سجالات

أحمد حسن

خطاب مناهضة التطبيع.. رؤية جديـدة

2021.04.01

خطاب مناهضة التطبيع.. رؤية جديـدة

رفض التطبيع، تلك الجملة القوية والبسيطة في آن معا، التي تقف في تحدي وكأنها استراتيجية كاملة، ماذا تعني، وكيف تمارس، وهل تمثل وسيلة مقاومة تقاس وفقًا لكل ظرف على حده أم أنها مبدأ له شكل واحد وحيد بنفس الدرجة لا يحاد عنه؟

إثر إعلان السادات مبادرته للسلام مع الكيان الصهيوني تشكلت في مصر لجنة من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين تحت اسم (لجنة الدفاع عن الثقافة القومية) التي رأت أن مصر سوف تتعرض لما يشبه غزو ثقافي إسرائيلي يهدف إلى تذويب ثقافتها القومية. كان هدف اللجنة رغم وضوحه وبساطته مضطربًا ومشوشًا، فلا أحد يعرف بالضبط ما الثقافة القومية التي يجب الدفاع عنها! أو كيف يتم الدفاع عن ثقافة ما. قدمت في بيانها التأسيسي هذا التعريف للثقافة:

«منذ الثورة العرابية وإلى اليوم، قامت كل ثقافة مصر الحديثة على منطلقات فكرية وطنية وتحررية معادية للاستعمار الأجنبي والتبعية الاقتصادية وعلى هذا الأساس انطلق وارتكز كل ما أبدعه العقل المصري والوجدان المصري واليد المصرية في مجالات العلوم الإنسانية والتطبيقية والفنون والآداب والخبرة والتصنيع والتقدم الفني، ومن هذا الأساس استمدت الثقافة المصرية العربية مغزاها ومعناها وهويتها، واستلهمت وألهمت الشخصية المصرية نفس الهوية". وهو تعريف يتسم بعمومية وتجريد مدهشين، وأقرب إلى إسقاط رغبة وليس مقاربة لماهية وتشكيل الثقافة المصرية بمكوناتها المتناقضة.

 دعت تلك اللجنة الى بداية ما عرف بالمقاطعة أو برفض التطبيع، على ضوء ظرف جديد في مجرى الصراع العربي الصهيوني، والمقاطعة الشاملة لكل أشكال التبادل الثقافي والعلمي والتربوي مع العدو الصهيوني، وضرورة إلغاء القوانين المقيدة للحريات الفكرية، والدعوة لتشكيل هيئة للدفاع عن الثقافة الوطنية .

وتضمن ذلك فكرة مقاطعة المؤتمرات التي يشارك فيها طرف إسرائيلي، وكذا الكتب والأفلام وما شابه وجميع أشكال النشاط الثقافي أو البحثي. لم يكن هناك بالطبع أفقًا ظاهرًا للتطبيع الاقتصادي حينذاك واقتصرت هكذا أولى خطوات المقاطعة العربية بعد مبادرة السادات على الجانب الثقافي والأكاديمي فحسب.

تحرك قطار التسوية والتطبيع الى أراضٍ جديدة؛ كالمجال الاقتصادي والمشاريع المشتركة بين قطاعات من الرأسمالية المصرية، وبشكل خاص صناعة النسيج إضافة إلى غيرها من الصناعات، وبوجه عام كل نشاط يندرج في اتفاقية الكويز ومزاياها الاقتصادية. وعلى الرغم من موقف النقابات المهنية المصرية من رفض التطبيع فإن نقابات مثل المحامين وغيرها شهدت تطبيعًا بصورة أو أخرى من بين أعضائها ولم تكن مواقفها رادعة في مواجهة الأعضاء المطبعين.

على المستوى الرسمي وصل التطبيع إلى أعلى مستوياته، وساعدت هزيمة الثورة المصرية في تصاعد وتيرته إلى حد التعاون الأمني والعسكري بين سلطات الكيان الاستعماري والسلطات المصرية، بل وتنفيذ القوات الصهيونية عمليات على أراضي سيناء المصرية بالتنسيق مع الحكومة المصرية.

