هوامش
إسلام نبيل منسيعبد الرزاق جرنه فائز نوبل الغائب عن المكتبة العربية
2021.12.01
عبد الرزاق جرنه فائز نوبل الغائب عن المكتبة العربية
كعادتها تستأثر جائزة نوبل للأدب باهتمام القراء والمهتمين في الحقل الثقافي كل عام، بيد أنها هذا العام جعلت قراء العربية يتساءلون عن هذا الكاتب الذي حاز أرفع الجوائز الأدبية ولم نسمع عنه من قبل.. أطلت علينا الأكاديمية السويدية بخبر فوز الكاتب التنزاني عبد الرزاق جرنه، الذي حار الكثيرون حول كيفية كتابة ونطق لقب عائلته، واكتشف الكثيرون كاتب جديد على مسامعهم، قديم وذائع الصيت في الصحافة الغربية وقوائم الترشيحات للجوائز الأدبية.
اسمه عبد الرزاق سالم جرنه، ولد عام 1948 في زنجبار، ثم هاجر عام 1968 عقب الثورة وما حدث بين الهنود والعرب والأفارقة، إلى المملكة المتحدة بهدف الدراسة، ثم حصل على الدكتوراه عام 1982 من جامعة كِنت حيث يعمل حتى الآن أستاذًا للغة الإنجليزية والأدب ما بعد الكولونيالي. له كتابان عن الكتابة الأفريقية، ونشر مقالات عن عدد من الكتاب، كما أنه محرر كتاب "دليل أدب سلمان رشدي" الصادر عن كمبردج عام 2007. صدر له عدة روايات أبرزها الفردوس عام 1994 والتي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر وجائزة ويتبريد للخيال، كما وصلت روايته جوار البحر 2001 إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر وجائزة لوس أنجلوس للكتاب، رواية ذاكرة الرحيل 1987، ورواية طريق الحج 1988، ودوتي عام 1990، ورواية الهجر 2005، ورواية الهبة الأخيرة 2011. تتناول أعماله الإرث الاستعماري وأثره على المجتمع، وتلقي الضوء على حالات الهجرة والشتات والهويات العابرة للثقافات. تتجلى هذه الصورة في روايته الفردوس التي تتناول تاريخ زنجبار إبان الحرب العالمية الأولى والغزو الألماني، ورواية جوار البحر التي تتناول الهجرة والشتات من خلال رجلين مهاجرين من زنجبار إلى بريطانيا ومن خلال استرجاعهما للذكريات، نتعرف على ما يدفع الناس إلى الهجرة والشتات، وعلى مصير أمة مزقتها الفتن والصراعات. ورواية هجران التي ترسم صورة زنجبار أيام الاستعمار في منتصف القرن العشرين، وتتأرجح شخصيات الرواية بين المنفى البارد الذي يزيد من وحشة الهجران والخسارة والهلاك، وبين البلد الذي يئن تحت وطأة الاستعمار ورفض ما بعد الاستقلال. وتظهر أيضًا من خلال الحوارات التي أجريت معه، بجانب كتاباته، مواقفه تجاه قضية اللاجئين وتعامل أوروبا وخصوصًا المملكة المتحدة معها؛ إذ وصف موقف المملكة بالمقزز في سياستها تجاه اللاجئين. ودعا القارة الأوروبية إلى اعتبار الوافدين من أفريقيا ثروة، مشددًا على أن هؤلاء لا يأتون فارغي الأيدي.
أما السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا بدا فوزه أمرًا مثيرًا للدهشة؟
أعتقد أن هناك أسبابًا عديدة وراء ذلك، أولها البحث من قبل العديد من دور النشر العربية على ترجمة الأعمال الأدبية التي تتصدر قوائم الأعلى مبيعًا، مما يحرم القارئ من مطالعة أعمال وكُتاب لم يحالفهم حظ الأعلى مبيعًا وهوس الترندات. لا أعني بذلك أن قوائم الأعلى مبيعًا لا تقدم أعمال ذات قيمة أدبية، وإنما يجب ألا تكون المعيار الأوحد في اختيار الأعمال، والشواهد على ذلك كثيرة، فهناك العديد من الروايات سواء العربية أم الأجنبية لا تتصدر المبيعات ولكنها مهمة وذات قيمة أدبية، بل إن بعض الروايات يُعاد اكتشافها بعد مدة طويلة، حين يتبين أنها كانت تحمل رؤية. علاوة على ذلك، هناك النظرة السطحية في التعامل مع الجوائز الأدبية، والتي تجعل الاهتمام، بل وانتظر الرواية الفائزة على أحر من الجمر دون النظر بعين الاعتبار إلى القائمة الطويلة أو القصيرة، فكم من قوائم طويلة وقصيرة تضم أعمالاً أدبية ترقى لمستوى العمل الفائز بل وتتفوق عليه أحيانًا. إلى جانب ذلك، الصورة النمطية في أذهان الكثيرين عن الدول المُصدرة للكُتاب؛ تلك الصورة التي تجعل العديد من الأسماء الأفريقية لا تزال غير معروفة في العالم العربي. فلولا جائزة الأورانج ما عرفنا تشيماماندا نجوزي أديتشي وروايتها الرائعة نصف شمس صفراء، ولولا