دراسات

إعجاز أحمد

رواية العار لسلمان رشدي: الهجرة ما بعد الحديثة وتمثيل النساء

2019.03.01

مصدر الصورة : آخرون

ترجمة : ثائر ديب

رواية العار لسلمان رشدي: الهجرة ما بعد الحديثة وتمثيل النساء 

الواقعةُ البدهية في شأن تشكّل أيّ مُعتَمَد مُكَرَّس، حتى حين يتّخذ شكله في البداية كمُعْتَمَد مُكَرَّس مضاد، هي أنّ الفاعلية البانية للمُعتَمَد، حين تُحَدِّدُ الفترةَ وتُجانِسُها، أو تبني التنميط الأدبي المرغوب، تختار أنواعاً معينة من الكتّاب والنصوص والأساليب ومعايير التصنيف والحكم، وتمنحها امتيازاً على سواها مما قد ينتمي أيضاً إلى الفترة ذاتها وينشأ في فضاء الإنتاج ذاته لكنه يقع على نحو واضح خارج مبادئ الاشتمال أو الإدناء التي تعلنها تلك الفاعلية عينها؛ بعبارة أخرى، ثمّة نوع معين من السيطرة يُؤَكَّد عليه ويُقاتَل من أجله، ويُعَرَّف بدوره على أنّه الأساس والمسيطر. وتاريخ الحداثة دالٌّ بهذا الصدد. فالطليعة الحداثية ذاتها هي التي طرحت الحداثة بدايةً بوصفها نفياً شاملاً، شكلياً وفلسفياً على السواء، للواقعية المُعتَمَدة في أوروبا القرن التاسع عشر، وزعمت، علاوة على ذلك، أنَّ الواقعية ذاتها قد انهارت على نحو حاسم، وأُلْغِيَت ودُفِنَت في فترة الحداثة الرفيعة: حوالى ربع القرن السابق على عام 1940. وبدوره، فإنَّ انتصار الحداثة يُشار إليه اليوم على وجه الدقّة بواقعة أنَّ النصوص الواقعية المُنتَجَة خلال الفترة ذاتها وفي الفضاءات الأوروبية الأميركية ذاتها لا تجد الآن أيّ مكان مهمّ في المناهج الأدبية والخطابات النقدية المخصصة لتلك الفترة وذلك المكان، بصرف النظر عن عدد مثل هذه النصوص أو جدارتها أو أثرها الاجتماعي في زمنها. وتمثيلُ الحداثة المهيمن لذاتها بوصفها نقضاً كاملاً للواقعية هو ما يجعل من المستحيل أن نرى الآن كيف يسّرت آليات التمثيل التي طُوِّرَت في أوروبا القرن التاسع عشر أمورَ أنواعٍ كثيرة من السرد الحداثيّ، كسرد كافكا مثلاً.

 يبدو أنَّ هذه المكانة المعتمَدة المكرَّسة التي تحتلها الحداثة تفعل فعلها حتى بالعلاقة مع ما بات يُعرَف الآن بما بعد الحداثة. فقد جرى لاحقاً اعتماد شتّى صنوف الحركات المتميّزة خلال تلك الفترة –الصوَّرية، السريالية، الدادائية، التكعيبية، وهلمجرا- تحت عنوان الحداثة الموحَّد. ولكن ما إن انطلقت هذه المقولة بوصفها (الـ)ـــفنّ في القرن العشرين حتى لم يعد من الممكن رؤية ما أتى لاحقاً إلا بالعلاقة معها (أي أنّه لم يعد بمقدوره إلا أن يكون ما بعد الحداثة ذاتها). كما تجلّى السعيّ إلى الهيمنة، علاوةً على ذلك، في واقعة أنَّ أيّ نصّ طمح لأن تشمله مقولة «ما أتى لاحقاً» كان يجب (أ) أن يكون فيه ما يكفي من الحداثة و(ب) أن ينحرف أيضًا بما يكفي وبطريقة طليعية جديدة. وفي كلتا الحالتين، عَنَت عمليات تشكيل المُعْتَمَد أيضًا أنَّ أنواعًا معينة من الأسئلة لم يُعَد ممكنًا أن تُطرَح الآن. ولم تعُد ممكنةً قراءةُ سردٍ حداثيّ أو ما بعد حداثيّ من وجهة نظر الواقعية، على سبيل المثال، من دون أن يرتكب المرء إثم «ميتافيزيقا الحضور» الديريديّة الشهيرة. وهذا القمع أو حتى المَنْع لأنواع معينة من الأسئلة، وإبراز أخرى، هو اللفتة الأساس في بناء المُعْتَمَد المُكَرَّس.

 يبدو أنَّ إجراءاتٍ مماثلةً تمنح الامتياز لأنواع معينة من الكتّاب والنصوص والأجناس والأسئلة تجري الآن بصدد «أدب العالم الثالث». يُقال، مثلاً، إنَّ المهمة الأساس لرواية «العالم الثالث» هي أن تقدّم شكلاً مناسباً للتجربة القومية (يُفضَّل أن يكون أمثولةً، لكنه يمكن أن يكون ملحمة أيضاً، أو حكاية خرافية، أو أيّ شيء آخر). ولذلك، فإنَّ سلسلة الأسئلة التي يمكن أن تُطرَح في شأن النصوص التي هي الآن في سيرورة اعتماد ضمن هذا المعتمَد المضاد المحدَّد لا بدّ أن تشير في المقام الأول، وعلى هذا النحو أو ذاك، إلى تمثيلات الاستعمار والانتماء إلى أمّة وما بعد الاستعمار وأنماط الحكّام وسلطاتهم وضروب الفساد، وما إلى ذلك. ولا مجال لإنكار حقيقة أنَّ هذه الأسئلة هي من بين أسئلة العصر الكبرى. لكنَّ المحيِّر هو أنَّ سلسة كاملة من النصوص التي لا تطرح تلك الأسئلة المحددة بأيّ طريقة بارزة يجب عندئذٍ أن تُقصى من هذا المُعتَمَد المضاد الناشئ أو تُدفَع إلى هوامشه. والأسوأ من ذلك أنَّ سلسة كاملة من ضروب الأسئلة الأخرى –الخاصة بصنوف أخرى من التأثيرات والمواقع التجريبية، والانتماءات السياسية للكاتب، والتمثيلات الطبقية والجندرية ضمن النصّ، وما لا يحصى من مثل هذه القضايا- يجب عندئذٍ أن تُخضَع لصدارة الأسئلة المُجازَة: حول «الأمة»، وما إلى ذلك. تلك الأسئلة الأخرى هي ما سينشغل به هذا النصّ بصورة رئيسة.

أشرتُ في غير مكان إلى إفاضة النتاجات الثقافية في فضاءاتنا وتغايرها الكبيرين، سواء كانت من النوع الأرشيفي أم غير الأرشيفي، وتخطّيها الحدود النظرية لـ«أدب العالم الثالث». وأودُّ هنا أن أتناول باقتضاب كاتباً واحداً –هو سلمان رشدي- يشغل مكانة مميزة في قمّة «أدب العالم الثالث»، وكتاباً واحداً فحسب من كتبه -هو العار- سبق أن غدا من كلاسيكيات هذا المعتمَد المضاد. وسوف أحرص على أن أعلم ما الذي يحصل لقراءتنا حين نغيّر الأسئلة، بأيّ قَدْر يمكن إدراكه؟ وإلى جانب تغيير الأسئلة بعض الشيء، فإنَّ اهتمامي الأساس، إذ أقوم بهذا التمرين، ليس التوصّل إلى قراءة وافية سواء للكاتب أم للكتاب، في طبعةٍ جذريّة من طبعات قواعد النقد الجديد، بل أن أقدّم قراءة تشخيصيّة لموقعٍ أيديولوجي يمكّن رشدي من أن يشارك في اللحظة ما بعد الحداثية وفي معتمَد «أدب العالم الثالث» المضاد على حدّ سواء. إذ يبدو الآن، في أعمال الطليعة النقدية المتروبولية، أنَّ ثمة صلة متزايدة بين ما بعد الحداثة وعمليات الاعتماد والتكريس العالمثالثية. هكذا نجد، سواء نظرنا إلى نقّاد الأدب الذين قدّموا أخصب الأعمال وأشدّها أثراً حول فكرة الاختلاف الشامل بين الغرب و«العالم الثالث» أو إلى الكتّاب الفعليين الذين خُصُّوا بأهمية أساسية في هذا المعتمد المضاد الناشئ –غارثيا ماركيز، فوينتس، رشدي، وآخرون- أنَّ هذه المواقف النقدية تؤطّرها السيطرة الثقافية لما بعد الحداثة ذاتها؛ كما نجد أنَّ لدى الكتّاب الذين تمرّس بهم الاهتمامُ النقدي الكثيرَ مما هو متلائم مع تلك الضروب من القراءة، وعادةً ما يأتي مع تواطؤ وفير يبديه النصّ.

 تحضر سيطرة قواعد القراءة ما بعد الحداثية ذاتها ذلك الحضور الملموس في فروع معرفية أخرى قريبة تطورت إلى جانب «أدب العالم الثالث»، الأمر الذي تبيّنه بكثرة قائمة أولئك الذين يمارسون «تحليل الخطاب الاستعماري». ولم يعد إخضاع ما يُدْعى نصّ «العالم الثالث» للتمحيص ما بعد الحداثي شيئاً مقصوراً على المشاهير، فهو يبدو الآن على أنّه ميل عام إلى حدّ بعيد. ويحتلّ فريدريك جيمسن موقعاً مختلفاّ ومميزاً في كلّ هذا بسبب (أ) محاولاته المضنية جمع ما بعد الحداثة مع الماركسية؛ (ب) مطابقته «أدب العالم الثالث» مع الواقعية «الساذجة» لا سيما مع الأمثولة، الأقدم بكثير؛ و(جـ) تأكيده على «أدب العالم الثالث» بوصفه الآخر العالمي لما بعد الحداثة ذاتها، تحت يافطة «القومية». وما يلفت الانتباه حتى في قراءاته، على الرغم من اختلافها وتفوقها، أنَّه منشغل هو أيضاً، حين نتطلّع إلى مجمل «خريطته»، بتحديد علاقة بين «أدب العالم الثالث» و«ثقافة ما بعد الحداثة الأميركية العالمية». أمّا معظم النقّاد الآخرين، فلا يكادون يطرحون حتى مشكلة هذه العلاقة. وما نجده بدلاً من ذلك، في معظم الحالات، هو أنَّ ما بعد الحداثة، في هذا المنوّع من منوّعاتها أو ذاك، قد تمَّ تشرّبها أصلاً باعتبارها السياسة البدهية والإجراء البدهي، وما يبقى للقيام به هو اختيار النصوص التي يجب تضمينها في معتمَد «أدب العالم الثالث» الناشئ المضاد –أو إقصاؤها منه- وتملّكها وتأويلها. وهذا الفضاء من التداخل هو الفضاء الذي يترك فيه سلمان رشدي بصمته، بكلّ قوة.

 يوضح رشدي نفسه أنّه يريد لرواياته الثلاث الكبرى إلى الآن (حيث نعدّ روايته غريموس رواية صغرى، فضلاً عن كونها، من نواحٍ جوهرية، غامضة ومختلفة على السواء) أن تُقرَأ بوصفها نصوصاً «عالمثالثية»، وذلك في الخطوط الأساسية للمواضيع والحبكة، وفي ضروب التشديد التي يلحّ عليها كلما تكلّم بصوته الخاص، سواء ضمن الروايات ذاتها أو في المقابلات وأوراق المؤتمرات التي لا بدّ أن تتلو صدور تلك الروايات: التحديد الاستعماري لحداثتنا، أحوال ما بعد الاستعمار وضروب فسادها، تصوير فترتي ضياء الحقّ وبوتو في الباكستان كرمز لزعماء العالم الثالث ودكتاتورييه عموماً، أساطير الانتماء القومي والاستقلال، أساطير الهند وآلهتها، مهاجرو العالم الثالث في المدن المتروبولية، عالم الإسلام، وما إلى ذلك. وتتنوع أشكال السرد، في الوقت ذاته، بما يكفي لأن يستنتج النقّاد أنّها تنتمي، في جوهرها، إلى شكل غير غربيّ عموماً، هنديّ خصوصاً، من السرد غير المحاكاتي، المستمدّ، في النهاية، من الرامايانا والمهابهاراتا ويجسّد، كما يقول الكاتب الهندي رجا راو، الولع الهندي الوسواسي المميّز بضروب الاستطراد وحكايةِ حكايةٍ مطوّلة. وهذا، بالطبع، هو موقف رشدي في أطفال منتصف الليل. لكنّ الشكل الذي تتخذه تقنيات رشدي السردية لا يدعم فكرة الطابع الهندي الخالص هذا؛ لأنَّ خطوط النَّسب المتحدّرة من الحداثة وما بعد الحداثة كثيرة جداً. والحال، إنَّ العاقبة الضرورية، وغير المقصودة غالباً، لهذه المقاربات –الاستغراق في تصوير رشدي لـ«الأمّة» و«العالم الثالث» من جهة؛ وفي المرونة الاستطرادية («ذات الطابع الهنديّ»؟) التي تَسِمُ تقنيته السردية من جهة أخرى- تتمثّل في التعمية على ركائز رشدي الأيديولوجية القائمة في الثقافة الرفيعة للبرجوازية المتروبولية الحديثة، وكذلك في كبت سلسلة كاملة من الأسئلة لا يربطها كبير علاقة لا بـ«الأمّة» ولا بـ«العالم الثالث»، لكني أعتبرها مركزية تماماً بالنسبة إلى الفحوى الأساس لسردياته.

 سوف تزداد الأسئلة الجوهرية وضوحاً حين نأتي إلى قراءة الرواية، لكن بمقدورنا أن نذكر هنا عَرَضاً ملمحين من ملامح النصّ الأيديولوجي المستتر، كي نوضّح الجوّ العام للعمل. ففكرة رشدي عن «الهجرة»، مثلاً، وهي فكرة أساسية في تمثيله لذاته سواء في القصّ أم في الحياة، تأتينا في طبعتين. في الطبعة الأولى، الحاضرة تماماً في العار وفي الكتابات التي كتبها في الفترة ذاتها إلى هذا الحدّ أو ذاك، تُقَدَّم «الهجرة» على أنّها شرط كيانيّ (أنطولوجيّ) للبشرية جمعاء، في حين يُقال عن «المهاجر» إنَّه «طفا مبتعداً عن التاريخ». في الطبعة الثانية، المُفصَح عنها بصورة أكمل في الكتابات الأحدث عهداً، تحلّ محلّ أسطورة عدم الانتماء الأنطولوجي هذه أسطورة أخرى، أكبر هي أسطورة فَرْط الانتماءات: لا بمعنى عدم الانتماء إلى أيّ مكان، بل بمعنى الانتماء إلى أمكنة كثيرة جداً. وهذا مقصد حاضرٌ في أعمال رشدي، يبدو أنّه يشير إلى الشرط الاجتماعي للمهاجر «العالمثالثي» لكنه حافلٌ أيضاً بأصداء من كلٍّ من التقليد الأدبي للحداثة العليا والمواقف الفلسفية ما بعد البنيوية. لكننا نجد في العار أيضاً، إلى جانب قضية الهجرة هذه، تصويراً فعلياً للباكستان -ولـ«أكثر من الباكستان»، كما يقول رشدي- بوصفها فضاءً تشغله القوّة برمّته فلا يبقى أي حيّز لا للمقاومة ولا لتمثيلها؛ وكلُّ من يزعم أنّه يقاوم واقعٌ مسبقاً في شراك علاقات القوّة وفي منطق العنف الشامل. وتُمْكِنُ رؤية هذا في أحداث صغرى عديدة في الرواية، مثل التصوير الكاريكاتوري المرح للحركة المسلحة في بلوشستان في سبعينيات القرن العشرين، وكذلك في ابتداع الشخصية المركزية، صوفية زينوبيا، كما سنسعى لأن نوضح أدناه.

