رؤى
محسن الميرغنيحداثة الساق والعكاز
2020.04.01
حداثة الساق والعكاز
يذكر وليم إدوارد لين واقعة بينه وبين صديق مصري، في الفصل العاشر المتعلق بالخرافات من كتابه "المصريين المحدثون، شمائلهم وعاداتهم"، وفحواها أن صديقه هذا أخبره أنه التقى بعض الإنجليز الذين لا يعتقدون بوجود الجن، مستدلاً على إنكارهم لوجود الجن بأنهم (أي هؤلاء الإنجليز) لم يشاهدوا في حياتهم تمثيلاً مسرحيًّا عامًا، على الرغم من أنه منتشر في بلدهم، ثم يكمل الصديق المصري لإدوارد لين، قصته عن موضوع المسرح، وهي قصه سمعها بدوره من صديق جزائري وفيها أنه "لا يمكن وصف الدار التي عُرض بها التمثيل، كانت الدار مستديرة، وصفَّت على أرضيتها مقاعد كثيرة؛ الواحدة تعلو الأخرى، حيث جلس أفراد الطبقات العليا، وكانت هناك فرجة مربعة كبيرة أُسدل عليها ستار. وعندما غُصَّت الدار بالمتفرجين، الذين دفعوا مبالغ كبيرة للدخول، أظلم المكان فجأة. وكان الوقت ليلاً. وكانت الدار قد أضيئت بعدة مصابيح، إلا إنها أُطفئت كلها تقريبًا في وقت واحد دون أن يمسَّها أحد، ثم رُفعت الستارة الكبيرة. فسمع المشاهدون هدير الموج وصفير الهواء، ورأوا، دون تمييز في الظلام، الأمواج ترتفع وتزبد وتضرب الشاطئ، وسُمع في الحال صوت رعد مرعب، ثم أضاء البرق للمشاهدين البحر الهائج، وسقط حينئذ سيل من المطر الحقيقي. بعد ذلك صفا الجو فظهر البحر بوضوح، وشوهدت باخرتان على بعد. اقتربتا ثم اشتبكتا في قتال أطلقت فيه نيران المدافع. وعرضت بعد ذلك مجموعة مختلفة من المناظر الفريدة". ويستطرد لين: وأضاف صديقي "من الواضح الآن، أن مثل هذه العجائب لا بد وأن تكون من أعمال الجن، أو على الأقل عملت بمساعدته. ولقد شرحت له هذه الظواهر، ولكنني لم أستطع إقناعه بخطئه".1
هذه الرواية التي سجلها لين لا تخلو من الطرافة، كما أنها تفيدنا في رسم صورة لعقل مصري شعبي مشدود إلى الخرافة؛ في أواسط النصف الأول من القرن التاسع عشر، وإذا نظرنا إلى تعقيب لين، بأن هذا المواطن رفض الاعتراف بخطئه على الرغم من توضيح لين له حقيقة تلك الظواهر المذكورة، فإننا نضع أيدينا على ما يشير إليه أنور عبد الملك محللاً أزمة الفكر في مصر الحديثة، بأن لها ثلاثة مكونات؛ وهي "الاعتماد على النقل والعجز عن الخلق، والتواكل والاعتماد على القدر دون الإيمان بالعقل المنطقي والإرادة الواعية، عدم اتصال الشخصية المصرية."2 وهو هنا يشير إلى سمات اجتماعية ترسخت في الشخصية المصرية، التي ترى في كل ما هو جديد "بدعة"، واصفًا هذا بأنه نوع من العدائية لكل إبداع، ففي مجتمع قديم، مثل المجتمع المصري يصبح "الغير هو دائمًا العدو"3.
هذه العقلية الغيبية بامتياز تعبر عن حالة الجهل العامة التي كانت تنتشر بين السكان في مصر في تلك الفترة والتي ظهر فيها أيضًا كتاب رفاعة الطهطاوي الأول "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الصادر عام 1834م، غير أن من يطالع كتاب الطهطاوي سيتمكن من تتبع صورة واضحة لشكل وتقاليد المسرح الفرنسي الأوروبي. أي أننا في الفترة نفسها نقرأ روايتين متزامنتين عن شيء واحد؛ هو فن المسرح الأوروبي، مع استجابتين مختلفتين لاثنين من سكان البلد نفسه، أحدهما سافر وعاين واكتشف في خلال رحلته إلى عالم التطور والرقي بمقاييس زمنه، ثم قام بسرد رؤيته في محاولة لجلب المعرفة للآخر، بينما رفض الثاني قبول أي محاولة لتغيير ما يعتقد فيه ويؤمن به، مع أن أدلته التي يستند إليها كانت مجرد حكاية شفاهية لم يرها أو يتحقق منها بشكل مادي ملموس.
