تواريخ

نجلاء مكاوي

حركة 1968 في مصر: التمرد الأول دفاعًا عن الوجود

2018.11.01

حركة 1968 في مصر:  التمرد الأول دفاعًا عن الوجود

في 19 يونيو عام 1956 خرج جمال عبد الناصر ليقدم إلى الشعب المصري انتصارًا قوميًّا من صنعه وزملائه «الثوار»، وهو جلاء آخر جندي بريطاني عن الأراضي المصرية؛ فتحدث عنه باعتباره إنجاز «فئة من أبناء الوطن»، تحكمه للمرة الأولى في تاريخه. خاطب عبد الناصر الناس، وكعادته، مستخدمًا صيغة الجمع التي تشير إلى الحاكمين، ولا تحيل مطلقًا للمحكومين «نحن قاومنا ... وكافحنا ...وقاتلنا... وتكتلنا من أجلكم».

 لقد حاربوا من أجل الاستقلال والحرية والكرامة، أهداف الشعب التي لم يستطع تحقيقها، ولم يكن ليحققها، وها هم أولاء الضباط وقائدهم «طليعة الشعب»، يثبتون أحقيتهم في الوصاية عليه، ويحصدون له الاستقلال، درة أمانيه، وعليه أن ينتظر، متكتلاً ومتوحدًا خلفهم في صمت، حتى يأتون له بما يريد، عبر سبل وفي صيغ، هم فحسب القادرون على تحديدها وإقرارها.

استنادًا إلى «الشرعية الثورية» وبصفة مؤقتة، تبنى الضباط هذا التصور وطرحوه في المرحلة التي سبقت ذلك التاريخ، والتي شهدت حسم المعركة على السلطة في عام 1954 وتثبيت وجود الضباط على رأسها، وسميت «المرحلة الانتقالية». وبعد انتهائها رسميًّا في عام 1956، وضع عبد الناصر أساسات نظام الحكم الجديد، وحدد أهدافه ومقتضياته وطبيعة عمل أبنيته السياسية وفق التصور ذاته؛ فقد كانت ثمة ضرورة لبناء نظام حاكم مستقر وليس نظامًا انتقاليًّا، وضرورة  لمعالجة الخلل الشكلي الناتج عن انعدام الوجود السياسي للمحكومين، الحشود التي أقصيت وتعين استمرار واستقرار إقصائها وإن في صيغة مختلفة. فمضى الأمر واستقر على نموذج للحكم التسلطي قائم على خصوصية ظرفية وموضوعية، كانت فيه الدولة الفاعل الرئيسي في كل الساحات، المسيطر من أعلى على كافة الجماعات الاجتماعية عبر أوعية ومؤسسات للاستيعاب السياسي والاجتماعي، ودفع حركة المجتمع في الاتجاه المضاد لاستقلالها وتوجيه طاقته، وضمت فقط من قررت السلطة ضمه والاعتراف به كذات لها حق الفعل السياسي أو الاجتماعي الذي يُحدد لها. نظام حكم احتكرت السلطة فيه السياسة، من حيث المفاهيم والمبادرة والتطبيقات، وقدمت نفسها كمحتكر للقدرة على إنهاض الدولة وحمايتها. كل ذلك استند إلى ضرورة استمرار «المؤقتية»، حيث ثمة أهداف كثيرة على النظام أن ينجزها، وهي التنمية والاستقرار واستكمال الاستقلال بمعناه الشامل، وتفرض متطلباتها تأجيل مسألة الديمقراطية والحريات السياسية والحقوق الفردية، أو النظر إليها وفق مفاهيم خاصة طرحتها السلطة وصدرتها باعتبارها الأنسب لشعب منعدم الأهلية، يتعين أن ينحصر دوره في الوقوف خلف هيئة الوصاية عليه وداخل الأطر التي وضعتها. فيما ساعد على استقرار هذا الوضع اكتساب النظام الناصري وضعية مهمة إقليميًّا ودوليًّا كنظام معادٍ للإمبريالية الغربية، وامتلاكه رأسمال مادي وسياسي وظفه بشكل جيد في استراتيجيته الاحتوائية. هذا بجانب ماكينة القمع التي لم يتوقف عملها؛ فترسخت حالة العجز السياسي وعدم القدرة على المبادرة الذاتية لدى الغالبية العظمى من الشعب.

