هوامش

جان لوميل

شرفة تطل على ثورة.. يوميات الانتفاضة ضد الانقلاب في ميانمار

2021.04.01

شرفة تطل على ثورة..  يوميات الانتفاضة  ضد الانقلاب في ميانمار

في اليوم السابع للانقلاب العسكري في ميانمار وقيام الجيش بإلغاء نتائج الانتخابات الديموقراطية. وبعد ٧ أيام من الطرق على الأواني لنصف الساعة بداية من الثامنة مساء في كل شرفات البلاد، وبعد يومين من التظاهرات الضخمة في نهاية الأسبوع وقطع الإنترنت بداية من الواحدة حتى التاسعة صباحًا، التقط التليفزيون الذكي إشارة أخيرًا، وأخذت أقلب بين التغطيات العالمية بسرعة أريد أن أعرفها كلها، ثم راودني شعور مُضحك بأنني أبحث عن تغطية تصور ما يمر أمام شرفتي كل يوم!

شرفتي تطل على شارع طويل تمر به مسيرات الثوار طول اليوم وتصدح فيها أغانيهم. صفوف لا تنتهي من البشر تبدأ بين السابعة والثامنة، يرددون هتافات أعرف معنى بعضها وأجهل معظمها. أترك الشرفة مفتوحة في الطقس اللطيف الذي تتسم به العاصمة يانجون هذا الوقت من السنة، نسيم بارد مُنعش قبل بداية موسم الحرارة الحارقة. أفكار كثيرة تدور في رأسي، من بينها واحدة بالذات: هؤلاء المتظاهرون بلا سلاح سوى أجسادهم وأصواتهم وتماسكهم وإبداعهم ليست لديهم أية أوهام تجاه التتماداو١ الذين استولوا على السلطة، يعرفون الحقائق التي يعرفها القليلون خارج بلادهم ممن اهتموا بدراسة تاريخ بورما؛ من أنهم السبب المباشر في إفقارهم وحرمانهم من تعليم يمنحهم فرصًا كريمة للعيش وتركهم في ولايات ميانمار الأفقر تحت رحمة ميليشيات تبتزهم وتجند أبنائهم في صفوفها. «التتماداو» ليسوا هنا لحمايتهم ولا حماية ميانمار، وكفت حتى عن ادعاء ذلك ولكن أهم ما يعرفونه أنهم قوات ثبت مرة بعد مرة أنها لا تتردد في فتح النار الحي على صفوفهم. يعرفون أن شيئًا لم يردعهم عن مذبحة للرهبان البوذيين أمام أكبر وأقدس موقع بوذي «شويداجون"٢، في محاولات قمع ثورة ٢٠٠٧ التي مهدت بالدماء الطريق نحو دستور جديد للبلاد، وسارت بميانمار المغلقة على نفسها لعقود خطوة كبيرة نحو الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في اقتسام ثروات البلاد بين العسكريين الذين يعيشون حياةً مغرقة في الثراء وبين شعب يجد خدمة الكهرباء الضعيفة بالكاد.

يدور رأسي مع الهتافات وصفوف البشر التي لا تنتهي، أحيانًا أراهم في خيالي حين يبدأ إطلاق الرصاص فأتكوم تحت الأغطية محاولة التغطية على أصواتهم المطالبة بالحق في حياة كريمة، وتمر عليَّ لحظات أشعر أنني لو انضممت للصفوف ولو لعشر دقائق سأشفى من انكسار القلب.

تكاد المسيرات التي سيتجمع بعض منها في ميدان «لِدِن» القريب تبلغ ساعتها الثالثة، يمتلئ الميدان عن آخره بينما يُكمِل البعض المسيرات عبر المدينة كلها. كل الشوارع، كل الميادين. كل ميانمار.. نالت شجاعة هؤلاء الثوريين من كل الأعمار تأييد ودعم معظم الأجانب المقيمين في ميانمار. يبدو أن شيئا ما في ميانمار يخطفك، أحببتها لحظة وقعت عيني عليها للمرة الأولى، وشعرت بالغضب حين قرأت المعلومة المزعجة: تسلم الجيش حكم بورما بانقلاب عسكري قام به «نيه ون» عام ١٩٦٢، وهي أغنى بلاد آسيا، حتى وصلت في ٢٠٠٨ إلى مركز سابع أفقر دول العالم. تاريخ بعيد درسوه وجيش آخر تولى تحرير بورما من الاحتلال البريطاني وهو نفس الجيش الذي اغتال قادته «أونج سان» الذي كرس حياته لحرب التحرير ومعه ابنه الأكبر قبل أن يرى البلاد تتحرر. و"أونج سان» من أكثر الشخصيات المحبوبة في تاريخ بورما ويعدونه «أب الأمة البورمية الحديثة» ووالد «سان سو تشي» الذي لم تره ولكن مجرد حملها لاسمه جعلها بمصادفة قدرية قائدة ومتحدثة باسم أولى ثورات ميانمار.

