مراجعات

مصطفى هشام

رأسمالية الديون: أو كيف يعمل النظام الاقتصادي العالمي؟ عرض كتاب: الدَين.. الخمسة آلاف سنة الأولى

2019.06.01

رأسمالية الديون: أو كيف يعمل النظام الاقتصادي العالمي؟ عرض كتاب: الدَين.. الخمسة آلاف سنة الأولى

المؤلف: ديفيد جريبر

ترجمة: أحمد زكي

الناشر: المركز القومي للترجمة، 2019

"لكل سؤال دقيق ومُعقَّد إجابة واحدة بسيطة ومستقيمة بشكل تام، وهي إجابة خاطئة"

H.L.Mencken

 خلال الحياة اليومية يُقابل الإنسان أسئلة تبدو للوهلة الأولى كما لو كانت عديمة الجدوى ولا تستحق التفكير، وتكون الإجابة شديدة البداهة ومُتكررة عند القطاع الأكبر من الناس، لكن بمزيد من التفكير يتضح أن هذه أسئلة مُعقدة للغاية ولا يمُكن إجابتها في جزء من الثانية؛ هذا النوع من الإجابة الجاهزة هو ما ُيطلق عليه «الحس المشترك common sense».

السؤال هنا هو «لماذا على الإنسان أن يفي بديونه؟» ويُمكننا حصر أغلب الإجابات في حدود الالتزام الأخلاقي أو أخلاق الواجب أو المسؤولية الأخلاقية.. إلخ، وتطرح بشكل مستمر إجابات أخلاقية على سؤال الدَّين حتى ولو بُني عليها الكثير من الأفعال الشائنة؛ على سبيل المثال؛ في منطقة شرق الهيملايا، هناك فئة دُنيا من السكان يدعون بالمنبوذين، تعيش بشكل مباشر على الدَّين، ولكي تقرضهم الفئات العُليا، يرهن الرجل الفقير ابنه، أو ابنته ضامنًا لإقراض النقود، على أن تذهب ابنته إلى مالك القرض وتصبح خليلته لعدة أشهر، وعندما يمل منها يُرسلها إلى أحد الأكواخ الخشبية لتعمل مومسًا لسداد دين والدها، قد يبدو هذا الموقف وحشيًّا بالنسبة لنا، إلا أنه يُقبَل بشكل طبيعي وعادي جدا بالنسبة للمجتمع المحلي، لأن سداد دين المرء واجب أخلاقي على كل الأحوال!

كيف يُمكن أن نقبل بمثل هذه الفروض؟ وكيف تقبل بها المجتمعات؟ علينا طرح عددًا من الأسئلة الأخرى، مثل «ما الدَّين؟ ولماذا نسأل عنه؟ وإن كانت الأخلاق تدعم الدَّين كما سبق أن قُلنا فكيف تفعل ذلك لتتحول إلى حسٍّ مشترك؟».

ثلاثة أسئلة على الطريق الصحيح:

يخبرنا ديفيد جريبر: الأنثروبولوجي الأمريكي، في كتابه الموسوعي المترجم حديثًا «الدين: قصة الخمسة آلاف سنة الأولى» أن المقصود بالدَّين هو التزام بسداد مقدار معين من المال تم أخذه من شخصٍ ما، وهو يختلف عن أي التزام معنوي في نقطة مفصلية واحدة، هي أنه في حالة المدين لشخصٍ ما بفضل أو حتى مدين بحياته، فعلى المدين أن يُسدد دينه للشخص نفسه لا لأحد غيره، الأمر المُعاكس في حالة الدَّين النقدي؛ الذي يُسدد المَدين دينه المُحدد بدقة لأي شخصٍ آخر بالنيابة عن الدائن، إذ ينقلب تصور الوفاء للآخر صاحب الفضل إلى علاقة غير شخصانية باردة تتحدث بلغة الصفقات، فما يعانيه الإنسان أمام الدَّين يصبح بلا قيمة أمام مؤسسة أو شخص ما يتم السداد له بالنيابة.