بين قطبي البناء الأيديولوجي هذين –حرية الفرد، المطلقة والأسطورية، المستمدة من واقعة أنّه لا ينتمي إلى أيّ مكان لأنّه ينتمي إلى كلّ مكان؛ وصورة مجال السياسة العام الذي يعجّ بعنفٍ وفسادٍ يجعلان أيّ تمثيل للمقاومة مستحيلاً- يحيط رشدي، في الحقيقة، بطيف كامل من الظلال والتدرّجات التي من الواضح أنّها لا تشكّل وحدةً فلسفية لكنها النقاط التي يمرّ بها الخيال الأدبي (ما بعد) الحداثي وهو يشقّ سبيله خارجاً من عزرا باوند وت. س. إليوت، إلى عالم جاك ديريدا وميشيل فوكو. وكثيراً ما خطر لي أنَّ خيال رشدي لا بدّ أن يكون خالباً لألباب ذلك الطيف الكامل من القرّاء الذين نشأوا على «الكونيّة» الخاصة في قصيدة إليوت الأرض اليباب (التراث «الهندوسي» وقد تملّكه وعي أنكلو أميركي في طريقه إلى الهداية الأنغليكانية، عبر فاعلية البحث الاستشراقي) وعلى «الثقافة العالمية» في كانتوس عزرا باوند (حكماء الصين القديمة وهم يزاحمون وجهاء إيطاليا عصر النهضة وأمرائها، وبين الاثنين هوميروس والشاعر الإيطالي غويدو كفالكانتي، والجميع في خدمةِ رؤيةٍ سياسيةٍ تؤطّرها فاشية موسوليني). ما كان للمرء أن ينتمي، بل أن يطفو فحسب، بلا عناء، عبر سوبرماركت الثقافات الموضَّبة والمُسَلَّعة، الجاهزة للاستهلاك.

 هذه الفكرة عن تيسّر ثقافات العالم كلّها للاستهلاك من طرف وعي فردي هي، بالطبع، فكرة أوروبية أقدم بكثير، نمت بالتناغم مع تاريخ الاستعمار، لكن اكتمالها واستخدامها الواسع في ابتداع الحداثة ذاته (ليس باوند وإليوت فحسب، بل سلسلة كاملة من الحداثيين، من هرمان هسّه إلى سان جون بيرس) أشارا إلى تحوّل فعلي، من عصر الاستعمار القديم إلى عصر الإمبريالية الحديثة، الأمر الذي انعكس أيضاً في الحيوات اليومية للمستهلكين المتروبوليين في نوع جديد من التسوّق: السوبرماركت. لكن هذه الفكرة عن الإفراط الثقافي عملت، في خيال الحداثة الرفيعة الأدبي، كطِبَاق يقف إزاء الفكرة الأقلّ تفاؤلاً بكثير والتي مفادها أنَّ الذات المتشظّية هي الذات الحديثة الحقّة الوحيدة. وحمل خيال الحداثة الرفيعة الأدبي هذا أفكار الإفراط والتمزّق، الوحدة والتجزئة، في توازن شديد. وكانت الميزة الرئيسة للسوبر ماركت المتروبولي هي أنَّ منتجات متنوعة أشدّ التنوّع (أدوات، أقمشة، جواهر، برّادات، أسرّة) يمكن أن تُباع الآن تحت سقف واحد، على الرغم من أنّها تستند أيضاً إلى موارد في بلدان مختلفة (المنسوجات الهندية إلى جانب منسوجات مانشستر الصوفية؛ السجاد الفارسي إلى جانب الجوارب الفرنسية)، ما مكّن من وجود طيف واسع من الاستهلاكات الشخصية في وضع بعيد كلّ البعد عمّا هو شخصي. (فكرةُ النقد الجديد التي مفادها أنَّ كلّ نصٍّ أدبي يشكّلُ وحدةَ تحليل منغلقة على ذاتها ومكتفية بذاتها هي فكرةٌ تكرّر، بطريقة منزاحة وخاصة، هذا التأكيد الأيديولوجي للسوبر ماركت والذي مفاده أنَّ كلّ سلعة تحمل نصّها الخاص ضمنها، من دون أيّ إشارة إلى الأصول التي تغمرها أو إلى النصوص-السلع الأخرى التي تحيط بها). وتمثّلت خبرة الفنان النخبويّ المحسوسة، في هذا الطور ذاته من أطوار رأس المال الحديث، في أنّ بمقدوره أن يتّكئ الآن هو أيضاً على طيف كامل من المنتجات الثقافية من أرجاء العالم (فلسفة إيطالية، أقنعة أفريقية، منحوتات كمبودية).

لكن هذا الإحساس بالإفراط الثقافي لم يكن سوى جزء من القصة. ذلك أنَّ هذا الفنان ذاته كان خاضعاً أيضاً لسيرورات الاغتراب الرأسمالي التي باتت الآن منقوشةً لا في عمليات الإنتاج فحسب، تلك العمليات التي تعاني منها الطبقة العالمة وحدها، بل أيضاً في بنية الفضاء الاجتماعي ذاتها كما كان يُعاد تكوينها في المدينة الحديثة. وكان الكولاج وعمليات إعادة تركيب المنظور التكعيبية الردّين المميّزين في مجال الفنون البصريّة، وأتت أعمال إليوت لتشغل موقعاً مركزياً في الخيال الأدبي للنخبة الأنكلو سكسونية –وفي خيال النخبة الاستعمارية الأنكلوفونية أيضاً، في فعل مميز من أفعال الخضوع- لأنّه جمع هذا الإحساس بالإفراط الثقافي إلى ضروب قوية بالمثل من استحضار «الرجال الجوف» و«المدينة الوهمية». ولا شكّ أنّ الأرض اليباب، بسطحها المُشظَّى، ونسبها متعدد الألسن، وقائمة مصادرها الأدبية متعددة الثقافات والإمكانات الأيديولوجية، وعدائها للنساء العاملات ولنشاط الطبقات الشعبية الجنسي، وانتمائها الأرستقراطي، وإصرارها التقني المبهر على الإحساس بعدم الانتماء والسأم الداخلي، هي الوثيقة الأساسية للحداثة الأنكلوساكسونية؛ ويمكن المقارنة بينها وبين رواية جيمس جويس يوليسيس من معظم النواحي، لكن معظم أوجه يوليسيس الخصبة تأتي من واقعة أنّها ليست أنكلوساكسونية. لكن فكرة الذات المتشظّية، أو الإحساس المصاحب لها بعدم الانتماء، لم يكونا قطّ مصدر راحة كبيرة لدى أيّ من الحداثيين الكبار؛ وهما يأتيان، في العادة، مع ضَرْب من الجُفُول، بل ومع شيء من الرعب.

ما هو جديد في الفلسفات والإيديولوجيات الأدبية المتروبولية المعاصرة التي نشأت منذ ستينيات القرن العشرين، بالتناغم مع ضروب جديدة تماماً من إعادة بناء الاستثمارات الرأسمالية العالمية وأنظمة الاتصال وشبكات المعلومات -ناهيك بتسهيلات السفر الفعلية- هو التخلّي عن فكرة الانتماء ذاتها بوصفها وعياً زائفاً. فضروب الرعب التي كانت تحسّها الحداثة العليا لمرأى التشظي الداخلي والتفكك الاجتماعي جُرِّدَت الآن، في الأصناف الديريدية من ما بعد الحداثة، من حدّها التراجيدي، دافعةً تجربة الخسارة تلك، بدلاً من ذلك، باتجاهٍ احتفالي؛ حيث بات يُنْظَر إلى فكرة الانتماء ذاتها بوصفها عقيدةً فاسدة، مجرّدَ أسطورةٍ من «أساطير الأصول»، أَثَرَ حقيقةٍ أنتجته «ميتافيزيقا الحضور» التنويرية. هكذا، باتت حقيقة الكينونة، بقدر ما يمكن للحقيقة أن تكون ممكنة على الإطلاق، تكمن الآن في إشغال الذات مواقع متعددة وفي فرط الانتماء؛ فالأمر لا يقتصر على أنَّ لدى الكاتب جميع الثقافات متاحة له كموارد، للاستهلاك، بل يتعدّاه إلى كونه ينتمي فعلياً إليها كلّها، بفضل عدم انتمائه إلى أيّ منها. ويعبّر رشدي عن ذلك بإيجاز تام: «القدرة على الرؤية من الداخل والخارج في آن هي شيء عظيم، مسألة طالع حسن لا يمكن للكاتب المحليّ أن يتمتع به». ومع تحوّل صيغ كهذه إلى فهم شائع لدى الإنتيليجنسيا المتروبولية، ومع إعادة إنتاجها كما الواجب في النتاجات الأدبية لـ«مثقفي العالم الثالث» المتوضّعين في تلك البيئة وتصريحاتهم، يتساءل المرء ما علاقة هذه المواقف الثقافية –فكرة أنّ الأصل مجرد «أسطورة»؛ التوصّل إلى فرط الانتماء من خلال عدم الانتماء؛ مشروع التنقيب في موارد «أدب العالم الثالث» ومواده الخام بقصد الجمع الأرشيفيّ والتصنيف النوعي في الجامعة المتروبولية– مع عصر الرأسمالية الراهنة الذي تعلن فيه الشركات الرأسمالية الأقوى، الناشئة أصلاً في بلدان إمبريالية محددة لكنها تتحكّم باستثمارات وشبكات نقل واتصال عالمية، أنّها رغم ذلك متعددة القوميات وعابرة للقوميات: كما لو أنَّ أصولها في الولايات المتحدة أو جمهورية ألمانيا الاتحادية مجرد أسطورة، وكما لو أنَّ قدرتها على مراكمة قيمة فائضة من عشرات البلدان أو أكثر ليست سوى ضربٍ من ضروب فرط الانتماء.

 إذا كانت الضغوط الديريدية تدفع ما بعد الحداثة نحو الاحتفاء بمرونة الذات (المرء حرّ في أن يختار أيّ موقع وكلّ موقع من مواقع الذات –بعيداً عن كلّ بنية وكلّ نظام، كما يقول إدوارد سعيد- لأنَّ التاريخ ليس فيه ذوات أو مشاريع جمعية أصلاً)، فإنَّ المضامين السياسية التي ينطوي عليها موقف فوكو الفلسفي وبنيته السردية تنزع ليس إلى تعزيز استحالة الانتماء وموقع الذات القارّ فحسب بل أيضاً إلى إسباغ خاصيّة القفص العميقة على العالم، مع إحساس كئيب بوقوع البشرية في شراك خطابات القوّة التي هي منفصلة ومتداخلة في آن، ويبدو كثير منها متوضّعاً في الطبقات الأركيولوجية للانتقالات التي لا تُحصى من النظام القديم إلى الحداثة، في حين قد تتوضّع خطابات أخرى (مثل خطاب الفعالية الجنسية، مثلاً) في العصور الرومانية القديمة. ولكن يبدو أنَّه لا يمكن تتّبع أيّ من هذا إلى أصل أو غَرَض أو مصلحة. وهذا التاريخ الذي من دون أصول نظامية أو ذوات إنسانية أو مواقع جمعيّة هو مع ذلك تاريخُ قوّةٍ شاملة، لا يقبض عليها أحد ولا تمكن مقاومتها لأنَّ ما من شيء خارج ابتداعات القوة التي قد يكون من الواجب عدم مقاومتها، ليس لأنّها قمعية فحسب بل لأنّها خصبة ومنتجة بعمق أيضاً. بعبارة أخرى، ليس التاريخ عرضة للتغيير، بل للسرد فحسب. والمقاومة لا يمكن أن تكون إلا مشروطة، شخصية، محلية، صغرى، ومتشائمة مسبقاً. والعمق الأرشيفي الهائل لبحوث فوكو وفخامة نثره، كما يمكن أن نضيف، تربطهما علاقة خاصة بهذا التعريف للإمكان الإنساني، كما لو أنَّ اكتشاف الأرشيف وإعادة تعريفه هما، بالمعنى الإنسانوي القديم لمهنة المثقف، فعل خلاص في جوهرهما، وكما لو أنَّ فوكو أيضاً يؤمن –مع وايتهيد، مثلاً- أنَّ الأسلوب هو الأخلاق الأساسية لعقل الكاتب.

 لا أريد أن أوحي بأنَّ العار هي نوعاً ما ابتداعٌ تخييلي مستمدّ من أطقم الأفكار هذه التي يطبّقها رشدي من ثمَّ على الواقع الاجتماعي الذي يسترعي اهتمامه. كما أنّه لا أهمية مطلقاً لما إذا كان رشدي قد قرأ أيّاً من هؤلاء الكتّاب أو قرأهم جميعاً (مع أنَّ بعض العبارات في العار مصوغة بلا شكّ على غرار عبارات في الأرض اليباب). ما أرغب في تحديده، بدلاً من ذلك، هو سياق تأليف الكتاب وكذلك تلقّيه: نوع الكاتب الذي هو رشدي، كامل شبكة الاستعدادات التي تدخّلت في صنع مثل هذا الخيال، ضروب اللذائذ التي يوفّرها كتابه لمن تصوّر أنّهم قرّاءه الأوائل، وهم من البريطانيين في المقام الأول، ومن الإنتيليجنسيا المهاجرة في المقام الثاني. والكلام يجري أساساً ليس على نوايا رشدي بل على شروط إنتاجه: تشبّع فكره، إذا جاز التعبير، بالشروط الخطابية التي تكتنف موقع إنتاجه.

