ثقافات
هشام أصلانحكاية الكتاب الأول
2021.04.01
حكاية الكتاب الأول
(١)
المكتبة المفروشة على جدران الحجرة الأربعة، والممتدة من الأرض حتى السقف، لم تغوني. هناك حاجز بيني وبين الكتب. يندهش أبي من شعوري الدائم بالفراغ على الرغم من وجود ما يعتبره كنزًا. وأفهم تدريجيًّا أن دهشته هذه، بل ربما هذه العلاقة القدرية على بعضها، هي نفسها الحاجز. من هنا اكتفيت بصُحبة أعداد مجلة العربي الصغير، أو «روايات مصرية للجيب»، وهي صُحبة ليست غريبة على أبناء هذه المرحلة العمرية، لكنها غريبة على من تربوا في بيت من بيوت المثقفين، حيث نشأة مفترض أن تساهم في وعي أكثر، وعمق مختلف.
هكذا ينتابني الخجل أحيانًا عند الحديث عن أولى قراءاتي الحقيقية، حيث كتاب سأعرف بعد سنوات أن أبناء مهنة الثقافة يعتبرونه خفيفًا يقترب من كتابات التنمية البشرية، لا يلبي طموح من ينتظر الانبهار بنشأة تختلف عن نشأة العاديين. لذا، قد يحتاج الواحد إلى حكاية تبدو مثيرة يتكئ عليها، ربما تصلح مبررًا معقولاً للاعتزاز بهذه القراءة الأولى.
(٢)
كنت في العشرين، أو تجاوزتها بشهور، بينما لم أُصدق محدثتي عندما قالت إنها «فلانة»؛ الفنانة الشابة المشهورة. تعرفت عليها في إحدى غرف الدردشة، قبل اختراع فيسبوك أو حتى ماسنجر الهوت ميل. مراهقو التسعينيات يعرفون هذه الغرف جيدًا. قضينا فيها ليالٍ كلفت الأهل فواتير فلكية لهاتف المنزل المُتصل بالإنترنت، نبحث عن التعارف المُنفتح والسعادة. لكن النجمات لا يدخلن غرف الدردشة. قلت إنها غالبًا «اشتغالة» لطيفة، حتى تحدثتْ عن أبيها الروحي، وكان موسيقارًا كبيرًا، وعن آلة موسيقية هي من قلائل يعرفن العزف عليها في مصر، وألقت على كلمات أغنيتها المقبلة، موضحة أنها من أشعار سيد حجاب. وكنت أعرف شيئًا عن هذه الأسماء بحكم النشأة. تأكدت أكثر عندما طلبت مني مشاهدتها في حلقة تلفزيونية سجلتها قبل أيام، وتطابق ما قالت إنها سجلتْه مع ما شاهدتُه.
(٣)
أول أيام العمل في المطبخ الرئيسي لسيمراميس، جاؤوا لي بصفيحة كبيرة مليئة بالزيتون، وطلبوا أن أبدأ إخلاء الزيتون من بذوره، واحدة تلو الأخرى.
الحرج منعني من ترك العمل في أول أيامه. كنت قد التحقت بأكثر من مهنة في هذا المجال، وفي كل مرة أجد مبررًا معقولاً لتركها. وأعود لأبي لائمًا إياه على عدم استغلال علاقاته، بوصفه شخصية عامة في هذا البلد، ومساعدتي في الالتحاق بعمل لائق. علاقتنا تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. أراه مقصرًا ويراني مُدللاً لا أصلح لشيء جيد.
في اليوم الخامس انتفض الطهاة كبيرًا وصغيرًا؛ رئيس المطابخ يمر. توقف عندي وسألني مستاءً عن لحيتي التي نبتت، وطلب أن أنزل لحلاقتها في الحمام وأعود لاستكمال العمل. خرجت من المطبخ الكبير ولم أعد إليه ثانية.
(٤)
حدثتها عن فيلم «نوتينج هيل». قالت إنها فكرت فيه بالفعل، وتلك العلاقة التي تورطت فيها نجمة هوليوودية كبيرة مع بائع كتب بسيط.
مكالمات صباحية يتخللها غناء على خفيف. عرفت عني الكثير. وكيف أنني، في تلك المرحلة العمرية، لا أعرف ما أريد فعله في الدنيا. حكيت لها عن اطمئناني إلى أن المستقبل يخبئ شيئًا معقولاً. كنت متأكدًا أن الأمر لن ينتهي بي في أحد مطابخ الخمس نجوم، ذلك أنني كنت قد أنهيت، للتو، دراستي في «سياحة وفنادق»، وإن كنت لا أبذل أي مجهود لمعرفة شيء عن هذا المستقبل أو التقرب إليه.