كفاح ثلاثة أجيال

في ٢٠١٣ تمشى أفراد ومجموعات صغيرة من الرجال والنساء، أعمارهم بين منتصف الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وسط المقاهي في وسط مدينة يانجون، ينظرون إلى داخل مقهى وراء آخر باحثين عن شيء ما، أو أحد ما، وبعد عدة ساعات وجدوا ما يبحثون عنه: رجال ونساء في مثل عمرهم يرتدون قمصانا بيضاء خالية من النقوش ولونجي أسود٣ (الزي القومي البورمي للرجال والنساء) خاليًا من النقوش كذلك، معظمهم أتى في إجازة لهذه المقابلة من وطن جديد أو منفى. كان هؤلاء الرجال والنساء متوسطي العمر طلابًا قبل خمس وعشرين عامًا، ملؤهم الأمل والشعور بالقدرة أن يضعوا بورما على خريطة العالم المتقدم وأن يصبح لما يتعلمونه معنى وأن يستعيدوا بلادهم من أحد أسوأ الحكام الذين وصلوا لحكم «قدر الأرز الأسيوي» الجنرال «نيه وِن". وصلت كراهية الشعب البورمي لنيه وِن أنهم كانوا يتجنبون نطق اسمه على الإطلاق لاعتقادهم أن اسمه يجلب الفقر واللعنات وسوء الحظ. وكان هؤلاء المتقابلون يعرفون جيدًا أنهم من عدد قليل حالفه الحظ في النجاة من حمامات دم الثمانيات الأربعة (٨٨٨٨)؛ فمن لم يُقتل اعتقل إلى غير رجعة، ومن لم يُقتل أو يُعتقل هرب وتخفى وقتًا طويلاً حتى نجح في الخروج من ميانمار إلى منفى لم يظن وقتها أنه له منه رجوع.

كيف جرؤوا إذن على إحياء الذكرى الفضية لثورتهم في المكان نفسه الذي غُسِل بدماء الآلاف من زملائهم بينما كان المجتمع الدولي شاملاً الأمم المتحدة يشجب ويستنكر بميوعة ويطالب «الطرفين» بضبط النفس وبدون ثورة اتصالات تنقل للعالم مأساتهم؟

يجب أن نتوقف قليلاً أمام ما قالوه ونقلوه من انطباعاتهم في لقاءاتهم المتعددة مع صحف ومجلات وراديو «إن بي آر» الأمريكي لتأمل قوة التاريخ وإصراره أن ما حدث قد حدث فعلاً، وكيف يجد التاريخ طريقه لحكي حكاياته ولو بعد حين. التاريخ ماكر، لا يهتم بالوقت لأنه يعرف أنه آت بضربته وحكاياته في ملء الزمان، ومحاججة المؤرخين وعلماء الاجتماع أن «التاريخ يكتبه المنتصرون» وأن ثورة الطلاب ٨٨٨٨ هي ثورة مهزومة بكل المعايير العلمية، ربما حكموا على مسار التاريخ أسرع مما يجب.

على الرغم من عدم انقطاع طلاب ٨٨٨٨ عن متابعة أخبار ميانمار، كانت دهشتهم واضحة في زيارتهم بعد ربع قرن أن الجيل الذي تلاهم لا يعرف شيئًا عن أربع ثمانيات، لم يبد لهم أن الشعار الذي هز ميانمار قبل ربع قرن وقتها يُحدِث أي ردة فعل حين يتحدثون مع الجامعيين ومن هم أصغر. ٨٨٨٨ لا تُدرس في المدارس، ويُمنع ذكرها في الإعلام. كانت خطة المنتصرين، هي محو تاريخ عامين، يعرفه الكبار ولا يحكون عنه. ومع أن عام ٢٠١٣ الذي كان الذكرى الفضية للثورة البورمية الشعبية الكُبرى، فقد صادف مرور خمسة أعوام على الدستور الجديد الذي أُجبر الجيش على الاتفاق عليه، وقد حوى اتفاقًا، ولو شكليًّا، لاقتسام للسلطة بين الجيش والمدنيين، وفتح طريق أولي لحياة ديموقراطية وأن «سان سو تشي» كانت القائدة التي تورطت بمصادفة قدرية أن تكون صوت ثورة ٨٨٨٨ والتي انتهت بها إلى الاعتقال، ثم وضعها رهن الإقامة الجبرية في بيتها لا ترى أحدًا لمدة ١٥ عامًا. يبدو أن محاولات مسح التاريخ أنست جيلاً لم ير البداية أن يتساءل: ما الذي انتهى أصلا بـ"أم الأمة» رهن الإقامة الجبرية ١٥ عامًا، وهي التي تركت ميانمار لتكمل تعليمها الجامعي في إنجلترا، وتزوجت وأنجبت أولادها هناك؟ لماذا ظهرت ظهورًا وحيدًا متعقلة كطفلة من وراء سور منزلها الذي حوله التتماداو لسجن لها لصفوف الرهبان البوذيين الثائرين مع الشعب، ويمنحها أحدهم بركته قبل الدستور الجديد في أثناء ثورة ٢٠٠٧، وأثار ظهورها الغضب، فقد التقطت لها صورة شهيرة وأعلن نقلها لسجن «إنسين"؛ سجن يانجون الرئيسي.

