مراجعات
خالد يوسفرأسمالية المراقبة لوغاريتمات التحول بين المواطن والزبون والمادة الخام
2019.06.01
رأسمالية المراقبة لوغاريتمات التحول بين المواطن والزبون والمادة الخام
المؤلف: شوشانا زوبوف
الناشر: PublicAffairs. 2016
"في حقيقة الأمر رأسمالية المراقبة تنظر إلينا كمادة خام، كمصدر مفتوح مضمون لاستمرار خط منتجاتها، إنهم يطلقون علينا لفظ مستخدمين، ولكننا في الحقيقة نحن من يستخدمون، إنهم يقولون إنها خدمة مجانية، ولكننا نحن الذين يتم تقديمنا لهم مجانًا"
شوشانا زوبوف من كاتبها «رأسمالية المراقبة: الصراع من أجل المستقبل البشري في ظل الحدود الجديدة للسلطة»
«سيلفي اليوم هو بصمتك الجينية المستقبلية»
جملة مكتوبة على ملصق ورقي أسفل قطعة فنية من تصميم الفنان آدم هارفي في المتحف الجديد للفن الحديث في مانهاتن بنيويورك.
في عام 2002، لا شيء يعادل تلك الموسيقى الصادرة من مؤخرة «الكيسة» أو صندوق الكومبيوتر الحامل لمكوناته التي تم تجميعها وفقًا لخبرات مهندسي محلات عين شمس للخدمات التقنية، التكنولوجيا الفقيرة في أبسط حالاتها، موسيقى «المودِم»، التي ربما تحوي مجموعة منتقاة من النوتات المُنفِّرة، لكنها السبيل الوحيد للخروج من سطوة ما تقرره لي مجلة الشباب وملصقاتها القبيحة، واختيارات حمدية حمدي المحدودة في «العالم يغني». أو جشع ملوك سراديب الكوربة لنسخ الشرائط النادرة.
توقف صفير الموديم بالنسبة لشاب قاهري في مقتبل العشرينيات هي حالة عبور رمزية من الشطر الشرقي للمدينة إلى شطرها الغربي، نجمها الساطع هو الضوء البرتقالي المتقطع الصادر من مؤخرة الصندوق إلى جانب المودم، دليلاً رقميًّا على سريان جلوكوز افتراضي، قادر على إذابة التصلبات اليومية التي تتركها القاهرة في النفوس.
الضوء البرتقالي المتقطع كان إشارة بدء لاستخدام برنامج «نابستر» (آنذاك)، أفضل وسيلة أناركية قدمها مصممها شون باركر إلى الجيل بأكمله، لتحميل الموسيقى والأغاني والألبومات من أجهزة مجهولين آخرين، يتملكهم السخط والضجر من قضاء شهور، وربما سنوات في الحصول على مصنفهم السمعي المطلوب (كاتب هذه السطور قضى 4 سنوات كاملة حتى قام بتجميع أغاني ألبوم Who’s Next لفريق The Who من خلال 6 محطات إذاعية أجنبية مختلفة). نابستر كان أول علاقة سمحت بفهم حقيقية موقع أبناء جيلي كمواطن وكزبون وكمستهلك، ثم بعد ذلك كمادة خام طبقًا للمتخصصين في علوم الاتصال.
في الموقع الأول، مواطن يتحكم في اختياراته موظف في الرقابة على المصنفات غير مدرك لأهمية 75٪ من الإنتاج الموسيقي العالمي الذي لا يدخل مصر أصلاً، ثم الزبون في الموقع الثاني، والذي يتحكم فيه «سوق الكاسيت والسي دي آنذاك» يعلم أفضل منك «ما الذي يجب أن تسمعه»، «أو ضرورة استماعك لما يستمع إليه الآخرون»، ومن المهم الإشارة إلى أن هذا يعني الإذعان لعشرات الإصدارات لفريق جيبسي كينجز الرديئة، أو لما تحدده الأغلبية في السوق المحلي، وهو مزاج محدد بثلاثة أسماء (منها مايكل جاكسون بطبيعة الحال). إضافة إلى الإذعان لما تقرره تلك الشركات لما يجب أن تستمع إليه من المنتج نفسه (كان من المعتاد حتى نهاية التسعينيات أن يحذف زمن نصف أغاني الألبوم لتحصل على ثلث الجودة بسعر أعلى، والتلاعب في صوت النصف الآخر لتقليل تكلفة الهندسة الصوتية. بدا الأمر وكأنها حلقة دراسية في منافع أو تطبيقات الرأسمالية المصرية (وفقًا لما تم ذكره في فيلم رمضان فوق البركان).
