رؤى

سلمى خطاب

حركة مناهضة التحرش "أثر الفراشة" الذي هز عرش الذكورية

2021.08.01

تصوير آخرون

حركة مناهضة التحرش "أثر الفراشة" الذي هز عرش الذكورية

لطالما أعجبتني الفكرة في نظرية "أثر الفراشة"؛ فراشة صغيرة تطير غير مبالية، تضرب الهواء بجناحيها، فتحدث تأثيرًا صغيرًا في تيارات الهواء فتغير المسار أو تتسبب في حدوث إعصار. فكرة مثيرة لم تفارق عقلي طول عام وشهرين أتابع خلالهم الحراك الأخير، الذي فجرته قضية أحمد بسام زكي متحرش الجامعة الأمريكية، وما تبعه من طوفان أغرق العشرات من المتحرشين والمغتصبين والذكوريين -غير مأسوف عليهم- ورد ولو جزء صغير من ثقة ضحاياهم في أنفسهن وقدراتهن، وأعاد لهن ولو بصيص أمل في تجاوز الصدمة، وعيش حياة يصدقن فيها أن لديهن القدرة على التغيير.

بعد أكثر من عام على هذا الحراك، أتذكر فكرة "أثر الفراشة" وأنا أجلس مع صديقة أجنبية لم تزر مصر منذ نحو ثلاث سنوات، وأسمعها تحكي لي عن تغيير لمسته في الشارع المصري خلال زيارتها لمصر في يوليو الماضي، تقول "التحرش أصبح أقل، والعدوانية في الشارع أقل"، وهي التي تحب مصر كثيرًا، وكثيرًا ما أزعجها التحرش في شوارع المحروسة.

الفكرة ذاتها كتبتها إحدى الفتيات في منشور ساخر على "فيس بوك" وتوقفت أمامه كثيرًا، كانت تنقل عن شخص يتحدث مع صديقه في الشارع قائلاً "ما تبحلقش فيها دي النسوان بقت سعرانة دلوقتي وبتعمل محاضر"، أضحك وأتذكر من جديد فكرة أثر الفراشة، وأراها تجسدت في الحالة المصرية في ذلك الطوفان من الحديث الذي أثارته النساء المصريات، فسنت إثره قوانين، وشددت قوانين أخرى، حُبس من حبس، وتعرض الكثير لتحقيقات في حوادث ربما قد يكون مر عليها سنوات، بل ويصدر فيها أحكام ضد المعتدين.

فقد البعض عمله وأصدقاءه، والأسوأ من فقد سمعته، وبات محظورًا عليه المشاركة في الحياة العامة دون أن يطفو على السطح من جديد تاريخه في التحرش أو الاغتصاب.

أثر الفراشة النسوية هذه المرة عكس الآية ولو قليلاً، فنام رجال خائفين من أن يتحدث ضحايهن عن اعتداءاتهم، وحتى من لم يكن له سجل خفي في التحرش بات أكثر حرصًا وحساسية في التعامل مع النساء، وهي حساسية مطلوبة في وقت ينظف فيه هذا الكم من الضحايا جراحهن، ويتداوين من آثار صدمات وندوب غائرة ربما عشن بها سنوات صامتات، يشعرن بالخزي والخذلان، وترهبهن هذه الحملات الممنهجة ضد كل من تحدث بصوت عالٍ عن التحرش أو الاغتصاب، من اتهامات بالكذب والمبالغة والفهم الخاطئ وغيره من أحاديث لا تهدف سوى تبرئة ساحة مجرمين من جرائمهم.

أثر الفراشة هذه المرة، كسر دوائر الضغط التي كونها الرجال دون اتفاق على مر سنوات، للدفاع عن بعضهم البعض، وتكذيب كل من تتحدث عن إيذائها والإجرام في حقها بصوت عالي، ربما هذه الدوائر، غير المعلنة، عرقلت صدور أو تشديد القوانين ضد الاعتراف بالاغتصاب والتحرش وغيرها من أشكال الاعتداءات الجنسية، لكن «أثر الفراشة» هذه المرة جعل صوت النساء أعلى، فأزيلت بعض العقبات، وبات واضحًا للكثير من الذكور أن دعمك لمتحرش يؤدي إلى وصمك أنت بالتحرش.

