ذخائر
روزا لكسمبورجرسالة من روزا لكسمبورج إلى صوفي ليبيكنخت
2019.03.31
ترجمة : محمد عبد النبي
رسالة من روزا لكسمبورج إلى صوفي ليبيكنخت
في الخامس عشر من يناير 1919، وبناءً على أمر من القائد الاشتراكي الديمقراطي فريدريش إيبرت، اغتالت قوات الفريكوربس شبه العسكرية المناضلة الاشتراكية الثورية روزا لكسمبورج ورفيقها كارل ليبيكنخت، بعد فشل ثورة نوفمبر 1918 الألمانية. كانت روزا ورفيقها كارل قد عارضا انخراط ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ودخلا جراء ذلك في صراع مع قيادات الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني المؤيدة للحرب، انتهى بخروجهما من الحزب وتأسيسهما لعصبة سبارتاكوس، التي تحولت لاحقًا إلى الحزب الشيوعي الألماني المناهض للحرب والمتبني للاستراتيجية الثورية البلشفية. ثم عندما اندلعت انتفاضة نوفمبر وهزمت، قرر القادة الاشتراكيون الديمقراطيون سحق الثورة وقطف رؤوس زعيميها الكبار.
روزا لكسمبورج مناضلة من طراز فريد. فإلى جانب الصلابة الثورية النادرة، والقدرات النظرية الفائقة، امتلكت قلبًا مرهفًا استطاع أن يميز بين الوجهين الإنساني والبيروقراطي للاشتراكية، ما منحها القدرة على استخلاص منابع الطاقة الثورية في الحركة الجماهيرية، غير خاضعة للتشويش الشوفيني أو لترددات السياسيين نصف الثوريين.
في هذا الخطاب، الذي أرسلته السجينة معارضة الحرب روزا لكسمبورج إلى صديقتها صوفي ليبيكنخت (زوجة كارل ليبيكنخت) من سجن رونكي، تظهر بجلاء كل من صلابة ورومانسية روزا، هذه المرأة الاستثنائية التي وإن كانت تكره «اجتماعات الرفاق» وتفضل عليها مصاحبة الطبيعة، إلا أنها رغم ذلك على أتم استعداد للتضحية بحياتها من أجل الهدف الإنساني النبيل الذي كرست له حياتها كلها، بل ودفعتها كلها ثمنًا له.
... هل تذكرين كيف أنني اتصلتُ بكِ على الهاتف، في أبريل من العام الماضي، في العاشرة صباحًا، لكي تأتي فورًا إلى الحدائق النباتية وتستمعي إلى العندليب الذي كان يقدّم عرضه الموسيقي المعتاد؟ وارينا أنفسنا وسط أَجماتٍ كثيفة، وجلسنا على الصخور إلى جانب جدول ضحلٍ يسيلُ ماؤه على هِينة. وعندما توقَّف العندليب عن الغناء، انطلقت فجأةً صيحةٌ رتيبة مُترعة بالأسى والشجن بدت شيئًا مِثل «جليجليجليجليجليك»! فقلتُ إنني أعتقد أنَّها بلا شك صيحة طائرٍ من طيور المستنقعات، واتفق كارل [ليبيكنخت] معي في الرأي؛ غير أننا لم نعرف قَط أي طائرٍ كان ذلك بالتحديد. والآن لكِ أن تتخيَّلي أنني سمعتُ الصيحة ذاتها هُنا فجأةً منذ بضعة أيام في الصباح المبكر تنبعث مِن موضعٍ غير بعيدٍ بالمرَّة، واستولت عليَّ اللهفة لأن أكتشف ماذا كان ذلك الطائر، فلم أهدأ حتَّى أحطتُ به خبرًا، ولَم يكن طائر مستنقعات على الإطلاق.
