هوامش

أسماء يس

رغد صدام حسين: الأكاذيـب الناصعة لابنة الديكتاتور

2021.04.01

رغد صدام حسين:  الأكاذيـب الناصعة لابنة الديكتاتور

كالعادة، أثار ظهور رغد صدام حسين في لقاء تليفزيوني على قناة العربية جدلاً كبيرًا. أذيع اللقاء في ست حلقات طويلة، وحظي بمتابعة واسعة في أثناء إذاعته وبعدها أيضًا. صحيح أن رغد لا تمارس، حتى الآن، دورًا سياسيًّا معلنًا، لكنها، وباعترافها «ليست خطوة مستبعدة". وهذا الجدل السياسي الذي خلفته الحلقات له شقان؛ رسمي (رد فعل البرلمان العراقي)، وشعبي (رد فعل الشعب العراقي)؛ فقد اعترض البرلمان العراقي على هذا الظهور التليفزيوني، وطالب باستدعاء سفير الأردن؛ البلد الذي تعيش فيه رغد منذ الاحتلال الأمريكي في ٢٠٠٣. وكذلك سفير السعودية؛ صاحبة المحطة التليفزيونية التي أذاعت اللقاء. بينما استاءت شرائح عديدة من العراقيين ليس فقط من مجرد ظهورها في لقاء تليفزيوني، فهي ليست المرة الأولى؛ بل من كل الأكاذيب التي روجتها في اللقاء، ومن دلالات هذا الظهور في هذا الوقت بالذات، خصوصًا بعد مزاعم متكررة عن ضلوعها في تمويل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومنذ اللحظة الأولى فقد قدمها المذيع؛ صهيب شراير، مُقرًا بهذه الحقيقة «ضيفتي ليست شخصية سياسية.. لكنها في ظهورها، النادر.. تثير جدلاً سياسيًّا واسعًا".. وهو ما تأكد من العديد من المقالات في الصحف، وآلاف التعليقات والكومكس والهاشتاجات على كل وسائل التواصل الاجتماعي.

رغد؛ الابنة الكبرى لصدام حسين، والأكثر تأثرًا به؛ كانت من يرسل إليها الرسائل من معتقله، وتولت مهمة تكوين هيئة المحامين للدفاع عنه في أثناء سجنه وحتى الحكم بإعدامه.. ولدت في بغداد؛ ٢ سبتمبر ١٩٦٨، وتلاها أخوتها الأربع عدي وقصي ورنا وحلا. وهي كذلك أم لخمسة أبناء؛ وهج وحرير وبنان وعلي وصدام بالطبع! وكانت زوجة منذ سن الخامسة عشرة؛ ١٩٨٣، من أحد أبناء عمومتها، حسين كامل، مؤسس الحرس الجمهوري، ووزير التصنيع الحربي، الذي انقلب على والدها وفر إلى الأردن، في ١٩٩٥، محاولاً الإطاحة بصدام، لكن محاولته فشلت، وعاد إلى العراق، متصورًا ببلاهة منقطعة النظير أن صدام عفا عنه، ليقتله صدام، ويصير «شهيدًا» بنص كلامها!

ظهرت رغد صدام حسين في اللقاء أكثر شبابًا من ظهورها السابق؛ آثار عمليات التجميل بادية على وجهها؛ على شفتيها وأنفها، وعلى عينيها رموش صناعية، وشعر مصبوغ. ترتدي چاكيت أسود وبلوزة سوداء وتنورة تركواز بليسيه، وتتزين بحلي من الذهب؛ وقد علَّقت علم العراق، وعُقابًا مضموم الجناحين (رمز الجمهورية العراقية) في ياقة الچاكيت؛ وأثار هذا العُقاب الذهبي الكثير من التكهنات بشأن دلالته. وبنظرة قوية ولهجة واثقة وصوت منخفض وألفاظ منتقاة تثير السخرية المريرة، تحدثت رغد عن حنان ورقة والدها تجاه الأطفال والعجائز، وتجاه الشعب العراقي، وكأن الشعب العراقي لم يعاني أشد المعاناة خلال فترة حكمه. وصل صدام حسين إلى رأس السلطة في ١٩٧٩، بعد أن تقلد عدة مناصب في حزب البعث العربي الحاكم آنذاك، حتى وصل إلى منصب نائب رئيس الجمهورية؛ أحمد حسن البكر، ثم انقلب عليه وعزله، بعد أن أدار حملة دموية لتصفية خصومه في الحزب بتهمة الخيانة (خيانة الحزب، لا الدولة بكل تأكيد)، ليصبح الرئيس الرابع للجمهورية العراقية.. ومنذ اللحظة الأولى لحكمه دخل بالبلاد في سلسلة من الحروب المتتالية، منها حربه الطويلة مع إيران (حرب الخليج الأولى) التي استمرت من ١٩٨٠ وحتى ١٩٨٨، ولم تكد البلاد تلتقط أنفاسها بعد حمامات الدماء المراقة في حرب لا وجاهة لأسبابها على الإطلاق، حتى فاجأ صدام الجميع، سواء من يعرفونه عن قرب أو من لا يعرفونه، بغزو الكويت، في أغسطس ١٩٩٠، تحت مزاعم بأحقية العراق التاريخية في أرض الكويت، لتندلع حرب تحرير الكويت (حرب الخليج الثانية) في ١٩٩١، وتخرج البلاد من تلك الحرب إلى سنوات قاسية من الحصار الدولي، دفع الشعب العراقي ثمنها غاليًا. وفي غضون كل ذلك وحتى نهاية فترة حكمه في ٢٠٠٣، مارس صدام حسين كل أنواع القتل والقمع السياسي والاجتماعي؛ من مجازر جماعية، وحبس حريات، وتصفية للمعارضين، أو حتى من كانوا يفكرون في أن يصبحوا معارضين؛ حتى قيل إنه كان أحيانًا يخرج مسدسه الشخصي في اجتماعات الحزب ليردي أحد مساعديه قتيلاً على الفور إن تفوَّه بما لا يوافقه.