جاءت هزيمة 1967 لتخلخل شرعية السلطة ومرتكزات النظام، وتصيب وضعية الهيمنة التي حظيت بها الطبقة الحاكمة باضطراب شديد؛ فالبورجوازية المكونة في أساسها من تحالف النخبة العسكرية مع النخبة التكنوقراطية، والتي نبتت في ظل النظام الناصري وواصلت الصعود حتى سيطرت بشكل كامل سياسيًا واقتصاديًا؛ فتحكمت في الثروة والسلطة، دون أي مشاركة حقيقية للطبقات الشعبية وفي تناقض مع مصالحها؛ هذه الطبقة، وضعتها الهزيمة أمام اتهامات بالفساد والانحراف والعجز عن قيادة المجتمع، فالأمر تجاوز عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات والوعود وتحقيق التنمية، إلى الفشل في حماية أرض الوطن التي أصبح جزء منها تحت الاحتلال.

بقي الغضب مكتومًا لعدة أشهر، وتمثلت مؤشرات الاحتقان في أحاديث الناس عن موضوعات لم تكن مطروقة من قبل، مثل السلطة السياسية والحريات والديمقراطية والحرب، وذلك في إطار محاولة استيعاب صدمة تلك الهزيمة التاريخية والتفكير في كيفية تجاوزها. وكان تصاعد هذا الجدل العام يحمل، ضمنًا، وعيًا جمعيًا بأهمية حضور المجتمع، وبأن هذه لحظة تحتم حضوره كفاعل سياسي يسائل السلطة ويحاسبها ويشارك في اتخاذ القرار. لكن السلطة، ذات المصلحة في استمرار استبعاد الشعب والساعية إلى استعادة توازنها، واجهت ذلك بتصدير استعدادها للإصلاح وتوفير ضمانات الحرية، وإعادة النظر في مسألة الديمقراطية، مع التمسك بأنها وحدها القادرة على تحديد مفاهيم وتمثلات السياسة والديمقراطية المناسبة. ووفق هذه الرؤية، مثلما طرحتها السلطة متذرعة بحالة الحرب، تعين أن يستمر الناس بعيدًا عن إدارة أمور السياسة والحرب والاقتصاد، وينحصر دورهم في أن يعمل كل في موقعه لصالح المجهود الحربي، وفي دعم النظام عبر مؤسسات الحشد الرسمية. أي أن تبقى حالة الاحتكار والوصائية قائمة. وتمردًا على ذلك، انفجرت حركة 1968 الشعبية.  