سيربط التاريخ قصته بحرفية، الحكايات؛ كلُ في وقتها، ويحكيها للجيل المدافع بجسده وإبداعه عن حقه في حياة كريمة ليسرد قصة الوصول الحتمي للثورة الثالثة. وبعد الفوز الكاسح والمُستحق بشهادة المراقبين الدوليين ولجنة الانتخابات في نوفمبر ٢٠٢٠ اهتزت خطوات السلطة الحاكمة، وكانت الثورة الوسطى عام ٢٠٠٧ أجبرتهم بالفعل على ما سبق ذكره من اقتسام ما للسلطة. في الأسبوع الأخير من يناير بدأوا في التلويح بالانقلاب من موقف ضعيف لم تشجع عليه دول آسيان، وبدا أن تحذيرات كثيرة من الأصدقاء كآسيان والأعداء الذين يهمهم ألا تضع الصين وروسيا علامة انتصار في ميانمار مثل الولايات المتحدة والعديد من دول الغرب على السواء من مخاطر انقلاب في هذا التوقيت، «الأصدقاء» الذين كانت دوافعهم هي ميانمار كسوق جديد اتسع في العقد الماضي وصُبت فيها استثمارات واسعة. حاصر الجيش البرلمان في الأول من فبراير لمنع اجتماعه بعد القبض فجرًا على «سان سو تشي» ومنصبها الرسمي «المستشارة»، ومعها رئيس الجمهورية الذي يليها في ترتيب السلطة وغالبية أعضاء البرلمان المُنتخب. وكان أهم ما كان يزعج الدول ذات المصالح في ميانمار أن التتماداو ليسوا بحاجة للانقلاب، فالدستور يحتفظ لهم بخمس وعشرين بالمئة من مقاعد البرلمان يعينهم القادة العسكريون دون انتخابات، ولا يسمح «اقتسام السلطة» بعد بتمرير معظم ما يناقشه البرلمان في الأمور الأساسية للبلاد إلا بمواقفة مقاعد العسكر المعينين، ودار التساؤل عن هدف الانقلاب بينما مصالحهم وحصتهم من ميزانية الدولة المُعلنة ٥٠ ٪ بخلاف استثماراتهم التي تغطي ميانمار .