ثنائية «المواطن/ الزبون»
نابستر كان الخطوة المطلوبة لإيقاظ سوق صناعة الموسيقى العالمي، ليس فقط لفضاءات جديدة في أنماط الاستهلاك، ولكنها كانت خطوة مطلوبة لإيقاظ ميكانيزمات تلك الصناعة من سباتها، ومن هشاشتها، وجشعها الخاص. شون باركر تفهم تلك الفكرة الطوباوية لصنع مجتمع افتراضي بديل، يمكن لأفراده اقتسام مكتبتهم الموسيقية على أقراصهم الصلبة، وجعلها مكتبة واحدة، بملايين الاحتمالات والخبرات، منها على سبيل المثال الحصول على تسجيلات بروفات فريق Radiohead الخاصة بألبومهم الجديد والعديد من التسجيلات النادرة من الاستديو، والتي لها جماليتها الخاصة، التي كانت تعتبر نوعًا من الخيال الجامح لـ(مواطن/زبون) لم يستطع حتى الحصول على النسخة الرسمية من أي منتج فني لفريق Radiohead لأنه غير موجود أو معترف به في السوق المصري من الأساس.
نابستر كان خطوة راديكالية في ترسيخ موقعي الثالث كمستخدم، من خلال كسر حلقة الوسطاء التقليديين بين الزبون والمنتج، وهو ما أفزع جميع الأطراف في صناعة الموسيقى، وذلك في مقابل التنازل عن بعض الخصوصية إزاء محتويات قرصك الصلب (ثمن بخس وفكرة أفزعت الأطراف التقليدية في لعبة صناعة الموسيقى في العالم ولم تنتبه لأهميتها سوى شركة أبل بعدها بعامين من خلال إنتاج جهاز Ipodومنصة Itunes المستفيد الأكبر من هدم مجتمع نابستر).
تجربة نابستر ذات الطابع الثوري بالنسبة لأحد أبناء النسخ الأولى مما يطلق عليه الصحافة الإلكترونية (وهي فترة فريدة تستحق التوثيق) أضحى استدعاؤها حتميًّا مع ما طرحه كتاب «رأسمالية المراقبة: الصراع من أجل المستقبل البشري في ظل الحدود الجديدة للسلطة» لعالمة الاجتماع شوشانا زوبوف، والذي تقدم فيه تأصيلاً، مرهقًا في أحيان كثيرة، لقواعد اللعبة الجديدة، وطبيعة تلك الوحوش التي صنعت في أعقاب التجارب الأولى لكسر حلقات الرأسمالية التقليدية، والتي قامت بها برامج مثل نابستر. وحوش بأسماء مألوفة محببة مثل جوجل، وفيسبوك، وأمازون على سبيل المثال.
المواطن المنجم
وكأن زوبوف تحاول تعقب المانيفستو غير المعلن لتلك النسخة الجديدة غير المسبوقة من الرأسمالية، والتي تعتبر الحرية (التي وفرتها نابستر مثلاً) حقولاً من الجهل حتى يتم غزوها، مستفيدة من توجه الرأسمالية الأساسي في تحويل مواد من خارج السوق إلى بضائع يمكن بيعها، وشراؤها، ونقل ملكيتها، وتدويرها، ولكن بدلاً من رأسمالية القرن التاسع عشر التي تسعى للتحكم في الطببعة وتطويعها، فرأسمالية المراقبة تعتبر تحديها الأساسي هو التحكم في الطبعة البشرية نفسها، أو ما وضعته كمصطلح في كتابها بوابةً لحداثة جديدة، ربما الأهم منذ نمط الإنتاج الشامل في مصانع فورد.
زروبوف تضع القارئ قي منتصف اللعبة منذ البداية، بإيقاظه من تلك الفكرة التقليدية السائدة حول الرٍأسمالية الحالية؛ تضعه هو موقع «السلعة»، رأسمالية المراقبة الحالية تجعل منه مصدرًا للمادة الخام فقط، والتي تتمثل في تجربته الإنسانية؛ عاداته اليومية، ومزاجه الشخصي، وشبكة علاقاته، ونمطه الاستهلاكي؛ على أن يتم تدوير تلك المادة الخام لتقديم السلعة النهائية لزبائن آخرين، سلعة «التوقعات السلوكية المستقبلية».
