المرايا

ياسر عبد اللطيف

جولة مع الغياب والتغييب

2020.01.01

جولة مع الغياب والتغييب

داخل جيب زمني خلقه الهلع من الوباء، أُعاني من تشتت في ترتيب الأولويات. أكتبُ وريقات صغيرة يوميًّا لتحديد المهام. من ثلاثة أهداف أو أربعة، أُنجز واحدًا، ثم أتراخى وأستسلم لعدم مريح؛ تأتي السكرة وتغيب الفكرة. الفكرة في الوعي الشعبي مرادفٌ للهمّ، وهو معنى سليم إلى حد ما، لكن جنوح الهم من معناه المعرفي نحو العاطفي يجعل الفكرة حُزنًا وألمًا، نُعالجه بالسُكر(بالخمر أو الشعر أو الفضيلة، على قولة بودلير) ثم تروح السكرة وتأتي الفكرة ثانيةً. تخارج الأفكار في قنوات الحوار المهشّم المعاصرة يعني ضلالها في طُرقٍ أخرى. تتفرع، وتغيب في أزقة جانبية حتى تتلاشى، كتيار مائي يتبدد بهدوء في رمال. يُبتلَع ويغيب...

كانت العطلة الكوفيدية يومًا واحدًا طويلاً. وبخلاف البهدلة والعذاب هل هذا ما يشعر به السجناء حيال الزمن؟ في الاعتقال أيضًا ينتفي الزمن. فلا زمن إداري حتى للمحكومية. هناك فقط إرادة عُليا إلهية لا سيطرة عليها. في الستينيات «زمن الاعتقال الجميل» كتب صلاح عبد الصبور «في بلد لا يحكم فيه القانون يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة... لا يوجد مستقبل». سأصدق الشاعر. يقول الشاعر إن زمن السجين، وإن كان مسجونًا بالقوة أو محتملاً، واقف عند لحظة راهنة مريرة. والوقت للزمن كالطقس للمناخ. هنا راهن ثابت أليم. وقتٌ فقط تتناسل فيه الدقائق ثقيلةً في حلقة مفرغة. ربما لا يعرف الغرب الأبيض الليبرالي الديموقراطي هذا الراهن الأبدي، إلا في باب اللذة العدمية. أو هو قد نسيه من زمن. نعرفه في الشرق الأوسط، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومن شرق أوروبا حتى الصين في أقصى آسيا. في ارتباك الوقت الكوفيدي سترتد لهم تلك الذاكرة. أزمنة فرانكو وسالازار القريبة، وهتلر وموسوليني الأبعد.

ذلك الافتقاد لمفهوم الزمن الممتد للإمام لا يقيد المحكومين وحدهم بل يقيد حُكامهم أيضًا، تتراكم الثروات في حسابات سرية وعلنية لا يمسسونها، ينجو بها ويستمتع أبناؤهم وأحفادهم، بينما هم في سجن اللحظة نفسه. وما احتقار التاريخ والقتل المتعمد للذاكرة، والتبول على شواهد الماضي وتدميرها إلا سلوك طبيعي في تلك اللحظة المتوقفة. 

ويطرح التوقف التام كل الأشياء موضع السؤال. يُسائل بدايةً أي فعل وجودي. فللفعل الوجودي جانب هشّ وجانب صلب: الجانب الهش هو جدواه التي تستند على جانبه الصلب؛ أي استمراريته بكل الدوافع المتاحة. والاستمرارية تعني حركيته. أي الزمن! توقف كلّ شيء وتعطّل وجود كل شيء. بطالةٌ كونية.. وغاب الوجود أكثر فأكثر في العوالم الافتراضية. تعليم عن بعد! ووجود عن بعد. ومنذ متى كان التعليم عن بعد جديًّا؟ في قرارة كل تلميذ، أيًا كانت درجة انصياعه التربوي والمدرسي، شعور بعبثية المدرسة وقدريتها. أعني طبعًا طفلَ الطبقة المتوسطة حيث التعليم المدرسي شيءٌ بديهي. فإذا رددنا الطفل إلى وضعه الوجودي الطبيعي (كائنٌ يلعب في عطلة سرمدية في تحلل من كل مسؤولية يفرضها البالغون) ثم يأتي هؤلاء المدرسون بدروسهم البالية على منصات الإنترنت، ليبرروا رواتبهم بشكل غير مقنع لا لهم ولا للأطفال، ونريد للأطفال أن يصدقوا تلك المسرحية السخيفة. بالتأكيد ذكاء الطفل الفطري يلمس حالة التوقف أكثر من المدرس الموظف المربوط بسيرورة الرواتب.