كانت النهضة التي حاول محمد علي (1769-1849م) أن يؤسس لها منذ وصوله إلى القلعة في مايو 1805م، رهينة رغبته الشخصية بتحقيق الاستقلال الاقتصادي والعسكري، لما صار فيما بعد حيازته السياسية التي اقتنصها من تهويمات الخليفة العثماني في الأستانة، وقد تطلب الأمر منه أن ينشيء بمهارة وذكاء نظامًا جديدًا للحكم، يتسم في شكله بالمعاصرة، ليواكب حركة العالم الحديث التي بدأ يتجاوب مع أفكارها المتعلقة بالتحديث الصناعي والعسكري لتحقيق هدفه السياسي، فاختار فرقة من المستشارين الأوروبيين -الفرنسيين تحديدًا-لقيادة عملية التحديث، كمدربين وذوي خبرة سابقة في مجالات التدريب العسكري والتطوير الهندسي والطبي. وإذا جاز لنا التعبير، كانت هذه هي الساق الأولى للنهوض من كبوة قرون طويلة من انتشار الجهل والتأخر الاجتماعي والاقتصادي، هذه الساق التي بدأت بممارسة هجينة أوروبية/مصرية، ترتب على وجودها، تحقق خطوة أولى أساسية من خطوات النهوض، تمثلت في إرسال البعثات التعليمية الأولى من مجموعة منتقاة من أبناء الطبقات العليا في المجتمع، لتعلم الجديد في مجالات بعينها، لإصدار نسخ محدودة من تلك الحداثة المستوردة. غير أن الباشا في قلعته لم يسمح بنمو ساق أخرى، إذ كان وجودها غير ضروري بالنسبة له، هذه الساق هي الجانب المرتبط بعملية تحرير الفكر والعقل المصري تحريرًا جادًا من براثن أحوال الجهالة والتخلف الحضاري، ومن جمود التعايش مع الخرافات الاجتماعية والدينية الضاربة بجذورها في كل أنحاء البلاد، إلا أن هذا لم يحدث.
فالجندي القديم؛ قامع المتمردين، وقاهر الاضطرابات في البلاد، لم يكن قط من دعاة الحريات والتنوير أو التثوير، لذا فقد اختار منذ البداية أن يقضي على تلك النزعة التحررية التي عرفها المجتمع المصري في تلك الفترة، وأوصلته في إحدى هباتها إلى سدة الحكم، لكنه استطاع أن يلتف عليها ببراعة ودهاء، ليلحق الهزيمة بمن ساندوه، ويتخلص من خصومه، كما أنه أرسل طلاب البعثات تحت مظلة من قواعد وقيود عسكرية صارمة، لم تكفل لهؤلاء المبعوثين حرية الانطلاق والتحرك الحر في خلال فترة دراستهم، ليظل الباشا طول الوقت سيد الموقف، في سلوكه وتصرفاته الفردية المتعلقة بطريقة إدارة الحكم. والأدلة التي تبرهن على ذلك كثيرة ومتعددة، لأن هدفه لم يكن التطوير والتصنيع في حد ذاته، بل استقلال سلطة البلاد لصالح منجزه الشخصي، وربما كان هذا هو أهم أسباب انتكاسة تجربة التحديث سريعًا -حتى- قبل رحيل مؤسسها، وتكالب القوى الخارجية الأجنبية عليه.4 فالحداثة التي استجلبها محمد علي باشا لم تكن سلعة مادية، أو معدات حديثة جُلبت ليستفيد منها القاصي والداني من أبناء البلد، بل كانت مجرد أداة سلطوية، تم استيرادها من أوروبا بقدر معلوم، لتحقيق هدف شخصي لحاكم فرد مستبد.
لا يمكننا النظر إلى مبادرة رفاعة رافع الطهطاوي في التنوير، إلا باعتبارها رهينة لتجربة محمد علي التي أشرنا إليها، فعلى الرغم من أن كتابات الطهطاوي في زمنها، أحدثت قفزة فكرية وتعليمية مؤسسية، وانتقلت بمحتوى الممارسات وأدوات التفكير المنهجي في مجالات محدودة كالترجمة والتعليم خطوات قصيرة مؤثرة، إلا أن محاولاته تلك كانت حبيسة الواقع المفروض من الباشا. إن ما قام به رفاعة من عملية "قلب للوضع" بتعبير عزت قرني، عبر تمكنه من نقل حيثيته من مجرد واعظ مكلف بتنفيذ مهمة دينية محددة، في خدمة رحلة حكومية مقيدة برؤية "ولي النعم" للتحديث، إلى مبعوث مؤلِف لرسائل وخطابات تهدف لصناعة الفكر في المجتمع يعتبر الإنجاز الأهم والأبرز في مسيرة رفاعه الشخصية:
"ومما ينبغي التنبيه عليه أن غيرة مسيو الشيخ رفاعة تناهت به إلى شغله مدة طويلة في الليل، تسبب عنه ضعف في عينه اليسار، حتى احتاج إلى الحكيم الذي نهاه على مطالعة الليل، ولكن لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه. ولما رأى أن الأحسن في إسراع تعليمه أن يشتري الكتب اللازمة له، غير ما سمح به الميري، وأن يأخذ معلمًا آخر غير معلم الميري، أنفق جزءًا عظيمًا من ماهيته المعدة له في شراء كتب وفي معلم مكث معه أكثر من سنة"5.
