هوامش
منى يسريعام على انفجار بيروت: لبنان يركض نحو الهاوية
2021.08.01
عام على انفجار بيروت: لبنان يركض نحو الهاوية
بحلول الذكرى السنوية الأولى لانفجار بيروت، يبدو المشهد اللبناني أكثر تعقيدًا ربما أكثر من أي وقتٍ مضى. فقدت العملة المحلية أكثر من 90 % من قيمتها في غضون أشهر قليلة، وباتت الكهرباء حلمًا صعب المنال بالنسبة للغالبية الفقيرة من الشعب اللبناني بعدما بلغت نسبتهم 55 % حسب آخر تصريحات البنك الدولي. بلغ سوء الوضع الاقتصادي في لبنان مداه بعدما أعلنت الصيدليات إغلاق أبوابها أمام الجمهور، بسبب نفاد الأدوية.
عام مضى على اللبنانيين دون بارقة أمل في تغيير محتمل، إذ تستمر النخبة الحاكمة في إعادة إنتاج نفسها منذ عقود، ولا أحد يُسأل عما وصل إليه الوضع في البلاد، بالرغم من عدة تقارير صحفية نشرت خلال الأشهر الأخيرة، تشير إلى صفقات فساد تتعلق بالوقود وقطاع الطاقة اللبناني، تورط فيها كبار القيادات السياسية للبلاد، وهي جزء من قصّة أكبر لم تُحكى بعد، عن فساد السياسي ومالي أوصل البلاد إلى نفق مسدود. ولا يمكن اجتزاء ما يحدث حاليًا في لبنان من سياقه الأوسع، المرتبط بالنظام الاقتصادي القائم منذ أكثر من ثلاثة عقود، أعقبت الحرب الأهلية، وسلسلة متصلة من الإخفاقات أدت في النهاية إلى كارثة مكتملة الأركان.
ما يحدث في بيروت يعد انهيارًا لنظام ما بعد الحرب الأهلية الذي تأسس في منتصف تسعينيات القرن الماضي. حتى عام 1992 كان الوضع في لبنان غير مستقر، ما مهد الطريق لصعود رفيق الحريري رئيسًا للوزراء، خلفًا لعمر كرامي، بعدما سار متظاهرون من كل أنحاء البلاد، لمقر إقامته، يهتفون بسقوطه، ما أجبره على تقديم استقالته. وصعد الحريري بعد انهيار مدوٍ للعملة وتفاقم حاد للأزمة المالية، أثار احتجاجات واسعة في البلاد، أعلن المحتجون إثرها الإضراب العام لمدة أربعة أيام، واحتشد آلاف من جميع أنحاء البلاد، للتنديد بالوضع المالي المزري، مطالبين حكومة الحريري الأب، بإيجاد حل فوري للأزمة المالية الخانقة، التي أسقطت حكومة كرامي، ما مهد الطريق لأول انتخابات نيابية بعد الحرب الأهلية. في ذلك الوقت كان النظام السوري بقيادة حافظ الأسد قد أحكم قبضته على لبنان من خلال معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق، الموقعة في مايو من عام 1991، ثم أعقبها نظام الأسد باتفاقية ميثاق الدفاع والأمن في سبتمبر من نفس العام. ومع صعود حكومة الحريري، شهدت تلك الفترة إعادة إعمار على نسق نيوليبرالي، كما رسخت تلك الفترة النفوذ السوري وسيطرته على المشهد السياسي والأمني في لبنان، لكن كل هذا لم يمنع نشوب احتجاجات عمالية واسعة، قمعتها بشدة قوات الأمن مستخدمة كل أشكال العنف الممكنة.
بالنسبة للكثيرين؛ جسَّد رفيق الحريري، معجزة اقتصادية قامت على أنقاض الحرب الأهلية، أيضًا حاولت الحكومة في تلك الفترة تعزيز التعايش السلمي، وترسيخ مبدأ المواطنة، والقضاء على النفوذ الطائفي، كما سارعت بوتيرة النمو الاقتصادي في صورة أرقام ضخمة، تجذب المستثمرين وتزيد من رصيد النقد الأجنبي للبلاد، أيضًا كان الحفاظ على ثبات سعر العملة المحلية أول تطلعاتها. سرعان ما انهارت كل الآمال باغتيال رفيق الحريري وسط العاصمة بيروت عام 2005، ما فرض واقعًا اقتصاديًّا جديدًا، وأشاع الفوضى في المشهد السياسي، حتى جاءت حرب يوليو 2006، لتسطو على كل ما أنجز في عهد الحريري، وتعود لبنان لنقطة الصفر من جديد.