أما لماذا نتحدث بخصوص الديون، فيخبرنا جريبر، أن الدَّين هو الوسيلة التي يعمل من خلالها الاقتصاد؛ فالأنظمة الاقتصادية كلها عملت بهذه الكيفية من الائتمان للنقود، بل وحتى المقايضة، فكي يحصل الإنسان على خدمة أو سلعة ما يجب عليه أن يوفي قيمتها لشخص آخر، وحتى يجد وسيلة تحمل المعيار نفسه من القيمة (وهي العملية الأصعب على مدار التاريخ) فهو مدين بشكلٍ أو بآخر. 

والسبب الأهم في قضية الدَّين هو الرغبة المتوحشة التي تعمل بها البنوك العالمية وشركات المعاملات البنكية في إغراق الدول الفقيرة في الديون وفوائد الديون، وهي التي يتم الوفاء بها عن طريق اختطاف الطعام من أفواه الأطفال الجوعى؛ فالمدين الحقيقي ليس قادة الأنظمة الديكتاتورية في العالم الثالث وحاشيتهم إنما الفئة الأدنى دائمًا.

الأساطير المؤسسة للاقتصاد الرأسمالي

يذهب جريبر إلى أن الحس المشترك يُشكِّل إجاباتنا الأخلاقية حول قبول فعل أو رفضه، عن طريق الاعتماد على الأسطورة؛ فالأسطورة هنا ليست كذبة بشكل كامل، لكنها قصة تاريخية النشأة ولا تاريخية السياق، وتعمل دخل الدائرة المُجتمعية الواحدة بشكل بنائي لأداء وظيفة مُعينة، وليست لها أي قيمة أنطولوجية، ويمكن للأسطورة أن ترتحل من مكان لآخر وتستمر في أداء الفاعلية ذاتها.

تتواتر العديد من القصص الأسطورية الهندوسية من العصور الوسطى الأصل فحواها أن المَدين الذي لن يُسدد دينه سوف يُبعث من جديد في حياة أخرى كعبد يخدم في منزل دائنه، أو كحصان أو ثور في حظيرته، الأمر نفسه يتكرر في البوذية حول انتقام الكارما من المدين، بل أحيانًا من الدائن الجشع الذي يُبالغ في فرض ضريبة على الدين، ويمُكننا أن نجد تلك النوعية من القصص خلال كل التجمعات البشرية التي سكنت في مكانٍ ما هنا أو هناك.

لم تتوقف تلك الأساطير عن العمل بمجرد انتقالنا إلى العصر الحديث، لكنها تحوَّلت وأخذت شكلاً أكثر عقلانية، ونذكر هنا أسطورتين شكَّلتا وجهين لعملة واحدة وتلك العملة هي الاقتصاد الرأسمالي المعاصر.

أسطورة المقايضة 

تقريبًا لا يوجد كتاب واحد من كتب الاقتصاد التعليمية إلا ويحوي القصة نفسها عن نشأة النقود، والكل يعرف كيف استُبدل نظام المُقايضة الذي يتطلب شرطًا صعب بالتحقق وهو «التزامن المزدوج للرغباتdouble coincidence of wants» ويعني أنك لو أردت بيضًا ولديك حذاء فلا بد أن تجد شخص ما يريد مبادلتك البيض مقابل ما لديك، الحذاء، والذي ربما لن يكون في حاجة إليه، وبزيادة التجمع السكاني وتعقد الحاجات الإنسانية ستصبح الأمور أكثر صعوبة، وهنا ظهرت الحاجة إلى النقود بوصفها وسيلة أسهل للتبادل والمحاسبة واحتواء القيمة، فتاريخ الاقتصاد العالمي يسري تطورًا من المقايضة إلى النقود وحتى الائتمان.

اخترع آدم سميث هذه القصة، وهو وريث المدرسة الليبرالية الإنجليزية لجون لوك وديفيد هيوم سنة 1776، وفي الحقيقة هو لم يخترعها من العدم، فقد اقتراح أرسطو 330 قبل الميلاد في أطروحته المبهمة عن السياسة بأن العائلات كانت قد اعتمدت على نفسها في إنتاج كل شيء ومع زيادة التخصص بدأت الحاجة إلى النقود لتسهيل التعاملات.