جاءت حركة 1968 في موجتين، أو اندفاعتين؛ الأولى في 21 فبراير، وكانت شرارتها نشر الأحكام الصادرة في قضية الطيران، حيث أحيل قادة سلاح الطيران وبعض ضباط الجيش إلى المحكمة العسكرية العليا لمحاسبتهم؛ امتصاصًا لغضب الناس، وفي إطار تقديم النظام كباش فداء وإلقاء المسئولية على كاهلهم. وتذرعًا بأن الأحكام جاءت مخففة، انطلقت حركة التمرد الأولى منذ تأسيس عبد الناصر نظامه، والتي أطلق عمال المصانع الحربية في حلوان إشارة بدئها، وتطورت لتضم طلبة الجامعة وكثير من فئات الشعب، متخذة أشكال عدة للاحتجاج مثل التظاهر والإضراب عن العمل والدراسة ومحاصرة مبنى مجلس الأمة، وقدمت مطالب محددة، وواجهت عنف الشرطة بعنف مضاد، ثم كان أن تمت السيطرة عليها واحتوائها على الأرض، بالمزاوجة بين استخدام القمع وأساليب التهدئة التحايلية. ولعدم فعالية ذلك في إخماد طاقة الغضب والقضاء على أسبابها، جاءت الاندفاعة الثانية في 20 نوفمبر، التي كانت في جوهرها تطورًا طبيعيًّا للحركة، وقد فجرتها أيضًا مجرد شرارة تمثلت في صدور قانون للتعليم قلل من فرص الطلبة في النجاح، وجعل الوصول إلى التعليم العالي أكثر صعوبة، فأطلق هذه المرة طلبة المدارس الثانوية بالمنصورة إشارة البدء لحركة احتجاجية عنيفة، امتدت إلى الإسكندرية، التي أصبحت مركزها الأكثر خطورة، ووصلت العاصمة، وكادت أن تتمدد في محافظات أخرى، لولا توسل السلطة في مواجهتها العنف واستعراض القوة.

ثمة زعم بأن تجربة 1968 كانت مجرد تحرك عفوي سريع استهدف تخفيف درجة القمع، وشيئًا من الإصلاح السياسي، وتم احتوائه بسهولة لضعفه ومحدوديته، لكننا نرى أن هذه قراءة غير دقيقة لدوافعها وأغراضها ووقائعها، فتلك الحركة المهمة تزخر بكثير من الرسائل والدلالات، والاقتراب من تمثلاتها العملية والرمزية، قد يوضح حجم قوتها وما تصدت له وتحدته، وما كسرته، وما أرادت تغييره.

كان التظاهر في الشوارع والميادين هو التمثل الرئيسي لتمرد 1968، وفيه تبدت قدرة المهمشين على التجمع والتوحد في شكل حركة شعبية تواجه السلطة، وتلمسوا معناها وأهميتها. وهي فعليًّا كانت حركة شعبية، أي ضمت مختلف فئات الشعب، فصحيح أن للطلبة والعمال ومجالهم المكاني (مصانع حلوان، والجامعة) دورًا رئيسيًّا ومهمًا، لكنها لم تكن حركة طلابية أو عمالية صرفة حظيت بتضامن شعبي؛ فقد قاد التظاهرات والهجوم المضاد على قوات الأمن أعداد من الطلبة والعمال والعاطلين عن العمل والفتية تحت سن العشرين، وخالطهم جميع الفئات، حسبما تجلى في التظاهرات التي مثلت ذروة الحركة، سواء يومي 24 و25 فبراير في ميدان التحرير والأحياء المجاورة، أو تظاهرات الموجة الأعنف في المنصورة يوم 21 نوفمبر، وفي شوارع وميادين الإسكندرية يوم 25 منه.

 التقى كل هؤلاء بإدراك غريزي بأن تدفقهم إلى الشوارع وتجمعهم غضبًا واحتجاجًا هو في ذاته إعلان عن الوجود، وجودهم الحقيقي وليس الذي حددت السلطة صوره وطالما وظفته لصالحها. تجلى هذا الإدراك في التجمعات السريعة المفاجئة، ومع ازديادها وارتباك الأمن وتشتته في مواجهتها، اكتشف المحتجون قدرتهم على التحرك الجمعي، وإمكانية تأثيره؛ فمنذ اللحظة الأولى، عندما أطلق عمال إحدى ورش مصنع 36 الحربي بحلوان أصوات «صفافير» من الفم معلنين توقف العمل، وبدء الحركة، كانت التجمعات تتكون ثم تتفرع منتقلة إلى مواضع متفرقة فتفتح لنفسها مجال حركة أوسع. بدا ذلك في التطور السريع من تجمع عمال المصانع الحربية، إلى تجمع عمال شبرا إلى تجمع طلبة جامعة القاهرة، ثم إلى خروج الجميع إلى الساحات واستخدام تكتيكات حركية عفوية مع الأمن ساعدت على بقاء الغاضبين في الشوارع في حالة تجمع لمدة زمنية سببت ذعرًا للسلطة، التي اضطرت إلى تقديم بعض التنازلات الشكلية لاحتواء الموقف. ولعل ذلك منح الناس شعورًا قويًّا بقدرتهم على التكتل، أو الحضور الجماعي المؤثر، إذ تؤكد وقائع الموجة الثانية في المنصورة والإسكندرية أن الأعداد كانت أكبر، وكذلك قدرة المحتجين على مناورة الأمن، ناهيك عن أنهم بادروا بتوسل العنف وبمستوى عال. وهنا تجدر الإشارة، توضيحًا لطبيعة المتظاهرين، إلى أن ضحايا عنف الشرطة حينذاك كان عددهم 15 شخصًا، بينهم ثلاثة طلاب والباقي من الأهالي.