من المهمّ أن نتذكّر هنا أنَّ رشدي، حتى فتوى آية الله الخميني مؤخّراً، لم يكن منفيّاً بل كان منفيّاً اختيارياً. والكتّاب المنفيون غالباً ما يكتبون بالدرجة الأولى لقرّاء غائبين مادياً عن الشروط المباشرة لإنتاجهم، وليسوا حاضرين إلا في البلد الذي نُفي منه الكاتب قسراً، ومن هنا كلّ ذلك الحضور الحيّ والمبرّح الذي يحضرونه في خيال الكاتب لأنَّ حقيقتهم الفعلية متشابكة مع معاناة المنفيّ الوجودية ومع فعل الكتابة ذاته. أمّا المنفيّ الاختياري فلا يربطه مثل هذا الرباط المبرم؛ لأنّه حرّ في اختيار درجة مرونة ذلك الارتباط، ولأنّ العواقب المادية لهجرته تدفعه بالضرورة إلى علاقة محسوبة أكثر بكثير مع القرّاء الحاضرين مادياً ضمن بيئة عمله المُنتَج. وهذا ما ندركه لا بوصفه ضعفاً أو قوة في عمل رشدي بل بوصفه واحداً من وقائع هذا العمل التي تؤطره وتكتنفه. ومثل هذا الوسط المشترك بين الكاتب وقرّاءه الأساسيين قد يتعزّز عندئذ، أو لا يتعزّز، بأواصر، أو بغياب أواصر، تنتجها في العادة ثقافته وطبقته وسلسلة الخيارات التي تكون عندئذ متاحة ويمكن للمرء أن يمارسها، بصرف النظر عن النتيجة، في سيرورة العيش والكتابة.

سوف أعود باقتضاب، في المقطع الختامي من هذا الفصل، إلى هذه الركائز الخاصة والمضامين العريضة في عمل رشدي. لكني قبل أن أمضي أبعد بهذه العموميات، أريد أن أنظر عن كثب في بعض جوانب العار كي أبيّن كيف تتجسّد هذه القضايا الكبيرة في نصّ الرواية ذاته. وسوف أقدّم، في السياق، بعض الملاحظات حول تمثيل رشدي لذاته داخل الكتاب، وبعض الملاحظات الموسّعة حول تمثيله النساء، وحول آثار ذلك، وآثار كلّ من غربته وولاءاته ما بعد الحداثية، على سياساته. وليست النيّة تقديم قراءة أشدّ كفايةً أو حتى بديلة لهذه لرواية، العار، أو لبقية أعمال رشدي المتزايدة، ناهيك بإنكار أنَّ شرط ما بعد الاستعمار قد يكون هو ذاته واحداً من إحداثيات قراءة مثل هذه الكتب، وإنما النيّة ببساطة هي إلقاء الضوء على ضروب الأسئلة والصلات التي تَهَمَّشَتْ في السعي وراء تلك المقولة العامة «أدب العالم الثالث».

2

 يمكن لنا أن نبدأ بالكاتب داخل الكتاب. بصرف النظر عن الأشياء الكثيرة التي قالها رشدي في سياق مقابلاته المتعددة عن نواياه في العار، فإنَّ السرد داخل الكتاب ذاته محكوم على نحو شفّاف بتدخّلات متكررة ومباشرة وشخصيّة من طرف السارد الذي هو، لأغراضنا التأويلية هنا، رشدي نفسه بصورة أساسية، ويأتي أوّل تدخّل من هذا النوع باكراً، ما إن يفرغ الكاتب من فصله الأول. وبعد وصف مهم لموضوعه -العار، وما يقف وراءه- يأتي إلى ذاته، وكتابه، وبلده:

أقول لنفسي إنَّ هذه ستكون رواية وداع، كلماتي الأخيرة عن الشرق الذي بدأت أَنْفَكُّ منه، منذ سنوات كثيرة. لا أصدق نفسي على الدوام حين أقول هذا. إنّه جزء من العالم لا أزال أرتبط به، سواء راقني ذلك أم لم يرقني، ولو بروابط مطّاطة فحسب. (ص23).

و: البلد في هذه القصة ليس الباكستان، أو ليس الباكستان تماماً. ثمّة بَلَدَان، واقعيّ وتخييليّ، يشغلان الحيّز ذاته، أو الحيّز ذاته تقريباً. توجد قصّتي، يوجد بلدي التخييلي، مثلي أنا نفسي، على زاوية طفيفة من الواقع. ووجدتُ هذا الحَيَدان ضرورياً. ... لستُ أكتب عن الباكستان وحدها. (ص 24)

من ثمَّ، بعد مقطع قصير عن الشاعر الفارسي عمر الخيام، يُقال لنا: «أنا، أيضاً، رجلٌ مُتَرْجَمٌ، وقد جرى نقلي» (ص 23-24؛ التشديد في الأصل). ولاحقاً في الرواية، وفي سياق مقطع مؤثّر عن أخته الصغرى، سيقول رشدي قاصداً نفسه على نحوٍ لا يمكن إخطاؤه:

على الرغم من أنني لطالما عرفت الباكستان، لم أعش هناك قطّ لأكثر من ستة أشهر متواصلة ... تعرفتُ إلى الباكستان شرائح ... لكني اخترتُ أن أكتب عن هناك، ومضطر أن أعكس ذلك في أجزاء مرايا محطمة ... عليّ أن أتصالح مع حتمية ضياع بعض الشظايا. (ص 70-71)

وأخيراً:

ما الشيء الأفضل في شأن البشر المهاجرين والأمم المنفصلة؟ أظنُّ أنّه أملهم. ... وما الشيء الأسوأ؟ إنّه فراغ متاعهم. ... لقد طفونا مبتعدين عن التاريخ، عن الذاكرة، عن الزمن.

إذ نبدأ بمناقشة هذه المنطقة التخييلية الموسومة «الباكستان»، و«الشرق»، و«الأمم المنفصلة»، إلخ، علينا أن نتذكّر ما يخبرنا به رشدي نفسه في غير مكان: أنّه رجع فعلاً ليعيش في الباكستان لكنه غادر لا بسبب المصاعب السياسية أو الضغوط الاقتصادية بل لأنه وجد البلد «خانقاً» ويُحْدِثُ «رهاب الأماكن المغلقة». ولا يسعنا أن ننازع ذلك القرار الشخصي بالمغادرة، لأنَّ ذلك النوع من القرار هو شخصي على الدوام، لكنَّ «وداعه» أساسي جداً بالنسبة إلى تمثيله العلنيّ لذاته كما بالنسبة إلى بنية تخييلاته بحيث نريد أن نحدد على الأقلّ عواقبه –وسوابقه- الأدبية على نحوٍ صحيح بعض الشيء. أمّا بالنسبة إلى تخييلاته وموقفه السياسي العام، فأعتقد أنَّ هذا التفصيل الشخصي يجب أن يُرى لا بالعلاقة مع الاستعمار وما أعقبه، ولا بالرجوع إلى قضية الديكتاتورية بحدّ ذاتها، بل من منظور الحداثة الضاغط بشدّة الذي كان قد رسم إطاره على نحو بالغ العمومية منفيون اختياريون ومهاجرون -جيمس وكونراد، باوند وإليوت، بيكاسو ودالي، جويس، غيرترود شتاين، وهلمجرا- عانوا النوع ذاته من «الاختناق» في فضاءاتهم الخاصة من هذا العالم، وكان عليهم تالياً أن يخلّفوا وراءهم موارد هائلة لجنسهم الأدبي ومعجمهم كي يرسموا خطوط تلك الصورة السائدة للفنان الحديث الذي يعيش غريباً بالمعنى الحرفي في مدينةٍ أجنبية لا تربطه بها صلة شخصية ويستخدم شرط المنفى بوصفه الاستعارة الأساس للحداثة بل وللشرط الإنساني ذاته، من جهة أولى، في حين يكتب بهوس، وغزارة، عن تلك الأرض التي أعلن أنّها «خانقة»، من جهة أخرى.

لم يكن «الشرق»، ولا الدافع إلى قول بعض «كلمات أخيرة» عنه، بالبعيدين قطّ عن التضاريس التخيّلية للحداثة. ويبدو أنَّ رشدي أخذ الكثير عن الأساليب والأيديولوجيات التي مُثِّلَ فيها «الشرق» ضمن المدى الواسع للحظة الحداثية (ديون أطفال منتصف الليل تجاه كيم لروديارد كيبلينج، مثلاً، هي ديون جوهرية؛ وينتمي كيبلينج، كما يمكن أن نتذكّر، إلى هذه اللحظة بالفعل، شأنه شأن جورج أورويل؛ كما أنّ كونراد الذي يأتي في المنتصف، هو بالطبع واحد من أساطينها) بقدر ما أخذ، من نواحٍ أخرى، عن جارثيا ماركيز. حتى الإلحاح المتزايد على المنفى الاختياري بوصفه تجربةً تُمَكِّنُ الكتّاب حقّاً ليس بالإلحاح الجديد بأيّ حال من الأحوال؛ ما هو جديد، وما بعد حداثيّ على نحوٍ حاسم، هو الإلحاح الذي نجده في العار على خصوبة انفصال المرء عن مجتمعه الأصلي وليس على ألم هذا الانفصال، وكذلك الإلحاح على فكرة الانتماءات المتعددة، تلك الفكرة التي تغدو أكثر حدّة في كتابات رشدي الأحدث عهداً. لكنَّ هذا أيضاً يقع الموقع المتّسق الملائم، لأنَّ البيئة المتروبولية الحالية، بفضحها «أساطير الأصل» و«ميتافيزيقا الحضور»، لا تبيح في الحقيقة أيّ اعتراف مثابر بمثل هذه الآلام.

لكنَّ اللافت في المقاطع التي أوردتها أعلاه هو التصرّف في أمر التجاذبات الوجدانية والاشتراطات. فالمفارقة الساخرة في عبارة «أقول لنفسي» التي من الواضح أنّها تقصد الإشارة إلى أنَّ ما يلي هو مجرد قناعة ذاتية، وأنّه ليس الحقيقة بل هذيان بها، تقف بحدّة إزاء قوة العبارة «رواية وداع» –وتقف إزاءها بحدّة أشدّ لأنَّ أطفال منتصف الليل والعار هما فعلياً روايتا وداع: لا لـ«الشرق»، ولكن بالتأكيد، وعلى نحوٍ أخصّ، لبلد ولادته (الهند) بالدرجة الأولى ثم للبلد الثاني (الباكستان) حيث حاول، بقليل من الحماس، أن يستقر ولم يستطع– بحيث أنَّ نبرة السخرية البدئية من الذات سرعان ما تنحلّ إلى استخدام حداثيّ مميّز لنوع معيّن من المفارقة الساخرة تستمدّه الحداثة من أسلافها في الرومانسية ولا يقتصر أمره على زعزعة استقرار موضوع المفارقة الساخرة فحسب بل يتعدّاه إلى كاتبها أيضاً الذي يستسلم إلى ما دعاه فرانكو موريتي بحقّ «سحر التردد».

ثمة رمال لغوية متحركة في جميع هذه المقاطع، كما لو أنَّ صدقَ كلِّ تلفّظٍ مشروطٌ بوجود عكسه، ويبدو رشدي على الدوام كأنّه يستعيد بيد ما أعطاه باليد الأخرى: فإرادة الوداع تقف قبالة استحالة الوداع؛ وهو كان قد بدأ ينفكّ لكنه لا يزال «مرتبطاً»؛ وهو لا يزال مرتبطاً إنّما بروابط «مطاطة» فحسب، وهو ليس واثقاً مما إذا كان الارتباط الدائم يروقه (لا أزال أرتبط به، سواء أراقني ذلك أم لم يرقني)؛ وهو يطلق أقوالاً، لكنه لا يصدّقها؛ والتخييلي والواقعي يتعايشان لكنهما لا يتوافقان؛ وليس نصّه وحده، بل هو، نفسه، يوجد «على زاوية طفيفة من الواقع»؛ وليس نصّه فحسب بل هو أيضاً «مُتَرْجَم»، «جرى نقله»؛ ولا تقع الترجمة في المستوى الدلالي بل في المستوى الوجودي. وهذه التجاذبات الوجدانية تدفعه، إذاً، ليكتب «رواية وداع»، عن بلدٍ ليس الباكستان تماماً» وليس «الباكستان وحدها» لكنه الباكستان، وبأوضح السُّبل. والرواية ليست مجرد رواية، بل شيء آخر أيضاً: «كلماتي الأخيرة عن الشرق»! مشروعٌ جَسُورٌ حقّاً، أوسع من بعض النواحي من مشروع جويس في صورة الفنان في شبابه، العمل الذي أحسبُ أنَّ رشدي يستحضره عامداً، حيث ستيفن، الأنا البديلة لذلك الكاتب الإيرلندي، المستعمَر، ينطلق أيضاً نحو المنفى الاختياري، كما يقول في المقطع الختامي من ذاك العمل الوداعي الآخر، «لعلّي أتعلم في حياتي الخاصة وبعيداً عن الوطن والأصدقاء ما القلب وما الذي يشعر به» و«كي أُطَرِّق في مَحْدَدَة روحي ضميرَ عِرْقِيَ الذي لم يُطَرَّق بعد».

 لهذا أثره المرير والحارق، بلا شكّ، لكن صياغات رشدي تبذر الاضطراب في أمرين على الأقلّ. أولهما هو أنّه من المستحيل على الدوام، حتى في عمل أكبر من العار بكثير، أن يقول المرء «كلماته الأخيرة» عن أيّ شيء عديم الشكل مثل «الشرق»؛ فهذه الفكرة –فكرةُ أنَّ ثمّة شيئاً موحّداً يُدعى «الشرق» يمكن أن تُقال عنه بعض «كلمات أخيرة»– هي تلفيق من تلفيقات المخيّلة الاستعمارية، ورشدي يبالغ بقدراته على الأقلّ، إن لم يكن بنواياه أيضاً. وكونه يبدأ المقطع بسخرية من ذاته لا يلغي الطابع المبتذل لتأكيداته، إذ تعجّ الرواية بكلّ ضروب الأقوال المبتذلة عن «الشرق»، بما في ذلك التأكيد على أنَّ الكلمة الإنجليزية «Shame» تقصّر كثيراً عن الكلمة الأوردية «Sharam» لأنَّ هذه الأخيرة، بوصفها عاطفة وفكراً وسلوكاً معهوداً، شرقيّة على نحوٍ مميّز، ولذلك تتخطّى ما لدى الغرب من قدرة على الفهم والصوغ اللغوي؛ فَـ«هُم» يعيشون بعد موت التراجيديا، كما يُقال لنا، أمّا «نحن» فيُفْتَرَض أننا نعيش في قبضتها. أمّا ثاني الأمرين، فهو أنَّ ثمة تعارضات ملحوظة بين إعلانات رشدي والعبارات التي استخدمتُها من عمل جويس الصغير الذي يعود إلى أوائل الحداثة. فجويس الشاب لا يزال لديه إحساس بـ«الوطن والأصدقاء»، بل وإحساس بالأسى الشديد لاضطراره إلى اختيار المنفى؛ ثمّة قصديّة أيضاً، اختيار، مهما يكن مأساوياً، فضلاً عن مفارقة ساخرة مرهفة حيال مسعى المرء ونوع البلاغة التي كثيراً ما ترافق مثل هذه المساعي؛ وما يلفت الانتباه في كلّ هذا هو التورية في كلمة «أُطَرِّق»؛ فما من إحساس بأنَّ الكاتب «طفا مبتعداً عن التاريخ، عن الذاكرة، عن الزمن».

