الحركة النسوية المصرية

إيمان النمر

زينب فواز.. فجر النسوية المصرية

2018.01.01

زينب فواز.. فجر النسوية المصرية

اليوم وفي ظل ما يُطلق عليه ما بعد الحداثة، يُستعاد التاريخ لمساءلته واستجوابه عن قيم التنوير والحداثة والتقدم والاستعمار، وإعادة تفكيك وتقييم التمثيلات والبنى الأيدولوجية التي هيمنت على صياغة أشكال الخطاب السردي التاريخي، بهدف تفكيك السلطة المركزية البطريركية «الرأسمالية» واستقراء الماضي في ضوء ما تم تهميشه، وإسقاط وهم موضوعية الكتابة التاريخية.
 ارتبطت قضايا النوع الاجتماعي بهذه الحداثة المنتقدة والمُشكك في فاعليتها الآن، وتم اجترار قضايا المرأة وصور تمثيلها كنموذج يجسد «إشكالية التمثيل المؤدلج المؤسسي»، فظهرت دراسات التابع وما بعد الاستعمار، ونقد الاستشراق. وعلى الرغم من التحفظ والحذر في الأخذ بموضوعية هذا النوع من الدراسات، إلا أن زينب فواز هنا نموذج يمكن الاستدلال منه على صحة بعض رؤاها المطروحة، سيما فيما يتعلق بهيمنة السلطة البطريركية البرجوازية وتهميش فواز كصوت نسوي تقدمي في السردية التاريخية لصالح اعتبارات طبقية ودينية وهوياتية.
منَّ زينب فواز ؟
  تنتمي فواز إلى جماعات الشوام التي هاجرت إلى مصر في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، بالنظر إلى التطورات الاجتماعية والسياسية والحريات النسبية التي كانت تميزها عن بقية الولايات ذات السيادة العثمانية، وزينب مسلمة «شيعية» اختلف المؤرخون في تحديد عام مولدها، لكن يُرجح أنه عام 1860، وتوفيت في يناير 1914، ويرجع جذورها إلى أسرة متواضعة ماديًّا من قرية «تبنين» التابعة لمنطقة جبل عامل بجنوب لبنان، وهي منطقة اشتهرت بعلماء الشيعة المتبحرين في الشعر والأدب.
   قضت زينب سنواتها الأولى في كنف السيدة فاطمة الأسعد ابنة أحد الإقطاعيين التي تولت تعليمها الذاتي، ثم انتقلت إلى مصر نحو 1870 واستقرت بمدينة الإسكندرية خادمة في أحد البيوت الثرية، إلى أن تعّرف عليها الشاعر والصحفي التركي حسن حسني الطويراني باشا (1850- 1897) رئيس تحرير صحيفة النيل وآخرون غيره؛ وساعدوها في تحصيل بعض العلوم الحديثة والإنسانيات مثل التاريخ والتراث العربي والأدب والفقه وغيره، لِما أبدته من نجابة وذكاء وقدرة على التحصيل والنقد (). 
 كان الطويراني مرشدها إلى الكتابة الصحفية والتأليف، فصدرت لها ثلاث روايات وهي «حسن العواقب» و»الهوى والوفاء» و»الملك كورش»، وكتابا «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» و»الرسائل الزينبية»، وديوان شعر، ولها مخطوطان لم ينشرا، وهما «مدارك الكمال في تراجم الرجال» و»الجوهر النضيد في مآثر الملك الحميد» ().
زينب فواز صوت نسوي تقدمي 
   لم يُصك مصطلح « نسوية Feminist» في أوروبا إلا عام 1895 مع ظهور الموجة الأولى من النسوية المنظمة()، إلا أن فواز بتعريف المصطلح كإدراك للفروق النوعية والحقوقية بين الجنسين والعمل على معالجة عدم المساواة فيما بينهما، كانت نسوية تقدمية بمعايير زمنها الاجتماعي، بل كانت أكثر إدراكًا لمحاور القضية على الرغم من فردانيتها وعدم امتلاكها أدوات تمكنها من تحقيق ما تنادي به سوى الكتابة، غير أنها وصفت عملها في أحد مقالاتها عام 1893 بالنضالي «من أجل حقوق النساء» وفي مقال آخر «لا نميل مع الهوى ولا نسير مع الغرض، ولا ننطق إلا بالحق، وغايتنا المنفعة لبنات جنسنا، والقصد منا خدمة العلم والأدب، وهي خدمة نباهي بها مفتخرات، ونجاري بها معتزات، ولا تأخذنا في الحق لومة لائم، ولا نقول إلا بعد العلم والبحث في الأمور»().
  استفادت فواز من الحراك الثقافي، ثم من الصحافة النسائية التي أنشأتها الطبقة الوسطى من الشوام المسيحيين واليهود في مصر التي أعلنت تحديها لأسطورة «صوت المرأة عورة»، لكنها انتهجت أسلوب المهادنة والتورية خشية استفزاز مشاعر الأغلبية المسلمة التي قد تضر بمصالحهم كمهاجرين في حال التعارض، وحفاظًا على حيثيات النظام الاجتماعي العام().  
 إلا أن فواز كانت أكثر جرأة وصراحة، بل استثناء في ظل السياق الاجتماعي والسياسي الذي عاصرته، في وقت كان يعد مجرد كتابة اسمها صريحًا في نهاية مقالاتها وعلى أغلفة مؤلفاتها تحديًا صارخًا للحجاب، وقبل أن يسقط الحرملك في مصر وتخرج النساء من خدورهن، كتبت روايتها «حُسن العواقب» ونُشرت عام 1894، لتثبت أن المرأة يمكن أن تتحدث خارج حيز « الحجر المنزلي وقفص الجهل الذي وراء حجاب الفظاظة مسبول عليها ستار التوحش» حسب تعبيرها()، ورأت أن الحجاب المعنوي العقلي أولى بالكسر والتجاوز قبل أي حجاب آخر، وهو ما عبّرت عنه باستفاضة ضمنية في كتابها « الرسائل الزينبية « الذي تألف من مجموع المقالات والقصائد التي نشرتها في سبع عشرة دورية مختلفة ما بين 1892، 1905.
   في عام 1892 كان البرلمان الإنجليزي يناقش الطلب النسوي الخاص بحق المرأة السياسي في التصويت والانتخاب، الذي رفضه وليم جلادستون، وإثره تفاعلت الصحافة العالمية ومنها العربية مع الحدث، وكانت حنا كوراني الأديبة اللبنانية من الرافضين بحجة أن الممارسة السياسية تفقد المرأة أنوثتها وتهدد سلامة النظام العائلي، فهاجمتها فواز على صفحات صحيفة النيل مدافعة عن حق المرأة السياسي «ومن المعلوم أن تعاطي أمور السياسة لا يكون إلا بعد درس القوانين السياسية والاجتهاد في أخذ العلوم الإدارية وغيرها مما يلزم لهذا المركز الخطير. والمرأة في الغرب لا فرق بينها وبين الرجل في درس العلوم وتعليم كل ما يلزم للرجل من العلوم السياسية والتجارية، وغير ذلك مما يدور عليه محور العالم الإنساني، فلمَّ لا تطلب الاشتغال بالسياسة كاشتغالها بالتجارة والصناعة وغيرها مما يلزم الإنسان في هذه الحياة الدنيا؟!» ().