حافظتُ على رغبتها في أن تبقى الصداقة سرية، مع ذلك اختفت فجأة كما ظهرت، لكنني لم أندهش. تفهمت القلق من العلاقة المفاجئة غير المتكافئة. قبل أن تختفي نصحتني بقراءة ما أعتبره كتابي الأول، بقراءة عبر مصدر ليس له علاقة بمكتبة أبي، ونصيحة لم أتلقها بحساسية الوصاية من كاتب كبير يشعر بخيبة الأمل في دماغ ابنه البكري، ويخشى عليه من الضياع على نواصي الشوارع في إمبابة. لم يكن الكتاب، طبًعا، أهم ما قرأت، ربما هو الأكثر خفة، لكنه كان بداية جيدة وإن تأخرت. رغم الخفة، كانت لنصيحتها معنى في ذلك الوقت: «ساحر الصحراء.. إنت بالذات لازم تقرا الكتاب ده».
(٥)
«عندك كتاب اسمه ساحر الصحراء بتاع مؤلف اسمه باولو كويلهو؟»، سألت أبي محاولاً إبداء عدم المبالغة في الاهتمام.
قال: «موجود طبعًا، ده مترجمه عمك بهاء طاهر».
أخذت الكتاب وذهبت أفكر في البساطة التي قال بها «عمك بهاء طاهر»، يراودني الاندهاش من هذا الأب الذي يعرف أشخاصًا مهمين ولا يسعى في تحسين مستقبل ابنه.
(٦)
«الكنز الحقيقي في الرحلة»، تلك حكمة الرواية التي سأكتشف بعد قليل مدى رواجها تحت عنوان «السيميائي»، وحكاية الشاب الأندلسي سانتياجو، الذي حلم بكنز ينتظره عند صحراء الأهرامات، وفي رحلة الوصول لكنزه تأتيه إشارات الطبيعة وما وراءها، لتنبهه إلى استطاعته التغلب على ما يقابله من عقبات، ونصيحة «السيميائي»، التي داعبت خيال عشرات الألوف من القراء بأكثر من ٦٠ لغة تُرجمت إليها الرواية: «إذا رغبت في شيء، فإن العالم كله يطاوعك لتحقيق رغبتك»، وتلك الاتكالية المُريحة، والثقة في استطاعتك تحقيق أسطورتك الذاتية، فقط لو أنك آمنت بالعلامات.
في تلك الأيام، لم يكن تعبير «البيست سيلر» قد انتشر. ولم أكن وعيت بعد على كلام المثقفين حول الكتابة بوصفها احتياجًا لطرح سؤالك الإنسان، وأن التسلية المجردة متعة لحظية لا تقيم كاتبًا كبيرًا. في تلك الأيام، أيضًا، لم نكن وعينا على مصطلح التنمية البشرية، وعلاقتها بقصص النجاح الأسطورية التي يتلونها على مندوبي المبيعات المبتدئين في محاولات إقناعهم بحقيقة وجود لحظة سيتحول الواحد منهم بسببها إلى أغنى رجل في العالم لو آمن بما يعمل.
كان طبيعيًّا بالنسبة لخريج السياحة والفنادق المستاء من تفصيص الزيتون عن بذوره، أن ينبهر بكتاب يخاطب حلمه في حياة يحبها ستأتي من دون مجهود. لطالما فكرت في اليوم الذي سيعرف أبي خطأ عبارته المُحببة: «ابقى تعالى تف على قبري لو فلحت في حاجة». كانت كل المُعطيات تدعم فكرته. بعد سنوات، سأكون فهمت أن ما أحبه توارى خلف لاوعي يستبعد أن الكتابة والقراءة، في أي من أشكالهما، ستكون طريقًا. أنت الذي قررت أن تكون أهلاويًّا كي لا تكون مثله، كيف تفكر أن تصير كاتبًا؟ بعد سنوات أخرى، ستأتي الإجابة في إدراك سريع يتناقض مع تأخر وعيك بما تريد. نعم، المسألة احتياج. ربما تنجح أو تفشل، ولكن لا مفر من أن تحاول، أو تعيش بشعور المضطهدين، وأصحاب الحظ السيئ.