زوبوف تكرر في كتابها ذلك النموذج الذي يضعه مارك زوكبرج تايكون فيسبوك الشاب برغبته في صنع مجتمع طوباوي عالمي يمكننا فيه معرفة كل فيلم شاهدته، وكل أغنية سمعتها، وكل حزب قمت بالتصويت له. وعند وجودك في بلدة جديدة مثلاً، يمكننا إرشادك في المرة القادمة، للمطعم الذي سينال إعجابك، بحيث يقدم لك النادل المشروب الذي سيكون مشروبك المفضل، وتلتقي هناك بأناس يمكنك الاندماج معهم. تلك الفكرة المثالية تقوم زوبوف بتفكيكها كمصدر لميكانيزم الرأسمالية الجديدة، والتي تجعل منك منجم ليس فقط لأرباح مستقبلية واعدة، ولكن أيضًا للوصول إلى هدف أكثر طموحًا وهو البدء في القيام بعمليات تغيير سلوكي على مستوى الأفراد والمجتمعات.
«عصر رأسمالية المراقبة» يلجأ لعشرات المصطلحات الجديدة لتأكيد وجودك الجديد كمادة خام، أو منجم، مثل «استخراج الخبرات الإنسانية»، و«سلب الإرادة»، أو «خلية النحل» وهو العالم الذي يحاول فيه فيسبوك تقديم عالمه كخليه نحل، إيقاعها يفرض عليك سلوكًا معينًا بداخله، يصعب الاستغناء عنه عندما تكون خارجه؛ أن تقوم فيه بالمشاركة مع «المستخدمين» الآخرين وبشكل تلقائي في صنع «العسل» المتمثل في تجربتك الإنسانية أو الطبيعة البشرية، وهو ما يصبو إليه الزبائن الحقيقيون لفيسبوك، وهو طبقًا للكاتبة قطاع كامل يبدأ من شركات البترول، وشركات التأمين، والقطاع الصحي الخاص، والمطورين العقاريين، والسوبر ماركت في شارعك الخلفي، أو ستاربكس.
زوبوف تدرك مدى براءة المحاولات الأولى لتجارب مثل نابستر، والتي توفر تلك الحرية البدائية لسنوات الإنترنت الأولى «حياتي، بطريقتي، بالسعر الذي يناسبني». وبالتنازل فقط عما تملكه من قرصك الصلب، والآن يمتد الوضع لمعلومات كاملة عن الأدوية التي تتناولها، وآخر قياس لضغط الدم، وشركة الطيران التي أوصلتك إلى مدينتك أمس، والهدية التي قدمتها لابنك الأسبوع الماضي، وكم علبة لبن استهلكتها على مدار الشهر الماضي. كأنه حلم لم يتمكن جهاز الشتازي الشهير في ألمانيا الشرقية من صنعه (يعتقد أنه واحد من كل سبعة ألمان شرقيين كان تابعًا لذلك الجهاز)، يمكنك من خلاله أن تتحكم في التوجه الاقتصادي لمليار شخص مثل الصين، ويمكنك أن تستخدمه لجعلك هدفًا لآلاف الإعلانات كما هو الحال في الولايات المتحدة.
اقتناص الفتات
هناك ركيزتان أساسيتان تعتمد عليهما رأسمالية المراقبة وفقًا لما ذكرته زوبوف، الأولى هي إمكانية نشر تيار كامل من التوجهات، التي يمكنها تغيير سلوكيات قطاع واسع من المستخدمين «المستهلكين»، والركيزة الثانية هي إمكانية تطبيق هذا دون استيعاب او إدراك كامل من جانب هؤلاء المستخدمين، وربما بالقفز عبر هذا الإدراك من الأساس.
وتعتبر زوبوف عقود الإذعان القانوني التي تضعها جوجل مثالاً على مدى عبثية الاتفاق بين طرفي المعادلة، والتي تجعل من عملية استخراج المعلومات عن المستخدمين واحتكارها أمرًا قانونيًّا، بل إنها من خدمة محرك البحث المشهورة مجرد واجهة لما تقوم به فعليًّا جوجل منذ بداية العقد الماضي، وهي التي كانت تمتلك 150 منتجًا مرتبطًا بمحرك بحثها حتى عام 2008.