لكن آدم سميث طوَّر القصة ووسعها؛ فقصته تبدأ من قرية خيالية في مكانٍ ما، حيث في قبيلة من الصيادين يصنع شخص الأقواس والسهام، ويُبادل منتجاته مع أقرانه في مقابل لحم الأبقار أو الغزلان من ثم يُقرر أن طريقته تلك تجلب له من اللحم أكثر مما كان لو أصبح صيادًا فيبدأ في تكريس نفسه لوظيفته، وهكذا الحداد والنجار ودباغ الجلود، وعند بداية حدوث تقسيم العمل فقد واجهت قوة التبادل تلك الكثير من المعوقات، مثل زيادة منتج ما؛ مثلاً من الجلود أو الشعير لا يحتاجه أحد، لذلك بدأ الجميع في الاعتماد على سلعة واحدة يحتاجها كل فرد وتخزينها، ومن هُنا ظهرت أول عُملة، ونتيجة للتجارة البعيدة أصبحت هناك حاجة للاعتماد على المعادن الثمينة لتصبح هي العُملة.

القصة لا تُكذبها فقط الفجوة الزمنية بين صناعة الأقواس والسهام، ثم الانتقال إلى عصر الحوانيت والتجارة الخارجية مباشرة، لكن تكذبها كل الأدلة الأنثروبولوجية التي لدينا عن تلك العصور، تقول كارولين همفري من جامعة كمبردج في عملها الأنثروبولوجي المُميز «لم يحدث قط وصف لنموذج نقي وبسيط لاقتصاد المُقايضة. دع جانبًا نشأة النقود من بين أحشائه، حيث تفترض كل الإثنوجرافية الوصفية أنه لم يوجد قط مثل هذا الأمر».

ما تقوله الدراسات الأنثروبولوجية التي تناولها جريبر في مؤلفه، أن كل علاقات المقايضة كانت تتم تقنيًّا بين مجموعة من الغرباء لا داخل الجماعة الواحدة كما في قصة سميث؛ فالمعاملات التجارية بين الجماعات المتجاورة والمنفصلة في منطقة ما كانت تقوم على «ألعاب احتفالية»، ففي غرب استراليا حيث يعيش شعب «الجونوينجو» تتم المقايضة في طقوس احتفالية مسماة بالدزامالاج عن طريق الرقص والموسيقى وممارسة الجنس مع نساء الفخذ الآخر من القبيلة، ويوجد أمر مماثل عند سكان البرازيل الأصليين «النامبيكوارا» وبطقوس وولائم مماثلة، وأما داخل الجماعة السكانية الواحدة فالمعاملات كانت تتم عن طريق الائتمان.

كانت المعاملات الاقتصادية تتم داخل الجماعة الواحدة كما يخبرنا الدرس الإثنوجرافي من خلال ما يُعرف باقتصاد «الهبة»، وكان ذلك النوع من الاقتصاد يقوم على تثبيت معيار معين للقيمة يتم التبادل من خلاله دون الاعتماد على التزامن المزدوج للرغبات، وهذه هي النشأة الصحيحة للنقود وليس كما تخبرنا كتب الاقتصاد.

فمع ترجمة النصوص الأولى من الكتابات المسمارية عن حضارة ما بين النهرين 3500 قبل الميلاد، نكتشف نظامًا محاسبيًّا يقوم على مزيج من الائتمان والنقود، فقد أنشأ الكهنة والموظفون وبيروقراطيو المعابد نظامًا لحساب الديون من خلال الفضة، إذ يعمل الموظفون والحرفيون ويتلقون أجرهم بما يعادل معيارًا من الفضة، فقد عادل 1 شيكل فضي (وهي قضبان غشيمة غير مشغولة) مكيالاً واحدًا من الشعير، وعلى أساس ذلك تلقى الناس رواتبهم بأي شيء آخر إلا الفضة، التي ظلت قابعة في القصور والمعابد وتحت الحراسة لآلاف السنين دون أن يتعامل أحد من خلالها فعليًّا، بحيث تصبح الأسعار بالفضة ويتعامل الناس بالشعير أو الماعز أو أحجار اللازورد، وأحيانًا من خلال فتح حساب يتم تسديده فترة الحصاد وتوفر الشعير في حالة لم يكن متوفرًا.