على المستوى الشعبي وجد التطبيع مناخًا أقل تحديا له، فمع استمرار الموقف الرافض للتطبيع إلا أن وتيرته خفتت عن العقدين السابقين، وحتى التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية صار أقل اهتمامًا وأكثر تكيفًا مع حالات القمع الصهيوني فلم تعد تقض مضجعه مثلما حدث في مطلع الألفية على سبيل المثال، أو عندما اغتيل الطفل محمد الدرة. تكرار العنف الاستعماري على مدى زمني طويل خلق حالة من التكيف والتعايش مع وجوده دون تذمر أو احتجاجات.

من المؤكد أن القبضات الأمنية المشددة التي تلت ثورات ما عرف بالربيع العربي لعبت دورًا في كبح التفاعل الشعبي مع القضية الأكثر فلسطينية، ومن جهة أخرى الانشغالات الداخلية والتردي الاقتصادي جعل الشعوب أكثر انكفاءً على همومها إلى ومية وتحصيل رزقها.

دعونا نلاحظ ما يلي:

تجرأ السادات على إطلاق مبادرته للصلح مع الكيان الاستعماري عقب هزيمة الانتفاضة المصرية في ١٩٧٧. حيث كانت الجماهير تحت تأثير الهزيمة واشتداد القبضة الأمنية وتوحش السلطة.

الأمر يتكرر على نحو ما عقب هزيمة انتفاضات الربيع العربي أو الالتفاف عليها بصورة أو أخرى، ولكن على نطاق أعرض تلك المرة ليشمل عدة دول عربية في بضعة شهور لا غير.

ثمة ارتباط وثيق بين حالة التطبيع والحالة الجماهيرية (نشطة أم خاملة) وحالة السلطة وأجواء القمع. يمكن أيضًا استدعاء برهان آخر، الفارق بين التصدي للجناح الصهيوني في ١٩٨١ وما حققه من دوي ونجاح، وحالة عدم المبالاة التي شهدها إقامة نفس الجناح في المعرض في ١٩٨٢. الفرق يكمن في حملة السادات الأمنية الواسعة ضد كل تيارات المعارضة في سبتمبر ١٩٨١ وآثارها. 

قضية عدم التطبيع وما ارتبط بها من دعوات المقاطعة مثلت مناخًا ملائمًا لبروباجندا وطنية عامة يهيمن عليها القوميون والإسلاميون، اختلطت فيها المواقف القومية الوطنية مع التعصب القومي ونظرات الاستعلاء الشوفيني، والسياسي التحرري بالديني والعرقي. أهم صور الخلط كانت الخلط بين إلى هود (أيا كانت جنسيتهم) والصهاينة، الخلط بين حملة الجنسية الإسرائيلية، التي يحملها جزء من الفلسطينيين (عرب ٤٨) ومنهم مناضلون ضد الكيان الصهيوني وهم غير مستعمرين، بل أصحاب أرض وأصحاب وطن تحت الاحتلال، وغيرهم من الصهاينة المحتلين.

لم تشهد دعوات المقاطعة أو ما سمي بمقاومة التطبيع أسلوبًا أو وسيلة ذات طابع يساري، ظلت تحت هيمنة القوميين والإسلاميين وبدرجة أقل الكنيسة المصرية التي منعت أتباعها من الحج إلى القدس تحت حكم الاحتلال.

ثمة مفارقة ذات دلالة تتعلق برفض التطبيع ونقده في مصر، وهي أن الأمر برمته مر بمحاكمات قضائية تناولت الاتفاقية، الأولى هي دعوى مثيرة أقامها محام متملق للسلطة عام ١٩٧٩ أمام محكمة الإسماعيلية الابتدائية، ضد الحكومة المصرية، طلب فيها الحكم بـ (صحة ونفاذ اتفاقية السلام)، والأكثر إثارة هو ما قام به قضاة تلك المحكمة التي حكمت بصحة ونفاذ الاتفاقية في نفس يوم الجلسة، حين زار السادات الإسماعيلية في نفس الأسبوع طلبوا مقابلته وقدموا له الحكم، وأخبروه أنها صارت نهائية وحازت قوة المقضي.