   استندت إلى حجة «إننا لم نرَ شريعة من الشرائع الإلهية أو قانونًا من القوانين الدينية قضى بمنع المرأة أن تتداخل في أشغال الرجال، وليس للطبيعة دخل في ذلك... المرأة إنسان كالرجل ذات عقل كامل وفكر ثاقب وأعضاء متساوية... وكم من امرأة حكمت على الرجال وساست الأمور ورتبت الأحكام وجنّدت الجنود»(). 
من ذلك الاقتباس نستشف منظورها الفكري الموجه من داخل الدين لإيمانها به، ولإدراكها شموليته ودوره المؤسس في المجتمع، ثم الاستناد على السردية التاريخية التي بلورتها بشكل جلي في كتابها «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» الذي ألفته عام 1891، ويتضح من مجموع كتاباتها أنها كانت متأثرة بنظرية ابن خلدون الخاصة بسقوط وصعود الأمم، كذلك فلسفات ونظريات عصر النهضة والأنوار الأوروبية؛ إذ ربطت حقوق المرأة وضرورة تغيير وضعها الاجتماعي بالحتمية التاريخية، ونظرية الارتقاء والتطور البشري على المستويين البيولوجي والأنثربولوجي (). 
كانت فواز على وعي بضرورة الاشتغال على فكرة مساواة الرجل والمرأة في ثنائية الجسد/ العقل كي تُمنطق المساواة الاجتماعية، وبالتأكيد لم تبلور فواز نظرية أو فكرة متماسكة حول «تاريخية وأداتية النوع» التي نظّرت لها كل من سيمون دي بوفوار (1908-1986) وجوديث بتلر (1956-) في النصف الثاني من القرن العشرين المتمثلة في عبارة «لا تولد الواحدة امرأة بل تصبح كذلك»، لكنها بالفعل كانت ترى أن هوية الرجل والمرأة لم تكن من صنع الطبيعة؛ وإنما هي هوية اجتماعية تاريخية أداتية ناتجة عن التكيف الثقافي والعملي المُحّمل بتشريعات وعادات؛ أي ثنائية الرجل المنعتق / المرأة حبيسة تنميطات جسدها، ورأت أن المرأة أصبحت على طواعية مع هذه الهوية المُكيّفة، وارتضت بها مقابل التأمين المادي الذي يقدمه الرجل().
وقد جادلت فواز خصومها، سيما الرجال، مستندة على قراءاتها لبعض النظريات الطبية الحديثة التي أقرت بتكوين الإنسان مناصفة بين النوعين من أنسجتهما الميكروسكوبية، وسخرت من نظريات النمو العقلي التي جعلت من وزن المخ مقياسًا لذكاء الرجل.
  ومما قالته بخصوص تلك المسألة في مقالها المعنون بـ «هل للنساء أن يطلبن كل حقوق الرجال» : « كثيرًا ما خاض العلماء في عباب البحث عن شأن المرأة والرجل والمساواة بينهما، وكثرت في ذلك الأقوال العقلية والنقلية، واستُعملت الاكتشافات الطبية؛ فمنهم من ذهب إلى أن المرأة لا تساوي الرجل بالعقل ولا بالقوة البدنية، بدليل أنها تخالفه في الأوضاع البدنية، ومن ذهب هذا المذهب الدكتور بسكوف في رسالته التي برهن فيها على أن المرأة لا تستطيع التفرغ لدراسة العلوم العالية؛ وذلك لأن مخها لا يساوي مخ الرجل في درجة النمو، وقد استند في حكمه على وزن مخ المرأة الذي يبلغ 1250 جرامًا، وأن مخ الرجل يبلغ 1350 جرامًا» ().
وأكملت حديثها متهكمة من تلك الحجة « لكنه –لخيبة الأمل- أوصى لأجل إثبات حجته وتأييد البرهان أن يوزن مخه بعد وفاته، ولما مات وُزن مخه تنفيذًا للوصية، فُوجد أنه ينقص عن مخ المرأة خمسة جرامات، يا ليته كان حيًّا حتى كان يقتنع ويموت قرير العين» (). ورأت فواز أن علة تفوق قوة الرجل البدنية على المرأة يعود إلى التنميط التاريخي الذي حدث بناءً على تفرغ وتخصص كل من الجنسين في مجال وطبيعة العمل، وليس القانون الطبيعي، وإذا كان علم التشريح أثبت أن «عظم الذكر أثخن وأكثر اندماجًا، وألياف عضله أمتن وقوة لحمه أغرز وهيكله أكبر.. فليس بدليل كافٍ»(). وإذا كان الرجل يبني حكمه على علم التشريح فهي تستند إلى التجربة «إن البنت قوتها تعادل قوة الغلام إلى بعد دخولها في مصاف النساء، ثم إذا بدأت بالحمل والوضع تتناقص قوتها شيئًا فشيئًا إلى أن تبلغ النهاية، وأما إذا لم تنشغل به دامت قواتها على ما هي عليه إلى ما شاء الله، والتمرين بالعمل يعيض لها ما نقص من قوتها، ويقوم مقام الرياضات، وأما النقص فلا يكون إلا بالتقاعد عن الأشغال كما هو معلوم، لأننا نرى السيدة الغنية المخدومة التي حر لها الخدم والحشم لا تقوى على المشي في غرفتها إلى غرفة الطعام إلا وهي لا تكاد أن تلتقط أنفاسها لعدم قواها مع أنها في سن الثلاثين أو الأربعين، ونجد الدلالة والبلانة التي مرنت جسمها على العمل تفوق السبعين من سنيها، وهي لا تكاد تلقى جسمها إلى الأرض ولا تشكو من تعب، ولا تمل ولا تكل من العمل، وليس عندها زوج ولا حمارة» ().
  اهتمت فواز بقضية مساواة البنين والبنات في التعليم كخطوة أولى لتحرير النساء وتغيير البنية المجتمعية «من المعلوم أن كل أمة لم يتم نموها وارتقاؤها إلا بعد أن تتقدم نساؤها، وتدرس العلوم كما يدرس الرجال» وعلى المرأة ترك حياة الدعة والخمول «والخلاعة « بحسب وصفها، وأن النسوة اللواتي استحسن ذلك «فهن- ولا مؤاخذة – أحق باللوم من غيرهن؛ لأنهن اخترن العزلة والكسل وفضّلن البطالة على العمل، ورضين بالفخفخة وجر الذيول على بساط الخمول، ولو اجتهدن كأخواتهن لكُنّ فعلن ما تقتضيه واجباتهن، وكن أبدين ما عندهن من الحزم والرغبة في خدمة النوع والوطن، وهو الأليق بهن وإن لم يصادف نجاحًا»().
وبفضل احتكاك وانتماء فواز إلى الطبقتين الدنيا والوسطى الدنيا حرصت في مقالاتها على تشريح بعض الأمراض الاجتماعية والأفكار الشعبية الراسخة وتوظيفها بذكاء في قضية تعليم المرأة كضرورة مُلّحة لسد الفراغ المعرفي وتغيير الصورة الذهنية النمطية، سيما تلك المرتبطة بإهانة المرأة مثل التشاؤم من ولادة الأنثى والاحتفاء بالذكر واخفاء جنسه ساعة ميلاده خوفًا من الحسد، ثم تلك العادات والاعتقادات الخاصة بالزار ولجوء النساء إلى أعمال الشعوذة والخرافات لحل مشكلاتهن الزوجية والأسرية وعلاج أمراضهن.