ونتيجة لذلك يقول ديفيد جريبر «في الواقع، روايتنا المعيارية لتاريخ النقود هي بالتحديد نظرة إلى الخلف، نحن لم نبدأ بالمقايضة، فقد اكتشفنا النقود وطورنا نظامًا للائتمان. ما حدث بالدقة كان العكس تمامًا من الرواية».

لكن إن كانت الأمور هكذا كما يخبرنا الأنثروبولوجيون، فمن أين جاءت فكرة المقايضة إن لم تكن واقعًا تاريخيًّا؟ ولماذا الإصرار على استخدامها في الروايات الرسمية وهي غير حقيقية بالمرة؟ وكيف انتشرت؟

كانت المقايضة المنتشرة في العصور الوسطى كما تخبرنا بذلك السجلات التاريخية نظامًا بديلاً لاختفاء النقود وعدم تداولها، أي اختفاء المعيار الذي يقوم عليه النظام الائتماني، وكان نظام شارلمان الاقتصادي يقوم على عملة الجنيهات والشلنات والبنسات، وعلى الرغم من أن شارلمان لم يسك قط تلك العملات إلا أنها ظلت مستمرة في العمل لأكثر من 350 سنة حتى حكم هنري الثاني وتفككت إمبراطورية شارلمان تمامًا، إلا أن النظام تحول إلى المقايضة لسبب واحد وهو اختفاء تلك الإمبراطورية وعدم وجود ضامن للمعيار، الأمر نفسه حدث بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية والكارولينجية (إمبراطورية الفرنجة وهي العالم الأخير للعصور الوسطى)، والخلاصة أن نظام المقايضة كان يُعمل به من خلال مجموعة من الناس ألفوا التعامل بالنقود، لكنهم تحولوا إليها بسبب اختفاء النقود أو تفكك الإمبراطوريات، فهي فكرة حديثة جدًا ولا تعود إلى القبائل والشعوب البدائية كما تخيَّل آدم سميث مخطئًا.

أما الإصرار عليها فكما قلنا سابقًا عن الأساطير فالغرض كان وظيفيًّا فقط، فآدم سميث بوصفه مفكرًا تنويريًّا ومعاصرًا لأفكار نيوتن، كان يريد تأسيس علم اقتصاد مستقل تمامًا يعمل بقوانينه الخاصة بمعزل عن الارتباط بالتصورات الدينية، والأخلاقية، وحتى الحياة السياسية، وتعمل في الوقت ذاته منفصلة عن كل الأشكال الإنسانية عن الحرب والعبودية والتقاليد والجنس وغيره، أي أن يصبح الاقتصاد علمًا موضوعيًّا، وتصبح المعاملات الاقتصادية موضوعية أيضًا بلا أي تدخلات، حتى لو من قِبل الدولة، وهي الأسباب نفسها التي تدفع الاقتصاديين حاليًا للمحافظة على تلك القصة، بالإضافة إلى سبب محوري آخر وهو ارتباط النقود تاريخيًا بالدَّين.

أما الطريقة الوحيدة لانتشار تلك الرواية كانت الاستعمار، وهو وحده الذي حولها إلى حسٍّ مشترك بين شعوب العالم ليس فقط في مركزه الاقتصادي، فقد جلب المُبشرون والاستعماريون كتاب «ثروة الأمم» معهم في حملاتهم، على أمل أن يجدوا تلك الأرض الخيالية، لكنهم وجدوا الكثير من الأنظمة الاقتصادية الأخرى، وهي التي شجعتهم على المزيد من الحملات لسلب الثروات ومراكمة الرساميل، وتشجيع شعوب المستعمَرات على تبنِّي الرواية التنويرية حول المقايضة، وأن المُستعمرين فقط من خلصوهم من ذلك النظام الاقتصادي والسياسي البدائي.