كان السادات قد طرح استفتاء على الاتفاقية في أبريل ١٩٧٩ تضمن حبس من يهاجم الاتفاقية وحرمانه من الحقوق السياسية. قدمت المباحث بعد ذلك مذكرة ضد أحمد ناصر المحامي الوفدي المعارض لأنه دأب على مهاجمة الاتفاقية في الاجتماعات العامة طالبة محاكمته، وبالفعل عرض أحمد ناصر أمام محكمة جنح الجيزة بتلك التهمة وأمام المحكمة طعن ناصر بعدم دستورية القانون كونه يحاكم المواطنين على آرائهم وحكمت له المحكمة بالبراءة وبحقه في إبداء رأيه في المعاهدة. وبذلك قطعت عليه طريق الطعن الدستوري في هذا التشريع.

إلا أن الطعن بعدم الدستورية جاء عندما رفضت لجنة الأحزاب طلب النائب كمال أحمد إنشاء حزب لأن برنامجه تضمن رفضًا للمعاهدة التي أقرها الشعب في الاستفتاء، وبالفعل حكمت المحكمة الدستورية لكمال أحمد وألغت نصوص التجريم. (انظر موسوعة التطبيع والمطبعون - من ١٩٧٩ الى ٢٠١١. محمد سيد أحمد وآخرون). 

مر ما يقارب نصف قرن على مبادرة السادات، خلال تلك الحقبة جرت مياه كثيرة تحت جسر التطبيع. اتسعت رقعة التطبيع ومرشحة للمزيد من الاتساع في السنوات القادمة، العديد من دول الجوار أو المواجهة أو حتى غير الجوار عدلت مواقفها الرسمية من التطبيع كثيرًا (انظر دول الخليج والمغرب العربي والسودان وغيرهم). وعلى عكس المقاطعة تمثل حالة أفخاي أدرعي على السوسيشال ميديا مؤشرًا مهمًا على استعداد للتساهل تجاه درجة أو أخرى من التطبيع، كالسفر إلى الكيان الصهيوني من شباب عربي مسلم أو قبطي للعمل أو الزواج، والأكثر غرابة وإدهاشًا هو وجود فلسطينيين ينضمون إلى جيش الدفاع الاستعماري ويشاركون في عمليات عسكرية ضد مواطنيهم. حتى الإخوان المسلمين الذين اشتهروا بأناشيد الجهاد وشعارات مناصرة القدس والأقصى بالسلاح عندما صاروا في مقاعد الحكم دخلوا على الفور في التطبيع الرسمي والدبلوماسي. إن تصور ثبات موقف ما في جميع الظروف هو تصور خاطئ تمامًا، فالشعوب مثلها مثل الأفراد تتباين وتتفاوت مواقفها وفقًا للظروف التي تمر بها، فرغم ماكينات الدعاية الجبارة والتعبئة الشعبية والعربية الواسعة طوال حقبة الستينيات وأغلب السبعينيات ضد الكيان الصهيوني باعتباره عدوًا تاريخيًّا للعرب والمصريين إلا أن الجماهير المصرية رحبت فعلاً بمبادرة السادات منتظرة وعود السلام في الرخاء، كما قدمها النظام، بل ومرت حقبة رددت فيها دعاية الصهاينة والجزء الأكثر انحطاطًا من أن الفلسطينيين هم من باع أرضهم ولا يجب علينا خوض معارك من أجلهم.

يجب الاعتراف بالواقع، ولا يعني ذلك الاتفاق معه أو مسايرته، السنوات القادمة تسير لصالح عملية التطبيع، مشاعر الإحباط التي نتجت عن هزيمة انتفاضات الربيع، تجرأ الأنظمة على تخطى الخطوط الحمراء السابقة مستفيدة من ظرف الثورات المضادة وهزائم الشعوب داخليًّا والوضع الاقتصادي بالغ السوء يمهد نوعًا ما الأرض لقطار التطبيع لكسب مساحات جديدة.

يضرب الباحث سعيد يقين في رسالته المعنونة (التطبيع بين المفهوم والممارسة، حالة التطبيع العربي الإسرائيلي) الصادرة عن كلية الدراسات العليا - جامعة بيرزيت - فلسطين. ٢٠٠٢ عدة أمثلة حول حالات تطبيع بين دول متعادية وحتى استعمارية ومستعمراتها السابقة. كما يشير إلى (تحولات الفكر السياسي العربي من الرفض المطلق إلى الاعتراف المطلق بإسرائيل)، الذي أفضى في مساره إلى تغيير منظمة التحرير الوطنية لميثاقها الوطني. لا شك أن حالة الاستعمار الصهيوني مختلفة نوعيًّا كونها تسعى ولا تزال إلى إقصاء شعب من أرضه وإحلال أغراب عنصريين مسلحين محله في امتلاك وإدارة البلاد. ولكن لا يمنع ذلك من وضع خبرات نضال ومقاطعات الشعوب لمستعمريها أو أعدائها موضع الدرس والاستفادة منها.