ووصفت هؤلاء النساء «بالجاهلات اللواتي لا يعرفن إلا ما علمتهن الطبيعة» ثم وجهت حديثها إلى الرجال «فتأملوا يا رجال الشرق كيف أن الإهمال يوقع بالخسران، وكيف تأملون النجاح والراحة لأرواحكم وأن تتقلبون على فراش الهمجية والجهل، وكيف يجد المرء منكم لذة الحياة وقعيدة بيته، لا بل شريكة حياته ومنبت جرثومة بنيه بهذه الصفة ؟!» ().
    ولم تُقصر دعوتها التعليمية على نوع معين من العلوم؛ إنما طالبت بتحصيل البنات كل العلوم الحديثة دون استثناء ودون تفرقة بينها وبين البنين، وعلى الرغم من تمسك فواز «بعقيدة الأنوثة والنظام العائلي» أي وجوب حفاظ المرأة على تكوينها الأنثوي والقيام بأعباء العمل المنزلي والتربوي، وعدم تعارض ذلك بمساواتها بالرجل في ميدان العمل كخطوة منطقية بعد تحصيلها العلوم نفسها واكتسابها المهارات نفسها، وما يترتب على ذلك من استقلالها المادي والمساهمة في المعيشة كالرجل.
  وبفضل ما تميزت به فواز من شخصية قوية وعقل نقدي قادر على الجدل والقياس المنطقي وصياغة المفردات بشكل متماسك ومنهجي، دخلت في عدة مناظرات كتابية بينها وبين الرجال؛ منها المناظرة الحامية التي أجرتها على صفحات صحيفة فرصة الأوقات عام 1893 ردًا على صاحب كتاب «السراج الوهاج عن ذكر العوائد وحقوق الزواج».
  وفي تلك المناظرة أعلنت رأيها صريحًا في العديد من قضايا المرأة الشائكة؛ خصوصًا فيما يتعلق بالطبيعة البيولوجية، وحقوق الميراث، والإمامة في الصلاة وعدم تكليف النساء بالنبوة، والأخذ بشهادتها، وأحاديث نقصان العقل والدين، وخطيئة حواء، وقوامة الرجل. وافتخرت فواز في أكثر من موضع بتكوينها الأنثوي وما يتبعه من حمل وآلام الولادة والحيض التي جعلها الرجل موضع ضعف وسُبة، ورأت أن الجسد الأنثوي هو المكلف بتأسيس النوع إن كان الرجل كُلف بتصحيح فساده من خلال النبوة «وما نبي إلا وهو ابن امرأة» وأن المرأة صبرت على ما اُبتليت به، مما أسمته «الجهاد الأبدي» وهو «الحمل والوضع وتربية النوع البشري وقد صبرت على ذلك كله مع الشكر الأبدي... والله أكرم من أن يجمع على المرأة أثقال النبوة مع أثقال تأسيس هذا العالم الحيوي»().
كما استخدمت فواز البرهنة المنطقية والقياس في القضايا الفقهية الشائكة؛ حيث رأت أن حديث نقصان العقل والدين يتنافى مع حكم القرآن بالمساواة بين الجنسين في التكليف والجزاء، واستعانت بنموذج السيدة عائشة وقدرتها على حفظ الحديث، ومما قالته في هذا الشأن «وقد أثبتوا بأننا ناقصات عقل ودين وأن النبي صلى الله عليه وسلم نعتنا بذلك، فأقول حاشا أن يكون قصد بهذا الحديث- إن لم يكن موضوعًا- أن للنساء نقصًا في عقولهن أو دينهن وهو أعدل وأكرم وهو الذي قال «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» يعني عائشة، فكيف يأمر أن تأخذوا نصف دينكم عن شيء ناقص. لو قال ذلك لكان خالف حديثه القرآن الشريف؛ إذ أن الله تعالى فرض على النساء ما فرض على الرجال من صلاة صيام وحج وزكاة، وكل المفروضات، لم ينقص منها شيء ليقال إننا ناقصات، وتساءلت فواز بتهكم «كيف يكون بالمرأة نقصان وقد أخرجت الكامل من الرجال؟» ().
أما من حيث اتباع الشهوات «فلا نرى في محلات اللهو والحانات إلا الرجال»، و»إذا كانت المرأة ارتكبت المعصية لنقص في عقلها أو دينها فما بال الرجل وهو كامل العقل والدين يشاركها فيها؟»().
من الطريف أن فواز واجهت بشجاعة مبكرة الرأي الشائع الآن فيما يخص عمل المرأة، وما يمثله من مزاحمة غير ذي فائدة في «أرزاق الرجل»، ومجالات التعليم التي استأثر بها كالطب والمحاماة وغيرها، فمثلًا، قالت موجهة الحديث لخصمها في أسلوب جريء مستهجن «وأما قولك فبدل التطبيب والمحاماة وعلم الفلك والعروض... إلخ أمرتنا بالاقتصاد، ولندبر ثمن الورق والحبر، وأن نكسو به أولادنا، وأن الخدامين تنهب البيت والست غائبة، أثابك الله أيها النصوح... إن ما ذكرته من عدم الفائدة لهن ولا للهيئة (الاجتماعية)، غلط فاحش أو حسد مفرط... وأنا أريك كيف أنك غلطان لو أغضبك ذلك، ولا يجب أن تعلم أننا نصف العالم الإنساني أو نزيد، فإن كنا كذلك فقد أتعبنا المتكلين بأرزاقنا من جهة، وبتحملنا أثقال الفاقة من جهة أخرى، فإذا وجدت الطبيبة مثلًا تتعاطى صنعتها، فانظر إلى منفعتها للهيئة أولًا، وكم تنفع نفسها وزوجها وأولادها ثانيًا... ولا يخفى على أحد أن مرتبها الذي تأخذه مجبورة أن تصرفه على بيتها وأولادها...» (). 
وفي معرض ردها على رأي الأديبة حنا كوراني فيما يخص مضار عمل المرأة جراء اختلاطها بالرجل في محيط العمل، رأت أن العمل يلهي النفس عن شهوة الشرور، وليس «شباكًا لاقتناص طهارة المرأة»، واستندت في حجتها بضرب مثال المرأة الغربية «قد علم العموم أن اختلاط النساء والرجال في الغرب ليس بممنوع ولا مختص بالعمل خصوصًا، بل هو عادة مألوفة، فإذا كان اختلاط الجنسين مع العمل فإنه يلهي النفس عن اتباع الشهوات... فالمرأة العاقلة التي درست العلوم ونشأت في مهد الآداب وغُذيت بلبان التهذيب، فإنها تجهل أن تسحق شرفها تحت أقدام الشهوات والأغراض»().
وفي السياق نفسه استندت فواز على تحليل النص القرآني في مسألة خطيئة حواء ووجدت أن الرجل والمرأة يشقيان في الأرض على السواء لأنهما تساوا في الخطيئة، وفي مسألة الاستعانة بامرأتين في مسألة الشهادة، استخدمت منهج الربط الكلي بين معاني القرآن ومواضع الاستخدام، ورأت أن النسيان ينتج من كثرة الاشتغال أو الإرهاق الجسدي الذي يتساوى فيه النوعين.