ولم يقتصر الأمر على التظاهر، بل تجلى الوعي بكيفية منازعة سلطات الدولة، في احتلال جزء من الفضاء العام، حيث تستعرض الدولة احتكارها السلطة والقرار وقدرتها على فرضه؛ كان هذا الحيز في الموجتين هو كلية الهندسة، حيث احتل الطلبة هندسة القاهرة واعتصموا بها في فبراير، وفي نوفمبر كانت هندسة الإسكندرية ساحة اعتصام للطلبة، وتجمع لغيرهم من المواطنين. وفي الحالتين، ظهر المعتصمون على قدر كبير من التصميم والتمسك بالمكان على الرغم من التلويح بالقوة واستخدامها فعلاً من قبل السلطات. والأخيرة، بدا سلوكها معبرًا عن مدى اهتزازها وخوفها سواء أمام تجمع الناس وتوحدهم في الميادين والشوارع أو احتلال الجامعة، فقد كانت المرة الأولى، منذ سنوات طوال (منذ عام 1954) التي كسروا فيها الحظر المفروض على حقهم في التعبير عن الرفض، وحتى إن كانت السلطة تتوقع الانفجار خلال الأشهر التي تلت عدوان 1967، فلم تكن تتوقع شكله وطبيعته. وقد ظهر خوفها في البداية في محاولات السيطرة وإدارة طاقة الغضب عندما ظهرت مؤشرات انطلاقها عند عمال حلوان، حيث صدرت تعليمات من «الاتحاد الاشتراكي» و«منظمة الشباب» بالسماح للعمال بالتجمع داخل المصانع ووحدات الإنتاج للتعبير عن الرأي، والاجتهاد في منعهم من الخروج بشتى الوسائل. وعندما خرجوا، حوصرت المدينة وأمر وزير الداخلية بقطع خط حديد حلوان - القاهرة، حتى لا يخرج العمال من المدينة، لكنهم اخترقوا الحصار. ولم تملك السلطات أمام اتساع الاحتجاج سوى إصدار قرار رسمي بمنع التظاهر، اضطرت لعدم جدواه إلى استخدام القوة للمواجهة. أما بالنسبة للاعتصام/الاحتلال، ولكونه أخطر، سواء من جهة دلالته في ذاته، أو إمكانية انتشاره وتمدده إلى فضاءات أخرى، فقد تم تطويق جامعة القاهرة لعزلها بقوات من الجيش في فبراير، وكُلفت قوات البوليس بفض الاعتصام، ومع شدة المقاومة، لم يكن من مفر سوى إصدار قرار بتعطيل الدراسة لمدة 20 يومًا. فيما تجلى الخوف والعجز في حركة نوفمبر بشكل أوضح، إذ بمجرد أن بدأ طلبة الإسكندرية اجتماعاتهم وتحركوا خارج الجامعة واجهتهم الشرطة بالقوة، ومع إعلانهم نيتهم الاعتصام في الكلية والإضراب عن الدراسة، صدر قرار بتعطيل الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا والمدارس. ولكون ذلك الاعتصام كان مركز الاحتجاج في المحافظة، وقوة الدفع لتظاهراتها الضخمة، تعين فضه بأية وسيلة، فتقرر تهديد الطلاب باستخدام دبابات الجيش وطائراته، وفعليًّا مرت قوات الجيش أمام الجامعة مستعرضة ومهددة، ووصلت مجموعات من طائرات الهليكوبتر فوق كلية الهندسة، الأمر الذي زامنه، وفي مصادفة طبيعية، عاصفة برق ورعد، تصور الطلاب معها أن الطيران بدأ في قصفهم؛ فانفض الاعتصام.