المفارقة هي ذلك التوتر الذي شعره الباحث، بين موقفه المبدئي لرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، والرصد الموضوعي للتطورات التي تعمل في اتجاه التطبيع على أكثر من صعيد.

ما نود التوقف عنده هو الأشكال التي أخذها التطبيع والتطورات التي مرت بها، ثم السؤال الخاص بتفاعلنا نحن مع قضية التطبيع دون تخلٍ عن الموقف المبدئي، وأيضًا دون استبدال رؤية الواقع الموضوع وتطوراته بالشعارات والخطابة الرنانة التي لا تستند إلا لرغبات وتصورات أصحابها.

يجب الإشارة الى ان كل من المقاطعة وعدم التطبيع هم أساليب ضغط متفاوتة الشدة على نظام استعماري مدعوم عسكريًّا واقتصاديًّا من القوى الإمبريالية وهو ما يعطيه قدرة نسبية في مواجهة ضغوط المقاطعة، على الأقل اقتصاديا، وعلى العكس استطاع بمساعدة أمريكا توسيع رقعة نشاطه الاقتصادي وتقليص عدد المقاطعين مقابل عدد المتعاونين. أما المقاطعة السياسية والثقافية وما شابه فهي الوسيلة التي يمكن أن تحقق نتائج رمزية أفضل حتى الآن. رمزية فحسب وتدرجها المنظمات الحقوقية ضمن المقاومة (اللا عنفية) وتسعى لجعلها وسيلة النضال الرئيسي وإحلالها محل المقاومة المسلحة.

يجب أيضًا تحرير عملية رفض التطبيع - وما يصاحبها من أشكال مقاطعة - من التعصب القومي ومن الخلط بين اليهودية واليهود من جهة، والصهيونية وممثليها من جهة أخرى، علينا أن نجرد الصهاينة من الغطاء الديني، أن نظهرهم كاستعمار عسكري عنصري لا أكثر، أن نجردهم من الأكاذيب والادعاءات، وأن ننفتح على الثقافة اليهودية وحتى على اللغة اليهودية وآدابها ونعزل الصهاينة أكثر فأكثر عن أسلحتهم الرمزية واساطيرهم. كل خلط أو تعصب يصب مباشرة في مصلحة الكيان الصهيوني، يعطيه أقنعة وجذور مصطنعة وغطاء رمزي بل وجمهور يهودي ليس صهيونيًّا بالضرورة. 

بوصفها ظاهرة مرتبطة بتوترات دولية وإقليمية اجتذبت قضية التطبيع اهتمام الدراسات السياسية والأكاديمية وصدرت عدة كتب تؤرخ للظاهرة وترصد التطبيع والمطبعون وتطور مسار التطبيع سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي. من بين ما كتب حول التطبيع يهمنا هنا تلك المبادئ العملية والمعايير التي وضعتها (الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل) وهي لجنة فرعية ضمن (اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل BDS) وتشكل المقاطعة لديها نشاطا يوميا بكل تعقيداته.

تشير الحملة إلى: كوننا شعباً يخضع لنظام احتلال واستعمار-استيطاني وفصل عنصري (أبارتهايد)، لا بد بداهة من مواءمة هذه المبادئ العامة مع خصوصية وضعنا دون المساس بجوهرها.

بإيجاز فإن للفلسطينيين ظروفًا خاصة لا تنطبق على غيرهم، ومن ثم ما يلائمهم من أشكال ليس بالضروري ما يلائم غيرهم.

(٣) لا نرى أي مشكلة في وضع معايير مقاطعة محددة للتطبيق في الوطن العربي تختلف عن تلك المطبقة عالمياً، إذ أن الجمهور الواقع تحت الاضطهاد (وأشقاءه) يختلف عن الجمهور المساند أو الداعم لمقاومة هذا الاضطهاد في العالم.