موقف رشدي مختلف. فالباكستان -أو الهند، في هذا الصدد- ليست وطناً على وجه الدقّة؛ فلا الارتباط بها ولا الانفكاك عنها يتّسمان الآن، بعد أن باتت رواية أطفال منتصف الليل وراء رشدي، بالفوريّة التي لجرحٍ مرغوب وضروري ينزله المرء بذاته ويقتضي لغة الحديد والمَحْدَدَة. ما نجده، بدلاً من ذلك، هو صورةُ مطّاطٍ واهٍ وربما مُتَرَخْرِخ؛ وما يوقع أثراً في النفس حيال القول «أنا، أيضاً، رجلٌ مُتَرْجَمٌ، وقد جرى نقلي»، هو أنَّ أحداً ما أو شيئاً ما آخر، ربما التاريخ ذاته، يبدو على أنّه الذي يقوم بالترجمة والنقل. ولعلّ خفّة الكينونة المستمدّة من «طَفْوِنَا مبتعدين عن التاريخ، عن الذاكرة، عن الزمن»، هي ما يمكّن الكاتب من أن يسخر من نفسه بحاجته إلى قول «كلماته الأخيرة عن الشرق»، في محاكاةٍ ساخرةٍ للثقة المبتذلة التي نجدها لاحقاً في عمل نايبول بين المؤمنين. (ربما تمكن قراءة الآيات الشيطانية على نحوٍ أنسب بوصفها طبعة رشدي من العالم الذي يصفه نايبول هناك؛ صحيحٌ أنَّ رشدي يترك أثراً معرفياً أكبر، لكن المواقف تتداخل ذلك التداخل بالغ الغرابة). وإذ نعود من تلك العبارة، «كلماتي الأخيرة عن الشرق»، إلى قول ستيفن «كي أُطَرِّقَ في مَحْدَدَة روحي ضميرَ عِرْقِيَ الذي لم يُطَرَّق بعد»، نحسّ استحالة «الطفو بعيداً» بالنسبة إلى أيّ شخص، مهاجر أو غير مهاجر، فكَّر في «الهجرة» بوصفها حاجة شخصية، بسبب «الاختناق»، لكنه لا يريد أن يجعل من عدم انتمائه صنماً من الأصنام.

أودُّ أن أؤكّد، بين قوسين، أنني لا أريد أن أفسّر هذا التجاور بين النصّين -أو بالأحرى، بين مجموعتي الاقتباسات المقتضبة- على أنّه نوع من الاختلاف المُثبَت بين الحداثة وما بعد الحداثة. وإذا ما كان رشدي ما بعد حداثيّ بأيّ حال من الأحوال ، فذلك على وجه التحديد بمعنى أنَّ تكوينه الفكريّ والفنيّ حداثيّ في الأساس، لكنّه في بعض إفصاحاته وإلحاحاته يتجاوز ذلك التكوين الأساس تجاوزاً جليّاً. وتحضرني هنا تلك المقاطع لدى ليوتار حيث يرى أنَّ ما بعد الحداثة هي مجموعة من الميول داخل المراحل الأخيرة للحداثة ذاتها، تتميّز أول ما تتميّز بالاحتفاء بالعجز البشري عن اختبار الواقع بوصفه كلّاً، بما يتخطى شظاياه أو يعلو عليها. والموقف من المنفى (الاختياري) هو تحوّل آخر من هذا القبيل، لكنه تحوّل متصل بلحظات مميزة تاريخياً ضمن مُتَّصِل «الثقافة العليا» المتروبولية في قرن الإمبريالية الحديثة.

سوف يواصل «الشرق» مطاردة رشدي، بالطبع، لسنوات عديدة بعد كتابة العار، وصولاً إلى الوقت الراهن وربما إلى مستقبل غير محدَّد. وذلك على الأقلّ لأنَّ المنفى الاختياري نادراً ما يغدو طبيعياً تماماً حتى حين يكتمل الاندماج الطبقي والثقافي، الأمر الذي لم يصعب اكتشافه حتى على هنري جيمس. وعلى أيّ حال، فإنَّ العنصرية البريطانية تسدّ السبيل أمام الملوّنين، بمن فيهم رجل لديه توق نايبول وتماهيه، فما بالك برشدي، بتجاذباته الوجدانية الهائلة حيال ثقافته الأصلية، فضلاً عن معارضته ثقافة بريطانيا الرسمية ونشاطه ضدّها. وكان لكتابته الآيات الشيطانية من جهة، وما أطلقته ضده من هياج أصولي بعد ذلك، أن تُحيي عدم مطاطية تلك الروابط على نحوٍ مريع، ما كان رشدي نفسه ليتوقعه حين كتب العار. لكنّ قراءة تلك الرواية الباكرة في سياقها تبيّن أنَّ ما يفوق الموقف من المنفى (الاختياري) أهميةً في تلك المقاطع هو الصلة في منطوقات رشدي بين (أ) المشروع الرامي إلى قول بعض «الكلمات الأخيرة عن الشرق»؛ (ب) طموح الكتابة في الوقت الواحد ذاته عن الباكستان وكذلك عمّا هو أكثر من الباكستان («الشرق» من ناحية، صنوف الديكتاتوريات من ناحية أخرى، فضلًا عن ما بعد الاستعمار عموماً)؛ (ج) رسم معالم معرفة فعلية بالباكستان؛ و(د) أسلوب «الحَيَدَان» بزاويةٍ عن الواقع. وعلاوة على ذلك، فإنَّ إعلانه أنّه «تعرّف إلى الباكستان شرائح»، وعليه تالياً أن يتصالح مع «حتمية ضياع بعض الشظايا»، وأن يعكس المعروف وغير المعروف «في أجزاء مرايا محطمة»، هو ردٌّ دفاعيّ، في لحظة جدّ باكرة من الكتاب، قبل أن يتورط القارئ في الجزء الأكبر من السرد، على النقد المتوقَّع الذي يرى أنَّ ثمّة أشياء كثيرة أضاعها الحكم الذي تنطوي عليه هذه «الكلمات الأخيرة»، وأنَّ ثمّة موقعاً يتّخذه الكاتب له أهميته الشكلية والسياسية على حدٍّ سواء. وعلى سبيل المثال، فإنَّ تشظي التجربة المُعْتَرَف به يحول دون الخيار الواقعي، لأن ما تفترضه الواقعية، في أقلّ القليل، هو تجربة متكاملة تتضمن ما يزيد على محض «شرائح». وسرد «الشرائح»، في شكل «أجزاء مرايا محطمة» «(أحسبُ أنَّ صدى الأرض اليباب هو أمر مقصود)، يقتصر على إعادة صقل ما لدى الكاتب من ميل مسبق إلى الحداثة وما بعد الحداثة؛ أي إلى رؤيتين للعالم من شأنهما إقرار الأسبقية الأنطولوجية للجزء والشظية.

لكن مسألة «ضياع بعض الشظايا» لا يمكن تسويتها بهذه السهولة، بوصفها مجرد مشكلة تتوسّل حلّاً شكلياً. يمكن القول، على الأقلّ، إنَّ أحداً قط لا يعرف بلده كلّها، بصرف النظر عن مقدار حياته التي عاشها أو لم يعشها فعلياً داخل حدود ذلك البلد؛ وإنَّ إدراك الكلّ مبنيّ على الدوام على أساس شظايا التجربة الملموسة وشرائحها، تلك التجربة التي تشكّل حياة أيّ فرد، سواء كان مهاجراً أم غير مهاجر؛ وأنَّ ما يهمّ في نهاية المطاف في شأن أي تجربة، يُحَسُّ بها أو تُسْرَد، ليس جزئيتها، لأنَّ التجربة المباشرة جزئيّة على الدوام، بل نوعية «الأجزاء» التي تشكّلها ونوعية تلك الأجزاء الأخرى التي تبقى خارج التجربة المحسوسة وتالياً خارج القدرة التخيّلية أيضاً. حين يكون المرء «لطالما عرف الباكستان»، لكنه، بسبب الظروف، «تعرّف إليها شرائح» فحسب، فإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه بصورة طبيعية: ما «الشرائح» التي اختار «التعرّف إليها»؟ ذلك أننا، إن لم نختر «أجزاء» الواقع الخاصة بنا، فإن تلك «الأجزاء» سوف يختارها أصلنا الطبقي، ومهننا، ودوائر صداقاتنا ورغباتنا، وطرائقنا قي قضاء أوقات فراغنا، وانتماءاتنا السياسية، أو عدمها. ما من «أجزاء» حيادية، حتى في عدم معرفتها.

ما يبدو أن رشدي يعرفه -من الداخل، بسبب أصله الطبقي- هو تاريخ فساد حكّام الباكستان وجرائمهم؛ وهذا ما يقول عنه أشياء لاذعة على نحو لافت، ورغبته في أن يفصل نفسه عن هذا التاريخ هي رغبة منتجة ومثيرة لمشاعر القارئ في آن معاً. لكنّ بنية هذه المعرفة المحدودة، المقتصرة على تجربة طبقة متفسخة ينتمي إليها بحكم الأصل لكنّه يشعر هو نفسه بالاغتراب التام عنها، لا تني تؤكّد رؤية العالم التي ينطوي عليها انتماؤه القائم أصلاً إلى الحداثة وما بعد الحداثة. والحال، إنّه لا الطبقة التي يستمدّ منها الجزء الباكستاني من تجربته، ولا الفريق الأيديولوجي الذي انتمى إليه، يقرّان، بأيّ مقدار أساسي، إمكان العمل البطولي؛ ولذلك تنغلق الدائرة بين بنية التجربة المحسوسة والانتماء السياسي-الأدبي. وما يقصيه ذلك -«ضياع بعض الأجزاء» الذي يجب أن «يتصالح» معه- هو يوميّةُ حيواتٍ تُعاش في ظلّ الاضطهاد، وتقييد البشر -يوميّة المقاومة، واللياقة، والبطولات العاديّة والاستثنائية التي لا حصر لها- التي تمكّن أعداداً كبيرةً من البشر من أن يضعوا أعينهم في أعين بعضهم بعضاً بمودة وتضامن وظَرْف، من دون شعور بالذنب، فتجعل الحياة، حتى في ظلّ الاضطهاد، محتملة وبهيجة في كثير من الأحيان. وهذا النوع الآخر من الحياة هو ما يبدو أنّ روايات رشدي، وصولاً إلى الآيات الشيطانية، تجهله إلى حدٍّ بعيد؛ ولن يسعنا أن نكتشف ما يمكن أن يصنعه خياله بالتجارب اللاحقة إلا في عمل لاحق. بعبارة أخرى، إن كآبة العار اللامتناهية، وما فيها من شبه بالقفص، إنّما يضربان بجذورهما في ما تقصيه هذه الرواية بقدر ما يضربان بجذورهما في ما تدنيه فعلياً وتشتمل عليه.

3

لاحظ الجميع عملياً، كما لاحظ رشدي نفسه، أنَّ العار -التي تكاد تكون عن الباكستان على وجه الحصر، على الرغم من بضع حوادث تجري في الهند- هي عملٌ موجع وموئس، ومُغِمّ وخانق، أكثر من أطفال منتصف الليل بكثير. الإحساس بأنَّ الباكستان قفص هو إحساسٌ حاضرٌ أصلاً، منذ الحوادث الافتتاحية، حيث تُعْزَل الشقيقات شاكيل -الأمهات الثلاث لـ«البطل الهامشي»، عمر الخيّام- مرّتين: من طرف والدهن أوّل مرّة، بطريرك القصر المريع الذي يبدأ العمل بوفاته، ثم من طرفهن هنَّ أنفسهن، بعد ليلة المتعة التي يُحْبَل فيها بابنهنّ. ويتخلل إحساسهن بأنهنّ واقعات في شرك العملَ كلّه، وصولاً إلى الخاتمة حيث نجد أنّ الطغاة أنفسهم لا يستطيعون عبور «الحدود» والفرار من قفصهم. وبين البداية والخاتمة، نجد بلقيس واقعةً في إسار طريقتها «المسرحية النخبوية»، عاطفيتها، «رعبها من الحركة»، رغبتها في الأبناء وافتقارها إليهم، كما هي واقعة في إسار فجاجة مطامح زوجها وتقاه ووحشيته؛ وكذلك راني واقعة، بالمثل، في إسار خيانات زوجها وصعود مسيرته السياسية وهبوطها؛ وصوفية زينوبيا -بطلة العمل، وتجسيد «العار»- واقعة في إسار حمى دماغها، وإذلالها، وانفجارات عنفها البركانية؛ وشقيقتها الصغرى، غود نيوز حيدر، مع أنّها كائن أقلّ أهمية بكثير، واقعة هي أيضاً في إسار سطحيتها أولاً ثمّ في إسار الطلب المتواصل على خصوبتها، على الرغم من زواجها الذي تمّ باختيارها. تقتل الشقيقة الصغرى نفسها، وتقتلُ الكبيرةُ معذِّبيها، لكن القفص يبقى القفص ولا شيء إلّا القفص.

سوف نعود للتوّ إلى بعض هذه الشخصيات، لكن علينا أولاً أن نلاحظ التعارض مع أطفال منتصف الليل التي هي عن الهند، بلد طفولة رشدي الحميمة. ما أعطى تلك الرواية الباكرة رحابتها السردية هو ارتباطها بالسيرة الذاتية: رِزَمُ الذكريات التي لا بدّ أن يحملها حتى المهاجر، بل لا سيما المهاجر. أمّا الباكستان، بخلاف ذلك، فهي مجتمع لم يعرفه رشدي قط في تلك السنوات الذهبية قبل الاقتلاع. وهو لا «يعجّ» بالقصص ووفرة الحياة (علماً أنّ كلمة «يعجّ»، teeming، هي الكلمة التي يستخدمها رشدي للهند، مستعيراً إياها من كيبلينج على نحو له دلالته)، لأنّه، كما يقول هو نفسه، لم يتعرف عليها إلا شرائح صغيرة، ولأنَّ صلة حياته بتلك الأرض –«أرض الله الجديدة التي قرضها العثّ»، كما يدعوها- هي صلة جدّ واهية. فهي بلاد لا يعرفها، بعيداً عن العواطف الشخصية، إلا ككيان سياسيّ، ومن خلال أعاجيب طبقتها الحاكمة في المقام الأول. وفي حدود تلك المعرفة، فإنَّ الغضب الذي ينقله الكتاب يقوم على أساس متين. والمشكلة هي أنَّ بلاغة العمل تقدّم تجربة طبقة معينة –أو الأحرى، نخبة حاكمة- على أنّها تجربة «بلد». والحال، إنَّ العمل، بعيداً عن كونه عن «الشرق» أو حتى عن «الباكستان»، هو فعلياً عن شريحة اجتماعية ضيقة، بل جدّ ضيقة، في الحقيقة، إلى درجة تمكِّن رشدي نفسه من تصوير جميع الشخصيات الرئيسة على أنّها تنتمي إلى أسرة واحدة. وهذه الوسيلة التي تتوسّلها الحبكة بتحويلها جميع المتخاصمين إلى أقرباء هو حلّ تقني رائع يعكس البنية الاحتكارية للسلطة الديكتاتورية والطيف الاجتماعي بالغ الضيق الذي يجري فيه تداول السلطة في الباكستان. كما يساعده على تجاوز الفصل الليبرالي السهل بين الأشرار العسكريين والمدنيين الأبرياء؛ فهم جميعاً من الشاكلة ذاتها. ولا تبرز الصعوبة الرئيسة في تصويره بنية السلطة والوحشية هذه في قمتها، فهو يقوم بذلك على نحوٍ رائع عموماً، بل تبرز عندما تضيع الحدود مرّة بعد مرّة، في بلاغته المتكررة على طول العمل، بين هذه الحكاية الضارية عن الدولة ومجتمعٍ يُعْلَن أنّه متمادٍ مع بنية هذه الدولة، ومشوَّه مثلها وموسوم بصورة لا رجعة عنها بحضارتها المزعومة (الإسلام) وأصلها التكوينيّ (التقسيم)، ومجروح على نحوٍ يفوق بكارثيّته حتى ما يُنزله نايبول بالهند في عمله حضارة جريحة. يبدو أنَّ الحكّام والمحكومين قد اجتمعوا معاً، كلٌّ يعكس الآخر، في عقد شيطانيّ.