كان إرث الحريري هو إعادة بناء الحي التجاري القديم في بيروت، بعدما دمرته سنوات الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي، بلغت تكلفته 30 مليار دولار، أموال لم تكن متوفرة لدى لبنان، وربما لم يكن من الممكن أن يقترضها لولا علاقات الحريري الشخصية مع الحكومات والمستثمرين العرب والغربيين. بينما انتقد عدّة تيارات سياسية مشروع الحريري، بعدما رأوا أنه تكلّف أكثر بكثير مما ينبغي، متهمين رئيس الوزراء الراحل بالبذخ في الانفاق، والتخطيط الفاشل، وهو أمر صحيح نسبيًّا؛ إذ واجهت حكومات الحريري المتعاقبة عجزًا هيكليًّا في الموازنة العامة، يتجاوز ربع قيمة الإنفاق الإجمالي. هنا تظهر الحجة المضادة، وهي أن لبنان اضطر إلى الإنفاق بشكل كبير بعد نهاية الحرب الأهلية، وإعادة بناء وتوسيع البنية التحتيّة المدمرة بفعل الحرب، جاء ذلك على حساب الإخفاق في تحقيق نمو اقتصادي مستدام، لكن البنية الجديدة سرعان ما هوت تحت القصف خلال حرب تموز.
كيف بدأ الإفلاس؟
أثقلت الحروب المتتالية والاضطرابات الطائفية والسياسية ميزانية لبنان بالديون، على الرغم من تميز نظامها الاقتصادي المفتوح، والقائم على الخدمات المصرفية في الأساس، إلا أن الحرب ألقت بثقلها على النظام الاقتصادي، وجعلته أكثر هشاشة عما كان عليه قبل الحرب الأهلية. كانت نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي أعلى من 150 % لمدة عشرين عامًا. كما تمّ التنبؤ بالتخلف عن سداد الديون السيادية لسنوات، ولكن تم تجنبه من خلال مرونة القطاع المالي وقيادة البنك المركزي. وكان لهذا ثمن باهظ، إذ كان لا بد من إصدار سندات اليوروبوند اللبنانية بفائدة تتجاوز 5 %، وهي أعلى من فوائد سندات الخزانة الأمريكية، ما سبب عجزًا كبيرًا في الميزانية، مولته الحكومة من المصارف، مع ودائع بنكية تعادل أكثر من 300 % من الناتج المحلي الإجمالي.
ما بين عامي2013/2018، بلغ متوسط النمو الاقتصادي 1.6 % فقط سنويًّا. مع نمو السكان بنسبة 3.3 % سنويًّا، انخفض الدخل القومي للفرد بنحو 2 % سنويًّا. كما بلغ متوسط عجز الحكومة أكثر من 8 % من الناتج المحلي الإجمالي، كان هذا أكثر من مدفوعات الفوائد، وبدورها عكست المستويات المرتفعة للديون التي نتجت عن العجز. وارتفع الدين الحكومي المحلي من 133 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2013 إلى 151 % في 2018، بينما ارتفع الدين الخارجي من 167 % إلى 191 %.
مع تدهور الوضع المالي، تعرض النسيج الاجتماعي للبنان إلى تجربة صعبة. نتيجة للسياسات الاقتصادية الصادمة، وتدخل صندوق النقد الدولي جزئيًّا، وأيضًا بسبب تدفق اللاجئين السوريين في أعقاب اندلاع الحرب في سوريا، ما تسبب في ارتفاع معدلات الفقر، ففي عام 2018، كان نحو ثلث اللبنانيين يعيشون في فقر، ارتفاعًا من 27 % في 2012، وصولاً إلى 55 % مع نهاية عام 2020.