وضحت وثيقة «تعريف التطبيع» الصادرة عن الحملة في ٢٢/١١/٢٠٠٧ التطبيع بالتالي:

«التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصًا للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفرادًا كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية. ويستثنى من ذلك المنتديات والمحافل الدولية التي تعقد خارج الوطن العربي، كالمؤتمرات أو المهرجانات أو المعارض التي يشترك فيها إسرائيليون إلى جانب مشاركين دوليين، ولا تهدف إلى جمع الفلسطينيين أو العرب بالإسرائيليين، بالإضافة إلى المناظرات العامة. كما تستثنى من ذلك حالات الطوارئ القصوى المتعلقة بالحفاظ على الحياة البشرية، كانتشار وباء أو حدوث كارثة طبيعية أو بيئية تستوجب التعاون الفلسطيني-الإسرائيلي".

ثمة نقاط تتسم بالدقة في ذلك التعريف يجب إبرازها.

١ - أن يكون الهدف من اللقاء أو النشاط هو الجمع بين طرف فلسطيني /أو عربي وطرف إسرائيلي. وأن يسير اللقاء أو النشاط بصورة عادية دون إشارة الى جرائم الاحتلال أو حقوق الفلسطينيين أو حق العودة.

٢ - استثناء حالات الضرورة والقسر وحالات الكوارث الإنسانية من قيود وشروط عملية المقاطعة، فيجوز جدًا التعاون مع طرف صهيوني لمواجهة انتشار وباء مثلاً. ويجوز أيضًا تعاطي الأبحاث العلمية الخاصة بحالات الضرورة القصوى وحضور الندوات والمؤتمرات العلمية المتعلقة بذلك.

٣ - المحافل والمؤتمرات الدولية الغير معدة خصيصًا لجمع إسرائيليين وعرب ولكنها مقامة لأغراض عامة أخرى.

٤ - المناظرات في محافل دولية التي تتيح للطرف الفلسطيني/العربي فضح الممارسات الصهيونية العنصرية.

٥ - المشاركة في معارض الكتب والمهرجانات الفنية مع الدعوة الى مقاطعة الجناح أو العرض الإسرائيلي إلا لو كان يفضح بوضوح ممارسات الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين. 

تميز الحملة أيضًا بين الأفراد الإسرائيليين المشاركون في أنشطة ما ليس كممثلين للدولة الصهيونية ولكن بصفتهم المهنية أو الفنية.

(المستهدف بالمقاطعة هنا هو الطرف الإسرائيلي كممثل عن بلده، لا كفرد فنان أو أكاديمي أو مثقف، والفرق بين الاثنين كبير)، وهذا لا يعني فقط ألا يكون ممثلاً رسميًّا لمشاركة الكيان الصهيوني، بل لا يتم تقديمه أيضًا كمشارك من إسرائيل. فإن اقتصرت مشاركته على تقديم فنه أو حتى علمه باعتباره فنانًا أو عالمًا، لا تعد المشاركة هنا تطبيعيه أو ترويجية للصهاينة أو للتصالح مع وجودهم الاستعماري أو دولتهم.

المعيار هكذا يبدو أكثر وضوحًا.. التطبيع هو ذلك النشاط الذي يقدم إسرائيل بممثلين عنها ويخفي جرائمها أو يتحاشى الكلام عنها. أما ذلك النشاط الذي لا تشارك فيه دولة الكيان الصهيوني أو مؤسسة من مؤسساتها أو هيئة أو فرد ينوب عنها - أو يقدم باعتباره ممثلاً لها ولو رمزيًّا. فلا يعد نشاطًا تطبيعيًّا إلا لو كان المشارك معروف بدعايته الصهيونية أو مواقفه العدائية للفلسطينيين والعرب أو دعمه للدولة الصهيونية وجرائمها، وكانت مشاركته امتدادا لتلك المواقف.