لقد استخدمت السلطة القوة لإنهاء التمرد، لكن ليس فحسب خوفًا من تمدد التمرد، ومما أظهره من القدرات المشار إليها، لكن أيضًا لما حمله سمته الرئيسي، ألا وهو عنف المتظاهرين؛ فإذا كان مجرد خروجهم غاضبين في مواجهتها شاهدًا على اهتزاز خوفهم منها، فإن تعبيرهم عن الغضب باستخدام العنف لهو أثر واضح لتبدد ذلك الخوف، ومستوى عال من التحدي لما فرضته من أنظمة وقوانين كأدوات لها في ضبط المجتمع والسيطرة عليه. لقد نازلوا سلطة كانوا يدركون جيدًا حدود قدراتها القمعية، وما تمارسه من أشكال العنف البدني على جسد من يحاول رفع الصوت قليلًا، وهو ما كان أحد عوامل شل قدرتهم على المبادرة والحركة الذاتية والمقاومة، لكن في تلك اللحظة استعادوا ثقتهم فيها، واستهدفوا توصيل رسالة بما يمكن أن تصل إليه حدود مقاومتهم وأشكالها. واللافت أنها كانت لحظة مثالية لسيادة المفهوم السلطوي القائل بإن حركة الناس في زمن الحرب تهدد وجود الدولة وتعرضها للخطر، لكنهم أزاحوه جانبًا، ولم يتحركوا فحسب بل وهاجموا بعنف مؤسسات الدولة.

توسل المتظاهرون العنف في فبراير، وخاضوا معارك مع قوات الأمن كانت وسيلتهم فيها الحجارة والعصي في مواجهة الغاز والطلقات النارية. ومع ذلك كان عدد المصابين من رجال الشرطة أكثر من المتظاهرين، وهذا لا يرجع لشدة عنف الأخيرين فحسب، بل بالأساس لأن الشرطة استخدمت العنف في نطاق محدود، حيث كانت السلطة عاجزة عن فتح المواجهة، واعتمدت سياسة التهديد التي كان منها القبض العشوائي على أعداد كبيرة ممن كانوا في الشوارع. كان هذا المستوى من القمع بجانب تظاهر السلطة بالاستجابة لمطالب المحتجين، وسائل السلطة لاحتواء التمرد في اندفاعة فبراير، لكنها لم تنجح في تجميده، بل على العكس أمدته بذخيرة للمقاومة ذات الطبيعة الحادة والعنيفة، ما ظهر في اندفاعة نوفمبر، التي تسيد العنف مشاهدها