خلال سنوات الحرب والتوتر، نمت الودائع في البنوك اللبنانية، خاصة من أبناء الشتات المقيمين وأموال الخليج العربي، ما ساعد على تغطية العجز الضخم في الحساب الجاري لميزان المدفوعات، وساعد على تمويل وسد جزء من عجز الحكومة.
ما بين عامي 2015/2018، تمّ تعويض مسحوبات المودعين بأشكال أخرى، بهدف الحفاظ على احتياطيات مصرف لبنان المركزي، ولمنع انهيار سعر الصرف، ولضمان استمرار الطلب على الليرة اللبنانية، كانت التكلفة باهظة، إذ اضطرت البنوك والقطاع العام إلى دفع أسعار فائدة تزيد عن 20 %، لجذب ما يكفي من الودائع الدولارية، كانت تلك استراتيجية الحكومة، لكسب الوقت اللازم لتنفيذ الإصلاحات الهيكيلة، وهو ما لم يحدث، إذ تكبدت الموازنة كلفة باهظة جراء سياساتها المالية، ما أدى إلى زيادة العجز المالي، وجعل الحكومة في وضع مالي أكثر حرجًا، وتم إضعاف الميزانية العامة للبنك المركزي بنسب تاريخية. وقد تم تعويض الاحتياطيات البالغة 38 مليار دولار جزئيًّا بـ 22 مليار دولار من الالتزامات الدولارية مع النظام المصرفي، مما أدى إلى أدنى نسبة تغطية احتياطية صافية للعرض النقدي منذ بدء نظام سعر الصرف الثابت.
الانفجار الشعبي
ولدت الأزمة المالية من زيادة أعباء خدمة الدين العام وإعادة تمويله، والانخفاض الحاد في صافي تدفقات رأس المال، التي مولت عجز الحساب الجاري، ووفرت وسائل خدمة الدين الخارجي. كل هذه الاختلالات المرتبطة ببعضها البعض، أدت في النهاية إلى استنزاف سريع لاحتياطيات النقد الأجنبي، ما أدى في النهاية إلى انخفاض تدفقات رأس المال، بل وهروبها من البلاد. أيضًا زاد من مخاطر الاحتفاظ بالدين العام ومن ثَم أصبح من الصعب إعادة تمويله، فضلاً عن ارتفاع سعر الفائدة وانخفاض مروع في قيمة العملة، وتصاعد معدلات التضخم بنسب غير مسبوقة في فترات قليلة للغاية. كانت الليرة اللبنانية على موعد كل صباح، مع فقدان لقيمتها السوقية، ما زاد من الاحتقان الشعبي الذي لم يمنع الناس من الاحتجاج والتظاهر منذ خروجهم للمرة الأولى في أكتوبر 2019. وبدأ الضغط المالي في سبتمبر 2019، خاصة بعدما فشلت الحكومة في تعويض الاختلالات المالية التي تعاني منها عن طريق زيادة الضرائب، والتقليص في الانفاق على الخدمات العامة، واستقطاع ضرائب خرافية، مثل ضريبة الواتس آب التي كانت سببًا في خروج الجماهير إلى الشوارع.
لم يقتنع المتظاهرون بحزمة الإصلاح الأخيرة التي اعتمدها مجلس الوزراء في 21 أكتوبر. خفضت الخطة خسائر شركة كهرباء لبنان، لكن كانت هناك شكوك حول استعداد الحكومة لتنفيذ الإصلاح الذي تم التفكير فيه منذ عدة سنوات. فرض الضرائب على البنوك أيضًا خطوة في الاتجاه الصحيح، على الرغم من أن الضريبة المقترحة البالغة 600 مليار ليرة لبنانية كانت ضريبة لمرة واحدة، وهي صغيرة مقارنة بالأرباح الضخمة التي حققها البنك في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، يعتمد جزء كبير من تمويل العجز في خطة مجلس الوزراء على البنك المركزي، الذي كلفته الحكومة بخفض خدمة الدين العام إلى النصف. وهذا يعني طباعة النقود، وهو ما سيؤدي بدوره إلى مزيد من الضغوط التضخمية والضغط على سعر الصرف، مسؤول واحد.