عُرضت تفسيرات كثيرة للانقلاب الذي لا مكسب حقيقي من ورائه ولكن أكثرها إقناعا هي أن هؤلاء العسكر يحكمون بقبضة حديدية دون أي ظهور مدني منذ انقلاب ١٩٦٢، وهذه ثاني انتخابات ديموقراطية تخوضها البلاد وخسرت فيها أحزابهم بفارق الحجم والشعبية التي كانوا ينوون أن يقتحموا بها الحياة المدنية لبدء تمثيلية ربما قدروا بالخطأ قدرتهم على إكمالها رغم عدم احتياجهم لها، فقرروا أن خمس سنوات من تجربة الديموقراطية أصابتهم بالملل وأنهم كانوا أكثر راحة وتدليلاً حين كانوا يحكمون وحدهم. ومن أول يوم للانقلاب واحتلال البرلمان ظهرت أخطاء معادلاتهم الأحادية وفوجئوا رغم محاولات المجلس العسكري التحجج بقوانين ومواد دستورية أن يظهروا بشكل متماسك والتأكيد بعد أيام أنهم «غير راغبين للبقاء في الحكم»، هم فقط سيعلنون قانون الطوارئ وإجراءات استثنائية حتى تكون البلاد مستعدة لإجراء انتخابات «نزيهة» دون تحديد مدة حتى زمنية حتى إجراء تلك الانتخابات الجديدة. وأمام رفض شعبي جامح لأي انتخابات أخرى بخلاف انتخابات ونتائج نوفمبر، واستفزازهم للشعب بإخفاء «سان سو تشي» قسريًّا وتوجيه تهم وهمية لها وعدم ظهورها في مواعيد محاكماتها ومنعها من مقابلة محاميها، وأن حالة الطوارئ تعني انضمام السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية في يد المجلس العسكري الحاكم لمصلحة ميانمار البلاد المحبوبة. بحلول ثالث أيام الانقلاب بدأ عصيان مدني منظم بدقة أربك كل خططهم الأولية، ثم الاحتياطية بمجرد توقف البنوك عن العمل وإن كان العصيان المدني في البنوك شاملة البنك المركزي ضربة موجعة لأي نظام بالنظر إلى حجم العصيان المدني في كل القطاعات، بما فيها القطاع الخاص، فهي الشريط الأنيق الذي زينت به الثورة المُبهرة صندوق «الانقلاب المدني» الذي ركله ردًا للسلطة الحاكمة، شعب يدمن كرة القدم بحرفية هدافهم المُفضل «موسالاه".

تستهدف الثورة كل شيء؛ في الأيام الأولى التي كان المواجهات فيها أقل عنفًا وحتى الآن بينما تزداد الأيام دموية، لا يشغلهم ذلك عن استهداف العسكر من كل الجبهات. بحلول ثاني أيام الانقلاب وبعد طرق الأواني من الثامنة حتى الثامنة والنصف سرت دعوة لغناء أغنية اسمها «كابا ماي". جُن المنقلبون من دعوة غناء هذه الأغنية بالذات. هددوا باعتقال من يغنيها. كان هذا مريبًا خصوصًا وأن مُعظم من هم في العشرينيات لا يعرفونها. ولم نفهم لماذا هذا الجنون، هي أغنية في النهاية، حين غناها الناس معًا وصدحت من سماعات لم يُبد لحنها ولا جرس كلماتها بأغنية ثورة. أغنية تُشعر بشجن وحنين، أغنية منعت لثلاثة وثلاثين عامًا وفي يوم واحد فتحت عقول وأرواح الجيل الذي حُرم من معرفة تاريخه، عرف قصة القمع الوحشي لثورة ميانمار الأولى عام ١٩٨٨، وبدأت باحتجاجات الطلبة الذين سئموا انهيار فرصهم وانحدار بلادهم عام ١٩٨٧ وامتدت عبر البلاد متوسعة في مطالبها حتى وصلت عام ١٩٨٨ لإسقاط النظام السياسي القائم وبناء نظام سياسي لمصلحة البلاد لا العسكريين وضمت كل فئات الشعب بعد إعلان نيه وِن إلغاء العملات ذات القيم الكبيرة٤، وبدأ في طباعة عملات أقل قيمة فوجد الشعب مدخراته المحدودة تحترق أمامه بين يوم وليلة دون إنذار، ووجد الطلبة أنفسهم عاجزين عن دفع مصروفاتهم الجامعية بينما العملات التي كانت مدخرة لذلك بلا قيمة بين أياديهم وحُدد يوم ٨/٨/ ٨٨ لخروج الجميع في الشوارع ضد الحكم العسكري بعد عام ونصف من الاحتجاجات فقرر الجيش قمعها بوحشية وأغرقت الدماء لشهور شوارع يانجون ومندلاي ومدن ميانمار الكُبرى وشملت حملة اعتقالات جمعية لقيادات الطلبة وكل من شارك أو ساعد ثورة الثمانيات الأربعة.

في عالم لا يهتم بدولة فقيرة كبورما قيلت بعد العبارات الفارغة في اجتماعات الأمم المُتحدة وأحكم التتماداو قبضة أكثر عنفًا على بورما.

وغنت ميانمار ٢٠٢١ تاريخ ٨.٨.٨٨:

"حتى نهاية الزمان

لن نستسلم

من أجل تاريخ كُتب بدمائنا

لن نستسلم

هي الثورة!

من أجل أبطالنا

من أجل من سقطوا وهم يحاربون

سعيًا للديموقراطية

أبطالنا الأحباء

في الأمة التي يسكنها الشهداء

» كو تو ماين»

يا جدنا العزيز

طريق ذكراك الذي مهدته تدنس

» تشي أونج سان"

أيها الأب الحبيب

الأمة تنزف دما

كيف جرؤوا!