وفيما يتعلق بالتساوي في الميراث رأت أن علة المسألة في الطرف المُكّلف بالإنفاق، وإذا زالت العلة زال التشريع، أي إذا تساوت المرأة في العمل والإنفاق المعيشي تساوت في الميراث، وعجزت عن إيجاد حكمة التشريع فيما يخص عدم جواز إمامة المرأة في الصلاة، لكن نفت مسألة نقص العقل واتباع الشهوة لأن المرأة تخلف الرجل في الصلاة وعلى الرغم من ذلك تتماسك عكس الرجل الذي رفض إمامتها لعلة افتتانه بها().
وفي مسألة خلق المرأة من ضلع أعوج «هذا لا يعنينا إن خُلقنا من ضلع أعوج أو قويم، بل الذي نعلمه أننا وُجدنا في هذه الحياة ذوات عقول كاملة، وأفكار وإدراك وإحساس كما للرجال الذين سولت لهم أنفسهم باستعباد المرأة، وقد صنفوا الكتب ووضعوا الأحاديث في خفض شأنها «().
كما أدلّت فواز بآرائها في مسائل الزواج والطلاق والعلاقات العاطفية التي كانت تعد «تابوه» ليس للمرأة حق تجاوزه؛ حيث رأت إن المشاعر والآلفة بين الطرفين قبل الزواج ليس محرمًا، وجادلت الطويراني بكل شجاعة على صفحات صحيفة النيل في عدة مقالات مسلسلة عن حق الإنسان سواء رجل أو إمراة في الحب واختيار من تألفه النفس، وأن المشاعر لا يجب تحريمها ووضعها في تصنيف الجُرم والمعصية أو تطويعها لإدانة المرأة دون الرجل ().
 كما رفضت تعبير «كاسدات في سوق الزواج» الذي يطلقه المجتمع على من تأخر بهن سن الزواج، ورأت أن على المرأة والرجل أن يسعيان ويستغلان عمرهما فيما ينفع البشرية، وأن عدم الزواج لا يمثل عيبًا لأي منهما، فالعزوبية خير من زواج فاسد ().
  أما في مسألة الطلاق «وقد ابتُلي النساء والرجال بقضيتي الطلاق وعدمه، فأما الطلاق المجعول في يد الرجال بلا قيد، فإنه يسلب المرأة؛ لأنها لا تدري بأي سلطة تضمن البقاء مع زوجها ولو عمرت معه عمر نوح... أما عدم الطلاق البتة فيؤدي عند عدم الامتزاج إلى المضار والعداوة في حياة الزوجين» ثم طالبت بتعديل القوانين التشريعية بما يحفظ حق المرأة حال وقوع الطلاق().
وفيما يخص قضية تعدد الزوجات؛ فقد رفضت التعدد وبرهنت على موقفها هذا واقعيًّا حين انفصلت عن زوجها الثاني الأديب السوري أديب نظمي، عندما اكتشفت زواجه من أخريات، ووجدت أن التعدد وبال على الطرفين، بل «وطامة كبرى»، يتولد منها العداوة بين كل الأطراف بما فيهم الأولاد أي أن التعدد يهدد سلامة الكيان الأسري والمجتمعي().
الدر المنثور في طبقات ربات الخدور سردية تاريخية نسائية ضد نمطية النوع 
  ليس لدينا ما يؤكد أن فواز كانت على اطلاع بمسار وتاريخ الحركة النسائية في أوروبا أم لا، إلا أنها اعتمدت المنهجية نفسها التي اتبعتها الحركة النسائية المبكرة في الفترة (1550-1700)؛ حيث كانت الكتابة الأدبية سواء النثر أو الشعر هي الوسيلة الفعالة لتحريك قضاياهن من خلال إعادة كتابة التاريخ الأوروبي وتأويل الكتاب المقدس من نظرة نسوية استهدفت نزع الإثمية والدونية التي وُصًّمت بهما المرأة في هذه المصادر، واستبدالها برؤية طهرانية عقلانية تستند إليها في منافسة الرجل().
  ولم تخرج هذه السردية التاريخية النسوية من حيز الدين ولا مؤسسة الزواج والطفولة، وهذا بالضبط ما فعلته فواز في الدر المنثور التي استمدت سرديتها من القرآن والسيرة النبوية والتراث العربي ثم تاريخ حضارات الشرق الأدنى، مُسلَطة الضوء على 456 امرأة مع التركيز على النساء في حياة النبي محمد مقابل النساء في حياة المسيح، ويتضح أن فواز كانت متأثرة بمتغيرات الحداثة التي أطّرت زمنها فجاء كتابها في نهج معولم أو ما سُمي «بالأختية النسائية» والمصطلح هنا لمارجو بدران؛ حيث أضافت إلى شخصياتها العديد من النساء الغربيات ().
  وقد عبّرت فواز عن هذا النهج في مقدمة كتابها الدر المنثور «لحقتني الحمية والغيرة النوعية على تأليف سفرٍ يسفر عن محيا فضائل ذوات الفضائل من الآنسات والعقائل وجمع شتات تراجمهن بقدر ما يصل إليه الإمكان، وإيراد أخبارهن من كل زمان ومكان « ()، ومن لفظ الشتات الذي استخدمته نفهم اختيارها لاسم الكتاب؛ وهو الدر المنثور الذي ستقوم هي بمهمة جمعه في بناء متكامل، كما هدفت بكلية الزمان والمكان إثبات القدرة النسائية التنافسية أو التشاركية مع الرجل وتمثيل ذاتها عبر التاريخ البشري دون استثناء لزمن أو جغرافية.
  وتأليف فواز لهذا النوع من التراجم لم يكن ابتكارًا، بل استمدت الكثير من مادتها التاريخية من كتب وتراجم التراث العربي وطبقات النساء لابن سعد إلا أنها نزعت عن شخصياتها الهالة والتبعية الأبوية؛ حيث أرادت فواز أن ترسم صورة النساء كفاعلات، سافرات العقل والفكر والعمل، مسموعات الكلمة، ومؤثرات في محيطهن الاجتماعي، وثائرات ضد أي سلطة.
  كما أن السورية مريم النحاس (1856-1888) سبقت فواز عام 1879 بتأليف كتاب تراجم نسائي بعنوان «معرض الحسناء لتراجم مشاهير النساء» لكنه لم يُكتمل نظرًا لسحب التمويل الذي كان مقدمًا من الخديو اسماعيل (1863-1879) عقب عزله في العام نفسه، ثم وفاة المؤلفة ()، وربما تكون فواز استلهمت فكرة الكتاب منها وطورته بأساليب المنهجية التاريخية المنضبطة، كما تحملت أعباء طبعه على نفقتها الخاصة بعدد نسخ محدودة.
  ولم يتجاوز أسلوب الكتابة الذي انتهجته فواز النزعة الأدبية المحافظة التي وسمت المعاجم وهذا النوع من التراجم حتى أوائل القرن العشرين إلا أن تأثيره كان مثمرًا وذا فعالية اجتماعية؛ إذ أصبح الدر المنثور فيما بعد مادة صحفية رئيسية لأعمدة «نساء شهيرات» في المجلات النسائية مثل مجلة الفتاة لمؤسستها الأديبة السورية هند نوفل، الأمر الذي ساهم في «الاعتراف» بالأهداف والقضايا النسوية الناشئة وقتئذ (). 