يمكن تخيل شبكة رأسمالية المراقبة التي قامت بها خدمة مثل «Street View» في خرائط جوجل، والتي ارتبطت بدايتها بأزمة جمع معلومات من شبكات الواي فاي الخاصة بسكان كل المناطق التي قامت تلك الخدمة بمسحها خلال سنواتها الأولى، وهو ما رُبط بخدمة تحديد الموقع التي توفرها الشركة أيضًا، والتي تتيح بسهولة شديدة التعرف على نوع سيارتك، والطريق الذي تسلكه يوميًّا للعمل، كي يمكنها اقتراح مطعم البيتزا الذي قد تحبه في أثناء توقفك لشراء علبة السجائر التي تستهلك منها علبتين يوميًّا، وهو الاقتراح الذي يدفع مطعم البيتزا مقابله 20 دولارًا عن كل (مستخدم /زبون).
الأهمية الحقيقية التي تضعها زوبوف لتفاصيل رأسمالية المراقبة هو النطاق الذي تعمل من خلاله، وهو أوسع نطاق عرفته البشرية، مع العلم بأن قرب 80٪ من تطبيقات الهاتف التي يستخدمها الأمريكيون تتطلب الدخول إلى البيانات الشخصية للزبون التي يحتويها الهاتف، وهو ما يعني بنسبة كبيرة إقحام خدمات جوجل في تلك المعادلة. وتقوم زوبوف بتخصيص فصل كامل من كتابها لتجربة لعبة بوكيمون جو، والتي حققت اهتمامًا عالميًّا خلال عام 2016، معتمدة على ربط اللعبة بخدمات جوجل للخرائط وتحديد المواقع، ليتكسر حاجز اللعبة الافتراضي، وتقحم في الفضاء العام للمدن والقرى، وواجهات المحال والمؤسسات التجارية، التي قامت بدفع مقابل خاص لجذب الزبائن إليها في إطار مسار اللعبة نفسها.
ولعل الجانب الأكثر إثارة في تلك التجربة كان النجاح الملحوظ والمتواصل في تغيير سلوك وميول «اللاعبين» ورغباتهم في مطاردة أهدافهم المتحركة، وكأن الحلم الطوباوي لرأسمالية المراقبة تحقق من خلال «تغيير المزاج». وكأنه صندوق كبير من صناديق السيد سكانر لتحقيق التغيير السلوكي للفئران، طبقًا لسياسات الثواب والعقاب، وهي التجارب التي يشير إليها الكتاب على نحو متكرر، مرجعًا فكريًّا غير معلن لميكانيزمات العلاقة التي رسمها لاعبو رأسمالية المراقبة وزبائنهم.
تغيير المزاج السياسي
عملية «تغيير المزاج» طبقًا لزوبوف دخلت معتركًا جديدًا بدخول رأسمالية المراقبة في صلب العملية الديموقراطية الكلاسيكية. ومثالاً تشير الكاتبة إلى حملة باراك أوباما عام 2008، التي أخذت مؤشرات وبيانات جوجل مأخذ الجد منذ البداية، إلى الحد الذي دعا مديري الحملة إلى القول بإنهم كانوا على «علم بمن سيصوت له كل قطاع تعرض للمسح من جانبنا، وذلك قبل أن يصل ذلك القطاع نفسه للقرار».
كل هذا يجعل من فضيحة كمبردج أناليتكا -المؤسسة البريطانية الاستشارية لتحليل المعلومات- أمرًا منطقيًّا، بعد تحقق ذلك الانتقال من عملية مسح المعلومات إلى عملية التأثير الممنهج على قرارات و«مزاج» الناخبين من خلال بياناتهم الشخصية. وهو الحد الذي أوضحه الكتاب في مثال بسيط، بإمكانية التوصل إلى استخراج التجارب البشرية الخاصة بمجموعة المستخدمين الذين قاموا على نحو متكرر بتغيير نوع النبيذ أو الملابس أو ماركة سجائرهم وتصنيفهم باعتبارهم «زبائن لديهم مشكلة خاصة تتعلق بالولاء»، وهو تصنيف سلوكي يمكنه أن يعني استعدادًا لتغيير التيار السياسي نفسه. لتصبح النتيجة صدمة عام 2012 الكبرى، كما حدث في استفتاء البريكست صيفًا وانتخابات الرئاسة الأمريكية خريفًا، وستزول الدهشة بمعرفة وجود نبي الشعبوية الجديدة ستيف بانون، عضوًا فاعلاً في تأسيس كمبردج آناليتكا، وكونه مستشارًا بحضور طاغٍ في حملة دونالد ترامب، إضافة إلى دوره التبشيري باستخدام منصات رأسمالية المراقبة كبطاريات شحن مهمة للشعبوية الأوروبية في المسار الديموقراطي الكلاسيكي.