نوبل ما عرفنا نادين جورديمير، وولي سوينكا، وجون ماكسويل كويتزي، ولولا المان بوكر ما عرفنا تشينوا أشيبي، وبالمثل هذا ما حدث مع الكاتب عبد الرزاق جرنه، الذي يكتب من الثمانينيات ورشح لأرفع الجوائز العالمية دون أن يحصدها، وهو ما جعله بعيدًا عن قراء العربية حتى حصل على جائزة نوبل وعمره ناهز 78 عامًا. ولعل ما يثير الدهشة أكثر، تلك الآراء والأقاويل التي تبين أن الكاتب جذوره عربية ترجع إلى اليمن، إذ يُقال إن أسرته هاجرت من بلدة الديس الشرقية إلى جزيرة زنجبار القريبة من الساحل الشرقي لأفريقيا في أربعينيات القرن الماضي. ومن هنا، نحن في حاجة إلى أن تنفتح دور النشر العربية والمؤسسات الثقافية التي تعمل على ترجمة الأدب، على الثقافة الأفريقية وما تحمله في ذاكرتها من التجارب الحياتية، والصراعات العرقية والدينية، ومخلفات العهد الاستعماري، وتحديات ما بعد الاستقلال. وكما هو معروف فالأدب مرآة المجتمع وذاكرة الشعوب، فهو خير دليل لمن يريد التعرف على تاريخ أمة أو ثقافتها، فكيف نتقرب ونسعى إلى أدب القارة العجوز والأدب الآسيوي، بل ونجاهد في التعرف على ثقافات من لا يشاركونا محيطنا الجغرافي وتاريخنا، وفي الوقت ذاته نجهل من هم على مقربة ذراع مننا، بل ومروا بما مررنا به.
لا أقول إننا مخطئون بترجمة الأدب الآسيوي أو الأوروبي، ولكن ما ألاحظه أن هناك معايير متعلقة بسياسات النشر العربي، تحرم القارئ والمكتبة العربية من الاطلاع على الثقافات الأخرى وما تحمله من تنوع وثراء. وعلى الرغم من أن خبر الفوز كان غير متوقع من قبل القراء العرب، فإنه كان منتظرًا من قبل الصحافة الأجنبية، إذ دائمًا ما يتصدر عبد الرزاق جرنه والكاتب الصومالي نور الدين فرح الترشيحات من قبل الصُحف والقراء لجائزة نوبل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك العديد من الكتاب الشباب الأفارقة في الآونة الأخيرة تُطالعنا أسماؤهم في أبرز الجوائز العالمية، إذ ترشح أميناتا فورنا لجائزة الأورانج ودبلن ونيوستاد وحازت جائزة الكومنولث، ولم تترجم أي من أعمالها. ورشحت الأثيوبية مازا مينجست لجائزة البوكر عن رواية ملك الظل، ولا يعلم عنها القارئ العربي شيئًا. أما من نُشر لهم فقليلون أبرزهم الكاتب آلان مابانكو الذي حاز أرفع الجوائز الفرنسية، والكاتبة ياجياسي والتي رُشحت لجائزة المرأة للخيال (الأورانج سابقًا)، إلى جانب الكاتبة نادفة محمد الصومالية التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر. الجوائز كثيرة، والترشيحات أكثر، والأدب الأفريقي في جعبته الكثير؛ إذ يلجأ الكثيرون للأدب لسرد أهوال ما شاهدوه أو حُكى لهم، أو كنوع من النوستالجيا التي تطرق أذهان وعواطف المهاجرون وضحايا الشتات. اليوم أعاد الكاتب التنزاني، بهذا الفوز، القارة الأفريقية إلى جائزة نوبل بعد عقدين من الغياب، وقالت اللجنة في بيانها: يتميز عبد الرزاق بسرد للأحداث يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات. وأضافت أنه يكسر بوعي التقاليد، ويقلب المنظور الاستعماري لتسليط الضوء على منظور السكان الأصليين. تفانيه في الحقيقة ونفوره من التبسيط مذهلان، تبتعد رواياته عن الأوصاف النمطية وتفتح أعيننا على شرق أفريقيا المتنوع ثقافيًا غير المألوف للكثيرين في العالم. ففي عالم جرنه كل شيء يتغير، من الذكريات والأسماء للهويات، ثِمة استكشاف لا نهاية له مدفوع بشغف فكري في جميع كتاباته. وتابع البيان: في معالجة عبد الرزاق لتجربة اللاجئين، تم التركيز على الهوية البصرية والذاتية، تجد الشخصيات نفسها في فجوة بين الثقافات والقارات، بين حياة ماضية وأخرى ناشئة، إنها حالة غير آمنة ولا يمكن حلها أبدًا.
وأخيرًا ربما يفتح هذا الفوز وما صاحبه من اندهاش واستنكار من قِبل البعض، أعيننا أمام تقييم حركة الترجمة العربية، وأولويات وسياسات النشر العربي، وألا نحرم أنفسنا من رؤية أدب قد يكون حديث العهد إذا ما قورن بالأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الروسي، لكنه صاعد واستطاع أبناؤه أن يلتمسوا فيه نافذة التي يقدمون خلالها تاريخهم، وثقافاتهم، وتنوعهم.