في أواخر سبتمبر 2019 زادت الاحتجاجات الشعبية في لبنان من الشعور بالأزمة. بعد أن توقفت العديد من أجهزة الصراف الآلي عن صرف الدولارات وخفضت البنوك حدود السحب إلى ألف دولار في اليوم، وفرضت قواعد تعسفية، مثل حظر المعاملات بالدولار بعد الساعة الخامسة مساءً. وفي عطلات نهاية الأسبوع التي تمنع العمال من استخدام حساباتهم. كانت الشركات التي كانت بحاجة إلى العملة الأجنبية أول من عانى. باعت محطات البنزين الوقود بالليرة بينما اشترته بالدولار. وأضربوا لفترة وجيزة يوم 26 سبتمبر احتجاجًا على ندرة الدولارات بالسعر الرسمي.
في 30 سبتمبر 2019، وعد مصرف لبنان بتوفير الدولار بالسعر الرسمي للشركات التي تستورد الوقود والأدوية والقمح. لكن الاحتجاجات تصاعدت بوتيرة أكثر حدّة، بشكل لم تتمكن الحكومة من السيطرة عليه، وأدت في النهاية إلى سلسلة من الاضطرابات السياسية، وصلت ذروتها بعد انفجار بيروت في الرابع من أغسطس 2020.
انفجار بيروت
مع وصول الليرة اللبنانية إلى مستوى منخفض جديد في بداية شهر مارس، أصبح لبنان على شفا الانهيار، إذ عانى ولا يزال من نقص الوقود وانقطاع مستمر للكهرباء. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية في العام الماضي بسبب ظهور فيروس كورونا، ثم انفجار مرفأ بيروت، وفوق ذلك كله، بسبب الطبقة السياسية اللبنانية التي فشلت مرارًا وتكرارًا في تشكيل الحكومة. أعطى الفراغ السياسي مساحة لحزب الله، الذي يُرجح أنه أحد الفاعلين المسؤولين عن تعطيل تشكيل الحكومة، لإظهار قدراته في إدارة البلاد من خلال رفاهه الاجتماعي على ما يبدو. ويُشار إلى حزب الله بالبنان، كمتسبب أساسي في كارثة انفجار المرفأ التي أودت بحياة 200 شخص، وإصابة 7 آلاف آخرين، فضلاً عن آلاف المباني المحطمة، ونحن اليوم على بعد عامٍ من الانفجار، فإن لبنان يغرق في هاوية وصفها البنك الدولي بأسوأ كارثة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعدما أصبح أكثر من نصف اللبنانيين غير قادرين على تأمين حاجتهم اليومية من الغذاء.
ويتسم النسيج الاجتماعي للبنان بالتمايز والتقسيم الطائفي، ما أوقع البلاد دائمًا في صراعات جانبية كانت في غنى عنها، لكن بفضل هذه الصراعات، وجدت القوى السياسية المتناحرة منافذ للتغطية على عمليات النهب الممنهج التي ارتكبتها بحق البلاد. ويقع حزب الله في قلب القوى السياسية المتناحرة والواقعة حتى اليوم في مأزق عدم استقرار حكومة، ولا البدء في عمليات الإصلاح الفوري المقترحة من قبل فرنسا (المستعمر التاريخي). تقوم الدولة اللبنانية بدور محوري في ملف اللاجئين، خاصة من الفلسطينيين والسوريين، لذلك فاستمرار الكارثة وتضخمها أكثر من ذلك وفق تحذير البنك الدولي، سيؤدي إلى ما لا يحمد عقباه على جميع الأصعدة.
بمناسبة الذكرى الأولى للانفجار ألقى الرئيس اللبناني ميشيل عون، خطابًا يعيد فيه إنتاج ما توعد به سابقًا ولم ينفذ منه شيء. وحتى اليوم تجد النخبة السياسية في لبنان نفسها في مواجهة حرجة مع الشعب، الذي خرج قبل عامين، مطالبًا بتنحي كل التيارات السياسية، دون أن يستثني منهم أحدًا، وهو مطلب يثبت صحته مع الوقت، أمام رموز سياسية، تغوص بالبلاد في قاع الهاوية بسرعة استثنائية، وتعجز حتى عن تشكيل حكومة تصريف أعمال يرتضيها الشارع اللبناني المحتقن.