عدد 18-عن الفقد والافتقاد

مصطفى شوقي

عرَّابة الظل..

2020.11.01

عرَّابة الظل

كانت دينا جميل أبرز كوادر الظل الذي تعلم في مدرستها جيل حركة الطلاب الاشتراكيين في سنوات ما قبل ثورة يناير 2011. بذلت كل الجهد الممكن بكل نضال، دون أن تسعى يومًا إلى تصدُّر المشهد، أو تستغل تأثيرها الكبير على هذا الجيل من الطلاب لتحقيق أي مكتسبات شخصية أو سياسية.

كان أداء دينا مُلهمًا إلى حد بعيد، وكانت تعلم أن مهمة التربية السياسية عملية صعبة وتحتاج لدأب، لكنها لم تتوان يومًا عن القيام بها والمراكمة فيها بكل إخلاص وتفانٍ، بل كان وجودها ونشاطها في حد ذاته درسًا كبيرًا لكل من رافقها.

كنتُ شابًا فقيرًا مهتمًا بالشأن العام، أدرس في عامي الثاني بالجامعة، لديَّ العديد من الأفكار المحافظة والرجعية، خصوصًا فيما يتعلق بالموقف من المرأة وكذلك الموقف من الأقباط، إلا أن العمل اليومي تحت إشراف دينا كان له دور كبير في تجاوز النظرة التقليدية المحافظة تجاه أمور كثيرة؛ إذ شرفت ورفاقي بالجامعة آنذاك لكون جميع المشرفين على العمل الطلابي تقريبًا من «رفيقات» ساهمن بشكل كبير في تشكيل وعينا ورؤيتنا ومواقفنا من العالم من حولنا، كانت تكفي رؤيتهن ينشطن بتلك الهمة والنضالية والإخلاص حتى تتعلم أنه دون كوادر مثل دينا جميل لخسرت الحركة السياسية الكثير. 

الكتابة عن رفيقة بقدر دينا جميل مسألة شديدة الصعوبة في الحقيقة، لأنك لا تعلم من أين تبدأ وأين تنتهي، فدينا رفيقة رحلة طويلة، وأحد المعلمين الأوائل بالنسبة لي ولجيلي من الطلاب الاشتراكيين. فقد كانت عرَّابة هذا الجيل بامتياز، ولكنها دومًا كانت «عرابة الظل» التي لم يعرف الكثيرين عن إسهاماتها ودورها المتميز والنضالي طول حياتها القصيرة. لذلك قررت أن أروي مجموعة من المشاهد التي جمعتني بها، إلى أن يلهمنا الله القدرة على تجاوز صدمة وآلام الفراق فيكون هناك متسع أكبر للحديث عن دينا جميل.

المشهد الأول:

عصر أحد الأيام الدراسية الاعتيادية بكلية الهندسة، جامعة حلوان، في عام 2005، لكنه لم يكن اعتياديًّا بالنسبة لي، فقد كنتُ بعد انتهائه على موعد مع أول اجتماع تنظيمي سياسي في حياتي، كان اجتماعًا سريًّا بطبيعة الحال، على أحد المقاهي بوسط القاهرة، لم أكن أعلم تحديدًا من سأقابل، تأخرتُ قليلاً عن موعدي لأذهب ولا أجد عناءً في التعرف إلى الزملاء المفترض مقابلتهم، وهو ما كان أولى علامات استفهامي! كان في الانتظار الزميلة دينا جميل، وأحد الرفاق المنضمين حديثًا مثلي، كان يرتدي قميصًا وسترة بدلة، مطلقًا شعره وذقنه ويدخن السيجار، كانت تلك الدلالات كافية للتعرف على أنهم الأشخاص في الانتظار. لكنه كذلك كان مسار أول حديث أستمع فيه إلى مسؤولي التنظيمي، إذ نسجت دينا حوارًا خاصًا، مقنعًا وخفيف الظل وغير متنمر، حول إشكالية أن يكون مظهرك لافتًا للنظر بشكل مبالغ، فمن حيث عنصر الأمان الضروري لمثل تلك الاجتماعات المظهر المبالغ خطأ، فضلاً عن أنه يخلق حاجزًا مبدئيًّا بينك وبين الجمهور الذي تستهدف التواصل معه، ذلك في الوقت الذي يسعى فيه الناشط الطلابي أو السياسي أو النقابي لأن يكسر كل الحواجز الممكنة التي تحول بينه وبين التواصل مع جمهوره المستهدف لا أن يعقد الأمر على نفسه. وأكدت دينا حينها أن الطلاب إن شعروا أن الناشط الطلابي من طينة تختلف عنهم، مثل أن يشعروا أنه بطل خارق (سوبرمان) وهذا يعني أنهم ربما سينظرون إليه وإلى تضحياته بفخر وتقدير أو إعجاب أو استنكار، لكنهم في كل الأحوال لن يفكروا في أن يكونوا مكانه أو معه.