الدَّين الأبدي وأسطورة السوق الحر

مع اندلاع الثورة الفرنسية 1789 ونهاية القرن الثامن العشر، انتهت عصور الائتمان والنقود التخيلية التي عمل بها الاقتصاد حتى وقتها، وبدأ عصر نشأة البنوك الناجحة والدول القومية التي يمكنها أن تعمل كضامن للعملات، ولم تعد النقود كما في العصور السابقة، قطعة من الجلود أو جذوع أشجار أو حتى قطع مشغولة من الذهب أو الفضة، لكنها أصبحت ورقة دَيْن، فورقة البنكنوت هي وعد من الضامن بأن يُعيد إلى مالكها مقدارها ذهبًا أو فضة مقابل تلك الورقة، في السابق كان من الممكن لشخص ما أن يدين لآخر مقابل سلعة حصل ويعطيه ورقة دين، وتدور ورقة الدين بين عدد من الجيران القريبين، حتى يعود فيطالب أحدهم صاحب الدين الأصلي بتسوية دينه اعتمادًا فقط على مصداقية الشخص ومدى شهرته، لكن المُختلف الآن هو زيادة وتعقد أنظمة السُلطة والإنتاج بشكل يلزم معه ضرورة وجود ضامن ما لورقة الدَّين، وهنا تظهر الدولة القومية بوصفها الضامن الوحيد لرد قيمة الدَّين اسميًا.

في عام 1694 قام اتحاد مالي لمجموعة من رجال المصارف الإنجليز بإقراض الملك ما قيمته مليون و200 ألف جنيه استرليني، وفي المقابل يتسلم الاتحاد المالي احتكارًا ملكيًّا لإصدار أوراق البنكنوت؛ أي أنهم امتلكوا حق إصدار الأوراق المالية، صكوك الدين، مقابل ما يدين به الملك، وهي الصفقة الأكثر ربحًا في تاريخ البنوك؛ فهم يفرضون على الملك فائدة  8 %سنويًّا من أصل قيمة الدَّين، ويفرضون فائدة على من يقرضونهم من العملاء، ومن ثم يتضخم الدَّين وتزداد العملة، لكن المعضلة هنا تكمن في رد الدين، فلو فرضنا أن الملك رد ذلك الدَّين بالفوائد لانتهت العملة تمامًا، وحتى الآن لم يُرد الدَّين ولن يُرد.

وهذه هي الاستراتيجية الناجحة لبنك إنجلترا التي أثنى عليها آدم سميث، فبالنسبة له كان وجود الدولة ضروريًّا فقط لضمان العملة واستمرارها في التداول دون التدخل في السوق، فبالنسبة له الأسواق أكثر قدمًا واستقلالية حتى قبل أن تنشأ الدول والبنوك، وهذه هي الأسطورة الأخرى التي فترضها بسبب أسطورة المقايضة نفسه.

يدافع الاقتصاديون الحاليون عن موقف آدم سميث بضرورة حرية السوق واستقلالها عن التأثر بالدولة بدعوى أسبقية السوق نفسه، لكن في الحقيقة لم تكن الأمور تسري بتلك الكيفية، أحد أهم الأسباب في نشأة السوق كانت الدولة وبشكل غير مباشر عن طريق «الضرائب».

كانت مدغشقر قبل الاحتلال الفرنسي 1901 منطقة سكانية لا يوجد بها دولة حديثة، ومن ثم لا توجد بها أسواق أو عملات بنكية وتميل إلى المحافظة على تقاليد اجتماعية تعود إلى آلاف السنين، مع قدوم الجنرال جالياني الذي فرض ضريبة على كل رأس من السكان بعملة الفرنك المالاجاشي الصادر حديثًا؛ أي أنه طبع النقود ثم طالب كل فرد في البلاد أن يقوم برد نسبة منها، ولكي يدفع السكان تلك الضريبة بعد وقت الحصاد كان عليهم أن يقوموا ببيع حصة من محاصيلهم للتجار الصينيين والهنود، لكن لأن أسعار الأرز التي يدفع مقابلها هؤلاء التجار كانت قليلة، اضطر السكان بدلاً من الوقوع في الديون إلى إيجاد نوع من المحاصيل النقدية كالأناناس والبُن لبيعها ودفع الضريبة أو حتى إرسال أبنائهم للعمل في المدينة أو المزارع التي أنشأها الاستعمار، وبتوافر أنواع جديدة من السلع وزيادة عدد العاملين في حوانيت المدينة، توفرت مع الوقت أعداد كبيرة من البضائع الاستهلاكية وتنوعت الأذواق والعادات بحيث فتحت سوق جديدة يمكنها أن تظل مرتبطة بفرنسا حتى بعد جلاء المُستعمر، يحدث أمر مشابه في حالة مشاريع الحرب، فلكي تمول دولة أو مملكة ما جيش كبير من الرجال، كان لزامًا أن تزودهم بالقوت والمعدات، وبفرض ضريبة على السكان لصالح الجنود، كان لزامًا على السكان العمل في مشاريع المجهود العام لتزويد هؤلاء الجنود بكل ما يحتاجونه لأجل استعادة النقود المُقتطعة كضرائب، وهكذا تنشأ الأسواق كأثر جانبي.