جثث شعبنا

ملقاة على طريق (المئة قدم)

أسقطوا الديموقراطية بالتمام

يا إخوتي

الدماء على طريق (المئة قدم)

لم تجف بعد

لا تستلموا

مثلما لم يستسلم أبطالنا شهداء الديموقراطية

و لن نستسلم

حتى نهاية الزمان"

تنعي الأغنية بالذات من قُتلوا في مذبحة على طريق «المئة قدم» وتعد أنها ستكمل مسيرتهم، وها هي تفعل.

يمكن أن تحفظ أغنية التاريخ. تم تحميل الأغنية في الأيام الأولى مئات المرات على يوتيوب مصحوبة بصور وفيديوهات من ثورة ٨٨٨٨. هؤلاء الثابتين في الشوارع يكملون طريقًا بدأ قبل ٣٣ عاما. صارت الأغنية تصدح في الشوارع بين المسيرات والتجمعات يوميًّا. وذكرتني قصة الأغنية بمقولة لأفلاطون نسبها لسقراط: «الجهل هو النسيان". فحفظ الجيل الذي عاد الكثيرون منه إلى العمل الثوري بعد الانقلاب، أكثر نُضجًا وتنظيمًا وثقة، معهم جيل يحمل أدوات تواصل لم تكن مُتاحة لهم أقسموا أن يجعلوا بها هذه الثورة «على الهواء مباشرةً".

في الأسبوع الأول للثورة، أُغلقت كل قنوات التليفزيون والراديو المحلية، وبقيت قناة وحيدة تقدم عروضًّا عسكرية ألقى عليها «مِن أونج لوين» قائد الانقلاب عدد قليل من الخطابات. بعدها بدء سحب تراخيص الصحف وإيقافها عن الصدور عنوة وحجب مواقعها.

جربت السلطات الحاكمة كل شيء تعرفه، وكل ما تدعمهم به الصين لتهدئة الثورة أو على الأقل لتقليل أعداد المسيرات اليومية التي تجوب ميانمار يوميًّا غير عابئة بالدبابات ولا الجنود المنتشرين في الشوارع يطلقون النار عشوائيًّا. يقطعون خدمة الإنترنت يوميًّا من الواحدة حتى التاسعة صباحًا على الأقل، يفصلونه بلا إنذار في نهاية الأسبوع. وفرضوا حظر التجوال. ومنعوا مبيت أي شخص إلا في عنوانه المٌسجل علهم يكبحوا من يُخفون صحفيًّا مطلوبًا أو مصورًا في منازلهم. يهددون عبثًا من يشارك في «احتجاجات طرق الأواني» والتي تمارس عبر ميانمار يوميًّا من البيوت وأمامها. يعتقد البورميون أن طرق الأواني بعد حلول الظلام يطرد الأرواح الشريرة واللعنات. تهتز يانجون تحت قدمي كل يوم من شدة الطرق.

منتصف الطريق

لا تُنصف مسارات التاريخ في كثير من الأحيان حين تتبع السرد الزمني، فمنذ الانقلاب العسكري الذي قام به «نيه وِن» عام ١٩٦٢ مُغلقًا طريق الديموقراطية بعد تحرر بورما من الاحتلال البريطاني عام ١٩٤٨ وانسحب من المشهد عام ١٩٨٧ أمام ثورة الشعب مسلمًا السلطة «لجزار يانجون"٥ متنطعًا في خطاب تسليم السلطة بقوله «التتماداو حين يوجه فوهات أسلحته يوجهها للقتل". هناك خلاف تاريخي إن كان «نيه وِن» أسلم السلطة ليدير المذابح من خلف الستار. كان الرجل الذي مات سجينًا في منزله تحت الإقامة الجبرية ولم يعلم أحد بموته سوى من صورة نعي مدفوعة الأجر في صحيفة مجهولة مؤمنًا بجنون بالعرافين وكان أحدهم حذره أنه سيتعرض للاغتيال وقت الثورة، وأن طريقة كسر اللعنة هي القفز فوق لحم دامٍ أمام مرآة ثم إطلاق رصاصة على انعكاس صورته كلما شك أو سرت شائعة أن هناك محاولة لاغتياله.