وربما للمرة الاولى توصم التحرش أو الاعتداءات الجنسية الرجال بعد سنوات من تحميل النساء بعبء هذه الوصمة، مقابل تفاخر الذكور بهذه الأفعال، وشعورهم بالانتصار وقدرتهم على النجاة من عواقبها، ووصم ضحاياهن أكثر بالكذب أو سوء السلوك أو المبالغة.

«أثر الفراشة» الذي حرك طوفان ضد قضايا الاعتداءات الجنسية بشكل عام، لم يلبث إلا أن تواصل وامتد ضاربًا تابوهات تمنع الحديث عن قضايا بعينها طالما لاقت إنكارًا ورفضًا من المجتمع لمجرد الحديث عنها، مثل الاغتصاب الزوجي والمطالبة بتعريفه وتجريمه قانونيًّا، مرورًا بالطلاق الشفهي والغيابي للمسلمات وتعقيدات الطلاق للمسيحيات، وصولاً إلى الحديث عن المساواة في الميراث، وتلك القوانين التي تستند إلى إرث ديني ممتد منذ سنوات، يظلم النساء في عصرنا الحالي وينافي جوهر الدين ومقاصده في رفع الظلم، وحفظ حق الإنسان في العدل والعيش بكرامة ذكرًا كان أو أنثى.

أثر الفراشة هذا العام ضرب بجناحيه عرش الذكورية التي تحكم المجتمع المصري منذ سنوات، وترفض وتظلم وتقهر كل امرأة من يعلو صوتها للمطالبة بأحد حقوقها كإنسان ومواطن كامل الأهلية، له الحق في الاختيار والتعامل بكرامة واحترام، دون اتهامات بالمبالغة والجنون أو الجملة الأسخف على الإطلاق "تلاقيها هرمونات". ربما لم تكن الضربة قاضية، لا زال أمامنا نحن النساء المصريات طريق طويل لنقطعه، لكني أراها بالتأكيد ضربة مؤثرة، زادت من حق وفرص النساء في العيش بأمان وحرية وكرامة، داخل بيوتهن أولاً وفي الشارع والمواصلات وأماكن العمل، دون خوف من اعتداء أو ظلم أو تعسف ضدهن لكونهن نساء في المقام الأول، ودون أن تكون هذه التصرفات مبررة، أو أن يشعر مرتكبوها باستحقاقهم أن يقوموا بمثل هذه الأفعال.

ذلك الشعور بالاستحقاق لدى غالبية الرجال في مجتمعنا، والناتج عن ثقافة ذكورية مقيتة ومتجذرة، تمنح الرجل حقوقًا ومزايا بلا حساب لمجرد كونه رجل، وتًحرم النساء من هذه الحقوق والمزايا تلقائيًّا لكونهم فقط نساء، فتعود النساء مئات الخطوات للوراء لتحصل فقط على أبسط حقوقها، بداية من حقها في اختيار الثياب التي سترتديها اليوم دون أن يضغط على اختيارها، عائلتها أو الجيران أو حسابات احتمالات تعرضها للتحرش في الشارع بهذه الثياب، مرورًا بحقها في فرص مساوية للرجال في التعليم والعمل والأجر العادل والترقي المادي والاجتماعي والمساواة في الميراث، وصولاً إلى قوانين تنصفها، وجهات تحقيق محترفة تأخذ شكواها على محمل الجد حال تعرضت لأي اعتداء لكونها امرأة، ومجتمع داعم يتوقف عن لومها كضحية، ويبدأ في توجيه سهام اللوم إلى الجاني.

حتى لو كان ذلك التأثير هو معرفة المزيد من النساء والفتيات بحقوقهن هذه، وإعطائهن الفرصة في التفكير والمعرفة فيما يتعرضن له، والقدرة على صياغة وإدراك أفعال "الاعتداء" التي يتعرضن لها يوميًّا بشكل أسرع وأكثر وعيًا، بدلاً من سنوات كن يقضينها في التردد والشك في أنفسهن، والعيش بألم الانتهاك المستمر والصدمة فهو مكسب.