كيف نصف الغياب؟ الغياب ليس عدمًا. الغياب شغور. مكان دافئ بعد أن قام من كان يجلس فيه، مكانه شاغرٌ. شاغر تعني خاليًا، لكن تظلّ ظلال الشاغل تحتل اللفظ والمكان، فهو ليس خاليًا تمامًا. رحل الشاغل فصار المكان شاغرًا، لا خاليًا. يظلُّ مكان الغائب دافئًا بعد رحيله. يظل الغائب حاضرًا بقصور ذاتي كالطيف حتى يعود، أو يذوي ويتلاشى في النسيان.

ويأتي الخوف غالبًا مما هو غائب. مما لا نراه لكنه موجود كهاجس. من الوحش الغائب داخل وجه الإنسان إذ يتجلى فجأةً، من مكالمة نصف الليل المفزعة، أو زائر الفجر المرعب. يأتي من الغيب ويدفعنا إلى الغيب. لا بد أن التلميذ الأكثر خوفًا هو من يتوارى في الصفوف الخلفية بجوار التلميذ الأطول والتلميذ الأكثر شغبًا. ودائمًا ما تجمع تلك المنطقة المعتمة من الوجود كائنات متناقضة. الضعيف والساذج والمتمرد والسيكوباتي. مع امتداد العمر تتوغل هذه الفئات في أعماق الظلال، وصولاً إلى الظلام والعوالم السفلية؛ ولا وعي الواقع. بالتأكيد هذه العوالم يحكمها الخوف بالكامل. حتى المجرمين العتاة، دافعهم الخوف. الخوف هو المستوى السُفلي من الوعي. كما في الكابوس، تطّلع في هوة التناهي.

الظلام الذي يمتصُّ تلك الكائنات تسكنه أشباح أخرى أكثر رعبا. خفافيش تتدلى من سقوف كهوف غائرة لوجوهها الشيطانية تعبيرٌ ضاحك. الإنسان يخاف الذئب والثعبان، والجرذان أحيانًا، ويظهر الخنزير كاشتهاء المحارم في وعي المسلم المتديِّن خوفًا واشمئزازًا؛ أما الخفاش فمسكوت عنه. لا نأتي على سيرته مطلقًا، دون أي هالة أسطورية حوله. بينما هي حيوانات تجاورنا في المدن وتستلم وردية الليل من طيورها النهارية، وتحلق في دورات فائقة السرعة تمشط الهواء وتمسحه بموجاتها الصوتية وتقتات طائرة ًعلى الهوام والحشرات. الأسطورة الشعبية الوحيدة حول الخفافيش تتحول إلى نكتة تفرقع بهدوء دون أن تثير حتى الابتسام «ده لو لبد في وشك ما بيطلعش غير بالطبل البلدي!» سمعت هذه المبالغة كثيرًا في طفولتي من أشخاص بعضهم يتلوها مُصدقًا لها، وآخرون يرددونها كمقولة يدركون سخفها أكثر من طرافتها. ولم أسمع قطّ عن خفاش التصق بوجه أي شخص في العالم، فضلاً عن أن يكونوا قد أتوا لي بـ «طبل بلدي» ليترك هذا الوجه.

في أسطورة «شفيقة ومتولي» الشعبية برواية حفني أحمد حسن، قَتَل متولي شقيقته بعد أن داهمها في بيت الدعارة بأسيوط، وجاءت الشرطة لتقبض عليه، لكنها وقفت تحت البيت وطالبوه بالنزول! فقال لهم متولي على لسان العمّ حفني»

انتو حكومة والبر طاب ليكم

والله ما انزل واطب ليكم

إلا إن جاني طبليكم

ويعلقّ العم حفني مكملاً كلام متولي الجرجاوي «وهاودوه وجابوا له الطبل ونزل!»، لم أجد تفسيرًا لهذا المشهد العجيب غير كون متولي ضابط صفّ ضابط في الجيش برتبه «بات شاويش» جعل الشرطة المدنية تُحجم عن اعتقاله حتى يأتي «الطبل» الذي ربما يكون دلالة على القوى الأعلى المخوّلة بالقبض عليه، وهي في حالة متولي «البوليس الحربي». لا يُعرف على وجه الدقة زمن حدوث هذه الحكاية، التي أكد كثيرون أنها حدثت بالفعل. أتصوَّر أنها حدثت في وقت ما بثلاثينيات القرن العشرين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. الطبل الذي فكّ تعلّق متولي بمسرح الجريمة كانت قوة عسكرية في ذات طابع شرفي أو «تشريفة»، أي «موكبًا» في ذلك القاموس. هو «الموكب» كحدث من وجهة نظر القوة التي تؤمِّنه. وتزيِّنه بموسيقاها وطبلها. في الزمن المملوكي، كان امتلاك الضابط لطبلخاناه، أو فرقة موسيقى عسكرية صغيرة تُلحق بقصره تعزف لدى دخوله وخروجه، يعني ترقّيه من درجة أمير عشرة إلى أمير أربعين، ما يعني بلوغه المرحلة المتوسطة من الهيراركية العسكرية، ما يوازي رُتب مُقدم وعقيد في اللغة العسكرية لمصر الجمهورية. فأي قوة رمزية مكافئة تفكُّ تعلق الخفافيش بالوجوه سيّئة الحظ.