في عام ٢٠٠٦ بدأت حكومة التتمادوا في التمهيد لرفع الدعم تمامًا عن كل منتجات الطاقة وكان تململ شعبي ظهر بالفعل من ازدياد الإفقار والنقص الشديد في الاحتياجات اليومية البسيطة. ثلث الأطفال يعانون من نقص التغذية. حين بدا أن السلطات الحاكمة مقدمة على ذلك بالفعل ومع بداية وصول الإنترنت وصور الرفاه الفاحش الذي يعيشه الحكام بدأت قطاعات عمالية في التظاهر والانقطاع عن العمل وفي واحدة من تلك المحاولات انقطع ١٠٠ عامل عن العمل في شكل عصيان مدني فرد العسكر بقتل ١٠٠ عامل، ومع زيادة عنف العسكر شعر الرهبان البوديون أن مكانهم أصبح الشوارع احتجاجًا مع الناس على الرغم من أن مخصصاتهم يؤمنها التتماداو طلبًا «لمباركاتهم» في بلد يعتقد في اللعنات والحظ السيء. استمرت التظاهرات عبر ميانمار وحول الأديرة البودية وبمشاركة الرهبان الذين سميت ثورة ميانمار الوسطى بسبب لون زيهم «ثورة الزعفران". بحلول عام ٢٠٠٧ كانت التظاهرات على أشدها والقتل على أشده، يحكي شاهد عيان للجارديان «رأيت صفوفًا من الرهبان المقتولين والمصابين ممتدة لكيلو متر. كانوا ينزفون، فكانوا يجرونهم ويدوسونهم وهم عاجزون عن تغطية أنفسهم"

عبثتم مع الجيل الخطأ

يرفع الجيل «ياء» هذا الشعار يوميًّا. الجيل ياء متحرر من كثير من الغيبيات ورغم ذلك يستعملها لكسر ثقة الجنود المنتشرين في الشوارع. يعرفون كيف يستغلون ثورة الاتصالات لمصلحتهم. موحدون على حكومة واحدة ممثلة لهم. لا يفاوضون على انتخابات جديدة. يبتكرون حيلة جديدة كل يوم. يحركون «تحالف الشاي باللبن"٦ «MilkTea Alliance» عبر آسيان وتايوان وهونج كونج للاستفادة من خبراتهم في التظاهر والمقاومة. يعتقد الجنود أن الجندي سيموت في ميدان إن عبر أسفل ملابس منشورة فيمدون الحبال خلف حصونهم ناشرين عليها ملابس على المرء أن ينحني ليمر أسفلها. يقفون أمام أي مكان يراود أحد موظفيه الدخول إليه للعمل ويخجلونه من نفسه. يدبر أطباؤهم أماكن خاصة يعالجون المرضى فيها مجانًا. يحملون شهدائهم القتلى برصاص في الرأس ويضعون حولهم الورود ويحولون جنائزهم لمسيرات للأبطال ويعودون اليوم التالي ويكملون. يعرفون أنهم معرضون للقتل، يكتبون فصائل دمائهم ورقم من عليه تسلمهم إن قتلوا على الذراع.

عبثوا مع الجيل الخطأ. عبثوا مع جيل قرر أن الموت ثمنًا ربما عليهم دفعه ليعيشوا جميعًا.

بورما الميليشيات

لم تكن بورما تحت حكم عسكري واحد يتحكم في كل ولايات البلاد طول تاريخها بعد الاستقلال عام ١٩٤٨. تتكون بورما من ٧ ولايات يضاف إليها ٥ مناطق بإدارة ذاتية لا تتبع ولايات، منها مندلاي وأحدثها العاصمة الجديدة «نابيداو"؛ وبها ما يقرب من ٣٥٠ إثنية أغلبها قليل العدد جدًا يعيش وسط نحو ١٥ إثنية كُبرى، وتغلب على كل ولاية إثنية كبرى واحدة. تصل الفُرقة بين الإثنيات إلى حد استعمال لغاتهم الأصلية بالإضافة للبورمية أحيانا بالنسبة للمتعلمين مثل إثنية ال"مون» والتي تتحدث لغة بنفس الاسم في ولاية مون.

بشكل نظري يُعتبر التتماداو القوات المسلحة البورمية منذ حرب الاستقلال عن بريطانيا واليابان، أما الفعلي على الأرض فأمر مختلف منذ حرب الاستقلال كذلك، لكل ولاية قوات مسلحة تحت ما كان وقتها يعتبر ميليشيا عسكرية من نفس غالبية إثنية الولاية، تشارك في حرب الاستقلال غالبًا عليها الدافع القومي وهو الدافع الذي بدأ في التراجع بعد انقلاب «نيه ون» وبدأت قوات الولايات تميل نحو الحماية الإثنية للولاية وبعضها كوَّن أحزابًا سياسية يتبعها ووُقع اتفاق بعد اتفاق بين التتماداو وقوات الولايات وبخاصة القوية منها.

