في ليلته الأولى أن يرجع للقرية سيرفض الرجوع بعد ذلك، سينقلب على حياة القرية كلها وعلى الفلاحة، مهنته القديمة. ولأنه هو البسيط في فكره وقدراته لا بد وأن يكون صديقه مستنيرًا كي يقوده إلى التطور.

السد العالي الذي سيغير بعد بنائه حياة الجميع بطريقة غير مباشرة ويوفر الكهرباء، النور، للكل، مع انتهاء البناء سيصيب البطل أيضًا بالنور ولكن في عقله فيطور شخصيته. وربما هنا تكمن رمزية العمل ككل وفلسفته، ونحن هنا، كما اعتدنا من الحكايات الشعبية، نقف أمام بطل يجتاز رحلة يواجه فيها صعوبات ليعود بالكنز، والكنز هنا هو التغير الذي سيطرأ على شخصيته «عمري السابق ضاع لا فاكرله سنين ولا أشهر ولا أيام أنا كل اللي عشته في عمري كان في الست أعوام». النهاية في تغيره، نهاية تهتم بالحدث المعنوي، فليس هناك حدث مادي نستطيع أن نعتبره نهاية الحكاية، نهاية تضعنا أمام سؤال هل سيعود حراجي إلى جبلاية الفار أم سيظل مغتربًا عنها؟ هل سيرحل بزوجته وابنيه ويغير موطنه؟ هل ستذهب له فاطنة بعزيزة وعيد؟ لا نعرف، كل ما نعرفه أنه تغيَّر، وإذا عاد إلى جبلاية الفار لن يعود كما خرج منها، سيعود شخصًا آخر.