لم تقف الحملة موقف الرافض لفيلم «في رام الله» الذي شارك به المخرج زياد دويري في مهرجان «أيام سينمائية"، وهو مخرج معروف بتطبيعه مع الكيان الصهيوني، قالت الحملة في بيانها حول الموقف من الفيلم ما يلي:

«إن عرض فيلم (غير تطبيعي) لمخرج يستمر في الترويج للتطبيع لا يخضع للمعايير الحالية للمقاطعة وبالتالي لا تعتبر أن المهرجان يخالف المعايير. لذا، لم تطالب الحملة المهرجان بإلغاء العرض". وهو تمييز بالغ الدقة والحساسية. بل تذهب الحملة الى ما هو ابعد، ترك الباب مفتوحا أمام من تورط بقصد أو دون قصد في التطبيع، للعودة عن موقفه والرجوع إلى موقع الرافض للكيان أو ممارسته الاجرامية ورفض التطبيع معه. ومن ثم فهي ترفض عمل ما يسمي قوائم سوداء لغير المؤسسات الصهيونية وممثليها أو التطبيع المؤسسي بشكل خاص.

(٤) ترفض حملة المقاطعة قطعياً فكرة «القائمة السوداء» و"الاختبارات السياسية» لتحديد من يقاطَع ومن لا يقاطَع. من هذا المنطلق، رفضنا المقاطعة الفردية وأصرينا على المقاطعة المؤسساتية. ولكن في السياق الفلسطيني والعربي، نرفض أي علاقة مع أي جهة إسرائيلية إذا كانت العلاقة خارج سياق مقاومة الاحتلال والاضطهاد، أي المجال الطبيعي الوحيد الذي يمكن أن يجمع بين مضطهِد ومضطهَد. ونحن لا نرى أي تناقض في هذا الموقف.

نحاول الآن أن نستخلص بعض النتائج الرئيسية:

رفض التطبيع ليس سوى وسيلة ضمن وسائل أخرى لمواجهة الصهيونية وجرائمها ومحاصرتها. وكأي وسيلة نضاليه يجب أن يخضع في التطبيق للمتغيرات السياسية من ظرف إلى ظرف ومن مكان إلى مكان. ويجب لتحقيق قدر من النجاح أن يكون طوعيًّا وتوافقيًّا كي يتسم بالقدرة على التعبئة، وألا يطرح مهام صعبة للغاية مثل مقاطعة العمال لشركات الكويز في ظروف تتسم بقلة فرص العمل.

ليس ضروريًّا أن تشمل المقاطعة كل شيء في كل وقت، عادة لا تنجح مثل تلك المقاطعة، يجب التركيز على أمور محددة يمكن تحقيق نجاح فيها ولها بدائل أخرى. يجب الإشارة إلى أن المقاطعة التي قادها غاندي كانت فقط ضد الملح الإنجليزي لا غير.

لا يجب منع أي نشاط تطبيعي على أراضي عربية بواسطة القوة، المقاطعة بطبيعتها ليس عملاً عنيفًا لكنه عمل رمزي يسعى لتحقيق كسب دعائي وحصار العدو معنويًّا وبدرجة ما اقتصاديًّا. يكفي شن حملات التوعية، تنظيم احتجاجات، محاولة إقناع الجمهور والمشاركين بخطورة التطبيع وتحويل الفرصة لنشر دعاية واسعة ضد الصهيونية وجرائمها.

من الغباء الخلط بين نظام يقبل التطبيع والشعوب نفسها بل والمؤسسات التي ترفض التورط في التطبيع. يجب حصر مواجهة التطبيع في النظام وفي المطبعيين المباشرين وليس في مخدوميهم أو موظفيهم أو باقي كتابهم وجمهورهم. بل وأكثر من ذلك - حصر موقف المقاطعة على الأعمال التي تعد تطبيعًا في ذاتها وليس لمجرد أن القائم بها سبق له أن مارس التطبيع أو شجع عليه.

السنوات القادمة صعبه لا شك، سنوات سلطات قامت على أنقاض ثورات خدعت أو هزمت، وجماهير تشعر بالإحباط وانكفأت على همومها إلى ومية، وأنظمة تسارع بسفور واحد تلو الأخرى إلى التطبيع مع العدو والمشاركة في تذويب قضية التحرر، ونخب سياسية مفككة وتشهد درجة ضعف غير مسبوقة تقريبًا.

نحن بحاجة إلى وضع الخطب الرنانة جانبًا لبعض الوقت وإجراء سجال حول التطورات وآثارها، وسبلنا ودرجة مرونتها وما يجب تطويره فيها وإلا حكمنا على أنفسنا بالعزلة بدلاً من أن نحاصر عدونا والمطبعين معه.