هكذا يتركّز الجزء الأكبر من السرد على مسيرة الشخصيتين الرئيستين في المعترك السياسي وفسادهما وسفالتهما وتنافسهما: رضا حيدر، الضابط الذي تختلف أصوله ومسيرته الباكرة تمام الاختلاف عن أصول ضياء الحقّ ومسيرته لكنه يزداد شبهاً به، واسكندر («إسكي») حربا، الذي صيغ على غرار شخصية ذو الفقار علي بوتو، رئيس الوزراء الأسبق. والمشكلة، حتى هنا، هي أنَّ تلك الأجزاء من العمل التي تحاول خلق معادِلات تخييلية للوقائع الحرفية في التاريخ الباكستاني القريب تميل كثيراً نحو المحاكاة الساخرة (البارودي)، في حين أنَّ عديداً من الأجزاء أخرى يميل كثيراً نحو المَسْخ الساخر (البرلسك). وكلٌّ من المحاكاة الساخرة والمَسْخ الساخر هو في بعض الأحيان لذيذ ومُبتكر ومرح، لكنّ رشدي في إعادته خلق خيوط التاريخ المعاصر الكبرى على هيئة تقليدٍ هازئ، ثم في خلطه هذا التقليد الهازئ بجميع صنوف النوادر التي لا تتضح قيمتها الرمزية في بعض الأحيان وغالباً ما تكون مفرطة، إنّما يقدّم لنا ضحكاً مسرفاً لا يكاد يتوقف، للأسف. وعلى سبيل المثال، فإنَّ المعادلين التخييليين لبوتو وضياء الحقّ هما كاريكاتوران تهريجيان متقنان، ويدور كثير من الخطوط السردية للحكاية الرمزية ذات المغزى السياسي حول حماقتهما، وبلاهتهما، وزعزعتهما الشخصية، وتحايلهما، وهواجسهما الجنسية، وسخف مطامحهما وغاياتهما، إلى درجة المخاطرة بنسيان أنَّ بوتو وضياء الحقّ لم يكونا أحمقين في الواقع، بل رجلان قادران أشدّ القدرة يتقنان حبك الخطط ويتسمان بالمنهجية في ما كانا يمارسانه من ضروب القسوة. وهذا الميل إمّا إلى إضفاء الطابع الفردي التام على الإخفاقات الأخلاقية لطبقةٍ حاكمة (بالقول إنَّ بوتو أو ضياء الحقّ، أو كائناً من كان، هو شخصية سيئة) أو إلى تحميل مسؤولية هذه الإخفاقات للمجتمع ككلّ (بالقول إنَّ البلد كلّه على خطأ، فما الذي تتوقعه غير هذا؟) هو الذي يضفي على ضحك رشدي، الصحّي والمفيد من بعض النواحي، أجواء الرسوم الهزلية الحديثة في النهاية.

تركّزت معظم قراءات العار على هذا الخط السردي والمواضيع التي تجمّعت من حوله، ولم يكن ذلك من غير سبب. فكي يُوضَع العمل في مُعْتَمَد «أدب العالم الثالث» المضاد، وكي يُقرأ أساساً كوثيقة من وثائق ما بعد الاستعمار، وأسطورةً عن «الأمّة»، ونقداً للدكتاتورية، وسيرةً تخييلية لدولة الباكستان، ومعارضةً لسياسات التقسيم والإسلامويّة، لا بدّ أن يكون ذلك الخط السرديّ، وجميع الخطوط السردية الأخرى التي تقاربه، نقطة التركيز بحقّ. فمَنْ في اليسار، وليس في اليسار وحده، يمكن أن يعارض التحقير الذي ينهال به على أمثال ضياء الحقّ، إلخ؟ ثمّة لذّة لا حدّ لها يمكن أن نستمدّها من الابتكار والفصاحة في هذا التنديد الذي هو تنديدنا، نظراً إلى صحّته وعدله؛ أمّا انشغالنا أصلاً بالإشكاليتين التوأم «العالم الثالث» و«الأمّة»، فيدفع غالبيتنا لأن تضع جانباً جميع الأشياء التي يقولها العمل عن النساء والأقليات والخدم وسواهم ممن ليسوا من الطبقة الحاكمة. ولذّة هذا التنديد الواسع هي ما مكّن النيويورك تايمز، مثلاً، من حمل العمل خارج موقعه المباشر ومقارنة إنجاز رشدي في العار مع ستيرن وسويفت وكافكا وجارثيا ماركيز وجونتر غراس، دفعةً واحدة. لكنَّ ما تفعله هذه النظرة المحددة -أولوية الإلحاح على تمثيل «العالم الثالث» وشرط «ما بعد الاستعمار» من جهة؛ وتراث الجروتسك من جهة أخرى- هو قراءة الكتاب انطلاقاً من تصريحات الكاتب وتقديماته، بحسب قواعد اللياقة المعمول بها لدى نقّاد «أدب العالم الثالث» ومنظّريه. وبذلك يكون ثمّة تواطؤ معين في المنطلق المشترك بين الكاتب ونقّاده، تواطؤٌ ناجمٌ إلى حدّ بعيد عن الشروط ذاتها التي نشأتْ فيها فكرة «أدب العالم الثالث» وحاولتُ تحديدها في غير مكان من هذا الكتاب. ويحول هذا التواطؤ، من ثمَّ، دون قيام منطلقات أخرى محتملة للقراءة: مثل سياسات رشدي الخاصة وانتماءاته، في خضم المزاعم السياسية التي عادةً ما يجري تداولها بين الكتّاب والنقّاد؛ أو تمثيله للنساء وقضية معاداتهن المحتملة المرتبطة بذلك؛ أو جماليات اليأس التي تنجم عن تثمينه المفرط لعدم الانتماء («الطفو بعيداً») وموقعه ضمن المسارات الحداثية، الباكرة والمتأخرة على السواء، وهذه ليست بالأمور الشكلية فحسب.

 هذه القضايا الأخرى هي التي أريد أن أتناولها، بإيجاز، لكني مهتمّ هنا في الأساس بتمثيل رشدي للمرأة، وذلك لأسباب أربعة: أولها أنَّ النساء يشغلن حيّزاً كبيراً جداً في جميع سرديات العمل؛ وثانيها أنَّ رشدي نفسه كان قد لفت الأنظار مباشرةً إلى هذه الحقيقة من خلال السارد ضمن العمل ثمَّ في مقابلات عديدة، مهنئاً نفسه على هذا التمثيل؛ وثالثها أنَّ قضية معاداة النساء هي قضية مركزية في أيّ نوع من أنواع السياسات المعارضة؛ ورابعها أنَّ غياب أيّ شخصيات ذكرية مهمة بين الشرائح المضطهَدة والمعارِضة في هذا العمل –مثلاً، غياب الذكور من العمال والفلاحين والمناضلين السياسيين والإنتيليجنسيا الوطنية- هو ذلك الغياب التام إلى درجة أننا لا نجد أيّ إشارة إلى ما يمكن أن تكون عليه بالفعل علاقة الكاتب التخييلية بهذه الشرائح كلّها إلّا من خلال تحليلنا تمثيله النساء. بعبارة أخرى، كثيراً ما أعلن رشدي أنّه اشتراكي من نوعٍ ما بحيث يغدو من المشروع والضروري على حدّ سواء أن نرى ما الذي يمكن أن يبدو عليه هذا العمل إذا ما قرأناه لا من وجهة نظر الاشتراكية، بل ببساطة من وجهة نظر بعض الطاقات التي تميّز مشروعاً تحررياً: ليس في تمثيله الحكّام فحسب، بل في تمثيله المضطهَدين أيضاً.

 ليس تناول هذا الأمر بالهيّن في أيّ حال من الأحوال، ذلك أنَّ رشدي ليس معادياً للنساء صريحاً وبسيطاً، على النحو الذي لطالما كان عليه أورويل. وهو بعيشه وسط اليسار البريطاني المعاصر، لا بدّ أن تكون قد مسّته ضروبٌ معينة من النسوية؛ وهو يدرك بوضوح كثيراً من صنوف اضطهاد النساء في مجتمعاتنا، وقادر تماماً على أن يسرد عنها ذلك السرد المؤثّر. المشكلة من مرتبة مختلفة، وهي ذات تأثير سياسي مدمِّر أكثر بكثير من مجرد انعدام التعاطف. لكننا لا يمكن أن نمضي قدماً في دراسة القضايا الأهمّ في تمثيله للنساء، ثم نربط تلك القضايا رجوعاً بعموم مواقفه السياسية، إلّا بعد أن نأخذ في الحسبان بنية التعاطف تلك ونوع السياسة التي تتجسدّ فيها.

 هكذا نجد، إلى جانب قصص إسكي ورضا التي تشكّل معاً الإطار السردي الرئيس، محن زوجتيهما، بلقيس وراني. وصورتا هاتين المرأتين مرسومتان بتعاطف يفوق كثيراً ما نجده بالنسبة إلى صورتي زوجيهما، كما يقترن بهما بعضٌ من أشدّ أحداث العمل إثارة: مثل حدث التفجير الذي وقع زمن التقسيم وأطاح بـ«ديباج التواصل وحواجب الانتماء» بعيداً عن جسد بلقيس الأنثوي الهشّ، ولم يترك لها سوى «منديل الشرف» الذي تلفّ نفسها به كملاذ وحيد؛ والحدث الآخر، نحو نهاية العمل، عندما تتأمّل راني حياتها، وقد احتُجزَت مرّة أخرى في عزبتها الريفية، وراحت تطرّز ثمانية عشر شالاً تتعقّب فيها، بتصوير معقّد ومُلْغِز، فسوق زوجها ووحشيته على طول مسيرته. وقويةٌ كذلك تلك الصور الأخيرة لبلقيس التي بدأت حياتها البالغة بعريٍ قسري سبّبه انفجار، وهي تلتفّ في النهاية، وقد تقدّمت في السنّ وانهزمت أحلامها، في حجاب أسود، كي تحافظ على مسافة دائمة بينها وبين العالم الذي يحكمه الذكور والذي حُبِسَت فيه طوال حياتها. وبالمثل، فإنَّ الحدث الذي تشنق فيه غود نيوز حيدر نفسها هروباً من الطلب المتواصل المجنون على قدرتها على الإنجاب هو حدث مثير، ويتوافق مع أهوال واقعية تماماً في مجتمعنا. حتى التصور الأولي لصوفية زينوبيا بوصفها تلك التي تكافح لتخرج الوحش من الجميلة النائمة هو بحدّ ذاته من ضمن التراث الأفضل للواقعية الجروتسكية. هذه صور قوية تماماً.

لكنَّ بلقيس وراني كلتاهما هما -في النهاية، وبصرف النظر عمّا تعانيانه من إذلال وإهمال اللذين تعانيانهما على يد زوجيهما- مخلوقتان سخيفتان، ضحلتان، لا تقويان على شيء سوى الهذر (على «الطريقة النخبوية المسرحية»)، أو العطالة، أو علاقة رخيصة مع صاحب دار السينما المحلية، في أحسن الأحوال. وهما ليستا شريرتين كزوجيهما ولو من بعيد، وبينما تنهار بلقيس باطراد، فإنّ راني، بتطريز شالاتها، تتمكن أقلّه من الحفاظ على قدر من الكرامة. لكن كرامتها ذاتها هي كرامة استقالة. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ ما نجده، عموماً، هو معرض للنساء الباردات والخامدات جنسياً (أرجوماند، «العذراء ذات السراويل الحديدية»)، والمعتوهات والبلهاوات (العشرون عاماً الغريبة من طفولة زينوبيا)، والمتبلّدات تماماً (فرح) والمدفوعات إلى اليأس (راني، بلقيس) أو الانتحار (غود نيوز حيدر)، أو اللواتي يجسدن التفكك السريالي التام وفقدان الهوية الفردية (الشقيقات شاكيل). وعلى العموم، فإنَّ كلّ امرأة، من دون استثناء، تُمَثَّل من خلال منظومة من الصور تتحدد بالجنس على نحوٍ مفرط؛ فإحباط الحاجة الإيروسيّة الذي يدفع بعضهن إلى الجنون وبعضهن الآخر إلى العدم، يبدو في كلّ حالة على أنّه الواقعة الأساس بين وقائع وجود المرأة. وما نجده، إذاً، هو انفصال فعليّ بين حوادث محددة يمكن أن تستثير ضروباً حيّةً من التعاطف مع الشخصيات الأنثوية المرتبطة بها من جهة، وبنية تمثيل معمَّمة، من جهة أخرى، تتحول فيها كلّ واحدة من تلك الشخصيات ذاتها إلى شخصية كريهة ونابية في الغالب.

4

لكنَّ لبّ المسألة هو تصوير صوفية زينوبيا، الفتاة التي كان يُفترض أن تكون صبيّاً، «المعجزة التي جرت على نحوٍ خاطئ»، الطفلة المعتوهة التي وُلدت محمرّة خجلاً، العار مجسّداً. صوفية زينوبيا هي من يوفّر الصلة بين عنوان الرواية الصارخ وسردياته الكثيرة المنفصلة الممتدّة، وهي في القلب من ذلك الاقتران بين العار والصفاقة الذي يولّد العنف الشامل، كما يقول لنا الكاتب مرّة بعد مرّة؛ وهي تحمرّ خجلاً، كما يُقال لنا، ليس من نفسها فحسب بل من العالم بأسره أيضاً. ففي عالمٍ من الشرّ المطلق، حيث يُفترَض بكلّ ما يجري أن يثير العار لكن ما من أحد إلا وهو صفيق تماماً، ليست صوفية زينوبيا، أو العار مجسّداً، مجرد شخصية؛ فهي تُقَدَّم منذ البداية باعتبارها التجسيد الفعليّ لمبدأ الخلاص، إذا ما كان الخلاص، في هذا العالم غير البطوليّ وعديم الضمير، ممكناً أصلاً.