إنه لَوَّاء الرَقبة(1)، طائر رمادي أكبر مِن عصفور الدوري. وقد حصل على اسمه هذا لأنه عندما يتهدده الخطر يحاول أن يخيفَ خصومه بأن يلوي رقبته في إيماءات حُوشيةٍ غريبة. إنه يقتات على النمل فقط، يجمعه بلسانه الدبق، تمامًا مثل رُتبة آكلات النمل(2). يسميه الإسبان هورميجويرو- أي عصفورالنمل. وقد كتبَ موريكه(3) بعض أبياتٍ ظريفة عن اللوَّاء، ولحنها هوجو وولف(4).
والآن وقد عرفتُ ما الطائر الذي أطلق تلك الصيحة الحزينة، فإنني في غاية السرور كما لو أنَّ شخصًا ما قدَّم لي هدية. ربما تكتبين لكارل عن هذا الأمر، سوف يسره أن يعرف.
تسألين عمَّا أقرأ. معظم الوقت أقرأ في العلوم الطبيعية؛ إنني أدرس توزيعات النباتات والحيوانات.
يومَ أمس كنتُ أقرأ عن أسباب اختفاء الطيور المغردة من ألمانيا. إن انتشار الحراجة والبستنة والزراعة العلمية، حجب تلك الطيور عن أماكن أعشاشها وعن موارد غذائها. إننا نمضي أكثر فأكثر، وبالطرائق الحديثة، في التخلص من الأشجار المجوفة ومساحات الأراضي القاحلة والأجمات الكثيفة الملتفة والأوراق المتساقطة عن الأغصان. في قلبي حُرقةٌ مِن ذلك. لم أكن أفكّر كثيرًا في مسألة خسارة البشر للمباهج، ولكن فكرة التدمير الخفي والعنيد لتلك المخلوقات الضئيلة المستضعفة أصابتني بكرب شديد، إلى درجة أنَّ عينيَّ تخضلتا بالدموع. وتذكَّرتُ كتابًا قرأتُه في زيورخ، يصف فيه البروفيسور سيبير انقراض الهنود الحُمر في أمريكا الشَمالية، الذين أبعدهم الإنسان المتحضّر تدريجيًا عن أراضي صيدهم، مِثلهم مثل الطيور تمامًا.
اعتقد أن شعوري بكل شيء بهذا العُمق يعني أنني لستُ على ما يُرام تمامًا. ومع ذلك، يبدو لي أحيانًا وكأنني لا أنتمي في حقيقة الأمر إلى النوع البشري إطلاقًا، بل كأنني طائر أو دابة، ولكن في هيئة بشرية. حتَّى وسط بقايا حديقة كتلك الموجودة هنا، وبدرجة أكبر وسط المروج عندما ينبعث طنين النحل من وسط العُشب، أشعرُ بأنني في بيتي ومطرحي تمامًا أكثر ممَّا لو كنت وسط أحد مؤتمرات حِزبنا. أستطيع أن أقول ذلك لكِ أنتِ فقط، لأن الشك لن يساورك في الحال بشأن خيانتي للاشتراكية! فأنتِ تعلمين أنني أتمنى حقًا أن أموت بينما أؤدي واجبي، في معركة بالشوارع أو في السِجن.
لكنَّ صميم شخصيتي ينتمي إلى طيور القرقف الزرقاء أكثر من انتمائه إلى الرفاق. ولا يرجع هذا إلى أنني، على شاكلة كثير للغاية من السياسيين المفلسين روحيًا، ألتمسُ في الطبيعة ملاذًا وأجدُ فيها راحة وسكينة. بل الأمر أبعد ما يكون من ذلك، ففي الطبيعة، ولدى كل منعطف، أرى نفس القسوة الهائلة التي أعاني منها أشد العَناء.