ثمة مقابر منسية من زمن الأسرة الثامنة عشر في إحدى قرى إسنا. أموات غابرون دُفنوا في البرّ الشرقي لقلّة شأنهم. بلا نقوش ولا توابيت ذهبية، ولا أوعية كانوبية تحوي أحشاءَهم المدنّسة. كهوف في تلال الصعيد، رطبة، لا تعرفها سوى الخفافيش ملوك الظلام، والفلاحون يدخلون مع شعاع الضوء الأول، بعد عودة الشياطين المجنّحة تخلدُ إلى السقف عالقةً في سُباتها رؤوسها تتدل ليجمع الرجال من الأرض ركام برازها وقد امتصّت دماء قطعان من جرذان الحقول وأسراب من طير اللقلق. قال حكيم قديم إن النور يخرج من الظلمة. وإن ذلك خير سماد لتخصيب الأرض. من عصارات كائنات هائمة تمصّ الحياة كضباع والغة، تُعمل شهوتها في جثة عالم نافق. ومن عمق ليل الوجود تنبتُ براعم القمح، خضراء.

تنقية الذكريات من الألم هو تصالحُ مع الماضي، وهو من سمات النضج (أو الشيخوخة؟). كلما ظننا أننا تصالحنا مع مناطق مؤلمة في الماضي آلمتنا مناطق شبيهة في الحاضر لتشير إلى خلل لا يزال هناك، في الزمن البعيد. وكلما تصالحنا مع احتمالات الألم الجديدة، صحت ذئاب الماضي حول البئر المهجورة. يرتبط الخطأ القديم لا باعتداء على الذات من الخارج، ولكن أيضًا بجُرم الذات نفسها. حركة الوعي نفسها نوع من الجرم، من الانتهاك. وأي تركيب مترتب على ذلك هو عصف بمنطق ثابت. والمجرم حسب الأمثولة الشائعة يحوم دائمًا حول مكان جريمته. وهي تكاد تكون حقيقة علمية. في فيلم «إمبراطورية المشاعر» للياباني ناجيزا أوشيما، تقع الشابة المتزوجة من رجل مسن في غرام جارها الشاب الذي من عمرها. وكانا ينامان معا كلّما غاب الزوج الشائخ خارج البيت. ومن جنون الحب يُقرران أن يقتلا الزوج ليخلو لهما وجه الغرام. وبالفعل يقتلانه، ويلقيان به في بئر خارج القرية. وتدَّعي الزوجة أنّه سافر إلى طوكيو من أجل العمل. ما يحدث أنها وعاشقها يعجزان تمامًا عن ممارسة الحب بعد الجريمة. يظهر لهما شبح الزوج يفزعهما، فيذهبان كل ليلة إلى البئر ليطمئنا أنه لم يخرج بالفعل منها، حتى يداهمهما الأهالي هناك بالمصابيح، بعد أن اكتُشفت الجثة. لا بد أننا نعود دائمًا إلى مكان جريمة الوعي الأولى، وهذا الوعي الأسيان هو غير الوعي الباكي على الأطلال. فذاك، الغنائي، لم يقترف الجريمة أصلاً؛ هو يحنّ فقط إلى أيام الانسجام الذي لم يدفع ثمنه، والذي غرَّبته الأيام عنه، ربما بسبب جرم شخص آخر. ويا عيني على الحلو لما تبهدله الأيام.

كيف نفضُّ اشتباك الكينونة مع الملكية؟ أعرف التطرَّف في الاتجاهين. رأيتُ من يحتفط بملابسه منذ الثمانينيات حتى الآن بترتيب تاريخها في دولابه الذي اكتظ وفاض في الغرف؛ ورأيت من يحرق كل ما يكتب أو يُنتج فنيًّا بمنهجية لتبديد الذات. هنا غياب اختياري في ظاهره، لكنه قهري في باطنه، وسواس لمحق الذات. مُراكم المُتعلقات يغيب أيضًا تحت ركامها. يحكون عن الجاحظ، أنّه كان ممسوسًا باقتناء الكتب، وكانت آنذاك، في القرن التاسع الميلادي مخطوطات ثقيلة لا تزال، ويقال إن مكتبته قد سقطت عليه بكتبها فقتلته. مات الجاحظ في الثالثة والتسعين، أي أن مجلدًا واحدًا من كتب ذاك الزمان كان كافيًا لقتله. الآن تسامت السلعة من وضع الوثن إلى علياء الميتافيزيقا.