يبدأ احمرار صوفية زينوبيا خجلاً منذ الولادة، بالطبع، وذلك لسببٍ بسيط يتمثّل في أنّها، مثل جميع الأطفال، كان منتظَراً أن تكون صبياً. وهذا العار اللانهائي الذي يبدأ عند الولادة ويمسك بتلابيب عمرها ربما كان ليغدو، في مسارٍ آخر مختلف، استعارةً مناسبة للطريقة التي قد يستكشف بها عمليات الجندرة الاجتماعية ذلك الجيلُ الذي يحسّ بالقصور الأنثوي الجوهري، وبالعار على أنّه سمة أنثويّة على وجه التحديد. لكنّ أمرين اثنين يحدثان بعد ذلك. أولهما أنّها تمرض، وتُصاب بالحمى الدماغية، ما يسبب لها تخلّفاً دائماً، فتبدي دماغَ من هي في السادسة من العمر في سنّ التاسعة عشرة. والمشكلة، الآن، مع استعارة المرض العقلي هذه هي أنَّ ضغوط الجندرة وسيروراتها –وهي ضغوط وسيرورات اجتماعية وتاريخية الطابع، وتفرض على أعداد كبيرة من النساء احتمال التشوّه والعجز، لكنها يمكن أن تُقَاوَم وتُعْكَس بأفعال النساء أنفسهنّ- تُقَدَّم لنا في هيئة قصور فيزيولوجي لديها. وبذلك تغدو الرواية عاجزةً عن أن تنقل لنا، بأيّ أشكال جروتسكية قد تلجأ إليها، السيرورة التي يمكن أن تُستنزَف من خلالها، أو تُستعَاد، قدرات المرأة الفكرية والعاطفية. ولن نذكر هنا تلك الطرائق الكثيرة التي استُخْدِمَ بها التصوير الأدبي لقصور النساء الفيزيولوجي في تواريخ السياسات الجندرية السابقة والراهنة. لكن هذا التحول من الاجتماعي إلى الفيزيولوجي يلغي، على الأقلّ، إمكانية أن تستعيد المرأة المعنيّة، بمبادرتها الخاصة، السيطرة على جسدها، ناهيك بدماغها؛ ذلك أنَّ عکس مثل هذه الحالات نادر الحدوث، وهي لا تقتضي فاعلية المریض بقدر ما تقتضي فاعلية الأطباء والمستشفیات. صحيحٌ أنَّ ثمة معنى اجتماعياً معيناً يضفيه خجل بلقيس، أمّها، من كون ابنتها طفلة بلهاء، أو تحوّل صوفية نفسها إلى موضوع للتدخلات الطبية، أو حتى بقاء زواجها غير مستوفىً جنسياً؛ وصحيحٌ أنَّ هذا التصوير قد يدفعنا لأن ندعو إلى مزيد من الانفتاح حيال مثل هذه المخلوقات المنحوسة، لكنَّ الوضع الاجتماعي الأساس يبقى مستعصياً والرواية ببساطة تخفق في الشفاء من هذا الإسقاط للاجتماعي في الفيزيولوجي.

علاوة على ذلك، يأتي عار صوفية، في سياق الرواية، لا ليشير إليها هي نفسها (إلى أنوثتها؛ تخلّفها العقلي) أو إلى عائلتها (التي تشعر حيالها بالعار للأمرين كليهما، الأنوثة والتخلّف) بل ليتركّز بصورة متزايدة على العالم كما تجده صوفية؛ فتغدو، على نحوٍ يكاد يكون حرفياً، ضميرَ عالمٍ صفيق، أو مبدأ شرفه، إذا جاز التعبير. وهذا أيضاً إشكاليّ بعض الشيء، بمعنى أنّه عندما تُخْتَزَل الواجبات والالتزامات الأخلاقية المعقدة لضميرٍ اجتماعيّ إلى ما لا يزيد عن شعور العار المحدود، وعندما يُودَع هذا الضمير المثقل بالعار في شخص عاجزٍ فيزيولوجياً عن التفكير والسلوك المسؤول المستدام، فإنَّ الكاتب يَحُوْلُ، بحكم الشروط ذاتها التي وضعها، دون احتمال أن يكون هذا الضمير قادراً على تلمّس احتياجات التجديد الاجتماعي، أو حتى ذلك الضرب من اللياقة والبطولة اليومية التي يقوى عليها ما لا يحصى من البشر العاديين. لا يني رشدي يكرر، في الرواية وكذلك في المقابلات التي تلتها، أنَّ المواجهة بين الصفاقة والعار لا يمكن أن تنتج سوى العنف. تماماً! لكن العنف بحدّ ذاته ليس قادراً على التجديد، ومن المشكوك فيه، على الرغم من فانون، أن يكون العنف في جوهره حتى فضيلة مطهِّرة. بعبارة أخرى، إنَّ الديالكتيك الذي يحكم الإطار المفهوميّ للرواية –ديالكتيك الصفاقة والعار، وتكثّفهما في انفجارات العنف- هو ديالكتيك مختلّ أساساً؛ فالقيم الرمزية التي يخصّ بها رشدي صوفية زينوبيا تتخطى الشروط التي صاغ فيها وجودها. والتورية المزدوجة في اسمها -على كلمة «صوفيّ» وعلى اسم «زينب»، حفيدة النبي محمد ومحور عديد من الاتجاهات الشعبية المشتقة من الإسلام الصوفي- هي، في هذا السياق، مفرطة وأقرب إلى المزاح المتباهي الذي يستحمق الآخرين.

يتضح هذا ما إن نتذكر مراحل تصاعد عنفها. والاستعارة الحاكمة لهذا التصاعد -الوحش الخارج من داخل الجميلة، في حين أنَّ الجميلة نفسها هي أيّ شيء ما عدا كونها جميلة بأيّ معنى تقليدي-هي من جديد استعارة بديعة ضمن تقليد الغروتسك، والفكرة السياسية المنقوشة في هذه الاستعارة -حق المرأة الأصيل في أن ألا تكون دمية بل مقاتلة- هي فكرة قويّة بالمثل. لكن حسّ الانزعاج يتأتّى عن الطريقة غير المنطقية والزائفة التي تتراكم فيها حالاتها العنيفة وعن ما تغدو عليه هي نفسها (مدمّرة للرجال والحقول والحيوانات؛ وحش بأربعة قوائم) قبل أن تبلغ هدفها: قتل زوجها، «البطل الهامشي»، عمر الخيام شاكيل. ويأتي أول اندلاع للعنف من هذا القبيل في سن الثانية عشرة عندما تقتل مئتين وثمانية عشر ديكاً رومياً بالتذاذٍ عربيد: «اقتلعت صوفية زينوبيا رؤوسها ثم امتدّت يداها إلى أسفل في أجسادها لتخرج أحشاءها من أعناقها» (ص 150). وتفسير هذا بسيط بما فيه الكفاية، بالطبع: «اثنا عشر عاماً من الإذلال بلا حبّ تترك أثرها حتى على أبله» (ص 149). ويأتي الاندلاع التالي، البريء بالمثل، من وجهة نظر الكاتب، في يوم زواج شقيقتها حين تحاول أن تفعل بصهرها ما سبق لها أن فعلته بالديوك الرومية، لكنها تكتفي بفتل عنقه وتشويهه تشويهاً دائماً وضع حدّاً لمسيرته كلاعب بولو. والتفسير بسيط تماماً مرّة أخرى: «انصبّ في روحها بالغة الحساسية فيض عارم من العار» في تلك الظروف التي كان يجري فيها الزواج، كما يُفترَض (ص 186). غمٌّ شديد في حالة، حسّ الشرف في حالة أخرى! لكنّ ما هو أعظم يأتي بعد ذلك. حينها، كانت السنون قد مرّت وتزوجت من شاكيل الذي حُظِّرَ عليه النوم معها وراح ينام مع شهبانو، خادمتها، بدلاً من ذلك. وتبدأ صوفية بالتساؤل عن الجنس والأطفال ومعنى الزواج ذاته، وخيانة شاكيل؛ كان دماغها في ذلك الوقت دماغ فتاة في السادسة! وفي يومٍ تخرجُ من البيت –بسبب الإحباط والغضب، على ما يبدو- وتلتقط أربعة رجال، وتجامعهم، وتقتلهم، وتعود إلى المنزل وعلى حجابها المني والدم. المقطع المركزي في هذا الحدث جدير بالاقتباس:

العار يسير في شوارع الليل. في الأحياء الفقيرة أربعة شبّان تخترقهم تلك العينان الرهيبتان اللتان تهبّ نارهما الصفراء القاتلة من شبك الحجاب مثل ريح. يتبعونها إلى مكبّ قمامة الهلاك، جرذان تتبع فلفلها، بشرٌ آليون يرقصون في الضوء الغامر المنبعث من العينين المحجبتين بالسواد. تستلقي؛ وما أخذته شهبانو على عاتقها يُفعَلُ أخيراً لصوفية. أربعة أزواج يتناوبون. أربعة يدخلون ويخرجون، ومن ثمّ تصل يدها عنق الصبي الأول. الآخرون لا يزالون ينتظرون دورهم. والرؤوس تُقذَف عالياً، غارقةً في الغيوم المتناثرة؛ فلم يرها أحد تسقط. تنهض، تمضي إلى البيت. وتنام؛ يهمد الوحش. (ص 242)

في هذا المقطع، تغدو صوفيةُ الأسطورة الأقدم بين الأساطير المعادية للنساء: العذراء التي هي مصّاص دماء فعلياً، المغوية التي تغري الرجال لقتلهم ولا سبيل إلى مقاومتها، مصّاصة الدماء والمغوية التي ليست موضوعاً لتلاعب الرجال بل ملتهمة للمنحوسين منهم. وهي بذلك تكتشف ذاتها «الحقّة»، وتغدو المعاكس لا للابنة الأخرى في الرواية، أرجوماند، «العذراء ذات السراويل الحديدية» (كاريكاتير رشدي لبيناظير بوتو) فحسب، بل المعاكس أيضاً للذكر المسلم الذي تُحِلُّ له الشريعة الإسلامية زوجات أربع: وما تفعله بـ«أزواجها الأربعة» هو، بالطبع، أكثر تطرفاً بكثير، ربما لأنّ تخلفها العقلي أشدّ من أن يضاهيه كِبَر شهيتها الجنسية فضلاً عن حقدها.

تمضي صوفية إلى البيت وتنام، لكنّ من الواضح أنّها مسألة وقت فحسب قبل أن تهرب من جديد، إلى الأبد هذه المرّة، «لأنّ الحيوان اللاحم ما إن يتذوّق الدمّ حتى لا يعود بمقدورك خداعه بالخضار بعد ذلك»، ولأنَّ «العنف الذي وُلِدَ من العار ... يعيش الآن حياته الخاصة تحت جلدها» (ص 268). وهي تهرب، لكن «ما يجول الآن طليقاً في الفضاء المتطامن لم يكن صوفية زينوبيا شاكيل على الإطلاق، بل شيء أشبه بمبدأ ... مقصلة بشرية ... تحزّ رؤوس الرجال» (ص 268-270). وسرعان ما تكفّ عن كونها إنساناً حتى بالمعنى الحرفي، وتصبح، من بين الأشياء كلّها، «نمراً أبيض» بـ«رأس أسود، وجسد شاحب أجرد، ومشية خرقاء»؛ وراحت «القصص عنها ... تَرِدُ من جميع أنحاء البلاد» (ص 280):

حوادث قتل للبهائم والرجال، غارات على قرى في الظلام، قتلى من الأطفال، قطعان مذبوحة، عويلٌ مروّع (ص 280). ... تواصلت عمليات القتل: مزارعون، كلاب شاردة، ماعز. شكّلت حوادث القتل حلقة موت حول المنزل؛ بلغت ضواحي المدينتين، العاصمة الجديدة والمدينة القديمة. حوادث قتل لا ناظم لها ولا سبب، تُرْتَكَب، كما يبدو، حبّاً بالقتل، أو إرضاءً لحاجةٍ شنيعة. (ص 287)

وعلى نحوٍ غير متوقّع، يلوح ما يعتبره الكاتب معنى هذه الأشياء كلّها لعمر الخيام شاكيل، زوجها وطبيبها الذي لم يكن حتى ذلك الحين سوى الصفاقة مجسّدةً:

لأوّل مرّة في حياتها ... تلك الفتاة حرّة. تخيّلها فخورةً؛ فخورةً بقوتها، فخورة بالعنف الذي كان يجعلها أسطورة، ويحول دون أن يقول لها أحدٌ ما يجب أن تقوم به، أو ما يجب أن تكون عليه، أو ما كان يجب أن تكون عليه ولم تكن؛ أجل، لقد ارتفعت فوق كلّ شيء. (ص 281)

هذا، بالطبع، كلام رشدي نفسه؛ فما من شيء في شخصية شاكيل يشير إلى أنّه قادر على القيام بمثل هذا الفعل من الفهم وسعة الخيال. لكنّ هنالك ما هو مقلق للغاية في شأن فكرة «الحرية» التي تكمن في الارتفاع «فوق كلِّ شيء» (في لحظة باكرة من الرواية، كنا قد وقعنا على فكرة «الطفو بعيداً»)، وتجعل المرء قادراً على ارتكابِ عنفٍ عديم الحسّ وبلا حدود. وإذا ما كان هذا ما تغدو عليه صوفية زينوبيا، فإنَّ من العسير على القارئ، بسبب هذه البلبلة الأخلاقية، أن يتعاطف معها في ذلك الحدث الأخير حيث تتمكن أخيراً من قتل عمر الخيام شاكيل نفسه. ففي ذلك الوقت، لم يعد الأمر مواجهةً بين الصفاقة والعار بل، الأحرى، بين رجل من الواضح، بالطبع، أنّه مُقْعَد أخلاقياً، وامرأة غدت وحشاً، بالمعنى الحرفيّ لا الاستعاريّ.

 تطرح صورة صوفية زينوبيا هذه -متضافرة مع صورتي بلقيس وراني اللتين ناقشناهما آنفاً وصورة أرجوماند («العذراء ذات السراويل الحديدية») التي لم تُتَح لنا فرصة مناقشتها كما ينبغي- سؤالاً أساسياً حول رؤية رشدي للعالم عموماً والنساء خصوصاً. فبالنظر إلى تشديد رشدي نفسه على أهمية النساء في العار، فضلاً عن تصوره لصوفية بوصفها مبدأً للشرف والخلاص، يبدو أنّه صاغ كاريكاتوراً مريعاً لما يمكن أن تكون عليه المقاومة الأنثوية لضروب القسوة؛ حيث تغدو المرأة نفسها، في هذه الطبعة، مُغْتَصِبَةً. ونظراً إلى اقتران خيال رشدي الوثيق بصور الانحطاط العام والخراب الاجتماعي الذي لا قيام منه، تخفّ قدرته كثيراً على تصور إمكانية فعلية لقيام البشر الموجودين في واقعنا الاجتماعي المعاصر بمشاريع للتجديد، إلى درجة أنّه حين يحاول، نحو نهاية الرواية، أن يفتح إمكانيةً لهذا التجديد، على هيئة هروب صوفية -وكذلك عودتها، مثل آلهة النقمة والمصير اليونانية نيميسيس وآلهة الانتقام المفترسة- فإنَّ القوى التي يهبها إيّاها، ككاتب، في لحظة انتصارها هي قوى التدمير وحده. ومما يشير إلى مزاج الرواية بأكملها أنَّ براءتها ذاتها، بما فيها براءتها من ضروب الفساد الاجتماعي في عالم رشدي المتخيَّل، ليست سوى براءة المجنون والمتخلف عقلياً؛ فإذا ما كان صحيحاً أنّها الشخص الوحيد الذي يمتلك أخيراً طاقة المعارضة والفوز، فإنَّ هذه الطاقة ذاتها تضرب بجذورها -حرفياً، كما تخبرنا الرواية- في حمّى الدماغ. وعلاوة على ذلك، فإنَّ قوتها ليست مدمّرة فحسب بل عمياء أيضاً؛ فهي قبل أن تنتقم من معذّبيها، لا تترك ركناً ولا شقّاً من البلاد إلا وتطوفه، كما يقال لنا، مفترسةً البهائم والبشر، مدمرةً الحقول، وخالقة الرعب. وهذا الضرب من الصورة التي تضفي طابعاً رومانسياً على العنف بوصفه خلاصاً ذاتياً، لا تتمتّع، بالطبع، بأيّ قدرة على تصوير سيرورات التجدد؛ وهي علاوة على ذلك مرتبطة، بأشدّ الطرائق إثارة للخلاف، بأساطير إمبريالية ومعادية للنساء: صورة المقاتل من أجل الحرية بوصفه إرهابيّ معتوه؛ صورة المرأة الحرّة –أو الساعية إلى الحرية- بوصفها مصاصة دماء، أمازونيّة، بهيمة ملتهمةٌ للرجال.