 هل بمقدور التابع أن يتكلم؟
   هذا السؤال التأسيسي الذي اعتمدته الناشطة والمنظّرة لدراسات النوع والتابع جاياتري سبيفاك ()، يمكن الإجابة على بعض محاوره من نموذج زينب فواز كتابع لسلطة مزدوجة، «الأبوية البرجوازية المهيمنة محليًّا، والاستعمار الأوروبي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين»، وبنظرة تحليلية لمحتوى كتاب الرسائل الزينبية يتبين تأثر فواز بالحداثة الغربية، واتخاذ المرأة الغربية نموذجًا معاينًا للواقع يُحتذى به مع التأسي على حال الشرق؛ أي أن فواز كانت مدركة لثنائية (الشرق المتأخر/ الغرب المتقدم)، بل استخدمتها منهجًا مقارنًا للتقييم والقياس بالإشارة إلى سببية وتاريخية هذا التقدم/ التأخر وفق نظرية ابن خلدون.
  وكما سعت فواز لانتزاع الاعتراف الذكوري بالقضايا النسوية من خلال سرديتها التاريخية في الدر المنثور، سعت أيضًا إلى لانتزاع الاعتراف الغربي بقدرة المرأة في الشرق على التعبير وتمثيل ذاتها على الرغم من العزلة الاجتماعية والدينية المفروضة عليها، مع محاولتها قدر الإمكان تحييد مصدر تلك العزلة ونزعها من إطارها الديني المقدس تمهيدًا لنقدها ونقضها.
  والسؤال الأهم هنا هل عندما امتلك التابع القدرة على التعبير والتمثيل استطاع أن يغير نظرة المُتبّع؟ 
 في عام 1893 أُقيم المعرض العالمي الكولومبي بشيكاجو بمناسبة مرور 400 عامًا على اكتشاف كولمبس القارة الجديدة، وشاركت سوريا ولبنان في هذا المعرض بناء على الدعوة التي تلقاها السلطان العثماني عبد الحميد من الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون، وظهر التمثيل العربي في المعرض تحت عنوان « العوائد الشرقية».
  وعندما علمت فواز بأمر هذا المعرض وتخصيصه لجزء منه لمعروضات النساء الشرقيات، أرسلت برقية باللغة العربية وهي آسفة على عدم مقدرتها التحدث باللغة الإنجليزية، عرضت فيه على السيدة برثاهونور بالمر رئيسة قسم النساء بالمعرض أن تهديها كتاب الدر المنثور مساهمة منها في هذا الحدث «لعلمي أن التقدم الأمريكاني والأوروباوي لم يتركا لنا نحن الشرقيات شيئًا من تقدم الصناعة التي يمكن للنساء أن يعلمنها»، ثم تأسفت مرة أخرى على عدم السماح لها بالسفر إلى شيكاغو لحضور المعرض بنفسها لأسباب تختص «بالعوائد الشرقية والدين الإسلامي» ().
ومن المقالات اللاحقة التي كتبتها فواز بخصوص ذلك المعرض يتبين أنها كانت تنظر إليه وإلى جهود السيدة بالمر على أنها منحة تستحق الشكر، وفرصة يجب استغلالها لحث النساء على العمل من داخل عزلتهن وتمثيل ذاتهن حتى لو بأعمال يدوية أصبحت بالنسبة للأوروبي «شيئًا بدائيًّا متخلفًا» فقالت: «وهذه النساء الغربيات قد سبقن إلى أشياء لم نقدر على مجاراتهن فيها، ولكن لدينا أشغال يدوية وهي الأشغال القديمة مثل الأويات والأنتيكة والظرافة وشغل التلي والترتر»().
 اهتمت بالمر برسالة فواز وقبلت «هديتها اللطيفة» بحسب تعبير الأولى، ثم طلبت من فواز أن تخبرها عن كيفية منع الدين الإسلامي للمرأة من السفر()، فجاءت إجابتها بشكل لا ينفي قط الصورة الاستشراقية عن «الحريم الشرقي» وإنما يؤكدها حتى في حال الدفاع عن الدين؛ بدايةً أجابت فواز بأنّ تلك المسألة يتدخل فيها العادة الاجتماعية المتوارثة بجانب تشريعات الدين الإسلامي، وفرقت بين الحجاب الاجتماعي كعزلة مفروضة على نساء الطبقتين العليا والوسطى العليا، تفصلهن عن المجال العام المسيطر عليه الرجل، وبين الديني المتمثل في «الحجاب الشرعي» المتعلق بشروط الزي وغطاء الرأس، وبيَّنت أن الإسلام فرض هذا الحجاب الأخير مستشهدة بالآية31 من سورة النور ().
  جدير بالذكر هنا أنها عندما تحدثت عن الجانب الديني أظهرت اعتزازها به كجزء من ذاتيتها وانتماءها «القومي الأممي» وهو ما وظفته لاحقًا في خطابها المقاوم للاحتلال؛ فمثلًا قالت عن غطاء الرأس أنه من «عاداتنا الإسلامية التي نشأنا عليها، ونحن نجدها من الفروض الواجبة، ونتوارثها فنتلقاها بغاية الانشراح، حتى إن المرأة منا لو أجبرت على كشف وجهها الممنوع عندنا، لوجدته من أصعب الأمور. مع أن كشف الوجه واليدين ليس محرمًا»، إلا أنها أكدت على صورة المرأة الشرقية المحرم عليها الخروج إلى الشارع أو السفر وحدها؛ لأن الشريعة لا تبيح مس جسم المرأة برجل أجنبي، وأن المسألة مبنية على المس، و»متى جاز المس جاز السفر» (). 
  أكدت فواز أيضًا على صورة المرأة الحبيسة في الحرملك والبرقع أو «الحبرة» حتى لو خرجت إلى الحيز العام؛ هي التي تراقب وترى كل شيء ولا أحد يراها أو بمقدوره مراقبتها، وهي «إشكالية المراقب» التي تحدث عنها ميشيل فوكو (1926-1984) ونقاد الاستشراق من بعده «إنهن يرين ولا يراهن أحد من الخارج؛ وذلك بسبب الأستار المسدولة على تلك النوافذ، والنوافذ مصنوعة من الخشب، شرقية الصنع، مركبة تركيبًا محكمًا، وفائدتها أن تحجب ما وراءها فيرى الذي في داخلها من كان خارجًا عنها ولا عكس» ().
النوافذ «شرقية الصنع» أي أن فواز منحت هذه النوافذ هوية الشرق التي تحجب من خلفها نظرة أنثوية تحدث عنها مالك علولة في كتابه «الحريم الكولونيالي» بأنها كانت بالنسبة للمصورين الفرنسيين في الجزائر مثلًا بمثابة لغز، بل وهجوم صريح على عملهم حيث تشبيه نظرات النسوة المحدقة من خلف حجابهن بعين آلة التصوير أو العدسة المستهدِفة(). 
  ولكن لا بد من تسجيل أحد مواقف فواز التي نعدها ثورية في ذلك الشأن؛ ويتمثل هذا الموقف في ردها الاعتراضي الشجاع الذي وجهته عام 1892 ضد يعقوب آرتين «باشا» (1842-1919) وكيل المعارف وقتئذ، عقب زيارته لمدرسة البنات الأهليه، وتوبيخه لناظرة تلك المدرسة بحجة أنها امرأة «لم تربى لأن تكون معلمة» مقارنة بالمعلمات الأجنبيات، وهو ما أثار حفيظة فواز، وكتبت رافضه توبيخه هذا، ومثنية على جهود الناظرة شاكرة اهتمامها بتعليم البنات في ظل أحكام اجتماعية رافضة، وإمكانات شحيحة.