تُرجع زوبوف صعود رأسمالية المراقبة المطرد في نهايات القرن الماضي ومطلع الحالي إلى ذلك الصعود الممثل للتوجهات النيوليبرالية؛ الرغبة في التحرر من أي ضوابط أو إصلاحات من طرف له طابع مركزي ضابط. ثم الاستفادة في حمى جمع المعلومات الأمنية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، والتي أسهمت في استثمار أمني واسع النطاق، أعطى لمؤسسات رأسمالية المراقبة (خاصة في وادي السليكون) حريات واسعة في مجال استخراج المعلومات وتحليل البيانات. وفي خلال ذلك السياق يمكن تفهم الصراع الضاري الذي خاضته جوجل ضد المساعي الأوروبية وتحديدًا في إسبانيا لتفعيل مبدأ «الحق في البقاء منسيًّا» من تاريخ محركات جوجل. وهو مبدأ ظلت جوجل تحارب من أجله حتى خسارتها الاحتفاظ بذلك الحق، فيما يمكنه أن يصبح «الخبز الحاف» لتلك المؤسسة.
استعارة الخبز تستعملها زوبوف في أكثر من مناسبة، مؤكدة على مصطلحها بأن رأسمالية المراقبة تعيش على الفائض السلوكي، وهو الفتات المعلوماتي الذي يتركه كل مستخدم يستخدم جوجل، والذي يمثل أهمية مضاعفة عن المعلومات المباشرة التي يتركها عن طيب خاطر. إنها معلومات تتعلق بالسلوك اليومي، الذي يستحيل على استطلاع أو استفتاء الحصول عليه بتلك الدقة.
لاس فيجاس افتراضية
«عصر رأسمالية المراقبة» يضاعف من مجهود تأصيله محاولاً البحث عن مفاهيم الإرادة الحرة في الرأسمالية التقليدية، ومفهوم الخصوصية، واكتشاف الرأسمالية للمراهقة منجمًا لأرباحها، فوكرة تعدد الاختيارات المطروحة، والاعتماد على عقد المقارنات الاجتماعية والطبقية (إنستجرام نموذجًا)، والتشابه الشديد بين سيكولوجية تصميم محلات المراهنات في لاس فيجاس وبين خريطة استخدام فيسبوك (شون باركر، مبتكر نابستر وأحد المستثمرين الأوائل في فيسبوك، أشار إلى أن واحدة من النوايا الأساسية للموقع هي إدخال جرعات متتالية من الدوبامين المكيِّف للنفس والناجم من القبول الاجتماعي والرغبة في التواصل مع الآخرين، تصل إلى حد الإدمان).
واحدة من النقاط التي أثارت قلق زوبوف في بحثها كانت مدى تعقُّد العلاقة التي تحكم «المستخدمين» بأجهزة التخاطب الافتراضي مثل إيكو وأليكسا وسيري، إضافة إلى إجهزة التليفزيون الذكية، التي بمقدورها تسجيل الحوارات اليومية للمحيطين، بكل تفاصيلها، واستخراج أكبر مجموعة من الدقائق التي تخص القرارات اليومية للأفراد، وليس للبالغين فقط. ولكن رأسمالية المراقبة تضع الأطفال زبائن محتملين، من خلال تعقد العديد من الألعاب الذكية، والتي بمقدورها جمع العديد من المعلومات عن الأمور والألوان، والمذائق، والكلمات المفضلة لهم، وهو ما تعتبره زوبوف تطورًا مقلقًا بالنسبة لإنسان في طور النمو، يواجه نمطًا جديدًا في التفكير، لا يضع حدًا فاصلاً بين تكوينه النفسي والبدني وبين السوق بكل تعقيداته.