لكن هذه الاتفاقيات انتفعت منها الولايات الغنية سعيدة الحظ التي كانت ميليشياتها حتى قبل تحولها لقوات الولاية تعتبر نفسها القوة المسلحة المدافعة عن الولاية وإثنيتها عبر صراعات لا تنتهي على خطوط الحدود بين الولايات وتؤمن حياة قابلة للعيش لولاياتها وإثنيتها من حيث الموارد والتعليم والعيش الكريم، أما الولايات الأفقر فلم تكن الميليشيات فيها أكثر من عصابات مسلحة وتتحكم فيها أكثر من ميليشيا في صراعات داخلية مستمرة بينها، تفرض الإتاوات وتُجبر الأطفال الذكور على ترك التعليم الفقير أصلاً في سن مبكرة لينضموا للميليشيا وتُترك عائلتهم بين نيران عدم قدرتها على تمويل تعليمهم ولو في المعابد البودية وتوفير الميليشيات لاحتياجات أطفالهم الأساسية.

باستكمال دستور ٢٠٠٨ وعبور البلاد لخطوات بسيطة نحو الديموقراطية أصبح اسم معظم قوات الولايات رسميا"القوات الإثنية المسلحة»، منها ما كان لها سلف في الولايات الأغنى مثل «كاين» و"مون» أحزاب لخدمة الولاية وكانوا شِقاً منها. وبوجود الصراعات الإثنية الدامية على مدار تاريخ بورما كان توقيع الاتفاقيات خطوة نحو الديموقراطية بإنهاء صراعات داخلية تستنزف البلاد يعد تقدما في تنظيم الدولة على الرغم من الاسم سيء الوقع، فاحتفظ كل بموقعه، لا يستطيع التتماداو التعدي على أي من الولايات ذات القوات الإثنية المسلحة وبخاصة إذا كانت الولاية ممثلة بحزب قوي تتبعه قواته المسلحة. لذلك يبدو مطلب الثورة بفيدرالية ديموقراطية منطقيًّا وأقل خلخلة لنظام الولايات المستقر، وبخاصة أن القوات الإثنية المسلحة في «كاين» و"مون» اعتبرت دورها حماية المتظاهرين في ولاياتها وكثيرًا ما ترافقهم القوات من الجهتين في أثناء المسيرات وصاحب ذلك إعلانات من الأحزاب التي تتبعها القوات في كل ولاية برفض الانقلاب وأن دورها النزول على رغبة أهل ولاياتها. التحدي الحقيقي الذي يواجه هذا المطلب هو الميليشيات الصغيرة غير المنظمة التي ترتع في الولايات الفقيرة ولا تستطيع حمايتها بشكل معقول من هجمات التتماداو أولا وهو ما تسبب في مأساة التطهير العرقي للروهينجا والولايات الفقيرة التي تمتلئ بميليشيات متعددة لا تنتهي معاركها وتعيش على سرقة الأهالي أو جمع إتاوات منهم بقوة السلاح.

المطلَب المُستحق المستحيل

"الحق في الحماية» المكفول من قوات دولية يحركها قرار من الأمم المًتحدة ينطبق على وضع الثورة في ميانمار طبقًا لشروطه، وبعد تصعيد التتماداو ضد ثوار سلميين وحملات الاعتقالات الواسعة علت مطالب الثورة للمجتع الدولي بهذا الحق، الحق الدولي الذي لا أمل له في ميانمار لأسباب عملية يتعلق جزء منها بما سلف من فوضى الفئات المسلحة عبر ولايات ميانمار والاتفاقات وإن أسهم بعضها في حماية المتظاهرين السلميين بمرافقتهم في المسيرات مثل قوات «كيرين» والتي لم تتدخل لا حزبًا ولا قوات مسلحة في اختيار أهل الولاية بالانضمام للثورة والعصيان المدني. يعرف التتماداو مواقف «القوات الإثنية المسلحة» من قبل التلويح بالانقلاب هو ما جعله يؤمن عبر مفاوضات بأنه لن يتدخل في «كايين"٧ لعلمه المُسبق بأن صراعة بينه وبين قوات «كايين» الـ «كيرين» سيعرضه لهزيمة في الولاية على أسوأ الفروض أو صراع مُسلح تستمر مواجهاته طويلاً، يستنزف جزءًا من قواته ويضع موقفه الداخلي في موقف حرج على أحسن الفروض. تتبقى حسبة تدخل الصين أو روسيا أو الولايات المتحدة بقوات مسلحة وهو أمر بعيد الحدوث لنفس أسباب تعقيد القوات المسلحة عبر ميانمار، غالبًا سيبقى التدخل الدولي لدعم الثورة أو قمعها في شكل «طائرة السي فوود» التي تصل يوميا من الصين في الواحدة صباحًا وتنكر الصين أي علاقة للطائرة بكاميرات المراقبة التي ملأت الشوارع وأن طائراتها تؤمن مأكولات بحرية تنقص ميانمار بمناسبة اقتراب الاحتفال بالعام الصيني الجديد.