   وتساءلت «لم أدرِ إذا كان سعادة الباشا أراد بقوله هذا احتقارًا لنسائنا الشرقيات، ولم نرَ عندنا لياقة لأن نأتي بعمل مثل هذا أم لا.. لا وأبيك فإن فينا كفاءة لأن نأتي بأعظم من ذلك...وإني أقدم واجبات الشكر بلساني، ولسان أخواتي الشرقيات عمومًا، والمصريات خصوصًا لحضرة الناظرة على اهتمامها بتربية البنات اللواتي هن أساس النوع الإنساني... النوع الإنساني الذي لم يُخلق لأن يستبد كل فرد من أفراده بما يعلمه أو يكتفي بما اكتسبه من العلوم، ولا يُعلّمه لأحد، ولا يضحي نفسه في صالح غيره وإلا فكيف تزداد العلوم ويعم التمدن في أقطار الأرض؟! ومن أين للشرق بتلقي علوم الغرب إذا كان كل إنسان يبخل بما عنده من المعارف؟» ().
أما بالنسبة لتبعية الرجل ممثل السلطة الأبوية المحلية بالنسبة لفواز، ففي واقع الأمر وعلى الرغم من دعوتها النسوية بالمساواة التامة بين الجنسين إلا أنها لم تتجاوز الرجل بشكل مجرد، خصوصًا في بداية دعوتها؛ لأنه مثّل لها مصدر المعرفة والدعم، وكان خطابها موجهًا إليه في أغلب كتاباتها بما أنه هو المهيمن الذي بيده سلطة المنح أو المنع. وعلى سبيل المثال لعب حسن الطويراني الدور الأكبر في توجيه فواز وفتح لها صفحات جريدته بصفته رجلاً ليبراليًّا مناصرًا لحقوق المرأة، وكثيرًا ما استشهدت به على صحة آرائها باقتباس بعض مقولاته «كرجل رشيد موثوق به»().
كما أنها أنابت شقيقها لتمثيلها فيما يتعلق بالتواصل مع الآخر في المجال العام، وكثيرًا ما وجهت كلمتها إلى الرجل سيما علماء وأدباء الأمة؛ ومنها رسالتها المباشرة إلى عبد الله النديم تسأله «أيهما أشد تعبًا؛ الرجل بتعاطيه الأشغال من تجارة وصناعة وسياسة وزراعة، أم المرأة في حملها ووضعه وتربيته وتدبير منزلها ومشاركتها للرجل أحيانًا في عمله؟ فأرجو يا حضرات علمائنا الأفاضل جوابًا شافيًا»().
وبتحليل الرسائل الزينبية يتبين أن فواز كانت تتمتع بسمات شخصية قوية معتدة بنفسها دّل على ذلك منح نفسها عدة ألقاب مثل «درة المشرق» و «حجة الشرق» و»رافعة لواء العدل»، كما اكتسبت شخصيتها شراسة وجرأة في الرد على خصومها بمن فيهم الرجال، لكن يتضح أن الأزمات الحياتية التي تعرضت لها فواز؛ مثل طلاقها الثاني، ووفاة كل من شقيقها والطويراني، ثم الظروف المرضية التي تعرضت لها أثّرت بالسلب على استكمال مسارها ومشروعها، ثم استنزفت الجزء المتبقى من قوتها في الصراع السياسي بانضمامها إلى حزب مصطفى كامل الذي كان يمثل التيار الثوري، وشاركت في حضور خطبه، كما هاجمت بشدة انفعالية تصريحات غابرييل هانوتو (1853-1944) المسيئة للإسلام عام 1900، وصُدمت في مصداقية قيم وفلسفات الحضارة الغربية بشكل كلي، ما أثّر في توجيه كتاباتها المناهضة ضد الاحتلال ومؤيديه.
   رأت فواز في تصريحات هانوتو فرصة سانحة لحث الهمم وإيقاظ ضمائر «الأمة» من غفلتها، وبحسب تعبيرها «إنه نفخ في الصدور، فأيقظ من في القبور، وقد نبه الأمة الإسلامية لما أضمرته الأمم الأوروبية نحوها، نعم، كنا في غفلة من دهاء أوروبا ووضعها لنا السم في الدسم، حيث كنا نظن أن الغرب وعلى الأخص فرنسا هي معدن التمدن والحرية والمساواة، وكنا نتمنى التشبه والسير على منوالها... لكن الآن قد ظهر لنا من خلل الرماد وميض جمر كان كامنًا»، والطريف هنا أن فواز دعت إلى سلاح « المقاطعة» الذي يُروج له حاليًا بشكل شعبوي وقت الأزمات الشبيهة؛ حيث دعت النساء «ألا يعاملن أحدًا من تجار أوروبا، بل يعاملن المسلمين» فقط (). 
تجاهل زينب فواز في السردية التاريخية
حين نُشر كتاب «تحرير المرأة» عام 1899 لمؤلفه قاسم أمين أثار ضجة واسعة في كل الأوساط الاجتماعية والدينية، على الرغم من أن فواز سبقته في هذه الدعوة بسبع سنوات تقريبًا، وحين نشرت ملك بنت الأديب حفني ناصف «بك» (1886-1918) كتابها النسائيات عام 1910 تم الاحتفاء بها كأول امرأة تخرج عن الصمت وتدافع عن حقوق المرأة، على الرغم من تواضع محتواه مقارنة بأعمال فواز، وهو مجموعة مقالات نُشرت في صحيفة الجريدة لصاحبها أحمد لطفي السيد(1872-1963)، ثم كانت الإشارة إلى جهود عائشة التيمورية (1840-1902) كشخصية نسائية ملهمة وأديبة وشاعرة، وكتبت بعض المقالات للمطالبة بتعليم البنات وتحسين حال المرأة.
  وفي مقدمة كتاب النسائيات أشار لطفي السيد إلى ريادة قاسم أمين ومن بعده ملك حفني، وجاء الثلث الأخير من الكتاب تقاريظ ومديح من بعض كبار الشخصيات والسياسيين لشخص ملك حفني بصفة عملها الريادي هذا، ثم بصفتها ابنة أديب مرموق()، بشكل يعكس كيف تتحكم العصبة الثقافية النخبوية في مآلات الخطاب.
  كانت الحركة النسائية البرجوازية ومسانديها من هذه العصبة بحاجة إلى سردية تاريخية منتمية إليها تمنحها الريادة وحق امتلاك هذا الخطاب تمهيدًا لاحتكاره، ولذلك جعلت عائشة التيمورية ذات الأصول الاجتماعية العريقة ركيزتها الجنينية. وفي حفلي التأبين اللتين أُقيما بمناسبة وفاة ملك، أولهما «بالجامعة المصرية» تحت رعاية كُلَّ من عدلي يكن باشا واسماعيل صبري باشا، ثم الثانية التي أقامتها هدى بنت محمد سلطان «باشا» شعراوي (1879-1947) الذي كان يُلقب «بملك الصعيد» وبحضور كبار الشخصيات والمثقفين من النخبة الاجتماعية، أُعلنت ريادة ملك حفني كأول شخصية نسائية تدافع عن حقوق المرأة، ليتم اعتماد وتداول تلك السردية التاريخية التي جعلت من هدى شعراوي خليفتها الرائدة ومن حولها بعض النسوة كرفيقات ومؤسسات حركة نسوية منظمة سيما بعد حضورهن مؤتمر الاتحاد الدولي للنساء عام 1923().