 كانت مطالب الحركة في فبراير، تتلخص في حل مجلس الأمة، وإلغاء «الاتحاد الاشتراكي»، باعتبارها كيانات تمثيلية مزيفة ضمت شكليًّا من اعتبرتهم السلطة «الشعب» وأقصي عنها «أعداء الشعب»، وإلغاء نسبة العمال والفلاحين التي وصفها الطلبة بأنها ما وجدت إلا لضمان بصماتهم (أي تصديقهم) على القرارات التي تأتي من أعلى. هذا بجانب مطالب عامة بالحريات والديمقراطية. وقد تمثلت الاستجابة الاضطرارية من قبل عبد الناصر -الذي ما اقتنع للحظة بفكرة الوجود السياسي لمحكوميه- لتلك المطالب في إصدار ما سمي «بيان 30 مارس»، الذي وضع برنامجًا لإضفاء مسحة تبدو ليبرالية على النظام السياسي، وبقيت فيه الديمقراطية المطلوبة مؤجلة، حتى تُزال آثار العدوان. كما اقتصرت استجابته للمطالبة بالحريات على إصدار تعديلات لبعض قوانين القمع في مقدمتها قانون الطوارئ، لكن كانت في أغلبها نظرية قليلة الأهمية. في مواجهة هذا التحايل، ومع الإصرار على استبعاد الناس من المشاركة فيما يتعلق بمسألة الحرب، اندفع التمرد مرة أخرى في نوفمبر، في صيغته الأعنف، التي تمثلت بداية في محاولة أهالي المنصورة اقتحام مديرية الأمن، وحصارهم قسم الشرطة واحتلاله والاستيلاء على مستودع الأسلحة في المدينة، ثم في قيام أهالي الإسكندرية خلال تظاهراتهم يوم 25 نوفمبر بمهاجمة المباني الحكومية، وتحطيم وسائل المواصلات العامة والخاصة، والملاهي الليلية، وكل ما شكل رمزًا لاحتكار الطبقة الحاكمة السلطة والثروة.

 وفي سياق تمثلات تبدد الخوف التي كان العنف المادي أهمها، حمل التمرد كثيرًا من صورها الرمزية، لعل في مقدمتها طريقة تعامل الناس مع «قتلاهم»، فثمة مشهدين واضحي الدلالة، الأول كان إقامة أهالي القاهرة مأتمًا مهيبًا لمواطن قُتل في فبراير برصاص الجيش. أما الثاني فكان إصرار أهالي المنصورة على تشييع من قتلوا منهم دفعة واحدة، وعندما منعتهم السلطات أحضروا نعوشًا فارغة وزينوها بالزهور ومروا بها في المدينة هاتفين ضد القاتلين. ويمكن اعتبار ذلك بمثابة رسالة من المجتمع، الذي بقي لسنوات طويلة أسير حالة تواطؤ على عنف السلطة ضد أفراد وجماعات منه، ولم يقاومها ولو بشكل برمزي، رسالة بأنه خرج من تلك الحالة، أو على استعداد، إدراكًا منه أن صمته الذي نفى وجوده، هو ما جعله لدى السلطة مجرد أرقام سهل تحطيمها

على صعيد آخر ثمة ما يفند الزعم بأن تمرد 1968 لم يكن مطلقًا في مواجهة مع الأيديولوجيا الناصرية، ولم يتخذ موقفًا جذريًا من النظام، ألا وهو النظر إلى السلطة باعتبارها اعتمدت استراتيجية ديماجوجية من أجل احتكار السياسة تمثلت ركيزتها في شعارات الاستقلال الوطني، فقد طُرحت على ساحة النقاش العام خلال التمرد أهمية مراجعة الدور الوطني للسلطة، وتقييم ما قدمته من مكاسب وما أخذته من أثمان، ومساءلتها عن حالة المؤقتية طويلة المدى التي بُررت بشعارات حماية الثورة والتنمية والتحرر، ثم آلت إلى احتلال الأرض. وليس صحيحًا أن المحتجين رفعوا شعارات ناصرية، بل على العكس كان أحد شعاراتهم هو «يسقط مجتمع الشعارات»، وكان أيضًا من الهتافات الرئيسية «وديتوا فين فلوسنا لما اليهود تدوسنا»، فهي إذن سلطة وطبقة حاكمة فاسدة لم تحقق تنمية، ولم تحافظ على أرض الوطن. وخصوصًا جناحها العسكري أكثر أجنحتها نموًا واستفادة من هيمنتها الكاملة على السلطة والثروة، حيث تبدى هجوم المحتجين عليه وحكمه في شعار «يسقط حكم العسكريين»، و«الحكم ليس إرثًا للعسكريين». 