من أعوام، واختفاء شخص من الحضور على الميديا الاجتماعية يعني اختفاءه الحقيقي من العالم تقريبًا. هناك أصدقاء قدامى وزملاء لم يظهروا لوعينا مجددًا في زمن الوسائط، ربما لم يموتوا، وهم موجودون في مسارات في الحياة تتسم بالعرق والعمل والزواج والإنجاب والكفاح اليومي بلا التفات إلى تلك الحمى وما صاحبها من نوستالجيا لاستعادة العلاقات القديمة وتبادل الذكريات. وربما هم موجودون على الوسائط في مسارات مختلفة تخصُّ مساراتهم في الحياة التي أخذتهم بعيدًا عنّا في الأصل، ولا يهتمون باستعادة التقاطع مع حياتنا التي صادفتهم في مراحل مبكرة. 

لكن النوستالجيا صارت أمرًا مستهجنًا في خطاب مثقفي اللحظة. واستهجانها يصرف ضمن حزمة أفكار للشخص فإذا اعتنقها بالجملة قُبِلَ في نادي الفكر المستقبلي. وبالفعل هناك «حنفيات» تصبُّ مواد نوستالجية ساذجة على وسائل التواصل وقنوات الميديا، ويحقّ على الواحد أن ينتقد لا تاريخية هذه الاستدعاءات. فكل تلك الرموز لم تكن بهذه البراءة التي تبدو عليها في الصور المستعادة. ولكونديرا عبارة جميلة في «خفة الكائن» تقول «وحدها شمس الغروب بإمكانها أن تُضفي ألق الحنين حتى على المقصلة!». لكن استهجانهم، على العكس، يحملُ نزعةً مضادةً للتاريخ، تمامًا كمنتجي المواد النوستالجية التي يستهجنونها. هذه النزعة لم تتجاوز المرحلة الأوديبية في نضجها. لم يتجاوزوا معركتهم مع «الأب»، كائنًا من كان هذا الأب. 

جاء الخريف هذا العام مبكرًا عن موعده بستة أشهر. في 2020 انتقلنا من الشتاء إلى الخريف قفزًا فوق الربيع والصيف. كانت الطبيعة تقاوم أي نعم، ازدهر النبات واخضرت الأشجار، ودفئ الجو ثم صار حارًا، لكن الذبول والإذواء كان قد ضربا الحياة نفسها، الليبدو البشري، وضربا وعينا الذي سمم تلك الطبيعة بالوعي المضاد؛ الغباء. وانتعشت فقط التنظيرات الأكاديمية وشبه الأكاديمية، وانتعظت التجارة الإلكترونية بما لها من هالة نشوة وقد خلقت أورجازمها المُشبع لفرد الطبقة الوسطى الميسورة النائم على أريكته ظُهرًا بموبايله الذكي بين يديه، وقد تسجّل عليه -بعلمه أو دونه- رقم بطاقته الائتمانية. ببضع لمسات هامسة على الشاشة تأتيه السلعة إلى باب البيت بعد يومين. نحن هناك في جيب غريب، وضعنا كل الرغبات الحقيقية في الثلاجة، واستسلمنا مرتهنين لألوهية جديدة، إعلاء وتغييب للحياة نفسها باعتبارها وثن قديم لصالح تحوّلها إلى بناء رمزي، نظنّه سحابةً افتراضية في فراغ كوني، فيما هي ليست سوى حقائق في شكل ثروات طائلة في خزائن ناس آخرين. 

يزداد غيابنا كل يوم من الحيز الواقعي داخل غياهب الأقبية، وداخل وجود افتراضي يتعمم كل يوم على حساب فيزياء أجسامنا، أو في فقاعات الضجر؛ حيث تكرار الطقوس اليومية هو تسبيحة استمرارنا في الحياة داخل اللحظة نفسها. فنجان قهوة صباحي بمتعة كاملة، والاستهلال بضغط الأزرار نفسها، والاطمئنان على عمل الأجهزة بكفاءة تكفي لكي نحفظ أو نأرشف وجودنا في أمان نعرف أنه مخترق، وترعاه عين الآلهة الجديدة الساهرة.. لا تنام.