  وبتحليل محتوى كتاب النسائيات ومقارنته بأعمال زينب فواز من حيث البنية الموضوعية والصياغة والمعالجة يعد كتابًا في غاية التواضع، بل تكاد لا تتعدى ملك حفني فيه مجرد «استشارية مشكلات اجتماعية وأسرية للارتقاء بالأدوار العائلية للنساء»، كما كان خطابها يعد «خط رد رجعيًّا محافظًا» مقارنةً بخطاب فواز الأكثر راديكالية، وعلى الرغم من ذلك أُتخذ كتاب النسائيات مرجعًا رئيسيًا لتاريخ الحركة النسوية المصرية.
   بهذه الكيفية تم تجاهل فواز، ما يجعلنا نعود إلى «إشكالية التمثيل» التي تعطي الأولية لسلطة النوع والطبقة والهوية، ونقول إن فواز كانت تعي كينونتها كامرأة أولًا، ثم كمهاجرة ذات أصول اجتماعية متواضعة، وكانت تدرك أنها بحاجة إلى «سلطة تمثيل» الطرف المهيمن ألا وهو الرجل، ولذلك كانت توجه إليه خطابها كما سبق بيانه، وبالتالي قد يُعد دعوة قاسم أمين بمثابة استجابة لفكرتها، وتكليل لنزعة الاعتراف الأبوي الذي سعت إليه ولكن جاء على حساب تجاهلها الشخصي.
  كما أن قاسم كان نموذجًا مثاليًّا لإحداث صدى مجتمعي، كونه رجلاً مسلمًا سنيًّا تركيًّا أرستقراطيًّا وقاضيًا، ولديه عصبه اجتماعية وثقافية ساندته وروجت لفكرته، واحتمى بها من الهجوم المجتمعي والديني الذي واجهه، على الرغم أنه لم يأت بجديد عن دعوة فواز سوى بالتنظير الديني حول قضيتي الطلاق وتعدد الزوجات.
 هذه الإمكانات كانت تفتقدها فواز لأنها كانت مجرد امرأة مهاجرة على الرغم من كل محاولات اندماجها، وكثيرًا ما عانت من تلك الهجرة وكتبت عن حنينها إلى وطنها الأصلي، وكانت بلا أي عصبة اجتماعية تساندها، أو نخبة تروج لها أعمالها وتمدحها كما عائشة التيمورية وملك حفني وهدى شعراوي المنتميات إلى طبقة البرجوازية المحلية. كانت فواز تعي وضعها الاجتماعي جيدًا وسعت ضمن مساعيها الاعترافية إلى الطبقة العليا التي اختلطت بها من خلال تقاريرها الإخبارية التي كانت تكتبها للمجلات النسائية عن المناسبات الخاصة بهذه الطبقة، خصوصًا حفلات الزفاف والخطبة، وكثيرًا ما أشادت برقي ودماثة أخلاق الأرستقراطيات، واصفة ومعددة مظاهر البذخ والإسراف في تلك المناسبات دون انتقاد، مقارنةً بالانتقادات اللاذعة التي كانت توجهها إلى بعض عادات الطبقتين الوسطى والدنيا، إضافةً إلى مقالاتها الهجومية ضد عمال الخدمة المنزلية والرقيق سيما السودانيين ودعوة «مواليهم وأسيادهم» إلى الحذر منهم ().
  وتعليل ذلك أنها كانت تؤمن بالتراتبية الطبقية، وكانت ترى أن الإنسان موجب بالسعي من أجل الارتقاء بشكل عام تحكمه قوانين النظام الطبيعي «لا يتم انتظام الممالك إلا إذا كانت افرادها طبقة فوق طبقة، كالجهادية مثلاً تراها طبقات بعضها فوق بعض، من النفر إلى القائد الأكبر... إن الإنسان مفتقر لذاته مسترق لذاته بذاته... وهكذا تجد جميع المخلوقات يحكم بعضها بعضًا، فانظر إلى الحيوانات كيف تسترق لخدمتها جميع جماهير الوجود النباتي» ().
  وتسأل فواز بأسلوب فلسفي «هيجلي»: أما ترى كيف تجمع القوات الجاذبة ما بين المتفرقات العنصرية، وتُخضعها لسلطان الاجتماع والتراكم تحت عبودية الفواعل الكيماوية، وأسر قوات التماسك بحيث لو أمكن للعناصر الهيولية أن تأخذ حرية الانفراد لما أمكن قيام النظام الطبيعي أصلاً()، ونأخذ على فواز هنا تعارض حجتها الفلسفية تلك مع ما سبق وأوضحناه بخصوص تفوق الذكر على الأنثى في القوة البدنية ورفضها خضوع الإنسان كليةً لهذا القانون الطبيعي بحجة امتلاكه عقل مميز وإرادة واعية يميزانه عن باقي المخلوقات، ثم هي تستعين به هنا في إثبات «طبيعية» العبودية والطبقية! وهو ما يوقعها في فخ التناقض وضعف الحجة في المسألتين.
 وصحيح أن فواز اهتمت في كتابها الدر المنثور بترجمة 33 جارية ومغنية، إلا أنهن كنّ جزءًا من النخبة من خلال شرائهن كمحظيات استطعن الاستئثار بالحكم ولو بشكل مستتر أو تفوقهن الذي جعلهن محط اهتمام النخبة.
   إلا أنّ فواز استندت بنموذج المرأة الريفية والبدوية المنتميتين إلى الطبقة الدنيا في اثبات قدرة المرأة على اقتسام العمل مع الرجل ومزاحمته في المجال العام (الحقل والسوق والخدمة المنزلية)، لأنّها لم تجد سوى هذا النموذج كمعاينة واقعية للاستناد «ثم إذا نظرنا إلى النساء الفقيرات عندنا في مصر وإسكندرية وجميع الأنحاء، نجد أغلبهن يتعاطين الأشغال كالرجال فمنهن تاجرات وصانعات، ومنهن من يشتغلن مع الفعلة في البناء وغير ذلك مما يختص بأمر المعاش المطلوب من الرجال»()، وهو النموذج نفسه الذي استند إليه قاسم أمين فيما بعد، بل وربما بشيء من التناص، ثم ملك حفني في كتاباتها المتأخرة. 
   ونعود إلى مسألة تجاهل فواز التي تدخلت فيها العوامل السياسية والطبقية والدينية بشكل فج؛ ففي مطلع القرن العشرين كانت هناك انقسامات حدية في الحركة الوطنية ما بين تيار ثوري أممي (أي مساند للخلافة العثمانية كممثل شرعي ضد الاحتلال)، وتيار إصلاحي انتهج أسلوب المهادنة والتفاوض، وكان يمثله الطبقة البرجوازية المحلية من الأعيان والإقطاعيين بالنظر إلى مصالحهم السياسية والاقتصادية المرتبطة بسلطة الاحتلال.