غير أن رفاعة الطهطاوي كان ابن زمنه وعالمه، ولم يكن ليتخلى في ليلة وضحاها عن رصيد طويل من الخضوع الجسدي والعقلي لسطوة الأحوال المتأخرة وآثارها على العقل، فكانت ثقافته الدينية مرجعًا رئيسيًّا أسهم في تعطيل انطلاقة الفكر/ التفكير نحو حدودها القصوى، وهو ما يشير إليه علي مبروك موضحًا أن الطهطاوي استند إلى مرجعيته الدينية في توصيف الأصول الفكرية والفلسفية للحداثة الفرنسية الغربية، باعتبارها "حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية"، وهو ما أسهم في نزع مفهوم "البدعة" عن كل ما يخالف التراث الديني الخاص بالطهطاوي6.
وهنا تظهر أمامنا فكرة الـ"بدعة" مرة أخرى، كعائق رئيسي في مسار التطور الفكري والعقلي لأحد منتجي نسختنا من الحداثة، ويظهر الاستهجان وعدم التصديق لمضامين فلسفية وأفكار تنويرية غربية لا دينية، كان من الممكن إذا طرحت في وقت كتابة الطهطاوي عنها، أن تثير الكثير والكثير في برك العقول الآسنة، لكن الطهطاوي بثقافته الدينية أحجم -خوفًا أو رهقًا- عن أن يقيم ساق الوقوف الثانية، بإعمال التفكير فيما لم يكن من الجائز مجتمعيًّا ودينيًّا التفكير فيه، وربما إلى يومنا هذا، على الرغم من كل ما حمله في روحه من شغف المتعلم ودقة الباحث وطموح المترجم والصحفي. ونحن إذ ننظر إليه الآن؛ أي بعد قرن ونصف القرن، لا يمكن أن ننكر حقيقة دوره وأهميته الكبيرة في إنجاز عملية التحديث والتطوير في مجالات التعليم والترجمة، ويكفي أن نذكر أنه بحلول عام 1833 أي بعد 28 عامًا من حكم محمد علي باشا لمصر، كانت الكتاتيب والمساجد قد انخفض عددها في ريف مصر، وكان التعليم المحلي الديني المتاح يتمثل في التعليم الذي يقدمه الأزهر فقط؛ وهو تعليم كان يتصف بالجمود والتأخر، نتيجة لتوقفه عند مرحلة معينة في الزمن، وابتعاد مناهجه عن الحس النقدي، أما التعليم الحديث الذي أنشأه الباشا فقد كان انتقائيًّا وفئويًّا، ولم يكن يتصل بحياة الناس ولا باحتياجاتهم في القرى والنجوع البعيدة، بل إنهم اعتبروه، في تلك الفترة، تعليمًا أجنبيًّا مفروضًا عليهم من أعلى.7 ومن ثم لم يستجيبوا للتطورات السريعة التي حققتها حركة التحديث الصناعية والعسكرية في مؤسسات يجني ثمار عملها الطبقة العليا من فئات المجتمع حكامًا وحاشية، دون بقية أفراد المجتمع، وهو ما انعكس بوضوح على استمرارية السياق الثقافي والمرجعي الفكري والعقلي متأخرًا ومنقسمًا على ذاته؛ في صراع يبدو أبديًّا بين ما سمي لاحقًا بالأصالة والمعاصرة، أو التراث والتجديد بلغة أيامنا.
1- وليم إدوارد لين، المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم، ترجمة: عدلي طاهر نور، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة مكتبة الأسرة، 2013م، ص199-200.
2- د.أنور عبدالملك، الشارع المصري والفكر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مشروع مكتبة الأسرة،1997م، ص50.
3- د.أنور عبدالملك، نفسه، ص53.
4- انظر، أنور عبدالملك، نهضة مصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983م. وانظر أيضًا، خالد فهمي، كل رجال الباشا، ترجمة: شريف يونس، القاهرة، دار الشروق.
5- انظر، عزت قرني، في الفكر المصري الحديث، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص41. النص من تقرير لمسيو شواليه الأستاذ المباشر لرفاعه في رحلته كمبعوث.
6- انظر، علي مبروك، هل يمكن إنتاج العلمانية خارج الشرط الثقافي؟ المؤتمر العام لأدباء مصر، الدورة الثلاثون، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ديسمبر2015، ص307-332.
7- انظر، إسماعيل القباني، سياسة التعليم في مصر، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1944م، ص23.