لم يكن من المنتظر، على الإطلاق، أن تخرج ابنه صدام حسين لتقول كلامًا يعجب الناس؛ والناس هنا هم من يملكون الحد الأدنى من الإنسانية، التي انتهكها والدها طول فترة حكمه، أو أن تعارض أو تنتقد مسيرة أبيها، الديكتاتور الطاغية، الذي انتهى به الحال على منصة الإعدام في ٢٠٠٦، بعد أن غزا الأمريكيون العراق بثلاث سنوات. قالت رغد، التي قَتَل أبوها زوجها، بعد الديباجة الشهيرة بأن شهادتها المجروحة، إنها تسمع من «الكثير من الناس» أن فترة حكم أبيها كانت الأفضل بلا شك، وبعدها بثوانٍ قليلة تنسى تمامًا أن شهادتها مجروحة، وتؤكد «وقتنا وقت عز كان.. والناس عايشين بعز وتقدير عال.. وما حدا يقدر يسيء إليهم..»، لتعود فستدرك بوضوح «عدا أنه من يسيء لحاله تمس خطوط السلطة يصبح التعامل بشكل آخر.. وقد يميل التعامل إلى القسوة.. لكن بشكل عام بلد مستقر.. بلد ثري بلد خيراته كثيرة".. إلخ.

من المدهش كيف يصرِّح أحد أنه فيما يزيد عن ثلاثين عامًا من الحروب و"القسوة» والحصار «كانت الناس آمنة على أولادها"! لكن هذه هي السياسة، وهو ما تبين بوضوح أكثر حين سألها المذيع عن الحرية..

حين يريد الناس المراوغة، والهروب من الإجابة على سؤال ليس له إلا إجابة واحدة، يسألون عن المعنى، وهو ما فعلته رغد حين قالت إن إجابة سؤال الحرية يعتمد على معنى الحرية «بالنسبة لحضرتك»، وكأن معنى الحرية عند المذيع قد يختلف عن معنى الحرية عند أي شخص آخر. وتكمل رغد «إذا تعني الحرية اللي جاتني بعد الاحتلال بشعار قضينا على الديكتاتورية وصارت الديموقراطية.. فأنا متأكدة أن العراقي أول من يجيبك قبلي.. ويقول لك هذه الحرية ما أريدها".. من المؤكد أن الديموقراطية ولا الحرية لم تكونا قط ضمن قاموس خطاب صدام حسين، ولا غيره من ديكتاتوري المنطقة الكُثر، ودومًا توجد مبررات واهية إجابةً على سؤال «هل على المواطن المنكوب في هذه المنطقة أن يظل إلى الأبد في فخ الاختيار بين الحرية وبين أشياء أخرى؟»، ألا يستوي أن يعيش الناس في رخاء وحرية في الوقت نفسه، بالطبع لا يستويان، لكن ابنة الديكتاتور ترى أنه ليس على الجميع أن يختار، وبشوفينية مقيتة كانت دائمًا سلاحًا في يد الطغاة، انبرت تؤكد أن العراق ليس بلدًا عاديًا، وأنه ميزان المنطقة، وأنه في موقع جغرافي متميز، وأنه البوابة الشرقية الحامية للمنطقة، حتى كادت تقول إن خرَّاط البلاد خرطه ومات! لكنها فضلت عوضًا عن ذلك أن تقول بصراحة «لما يكون رئيسك الرئيس صدام.. عليك أن تختار".