 وقد انحازت بطبيعة الحال صحافة معظم الشوام من الطبقة الوسطى والعليا إلى الطبقة المصرية العليا لارتباط مصالحها الاجتماعية والاقتصادية أيضًا بها، في حين كانت زينب فواز تمر بتحولات فكرية سيما بعد التصريحات المسيئة التي وجهها هانوتو سابقة الذكر، فكانت طبيعة فواز الغيورة والمؤمنة بفكرة الأمة والوطنية الثورية جعلتها تنحاز إلى التيار السياسي الثوري، وكتبت بعض المقالات المناهضة ضد الاحتلال الإنجليزي وسلطة الخديو عباس حلمي الثاني (1892-1914) لتراجعه عن مساندة الحركة الوطنية، كما انضمت إلى حزب مصطفى كامل(1874-1908) وتأثرت بأفكاره،  على الرغم من آرائه المحافظة بخصوص القضية النسوية ().
  إثر هذا الموقف السياسي تركت فواز المجلات النسائية والصحف المؤيدة للاحتلال أو المهادنة معه، واتجهت للكتابة في صحيفة اللواء، هذا بالإضافة إلى أنّ فواز كانت شيعية، وعُدّت أفكارها النسائية «تطرفًا» وخروجًا عن سلطة الرجل والدين والمجتمع المحافظ، دلّ على ذلك كمثال مقدمة لطفي السيد لكتاب النسائيات، ومدحه ملك حفني كونها امرأة «معتدلة ومتزنة» تدرك استحالة المساواة بين الرجل والمرأة، وتتمسك بالدين عكس المتمردات والأوروبيات اللائي ينّادين بالحرية والمساواة المُطلقة().
  كما أن الحركة النسائية التابعة للطبقة البرجوازية التي مثلّتها هدى شعراوي، وبما امتلكته من ثروة ونفوذ سياسي أبوي يحركها «تمأسست وتأدلجت» بحيث لم تخرج من حيز أهداف طبقتها الاجتماعية التي شرعنت وجودها وحجّمت العمل الاجتماعي الثوري عن طريق إنشاء الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخيرية والملتقيات النسائية والمؤتمرات التي احتكرت منصَّاتها الخطاب. 
ولا يفوتنا أن نسوة هذه الطبقة اقترنت أساميهن بشخصيات زعامة «وطنية»، وبزغ نشاطهن في ظل لحظة تاريخية فارقة ولامعة متمثلة في ثورة 1919، وبناءً عليه احتكرت هذه النسوية البرجوازية التواصل مع النسوية الدولية بوساطة وتحت إشراف زوجات السياسيين الإنجليز، إضافةً إلى أنّ ملك حفني وهدى شعراوي ورفيقاتهن كنّ متعلمات نظاميًّا أي تلقّين التعليم في المدارس، وكنّ بطبيعة وضعهن الاجتماعي يتحدثن بالتركية والفرنسية والإنجليزية ()، عكس زينب فواز التي افتقدت تلك الامكانيات، وأُقصيت عن ذلك المشهد تمامًا لاختياراتها المناوئة وانتماءاتها المختلفة إلى أن تأتي بعض الدراسات الأوروبية وتعيد اكتشافها متأخرًا، لكن للأسف لم تخفت سطوة واحتكارية الرواية النخبوية.
ومن المؤسف أن التجني البرجوازي على ريادية فواز لم يقتصر على صوتها النسوي فقط؛ وإنما طال رياديتها الأدبية؛ حيث ألّفت فواز رواية «الهوى والوفاء» عام 1893()، ثم رواية «حسن العواقب» عام 1894، وقُدمت على المسارح العربية عام 1899()، أي أن روايتها الثانية تلك كانت على مرأى ومسمع جماهيري، سيما أن المجال المسرحي في تلك الفترة كان يعاني من عدم وجود مؤلفات عربية يمكن تقديمها على المسرح، ومع ذلك يأتي لطفي السيد مرة أخرى، وينشر في صحيفته مقاطع من رواية منسوبة إلى صديقه محمد حسين هيكل «باشا» (1888-1956)، ويروج لها على أنها أول رواية عربية، وللمفارقة معنونة بـــ «زينب»، وللمفارقة الثانية يكون نشرها عام 1914 العام نفسه الذي تُوفيت فيه زينب فواز !(*).
   وأخيرًا لا يسعنا إنكار دور هذه النخبة في الدفع بقضايا المرأة إلى الأمام على الرغم من تواضع المحتوى الموضوعي، ولا ننكر مساهمتها الملموسة في عملية التحديث التي شهدتها مصر وظهرت آثارها بدءًا بالثلاثينيات وحتى الستينيات من القرن العشرين؛ لكن كان مآل هذا التحديث هو الانهيار بدءًا من السبعينيات ليس للسياسات الناصرية والأصولية الدينية فحسب؛ وإنما لأنّ هذا التحديث حوى بداخله منذ البداية تناقضات طبقية احتكارية سهل استغلال ثغراتها ونقضها باسم الهوية والدين والقومية.
هل يمكن استلهام نموذج زينب فواز للنسوية الحالية؟
  وفي واقع الأمر تمر النسوية الحالية بحالة من الارتباك وعدم التجانس في تكوينها العضوي أو الموضوعي أو المنهجي، والمشكلة ليست في عدم التجانس الذي قد يمنح القضية نزعة شعبوية في مقابل النخبوية، لكن تكمن الاشكالية في عدم الاتفاق على أهداف متماثلة يمكن أن يلتف حولها الأطراف كافة. وعلى الرغم من تزايد منصّات التعبير التي أتاحها الفضاء الإلكتروني، هناك فريق لا يمتلك سوى التعبير، وفريق آخر يمتلك آليات التنظيم والنفوذ السياسي والاقتصادي، ويفتقد الفريقين إلى بنية معرفية وفلسفية متماسكة.  
  وإذا نظرنا إلى القضايا التي أثارتها فواز في كتاباتها وأعاد إنتاجها كل من قاسم أمين وخلفائه سنجد أن أغلبها لا يزال مطروحًا، ولم يجد حلاً سيما ما هو مرتبط بالتشريعات الدينية، غير النظرة الاجتماعية الارتدادية المزدرية للمرأة التي تم اعاشتها وهيمنت على المجال الديني المجتمعي منذ السبعينيات من القرن العشرين.
   بالتالي مسار الحركة النسوية في مصر نموذج مر بعدة تحولات لم تسر على استقامتها، وعلى الرغم من أن قضايا المرأة لا يصلح أن تُجتزىء من سياقات البناء الاجتماعي العام وما يمثله من سلطة سياسية وتحكمه نظم اقتصادية، إلا أن الخطاب النسوي يحمل عبء كبير في مسار هذه القضايا، وعليه ضرورة إدراك حيثيات الواقع المعاش الذي لا يزال متوقف ضمنيًّا عند القرن التاسع عشر!
   يمكن استلهام نموذج زينب فواز كنسوية كانت ترتكز على مخزون معرفي، وتمتعت بقدرة نقدية منظمة ورؤية متماسكة واضحة، وشجاعة تعبيرية بصرف النظر عن بعض المآخذ التي لا مفر منها كوننا بشر نخطيء ونصيب، لكن بالطبع تغيرت آليات التغيير والتعبير الآن، سيما فيما يتعلق بالجانب المؤسساتي والتنظيمي، إضافةً إلى التطورات الفلسفية والطبية ومناهج التحليل النفسي فيما يخص نظريات النوع والجنس وربطها بالخطاب السياسي والديني، إلا إننا لا نزال نعاني من «إشكالية التمثيل الطبقي الأبوي والعصبة الثقافية النخبوية» وتأثيرات العولمة على مجتمعات غير متكافئة البنية، وتعاني من ارتداد تاريخي مستتر خلف مظاهر حداثية فارغة من مضمونها التأسيسي.