كما أن المتظاهرين توجهوا إلى أحد رموز الجهاز الدعائي الرسمي، فحاصروا مبنى صحيفة «الأهرام»، وحاولوا إضرام النيران فيه، بعد أن هتفوا ضد صحفي النظام الأول ولسانه؛ محمد حسنين هيكل، ناعتين إياه بـ«الكداب والنصاب»، وطالبوه بالتوقف عن الكذب. يمكن القول إذًا إن تمرد 1968، وفي الحد الأدنى، عرى الزيف الأيديولوجي. هذا فضلاً عن محاولة مراجعة المراتب، وتفكيك التراتبية الرسمية، وضرب منظومة القيم المفروضة من أعلى، ما تمثل في الاعتداء على ممثلي السلطة وإهانتهم، مثلما حدث مع أعضاء مجلس الشعب ورئيسه أنور السادات الذين تحدث معهم الطلاب المنتدبين من المتظاهرين لتقديم مطالبهم، بلغة حملت تجاوزًا لفظيًّا وجرأة عليهم. وكذلك محافظ الإسكندرية الذي احتجزه الطلاب عندما ذهب للتفاوض معهم، وأخذوه رهينة، حتى يتم الإفراج عن زملائهم المعتقلين، ولم يطلقوا سراحه إلا بعد استجابة السلطات لطلبهم، وبعد أن انهار المحافظ واستجدى الشفقة

 كثيرة هي تمثلات الحركة، العملية والرمزية، التي توضح أهدافها وطبيعتها. أما بالنسبة لأسباب القضاء عليها، فمنها حالة المجال السياسي حينذاك، حيث كان خاليًا من أية تنظيم مستقل يستطيع ربط الحركة برؤية محددة للمستقبل، أو يحاول الحفاظ على حجم الزخم الذي خلخل أركان النظام، فقد كانت القوى الرئيسية في حالة تفكك، سواء جماعة الإخوان المسلمين التي استقر معظم أعضائها في السجون والمنافي، أو التنظيمات الشيوعية التي تنازلت عن استقلالها السياسي والأيديولوجي عام 1965 واندمجت في النظام، ونظريًّا كان كثير من الماركسيين يعتبر أن الأهم هو  القضية الوطنية أما الديمقراطية فقد نظروا إليها باعتبارها تناقضًا ثانويًّا مع النظام. أي أنه لم يكن هناك تنظيم، ولم تخلق الحركة إطارها السياسي التنظيمي الخاص الذي يعبر عنها. ومن بين الأسباب أيضًا اعتماد السلطة القمع كوسيلة أساسية لإنهاء الموقف، ومنحها نفسها مشروعية أخلاقية ووطنية لسحق المعارضين، وباعتبارهم طلبة فقط، غير واعين بالظروف التي تمر بها البلاد استُخدموا في مؤامرة وقفت وراءها عناصر «الثورة المضادة» والعدو (إسرائيل)، واستهدفت ضرب الجبهة الداخلية، التي تعين على السلطة حمايتها بقمع هؤلاء، كما يتعين أن يلتزم الناس مكانهم القديم، كرهًا أو طواعية. وقد فعلوا، لكن بشكل مؤقت.

  خلاصة القول إن تمرد 1968، كان حركة شعبية عبرت عن رفض المجتمع ذلك الإطار الذي سكن داخله في وضع المُستبعَد متلقي الانتصارات والهزائم، الصامت، بالقوة الغشوم أو بالاسترضاء الفوقي من السلطة. وكان الرفض وإرادة التعبير نتاج حالة إدراك جمعي بأن ذلك الوضع هو المسئول الأول عن كبرى الهزائم التي تجرع الجميع مرارتها.