إنها أفكار السوق التي تجعل من شريط الأخبار في فيسبوك أكبر لوحة إعلانات في العالم، ووضع زر الإعجاب أو Like تعميقًا أكبر لفكرة إدمان القبول الاجتماعي، يمكن تحليلها فيما بعد للتأثير عليها سلوكيًّا في المستقبل (كزبون أو مواطن ممارس لحقوقه السياسية التقليدية)، في استعارة اخرى تستخدمها زوبوف بأن زر الإعجاب يمثل قفاز منمق بشكل أكثر دقة ليصبح على مقاس المستخدم، يرتديه ليلبي رغباته ولكنه بالنسبة للوغارتيمات فيسبوك يصبح أكثر التصاقًا لمعرفة المزيد عنه. إنها الفكرة نفسها التي أكدها العديد من العاملين في الموقع أن هناك نحو 1000 شخص يعملون كي يحددوا لك ما الذي يجب أن تراه في شريط أخبارك، وما الذي سيعجبك، وما الذي سيجعلك تبكي».
هل تبدأ مرحلة التفكيك؟
في نهاية كتابها تضع زوبوف 3 اختلافات جوهرية بين الرأسمالية التقليدية وبين رأسمالية المراقبة، أولها ترسيخ الفكرة الضبابية عن الحرية والمعرفة غير المشروطة، وتلاشي العلاقة المباشرة العضوية بين المنتج والمستهلك، وآخرها بروز راديكالية الرداءة، والتي لا تعبأ كثيرًا بمحتوى السائل الذي يسري في شرايينها، طالما إنه يتحرك، وهي الفكرة التي عبر عنها الكتاب بأن «الاستمرارية ليست للمنتج الأفضل، ولكن للمنتج الذي يستخدمه الجميع». راديكالية الرداءة تفسح مجالاً لخطابات التمييز والكراهية والتنمر، ويصنع بداخلها مجتمعات صغيرة لها شرعيتها، وربما البيزنس الخاص بها.
الكتاب لا يطرح نظرة تشاؤمية على الرغم من حالة الحصار التي يجد القارئ نفسه فيها، ولكن يشدد على أهمية العثور على مخرج ما، لتضع زوبوف رهانها على قدرة الرأسمالية على دخول دائرة جديدة من التصحيح، كما كان الحال مع الكساد العظيم، وإدخال نظام التكافل الاجتماعي، ومواجهة الاحتكار (التي كانت ميكروسوفت أحد ضحايها خلال نهاية التسعينيات)، بل إن ذلك قد يبدأ أسرع مما يتوقعه البعض في ظل مناداة بعض أبناء نادي وادي السيلكون السابقين بضرورة وضع حد لفكرة التنقيب عن المادة الخام للتجارب البشرية.
تمامًا مثل الدعوة التي أطلقها كريس هيوز أول شركاء زوكربرج في تجربة فيسبوك عام 2004 -قبل أن ينفصل لاحقًا- مناديًا في مقال بالنيويورك تايمز بضرورة تفتيت سلطات الشركة، وتحديد نفوذها، بداية عن طريق سلب ملكية وإدارة منصات مثل إنستجرام وماسنجر منها، وهي على حد قوله حالة احتكارية تجبر المستخدمين على اللجوء لباقة من الخدمات تصب كلها في نهر الشركة تجاريًّا، إضافة إلى سياسة جمع البيانات (الداتا) المتواصلة عبر العديد من الخدمات والتطبيقات الموصولة بعضها ببعض، و كأن ما يقدمه موقع فيسبوك باليمين من خصوصية للداتا، يأخذه يسارًا عن طريق إنستجرام، في ما يشبه الدائرة المفرغة.
من ناحية أخرى، الأمر بعيد المنال، بل إن العودة لأناركية أيام نابستر الأولي أسهل، حتى لو تقدم زوكربرج وتايكونات جوجل بمبادرات لحماية فتات الداتا الخاصة بمستخدميهم، خصوصًا وأن العقيدة الخاصة برأسمالية المراقبة تبدو مطبوعة على جبين تايكوناتها، تمامًا كما عبَّر عنها أحد علماء الداتا في إحدى شركات وادي السيلكون «هدف كل ما نفعله، هو تغيير سلوك الناس على نطاق واسع، نحن نحاول فك شفرة بنية هذا التغييرات أولاً، لنتجه بعدها إلى تغيير الكيفية التي يتخذ بها الناس قراراتهم الحياتية اليومية، عندما يستخدمون تطبيقاتنا، يمكننا التقاط سلوكهم وتحديد ما هو الجيد وما هو الرديء، ثم نقوم بمعالجة عملية انتقاء العادات الجيدة، ومن ثم معرفة مدى تقبلهم للمزايا التي نقدمها، ومعرفة أي عادات وسلوكيات يمكنها تحقيق أكبر عائدات وأرباح بالنسبة لنا».