صحيح أن القوانين والحياة في مصر تعطي النساء الكثير من الحقوق، لكن دون أن تمكنهن منها، فما فائدة الحق في التعليم والنساء لا يملكن شارعًا آمنًا يذهبن عبره إلى المدرسة والجامعة، دون تعرضهن إلى التحرش والاعتداء. ما فائدة الحق في العمل دون أن يكون لها الحق في أجر عادل، وبيئة عمل آمنة، وأنظمة عمل تمكنها من عيش حياة أسرية تكون المسؤوليات فيها مشتركة، ودون أن يتحول الحق في العمل إلى عبء إضافي على النساء فوق أعباء المنزل ورعاية الأطفال التي يقر المجتمع حتى الآن أنها مسؤولية المرأة وحدها.

ما فائدة حق النساء في اختيار أزواجهن دون أن يكن لهن الحق في تزويج أنفسهن، حتى وإن كفل القانون هذا الحق في بعض الحالات، فحصر الزواج في المنظومة الدينية - شديدة الذكورية حاليًا - يعوق تمتع النساء بهذا الحق في أغلب الحالات. ما فائدة حق المرأة في الطلاق أو الخلع إذا كان أي من هذه الطرق محفوفًا بالكثير من المخاطر والتنازلات التي يجب أن تقدمها المرأة من حقوقها المادية وتهديدها بالحرمان منزلها وأطفالها مقابل الحصول على حريتها أو طلاقها من زوج مؤذي أو معتدي.

ما فائدة القوانين التي تقر التحرش والاغتصاب، وتترك العبء الكامل لإثبات هذه الانتهاكات على النساء، وتشكك في كل دليل تقدمه المرأة، وكأن الهدف هو تبرئة الرجال وليس تحقيق العدالة ورفع الظلم!

«أثر الفراشة» التي تطير بجناحيها منذ أكثر من عام أعاد الحديث عن كل هذه القضايا والحقوق التي تبدو ظاهريًّا مكفولة للنساء، لكن فعليًّا هي أبعد ما تكون عنها، والحقيقة أنها ترمي بأعباء إضافية على ملايين الضحايا من النساء في أمس الحاجة إلى الدعم والتصديق، لرفع سنوات من الظلم من الواقع على النساء، وتمهيد طريق لتعيش النساء حاليًا ومستقبلاً حياة أكثر عدلاً وحرية واستقلالية مفيدة للجميع رجالاً ونساء.

هذه الأحاديث والجدالات والقضايا وإن بدت الآن معارك شرسة تخوضها النساء، إلا أن إثارتها والاستمرار في الحديث والدفاع عنها وتحقيق تقدم فيها بالتأكيد أمر إيجابي، يجعل من صوت النساء أعلى وأكثر قابلية للتصديق لأنه صوت عادل ومنطقي عانى لسنوات من الظلم والاتهامات والتكذيب. أثر الفراشة هذه المرة يرى بوضوح عكس ما كتب الشاعر محمود درويش قبل أعوام، أثر الفراشة لا ولن يزول.

القوانين تعطي النساء الكثير من الحقوق، لكن دون أن تمكنهن منها، فما فائدة الحق في التعليم والنساء لا يملكن شارعًا آمنًا يذهبن عبره إلى المدرسة والجامعة، دون تعرضهن إلى التحرش والاعتداء..

«أثر الفراشة» هذه المرة، كسر دوائر الضغط التي كونها الرجال دون اتفاق طوال سنوات، للدفاع عن بعضهم البعض، وتكذيب كل من تتحدث عن إيذائها والإجرام في حقها بصوت عال..

 أتذكر أثر الفراشة وأنا أجلس مع صديقة أجنبية، تحكي عن تغيير لمسته، تقول" التحرش أصبح أقل، والعدوانية في الشارع أقل"، وهي التي كثيرًا ما أزعجها ذلك في المحروسة..

فقد البعض عمله وأصدقاءه، والأسوأ من فقد سمعته، وبات محظورًا عليه المشاركة في الحياة العامة دون أن يطفو على السطح من جديد تاريخه في التحرش أو الاغتصاب..

ما فائدة القوانين التي تقر التحرش والاغتصاب، وتترك العبء الكامل لإثبات الانتهاكات على النساء، وتشكك في كل دليل تقدمه المرأة، وكأن الهدف تبرئة الرجال وليس تحقيق العدالة ورفع الظلم!