 ما يوضحه تصوير صوفية زينوبيا هو مرّة أخرى الطبيعة المحدودة، بل والمعادية للنساء التي تَسِمُ التنميط الذي يضمّنه رشدي طيفَ تجربة النساء بأكمله. وكما أشرت أعلاه، ثمة في العار حوادث عديدة يتضح فيها الإحساس باضطهاد النساء ذلك الاتضاح الكافي؛ ويمكن للمرء، في واحد من ردود الفعل على ذلك، أن يشفق على ضحايا هذا القمع، بطريقة تشبه كثيراً طريقة البرجوازية الليبرالية التي لا تني تشفق على الفقراء. كما يمكن للمرء أيضاً أن يقرّ ضمن حدود، في ما يتعلق بالبنية العامة لتمثيل رشدي النساء، أنَّ كثيراً من النساء يُدفَعْنَ بلا شكّ في الحياة الفعلية إلى الجنون والعنف والرهاب والعته. لكنّ النساء لسن مجرد ضحايا للتاريخ، بأيّ معنى جوهريّ؛ والأساسي أكثر بكثير، أنَّ النساء صمدن في وجه محن ثقيلة، وصنعن التاريخ. لم يكن الجنون، ولا السعار الجنسي، ولا انعدام الوجود، ولا حمّى الدماغ بالأشياء كثيرة الشيوع بوجه عام؛ ولطالما قامت الغالبية الساحقة من النساء بعمل منتج خصيب (لم يقتصر على التكاثر)؛ ومثل أولئك الرجال الذين يقومون بعمل منتج، أقمن علاقةً مع المجتمع والتاريخ هي أساساً علاقة واسعة الخيال، رؤيوية، جماعيّة، وتجديديّة. وغالباً ما كانت الحاجة الإيروسية مهمة، بالنسبة إلى النساء كما بالنسبة إلى الرجال، لكنها لم تكن الرغبة الوحيدة إلا في حالات نادرة، خارج ضروب أخرى من الحب والتضامن؛ في حين كان العمل، بالنسبة إلى الغالبية العظمى، أكثر أهمية بكثير؛ فالنساء لسن مجرد أجساد إيروسية، شأنهن في ذلك شأن الرجال. ولذلك ثمّة ما هو منحرف جوهرياً في منظومة من الصور تفرط، حين يتعلق الأمر بوصف النساء، في تثمين المناطق الإيروسية، وما هو خارج عن المنطق، ومعتوه، وشيطاني. وهذا يعني أنَّ ثمّة خطأً قاتلاً في رواية ينبغي الإشفاق على كلّ امرأة فيها، وتثير معظم نسائها الضحك، وبعضهن يثرن الخوف، لبعض الوقت على الأقلّ، لكنَّ أيّاً منهنّ لا يمكن أن تُفهَم بالعلاقة مع تلك المشاريع الأساسية في البقاء والظَّفَر التي هي صنع التاريخ ذاته. هجاء السادة شيء، وشيء آخر مختلف تماماً تقديمُ صور للنساء مثل هذه تقشعر لها الأبدان -تقشعر لها الأبدان فحسب- على نحوٍ وثيق الصلة بالصور النمطية السائدة.

أحسبُ أنَّ عجز رشدي عن إدراج احتمالات التجديد في العالم الجروتسكي لإبداعه التخيلّي يمثّل خللاً مفهومياً من نوع أساسي. وهو يتحدث في الرواية، مرّة بعد مرّة، عن «بلد»؛ لكن ما يقدّمه لنا هو، إلى حدّ بعيد، صورةُ عالَمِ طبقتهِ الحاكمة الوحشيّ والخانق. وهو يبدو عارفاً بذلك العالم أحسن المعرفة، لكن الغرق في صورة الحكّام بوصفها صورة “البلد» ذاته هو سقطة، في اعتقادي، لا في السياسة فحسب، وقد جرى تصوّرها على نحوٍ ضيق، بل أيضاً في التخيّل الاجتماعي. ومن هنا، تلك الواقعة اللافتة المتمثّلة في أنّه في حين لا يني رشدي يتحدث عن السياسة، نجد أنَّ جميع الأفعال السياسية الممثّلة في قالب الرواية هي ديماجوجية، أو انتهازية، أو مصلحية، أو قاسية، أو وضيعة في أحسن الأحوال. وهذه السياسة في معظمها مهزلة، وهي مأساة في بعض الأحيان، لكنها عاجزةٌ أبداً عن إنتاج مقاومة للاضطهاد، وتضامن، وسلوك بشري سليم، أو أيّ نوع من أنواع الجماعة البشرية؛ وعلى الرغم من كلّ ما في عالم رشدي المتخيَّل من فكاهة بديعة، فإنّه، في افتقاره إلى الحبّ، يكاد يكون عالماً أورويلياً. وهذا أيضاً، يقع الموقع المتّسق الملائم. فحين لا تشتمل رؤية عالمك المتخيل السياسية على أولئك الذين يقاومون أو يحبّون أو يتصرفون بأيّ قدر من السلامة أو الشجاعة، فسوف تستنتج -كما يفعل رشدي في «أسوأ حكاية في التاريخ» التي تأتي في الصفحات الأخيرة من الرواية- أنّه بلد خان فيه الأخ أخاه على مدى أجيال! وأنّ تاريخ الباكستان الآن يعج بالخيانات، بالطبع، شأنه شأن تاريخ الهند. لكن فكرة دوام الخيانة وانتشارها -بعبارة أخرى، هذه الفكرة الأورويلية التي مفادها أنَّ البشر لا ينفكّون يخون واحدهم الآخر على الدوام- هي ما يمنح هذه الرواية خاصيتها الاستثنائية تماماً: الافتقار إلى الحب. ومثل هذه الرؤية القاتمة للإمكان البشري هي ما يمكن الوقوع عليه في رواية أورويل 1984 أو في رواية نايبول منعطف النهر.

 ثمّة صلة، كما أعتقد، بين رؤية العالم هذه وطريقة رشدي في تمثيل النساء. وكنتُ قد بيّنت أنَّ مسألة تمثيل النساء هذه هي مسألة مهمة سواء لأنَّ قضية معاداة النساء هي قضية محورية على الدوام في أيّ نوع من المشاريع المعارضة، أم لأنّ تمثيل النساء الموجودات في الرواية يوفّر لنا، بغياب ضروب التمثيل الأخرى لأيّ شريحة ثانية مضطهَدة، إشارات حاسمة إلى البنية العامة لضروب التعاطف التخيّلية التي يبديها رشدي. وأحسب أنَّ هناك نقطتين جديرتين بأن تطرحان هنا. الأولى هي أنّ أيّ تمثيل للنساء، سواء في التخييل أم في الحياة، مرتبط بالجندر، بلا شكّ، لكنّه مرتبط أيضاً بما يتعدّى العلاقات الجندرية؛ ويكاد يكون على الدوام مؤشّراً إلى بنية شعورية أوسع بكثير وإلى شبكة سياسية أعقد بكثير. بعبارة أخرى، ما حاولت القيام به ليس أن أقرأ الرواية قراءة وافية بل أن أقرأها قراءة أعراضيّة: بالتركيز على عَرَض أساسيّ وحيويّ واحد لكنّه يمكن أن يوفّر لنا أيضاً، وفي الوقت ذاته، شيئاً من فهم البنية ككلّ. والثانية، هي أنَّ السياسة لا تبدو لي مسألة معارضة بقدر ما تبدو مسألة تضامن؛ فمن الأسهل على الدوام أن ندين الطغاة ونؤكد، بدلاً من ذلك، على قيم عمومية –«حرية، مساواة، أخوة»، مثلاً، كما يفعل رشدي نحو نهاية الرواية (ص 278)- لكن الأصعب على الدوام هو الانتماء إلى ضروب محددة من الممارسة، لا نتصورها من حيث القيم التي تخدمها باعتبارها حكماً على التاريخ، بل بوصفها تضامناً مع جماعات من الأفراد، مختلّة وبطولية في آن معاً، تعمل ضمن ذلك التاريخ، من مواقع اجتماعية وسياسية محدَّدَة.

5

بصرف النظر عن ضروب الخيارات الأخرى التي كان يمكن لرشدي أن يتّخذها أو لا يتّخذها، فإنَّ ذلك الضرب من السياسة مُسْتَبْعَدٌ بالنسبة إليه بحكم الموقع (ما بعد) الحداثيّ الذي يختاره لنفسه وبحكم مدى تثمينه تجربة «الهجرة» وعدم الانتماء. وهذا واضح بما فيه الكفاية في العار، لكنه أكثر وضوحاً في كتابته المباشرة غير القصصية. ولإلقاء الضوء على هذه النقطة، أريد أن أنظر بإيجاز إلى قطعتين له اخترتهما اعتباطاً نوعاً ما: مقالته القصيرة عن جونتر جراس وتعليقه المُحْكَم والممتع، «خارج الحوت»، على سيل الأفلام التي ظهرت مؤخّراً عن الراج البريطاني. واختياري اعتباطي بمعنى أنَّ هاتين القطعتين ليستا أكثر أو أقلّ تمثيلاً من سواهما؛ لكني اخترتهما لأنهما جاءتا بعد العار مباشرةً ولأنهما قصيرتان ومبتكرتان ممتعتان من بعض النواحي، ومربكتان في جوّهما ما بعد الحداثيّ الصريح.

 تبدأ المقالة عن جراس، مثلاً، كما يلي:

في صيف عام 1967، عندما كان الغرب -ربما لآخر مرّة- واقعاً في براثن مرض التفاؤل، وعندما كانت عُصَيّةُ التفاؤل المجهرية غير المرئية قد جعلت شبابه يعتقدون أنَّ الغلبة ستكون لهم ذات يوم، وعندما لم تكن البطالة بتلك الأهمية وكان المستقبل لا يزال موجوداً، وعندما كنت في العشرين من العمر، اشتريت من مكتبة في كمبريج نسخةً ورقية الغلاف من ترجمة رالف مانهايم الإنكليزية لرواية جراس طبل الصفيح. في تلك الأيام كان لدى الجميع أشياء يفعلونها أفضل من القراءة. كانت هناك الموسيقا وكانت هناك الأفلام وكان هناك أيضاً، لا تنسوا، العالم الذي يجب تغييره. ومثل كثيرٍ من معاصريَّ قضيت أيام الدراسة مسحوراً ببونويل، وجودار، وراي، وفايدا، وويلز، وبيرجمان، وكوروساوا، ويانشو، وأنطونيوني، وديلان، ولينون، وجاجر، ولينج، وماركوزه، وبلا شكّ، القرين ذي الرأسين المعروف لقرّاء غراس باسم ماركسِنْجِلْز. ... كانت جوازاتي، الأعمال التي أعطتني التصاريح التي احتاجها، كتاب الحسّ السينمائي لسيرجي ايزنشتين، وقصائد تيد هيوز في مجموعته «الغراب»، وعمل بورخيس قصص، ورواية ستيرن تريسترام شاندي، ومسرحية يونسكو الخرتيت، وفي ذلك الصيف، في عام 1967، طبل الصفيح. (ص 276)

لقد أوردتُ الجملتين الأخيرتين في المقطع أعلاه («ومثل كثيرٍ من معاصريَّ ...» وما يليها) كي أنقل إحساساً بنوع التأثيرات والبيئات الثقافية التي ساهمت في صنع نمط المخيّلة التي لدى رشدي. لكني أكثر اهتماماً هنا بالأقوال التي سبقت هاتين الجملتين. من الواضح أنَّ النبرة هجائية، بل وتهكمية، والحماقات المدرجة هنا ليست حماقاته بالطبع بل حماقات الغرب، كما يقول لنا. والمراد من نبرة الهزء هو بَذر الاضطراب في معنى المقطع ذاته. لكن بمقدورنا، على الرغم من هذه الاستراتيجية، أن نكشف الميل إلى تكرار مُبتَذَلات الثقافة الرفيعة المتروبولية وحتى أغلاطها، من دون تفكير تقريباً. من المشكوك فيه، على سبيل المثال، أنَّ شيئاً يُدعَى «الغرب» كان، في صيف عام 1967، «في براثن مرض التفاؤل»؛ كانت تلك السنة التي بدأ فيها الفيتناميون أخيراً تركيز قواهم في ما بات يُعرَف باسم هجوم تيت، ولم يكن جزءٌ من «الغرب» على الأقلّ -الإمبريالية الأميركية، على سبيل المثال- «متفائلاً» على الإطلاق. ومن المشكوك فيه بالمثل أن يكون «التفاؤل» على هذا النحو -فكرة أنَّ «المستقبل لا يزال موجوداً»، والأمل في «أنَّ الغلبة ستكون لنا ذات يوم»، والقناعة بأنَّ هناك «العالم الذي يجب تغييره» - «مرضاً» (عُصَيّة مجهرية، غير مرئية، كما يخبرنا هازلاً). والحال، إنَّ تفكّه المرء، في وقت لاحق، على غرارة شبابه شيء، وأنْ يعلّمه النضج أنَّ إقامة علاقة رؤيوية مع الواقع هي حماقة بحدّ ذاتها، وأنَّ الأدب ترياق لمثل هذه الحماقات، هو شيء آخر يعني المساهمة، غير المتعمدة ربما، في ذلك الضرب على وجه التحديد من النزعة الانسحابية السلبية التي يبدو رشدي نفسه رافضاً لها شكلياً في أجزاء أخرى من هذه المقالة القصيرة وفي كثير من الكتابات الأخرى.