لكن لم تكن لدى الشعب العراقي طول فترة حكم صدام حسين الحرية لاختيار أي شيء نهائيًّا، حتى الاختيار البدائي بين الرخاء والقمع من جهة والحرية من جهة أخرى لم يكن مطروحًا من الأساس. لم يكن موجودًا سوى الخوف والقصف، ومع ذلك فللحرب، مثلها مثل القمع، مسوغات ومبررات، ففي أثناء الحرب مع إيران ظهر صدام على التليفزيون، متحدثًا عن أهمية أن يعرف الشعب العراقي الحقيقة، وعن الأطماع الإيرانية الشريرة في أرضه، والسيجار الكوبي في يده.. أما ابنته فتجدها تنكر أن أباها كان عاشقًا للحروب «مثلما أحيانًا أسمع»، هي إذن تسمع بهذه المعلومة «المغلوطة» التي لا ينكرها إلا ميت أو مجنون. وتؤكد أنه كان مجبرًا على اتخاذ القرار في كل مرة، لأسباب تتعلق «بمسؤوليته الأخلاقية» أمام نفسه، كرئيس لبلد مستهدف على الدوام! «بابا ما كان يحب الدم". والحقيقة أنني ابتسمت كثيرًا في أثناء استماعي لهذا اللقاء، لكن الكلام عن المسؤولية الأخلاقية، بالإضافة إلى الكلام عن الحنان والمحبة، أضحكني بصوت عال.. وأردت استعارة صوت سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت (مسؤولية، وأخلاقية؟ الاتنين؟)!

في اعتقاد الكثير من المحللين، وحتى غير المحللين، أن هذا اللقاء المطوَّل ليس للنميمة السياسية، واجترار الذكريات عن الطفولة الجميلة، والسباحة في نهر دجلة مع الأب الحنون، واللعب مع الأخوة الودعاء -الذي قتل أحدهم؛ عدي، الحارس الشخصي لأبيه في إحدى السهرات، فقرر أبوه إعدامه بعد أن خشي القضاء العراقي إصدار هذا الحكم، لكنه عدل عن قراره بعد تدخل الملك حسين بن طلال، ملك الأردن، البلد الذي رفض تسليم رغد للسلطة العراقية الجديدة لمحاكمتها. وهو كذلك ليس لقاءً للحديث عن الزوج القوي الذي تزوجته بعد قصة حب قصيرة، ورضخ لرغبتها في إتمام دراستها، وأكملتها بالفعل «كانت في الصف الثالث الإعدادي حين خُطبت لحسين كامل»، وصحبته في رحلته إلى الأردن؛ حيث أعلن من هناك انقلابه على حميه ورئيسه، معلنًا أن الإطاحة بالنظام العراقي لن يكون من الأردن، بل «من داخل العراق نفسه". ربما يكون هذا الحدث من أكثر الأحداث إثارة في حياة رغد صدام؛ فليس من السهل عليها، وهي المحبة لأبيها، أن يفاجئها زوجها بقرار كهذا على شاشة التليفزيون. وهي وفقًا لروايتها، تنكر أنها كانت على علم مسبق بخطوة حسين كامل، مع أنها خرجت معه وبصحبه أولادهما إلى الأردن، وتؤكد أنها شعرت» حينها بما هو «أكثر من الغضب، وأنها تشاجرت معه، وقررت العودة إلى بغداد وحدها، دون أولادها حتى، ودون أي محاولة لإقناع زوجها بالعودة، رهانًا على أن الزمن كفيل بأن ينسى أبوها فعلته التي لا ثمن لها إلا القتل.

حاولت رغد، لكن عبثًا، بعد مرور ثمانية عشر عامًا في المنفى، أن تقدم خطابًا دبلوماسيًّا، مقتنعًا بأن الزمان قد تغيَّر، ولكنها مع ذلك ظلت تكرر عبارات من قبيل «كنا أسياد البلد".. «كنا حكَّامًا مؤثرين".. «أبي لم يكن رجلاً عاديًا".. إلخ. لم تعتذر عن أخطائه، فهي لم تُقر بها من الأصل. وبدا أنها تمهد للمرحلة القادمة، التي ربما تكون هي أحد وجوهها البارزة، فقد أقرت أن من حقها (كمواطنة عراقية) أن تلعب دورًا سياسيًّا في أي وقت «حين أصور نفسي بهذه الطريقة مو غلط". كما كررت أكثر من مرة أنها ترفض تقسيم العراق ليس وأنه ليس واردًا في أي وقت، وهو ما يطرح سؤالاً حول إمكانية رفضها من عدمها.. أما حين سُئلت عن التدخل الإيراني في العراق وفي غيرها من البلاد، ظهر وكأنها تستعير لغة أبيها «الإيرانيون استباحوا العراق.. وصار البلد بالنسبة لهم محطًا سهلاً.. ماكو ردع حقيقي.. والدول يديرها راعيها"..

إجمالاً لا يبدو أن الزمن تغيَّر، ولا أن عهد صدام صار بائدًا حقًّا، ولا يبدو كذلك أن ابنته تعلمت من كل ما حدث شيئًا، اللهم إلا استغلال الفرصة للانقضاض من جديد.