حين بدأت كتابة هذه السطور كانت الثورة أكثر أمانًا، تنتهي مسيراتها في السابعة لتلحق بقرع القدور ويحظى الثوار ببعض الراحة قبل إعداد خطط مسيراتهم المليئة بالإبداع والاعتراض والإصرار والبهجة. بنهاية كتابتها صار الثوار في الشوارع على مدى أربع وعشرين ساعة، كونوا جماعات «الصفوف الأولى» التي تبتكر كل يوم وسائل للحماية وتتقدم الصفوف لتأمين المتظاهرين والمسيرات خلفهم، يبيتون حيث يبيت التاتماداو في الحي الذي يقرر ترويعه يومها بإطلاق الرصاص عشوائيا على الأهالي في بيوتهم وشرفاتهم. تبقت من الأيام الأولى الأغاني البهيجة وقرع القدور اليومي.

"سنحارب حتى النهاية، لن يحدث تغيير دون سفك دماء ولم يعد لدينا خيار آخر، كنت أتمنى أن تكون الأمور خلاف ذلك.. وبانضمامي لفرق الصفوف الأولى أصبحت أكثر سكينة في معركتي لأننا نعرف أننا سنكون أول من يطالهم الرصاص وسأتيح الهرب لشخص آخر. يوم نصادف فشلاً ويُقتل أحد المتظاهرين خلفنا أشعر بالفشل وأبكي في الليل"

"داني» لرويتز (اسم مستعار للحفاظ على سلامته).

هوامش ومصادر:

(١) تتماداو: حرفيا تعني «قوات مسلحة". في ميانمار تُعتبر القوات المسلحة البورمية. عمليا هي القوات الرسمية لبعض مناطق ميانمار فقط، لأن تقسيم الولايات و الإثنيات و مناطق الحكم الذاتي في ميانمار له قواته المسلحة الخاصة «القوات الإثنية المسلحة» و هو الوضع الرسمي بميانمار بموجب اتفاقات موقعة بين التتماداو و «القوات الإثنية المسلحة".

(٢) شويداجون: أقدس معابد ميانمار، تحكي الأسطورة البورمية أن أول من سكنوا بورما كانوا بضعة أفراد بُعثوا من امبراطور تقي بقطع ذهبية لمهمة مقدسة، قال لهم إنهم سينشئون بها مكانا في منطقة مقدسة سيعرفونها وحدهم حين يصلون إليها، وبعد بحث وصلوا لنقطة قلب يانجون العاصمة.

(٣) لونجي: الزي الرسمي الميانماري للرجال و النساء، يتكون من قطعة نسيج طويلة مخيطة من الجانب تُلبس بإدخال الساقين فيها ثم يستخدم النسيج الجانبي الباقي لطيه حول الوسط، ويُحكم ربطه بعقدة مميزة أمامية للرجال و جانبية للنساء.

(٤) العملات التي ألغالها «نيه وِن» بشكل فوري: فئة نقد المئة و الخمس و سبعين و الخمسين.

(٥) جزار يانجون: «سين لوين". مات «سين لوين» فقيرا مُهملا مثل مُعظم الحكام العسكريين لميانمار.

(٦) تحالف الشاي باللبن: تحالف بدأ بتغريدة قبل أربعة أعوام من ممثل كوري يعبر عن امتنانه لنجاح مسلسله الخفيف في دول آسيان، و"دولة تايوان وهونج كونج» فطالبت الصين بالاعتذار فتوالت التغريدات الساخرة من آسيان و تايوان وهونج كونج، وتحول لتحالف سياسي على منصات التواصل الاجتماعي، ثم تحولت لتحالف فعلي يتحرك على أرض بلاده دعما لدول آسيا المطالبة بالحريات. حصل التحالف على اسمه من مشروب بلدانه المُفضل والذي يعد رغم ذلك بطرق مختلفة في كل منها: «اشربه كما تحب».

(٧) كايين: ولاية من أغنى ولايات ميانمار وأكثرها استقرارا وأقلها صراعات، تحميها قواتها الإثنية المسلحة «كيرين» والتي تتبع حزب يدير شؤون الولاية و قواتها المسلحة.