بالتأكيد نعلم جميعًا أن الضرائب هي النقود التي ندفعها للدولة مُقابلاً للخدمات التي تزودنا بها، من الحماية العسكرية وهي ربما الخدمة الوحيدة اتي أمكن للدول الحديثة المُبكرة أن تزودنا بها وحتى التعليم، ويصبح توفير الدولة لتلك الخدمات أمر ضروري نتيجة لعقد اجتماعي من نوع ما تأسست عليه، لكن إن كانت الأسواق أسبق من الدول كما يقول سميث والليبراليون، فما الذي يُرغمنا على دفع الضرائب إن كان بالإمكان أن نحصل على جميع الخدمات والسلع من السوق نفسه؟

وهنا تأتي أسطورة الدَّين الأصلي لتبرير ضرورة الضرائب، إذ كتب عالم الاجتماع الألماني جيفري إنجهام أن «الدَّين الأصلي، هو الدَّين الذي يمتلكه الأحياء من أجل الاستمرار وبقاء المجتمع الذي يؤمن وجودهم الفردي» فبشكل ما كلنا نحمل قدرًا من الدَّين أو الذنب الأصلي تجاه المجتمع/ الإله وعلينا تسديده أو كما يقول أوجست كونت «كلنا ولدنا مدينين للمجتمع» وهي الفكرة التي رددها المصلحون الاجتماعيون فانتشرت وأصبحت حسًّا مشتركًا، وعليه قام الاقتصاديون المعاصرون باختيار نصوص من الفيدا وغيرها من النصوص المقدسة لتبرير الدَّين الأصلي نحو الدولة؛ بالدَّين الذي يدينه الإنسان إلى الإله، وعليه أن يفدي به نفسه على هيئة أضحية أو صَدقة.

وعلى الرغم افتقاد الفيدا وغيرها لأي سياق تاريخي، إلا أنا التاريخ يخبرنا صراحة أن العالم القديم عادة لم يدفع فيه المواطنون الأحرار ضرائب، وإنما تفرض الإتاوات على السكان الذين يقهرهم الغزاة، الأمر نفسه في روما حيث لا يفرض على المواطنون أية ضرائب؛ بل يشاركون في غنائم الحروب أحيانًا. 

ما يرمي إليه الحديث عن الدين، والهدف من كتاب جريبر، هو الحديث عن الأساطير المؤسسة للاقتصاد والمبررة للديون، سواء بتوضيح أنها لغرض اجتماعي أو إلهي، أو حتى بإخفائها عن الأعين كالمعاملات البنكية، يوضح لنا أن سؤال الدين أكثر تعقيدًا مما نتخيل، ويكشف لنا الكثير من الأساطير المؤسسة لتفكيرنا المعاصر حول علاقتنا ببضعنا أو بالعالم، وكيف أن الاعتماد على تلك الأساطير لن يؤدي فقط إلى تبعات تبرير الديون المتوحشة والتي يحرسها الدائنون، لكن أيضًا إلى كل الأزمات الاقتصادية التالية والسابقة، فاقتصاد يعمل على قروضه الداخلية بالتأكيد لن يعلم موضع الأزمة حتى بعد أن ينهار.