انظري مثلًا للحادث الصغير التالي، والذي لن أنساه ما حييت. في الربيع الماشي كنتُ أسيرُ عائدةً من إحدى البلدات عندما لاحظتُ، في طريق خال هادئ، بقعةً صغيرة معتمة على الأرض. وإذ انحنيتُ للأمام صرتُ شاهدةً على المأساة الصامتة. كانت خنفساء كبيرة راقدةً على ظهرها تلوّح بأقدامها في عجز، بينما احتشد حولها جَمعٌ من النمل الصغير وأخذ يلتهمها حيَّة! صعقني الذُعر، فتناولت منديلَ جيبي وبدأتُ أبعد الأوغاد الصغار عنها. كان النملُ في غاية التشبث والعناد، بحيث استغرقتُ بعض الوقت في ذلك. وعندما أفلحتُ أخيرًا في تحرير الخنفساء الضحية التعيسة وحملتها إلى مسافةٍ آمنة على العُشب، كان اثنان من أقدامها قد اقتلعا والتهما عندئذٍ... فررتُ من مسرح الجريمة وأنا أشعرُ بأنني مُنحتُ نِعمةٌ مشكوك فيها للغاية.
يمتدُّ غسقُ المساء فترةً طويلة جدًا هذه الأيام. لَكَم أحب ساعة أوَّل المغيب هذه. في الطرف الجنوبي كان لدي وفرة مِن الشحارير، أمَّا هُنا فلا نرى ولا نسمع أيًا منها. كنتُ أُطعمُ اثنين منها طوال فصل الشتاء، ولكنهما تبدَّدا كأن لم يكونا.
في الطرف الجنوبي، اعتدتُ أن أتمشَّى في الشوارع خلال هذه الساعة. لَطَالما فتنني مشهدُ مصابيح الغاز المتورّدة، التي تضئ فجأة مع رحيل آخِر شعاعٍ أرجواني من نور النهار، والتي لا تزال تبدو غريبة للغاية في نصف الضوء هذا، كما لو أنها تقريبًا تستحي من نفسها. عندئذٍ قد يرى المرء بلا جَلاء جَسدًا يتحرَّك بخفةٍ عبر الشارع، لعلَّها خادمة تُسرعُ الخطى لتبتاعَ شيئًا مِن الخبَّاز أو البقَّال قبل أن تُغلق المتاجر. اعتادَ أولاد الإسكافي، وهم أصحابي بالمناسبة، أن يواصلوا اللعب في الشارع لما بعد حلول الظلام، حتَّى يستدعيهم للدخول نداءٌ بصوتٍ عالٍ. ودائمًا ما يكون هناك شحرورٌ متأخّر عن الآخرين، ليس بوسعه أن يستقر، ولكنه مثل طفل شقي لا يتوقف عن الصراخ والنحيب، أو يستيقظ بغتةً فزعًا ليطير بضجةٍ من شجرة إلى أخرى.
مِن جانبي، كنتُ أواصل الوقوف في وسط الشارع أحصي النجوم وهي تتبدَّى وتتضح. أتلكأ في الرجوع إلى البيت، غير راغبةٍ في الابتعاد عن النسيم العليل، وعن ساعة الغَسق التي يتعانق فيها الليل والنهار ويُمسّد كلٌ منهما صاحبه في حنان.
العزيزة صونيوشا، سأكتب إليكِ مرة أخرى في القريب العاجل. وليهدأ بالكِ ويطمئن قلبك، فكل شيء سوف ينتهي على خير حال، بالنسبة لكارل أيضًا. إلى أن نلتقي في الرسالة التالية.
الهوامش:
سُمّي بذلك لأنه يستطيع أن يدير رقبته بزوايا واسعة للغاية وهو من فصيلة النقَّاريات واسمه العلمي Jynx والكلمة في اللاتينية تعني السِحر، ما يشير على الأرجح إلى حركات الرأس والرقبة وصوت الهسهسة لديه التي تشبه الثعبان والتي كانت تستخدم في السحر والشعوذة أثناء الطقوس والاحتفالات القديمة.
آكلات النمل أو دوديات اللسان رتبة تتبع الثدييات المشعرة وتتغذى بالأساس على النمل.
إدوارد موريكه شاعر ألماني رومانسي ولدَ 1804 وتوفي 1875.
هوجو وولف مؤلف موسيقي نمساوي ولد 1860 وتوفي 1903.