غدا اليأس الآن، في عصر الرأسمالية الراهنة وفي أعقاب الحداثة الرفيعة، عنصراً مكوِّناً في الثقافة البرجوازية المعاصرة، وهو يتضافر عَرَضَاً مع ضروب كثيرة من اللذائذ الخاصة، بحيث ينسى المرء، حين يقع على صيغ مثل «لا مستقبل» وما إلى ذلك، أيَّ رؤية قاتمة للإمكان البشري يشير إليها هذا النوع من التفكير. ولعلَّ عدم ارتياح رشدي لمثل هذه القتامة هو ما دفعه لأن ينهي المقال، شكلياً، بكلمة «أمل». لكننا نرى، قبل أن نأتي إلى تلك النهاية الشكلية، بعض الطرائق الأخرى المميزة التي يساهم رشدي من خلالها في هذا الجوّ الثقافي. وعلى سبيل المثال، هو يتحدث أولاً عن جراس وعن نفسه على أنّهما «مهاجران»، بالمعنى الحرفي للكلمة، باعتبارهما فردين ولدا في مجتمع وهاجرا إلى مجتمع آخر؛ وهو يقول، في هذا الصدد، بعض الأشياء الألمعيّة. لكنه يمضي بعد ذلك ليوسّع معنى «الهجرة» ويضعها على مستوى أنطولوجيّ كونيّ: «جميعنا مهاجرون»، كما يقول، بمعنى أنّ «جميعنا نعبر الحدود». وهذا صحيح أيضاً، وإن يكن على نحوٍ جدّ مبتذل من الأنحاء. لكن المشكلة تأتي عندما يتابع، بعد أن يعرّف الهجرة بأنّها «استعارة» للشرط الإنساني ذاته، ليقول إنّ المهاجر «كائن استعاري» وأنَّ «الذكاء المهاجر يضرب بجذوره في ذاته» لأنّه يفهم «طبيعة الواقع المصطنعة». والآن، إذا ما كان المهاجر كائناً استعاريّاً، وإذا ما كنّا «جميعنا مهاجرين»، فمن الواضح، عندئذٍ، أننا جميعاً «كائنات استعارية»؛ كما أنَّ الواقع نفسه «مصطنع» ليس بمعنى أنّ كثيراً منه من صنعنا فحسب بل أيضاً بالمعنى الأكثر مثالية وحداثيّة الذي مفاده أنَّ الحياة لا وجود لها خارج استعاراتها؛ وإذا ما كان الواقع «مصطنعاً» فحسب (كلمة «مُنْتَج» هي كلمة أخرى يستخدمها رشدي في هذا السياق)، فمن الواضح أن لا خيار أمام ذكاء الكاتب سوى «أن يضرب بجذوره في ذاته»؛ عندئذٍ تكتمل الرابطة بين اليأس الاجتماعي وفقدان الواقع بالمعنى الحرفيّ والنرجسية. ضمن هذه المحمولات الأيديولوجية، ما نوع «الأمل» الذي يتحدث عنه المرء حين يختتم مقالته بتلك الكلمة؟ هنا، أيضاً، كلام رشدي، في الجملتين التي تسبقان جملة «الأمل»، له دلالته:

تدبيج المراثي هو في الواقع واحد من الردود المناسبة التي يمكن للكاتب أن يبديها عندما يحلّ الظلام باكراً. أمّا خارج قصّه، في أنشطته السياسية وكتاباته، فيبدي جراس ردّاً آخر، مناسباً بالمثل. ما يقوله هذا العمل هو: لم نَمُتْ بعد.

الافتراض هو أنَّ الظلام «يحلّ باكراً»؛ مرّة أخرى، ما من مستقبل. لذلك يكتب المرء المراثي، بقدر ما تكون الكتابة القصصية هي المعنيّة. أمّا المقاومة، بوصفها كذلك، فتنتمي إلى مجالات أخرى: الأنشطة السياسية والكتابات السياسية المباشرة. بعبارة أخرى، لا يمكن للفنّ أن يكون سوى فنّ اليأس؛ وكلّ شيء آخر يفعله المرء إنّما يفعله في غير مكان. لكن كلّ ما يسع المرء قوله، حتى في تلك المجالات الأخرى، هو «لم نَمُتْ بعد». الافتراض هو مرّة أخرى أنَّ القيامة، نهاية العالم الشيطانية، وشيكة؛ سوف نموت جميعاً عمّا قريب، وما ضحكنا، إذا ما كان ضحكاً بأيّ حال من الأحوال، سوى ضحك اليوم الذي يسبق نهاية العالم. بعبارة أخرى، نحن لا نفعل ما نفعله لأننا نأمل في أن نغيّر أيّ شيء، بل لأنَّ ضرورةً وجوديةً ما قدّرت لنا أن نفعله؛ هكذا نعود إلى صيغة بيكيت -«لا أستطيع أن أُكمل ... سوف أُكمل»- وهي الصيغة التي يوردها رشدي نفسه محبّذاً في مقالته الأخرى، «خارج الحوت».

لا مجال هنا لتقديم قراءة مفصّلة لتلك المقالة الغريبة: غريبة بمعنى أنّها حسنة جداً من نواحٍ كثيرة لكنها، في النهاية، مشوبة بعمق بجماليات اليأس عند رشدي. ومن بين أكثر الأشياء فيها غرابةً أنَّ رشدي، بعد أن ينقد أورويل نقداً بديعاً –لا سيما مقالته التي أخذ منها رشدي نفسه عنوانه- وبعد رفضه النزعة الانسحابية السياسية التي ينصح بها أورويل في هذا المقال، يمضي ليُبدي ليس ذلك النوع ذاته من الحساسية الذي أبداه في مقالته عن جراس فحسب، بل أيضاً ما يبدو أنّه يتقاسمه مع أورويل من قدرة مميزة على النطق بأفكار متناقضة تماماً في الوقت عينه. هكذا، يصعب أن نعرف أين يقف فكرياً حين يقول، مثلاً، في جملٍ متتالية لفقرة واحدة، «نحن جميعاً شَعَّعَنَا التاريخُ، وبتنا مُشِعِّين بالتاريخ والسياسة التي هي تاريخٌ قيد الفعل» و«السياسة تتقلّب بين المهزلة والمأساة، وهي في بعض الأحيان ... كلتاهما معاً». والآن، إذا كانت «السياسة تتقلّب بين المهزلة والمأساة»، وكانت أيضاً «تاريخاً قيد الفعل»، فما الذي يقوله رشدي بالضبط عن «التاريخ» الذي «شَعَّعَنَا» جميعاً؟ هل يقول إننا شُعِّعْنَا بـ«مهزلة ومأساة» التاريخ؟ من الطبيعي، إذاً، أن نجد رشدي في نهاية تلك الفقرة يستشهد بصيغة بيكيت محبّذاً، «لا أستطيع أن أُكمل ... سوف أُكمل». مرّةً أخرى، المشكلة هي أنّه إذا ما كان هذا الضرب من الإنهاك العالمي هو المكان الذي يتّخذ فيه المرء موقفه، وإذا ما كان التاريخ قد نُبِذ بوصفه «مهزلة ومأساة»، فما الذي يدفع المرء أصلاً لينازع أورويل؟ في النهاية، كان أورويل أيضاً قد أفسح لما اعتبره «السياسة» مجالاً واسعاً في كتاباته، ورأى هو أيضاً أنَّ السياسة مأساة حيناً، ومهزلة في أكثر الأحيان.

6

ليس هذا التوازي مع أورويل بالمسألة الثانوية. ولا شكَّ أنَّ مناقشةً سياسيةً لأعمال رشدي باتت الآن بالغة الصعوبة في أعقاب الإرهاب الذي أطلقه ضدّه رجال الدين الذين يحكمون إيران. ولكن في تلك الأيام السابقة -عندما لم تكن حياته معرضة للخطر، وعندما اقتحمت روايتاه أطفال منتصف الليل والعار المشهد الدولي، وتلقّتا احتضاناً متساوياً من النيو ليفت ريفيو والنيويورك تايمز- كانت مدهشةً حقيقةُ أنّه لم يَنَلْ منذ أورويل كاتبٌ سياسيّ ذو خلفيّة استعمارية -وكاتبٌ يعلن أنّه اشتراكي- القدرَ ذاته من الإعجاب من اليمين واليسار. فإلى جانب افتقار قصصه إلى الحبّ، واقتحامات متكررة تقتحمها مسحةٌ من معاداة النساء، وإيمان عفوي معين بكونيّة الخيانة -مما كان أورويل أيضاً قد بدأ بإظهاره منذ كتاباته الأولى، منذ أيام بورميّة فصاعداً- عبّأ رشدي أيضاً موقف عدم الانتماء ذاك، موقف الفرد المتوحّد الذي يشغل موقعاً أخلاقياً رفيعاً فوق «اختلافات السياسة» (عبارة رشدي)، ليطلق إداناته لكلّ من اليسار واليمين على السواء: إنديرا غاندي، جنرالات الباكستان، الأحزاب الشيوعية، الناكسال*، نجوم السينما، الأنبياء، الحظر قصير الأجل لصحيفة La Prensa. يمكن للمرء، في قضيةٍ معينة –مثل العنصرية، التديّن، الدكتاتورية، الإمبراطورية وما شابه- أن يتّخذ موقفاً، وأن يتكلّم على نفسه بوصفه يسارياً، بوجهٍ عام، كما كان يفعل أورويل نفسه في كثير من الأحيان؛ لكنَّ العالم الذي أعطى خيال المرء وقصصه ما فيهما من طاقة لم يعد فيه أيّ يسارٍ فعلي أو جماعةٍ مُمَارِسةٍ قائمة يشعر هذا المرء أنّه مرتبط بهما بأيّ طريقة جوهرية من الطرق، متحملّاً تلك الأخطار والقيود والمعاناة التي غالباً ما ينطوي عليها مثل هذا الارتباط ومكافحاً إيّاها. لقد «طفا» المرء «مبتعداً» عن كلّ هذه الأسس، بل وبات لا يني يدين، دونما تمييز، كلّ ما تركه وراءه. في وقتٍ سابق، وصولاً إلى صميم الحداثة، كان خراب الذات هذا لا يزال يُعاش في أكثر الأحيان على أنّه خسارة؛ وما فعلته ما بعد الحداثة هو على وجه التحديد تثمين لذائذ عدم الانتماء الذي بات يجري التدرّب عليه كأنّه يوتوبيا، حتى إنَّ عدم الانتماء إلى أيّ مكان بات يُفَسَّر على أنّه الانتماء إلى كلّ مكان بما فيه من لذّة دائمة.

ليس لديّ في هذا السياق ما هو أفضل من اقتباس مقطع طويل من ذاك العمل الكلاسيكي القديم، الثقافة والمجتمع، يدور في الظاهر حول أورويل لكنّه يتحدث بوضوح عن أشياء أكبر:

كان أورويل واحداً من عدد كبير من الرجال الذين حُرموا العيش المستقرّ ... فوجدوا فضيلةً في ضربٍ من العيش المرتجَل، وفي التأكيد على الاستقلال. وهذا التقليد مميَّز في إنكلترا. وهو يشدّ إليه فضائل ليبرالية كثيرة: التجريبية، قَدْرٌ من الكمال، الصراحة. وهو يتّسم أيضاً، بوصفه الفضيلة التي عادةً ما ترتبط بالمنفى، بخصائص التبصّر: لا سيما القدرة على تبيّن أوجه القصور في المجموعات التي نُبِذَت. ... ثمّة مظهر يوحي بالصلابة (نقدٌ صارمٌ للنفاق والرضا وخداع النفس)، لكنه عادةً ما يكون هشّاً، وهستيرياً في بعض الأحيان. ... وإلى جانب رفض التسوية ذلك الرفض العنيد الذي يسبغ على التقليد فضيلته، ثمّة العنانة الاجتماعية الملموسة، عدم القدرة على إقامة علاقات واسعة ...

... لكننا بحاجة إلى التمييز بين المنفى والتشرد: عادة ما يكون ثمّة مبدأ في المنفى، أمّا في التشرد فليس ثمّة سوى الاسترخاء ... المتشردُ، بلغةٍ أدبية، هو المراسل الصحفيّ، ... ومن غير المحتمل أن يفهم، بأيّ قدر من العمق، الحياة التي يكتب عنها. ... لكنَّ مجتمعاً مضطرباً يتقبّل بسهولة بالغة مثل هذا النوع من الإنجاز: ثمة على صعيد أول التقرير الذي يكتبه المراسل عمّا هو مثير للفضول وغرائبيّ؛ وثمة على صعيد ثان النقد المتبصّر، عندما تكون الطبقة أو المجتمع أدنى إلى نقد المراسل.

الآن، بعد حكم الخميني عليه، تحول «تشرّد» رشدي، على نحوٍ متناقض ومأساوي، إلى نفيّ تام. لكن حتى ذلك الشرط السابق الذي أُنتجَت فيه أعماله يصعب أن يُستخدم لإنكار اتساع إنجازه، وهو اتّساع كبير. وما تساعدنا على فهمه تعليقاتُ وليامز على أورويل هو أهميةُ طرائقِ عيشٍ معينة –باتت «تقليداً»، في الحقيقة- وارتبطت في بعض الحالات –ومنها حالتا أورويل ورشدي، بلا شكّ- بماضٍ استعماري لكنها لا تقتصر على التجربة الاستعمارية بحدّ ذاتها ولا تُنْسَب إليها بأي معنى جوهري. فللمنفى، بمعناه الحقيقي، أنواع كثيرة إلى جانب النوع الاستعماري الصرف، وهو على أيّ حال نادراً ما يُنتج إحساساً دائماً بلذّة كبيرة. وعادةً ما يكون ثمة مبدأ في المنفى، كما يشير وليامز، وهذا المبدأ يحول دون «الطفو بعيداً» وإنكار الألم. بخلاف ذلك، كان المنفى الاختياري و«التشرّد» يغدوان أكثر شيوعاً بين الفنانين في كلّ طور من أطوار الثقافة البرجوازية المتتالية منذ الأيام الأولى للرومانسية، ولأنَّ هذه التجربة اختيرت بتواتر كبير، نما الحسّ الاحتفالي بها وبـ«ذكاء المهاجر [الذي] يضرب بجذوره في ذاته» ذلك النمو المطّرد. وما تفتقده قراءات أعمال رشدي التي تضعه ضمن إشكالية «الأمّة» و»العالم الثالث» في المقام الأول، حتى لو انتهى بها الأمر إلى تعقيد هذا الموضع، هو الحضور الملموس لهذا الضرب من العيش في أعمال الرجل، مع ما يرافقه من العجز عن الإيمان بأيّ جماعة من جماعات الممارسة الفعلية، والإيمان تالياً بكونية الخيانة. وإذا ما تتبعنا المنطق الكامل الذي يقف وراء تقويم وليامز الموجز لهذا «التقليد»، مع تشخيصه الألمعيّ الرفيع لفضائله وإخفاقاته، سنجد أنّه ينطوي على أنَّ عمل رشدي لا ينبغي أن يوضع في «عالمٍ ثالثٍ» موحّد ومُصَنَّف، ولا في أسطورة بريئة من أساطير «الهجرة»، كما فعل رشدي نفسه، ولا في «كوسموبوليتانيّة» ما بعد حداثية فارغة، بل في شرط هو من بعض النواحي الأساسية أقدم وأوسع وأبعد مدى بكثير.