المشهد الثاني:

كان بعض الرفاق بالجامعة يستخدمون أرقامًا ومعلومات أو بيانات تاريخية غير مدققة في أثناء الحديث إلى الطلاب في الساحات أو المدرجات، وأتذكَّر جيدًا أن بعض رفاقنا من المسؤولين عن الجامعة آنذاك استقبل الأمر بسخرية واندهاش من قدرة رفيقنا على استحضار أرقام أو أسماء أو بيانات غير مدققة بهدف استخدامها للتدليل على قضية ما عادلة وحقيقية يطرحها. إلا أنني لن أنسى موقف الرفيقة دينا جميل الحاسم -آنذاك- وهو رفض ذلك الفعل تمامًا واستنكاره مع وقفه فورًا ولفت نظر من قام بذلك. إذ رأت فيه استجهالاً واستسهالاً واستهتارًا وعدم احترام للنفس أو الجمهور المستهدف. كان حرص دينا على المعلومة، ليس تحديدًا فقط المعلومة، بل عملية التقصي عن المعلومة ثم مناقشتها ومعرفة الرؤى حولها، ينبع من دورها ككادر سياسي تنظيمي، وقبل ذلك باعتبارها صحفية مخلصة ومجتهدة وموهوبة. 

المشهد الثالث:

 كنتُ متوترًا جدًا حينها، كانت أولى تجاربي مع الكتابة المطوَّلة، التي تتضمن بحثًا وتقصيًا وقراءة وتحليلاً لمشهد سياسي واجتماعي، من خلال رؤية ومنظور طبقيين، حين رشحتني الزميلة دينا لكتابة مقال عن أحد الانقلابات العسكرية التي حدثت في موريتانيا في عام 2009. كانت تجربة جديدة وخاصة مع الرفيقة دينا، التي كانت أول شخص يشحذ شغفي للبحث والكتابة، مهنتي إلى اليوم بعدما تركت مجال الهندسة بشكل نهائي. حيث قررت أن تكون مرشدي في تلك الرحلة، وفرَّت لي العديد من المصادر بعد أن علمتني كيفية الوصول إلى المصادر الموثوقة، كانت أغلب المصادر باللغة الانجليزية وهو مجهود كبير آخر وفرته من طاقتها ووقتها في المساعدة في ترجمة وتسهيل اطلاعي واستفادتي من المصادر، ثم قراءة المنتج والتعليق على البناء والمحتوى ثم المساهمة في تحرير أول مقال مطول أنشره بمجلة أوراق اشتراكية، أتذكر أنه كان تحت عنوان «ديموقراطية جنرالات موريتانيا». إلا أن انعكاس تلك التجربة على أدائي في العمل الطلابي كان مهمًا، أن تتعلم كيف تتقصى المعلومة وتفهم سياقها وتحلل أبعاد الأمور، يجعلك ذلك تمتلك ميزة نسبية في طرحك للقضايا التي تؤمن بها وتدافع عنها، وأعتقد أن ذلك كان الهدف الرئيسي لدينا.

المشهد الرابع:

 في أثناء فض قوات الشرطة للمعتصمين بميدان التحرير مساء يوم 25 يناير 2011 تعرضت للسقوط نتيجة تدافع المحتجين بفعل القدر الهائل من قنابل الغاز المسيِّلة للدموع التي ألقتها قوات الأمن بالميدان. وتعرضت للإصابة في ظهري نتيجة مرور المتدافعين على جسدي، تماسكت يومين، ولكن في أثناء مشاركتي في المسيرة المتجهة من إمبابة إلى ميدان التحرير يوم 28 يناير، وقبل صعود المتظاهرين كوبري الجلاء متجهين لميدان التحرير، سقطت ولم أتمكن من استكمال السير بسبب آلام ظهري، ساعدني بعض الزملاء على الجلوس بأقرب مقهى في شارع جانبي مسرعين ليلحقوا بالمسيرة الحاشدة. ظللتُ منتظرًا على المقهى أشاهد الأحداث عبر التلفاز، حتى أعلن حظر التجوال، واستعد عمال المقهى للإغلاق، ومع عدم قدرتي على الحركة، استوقفوا لي سيارة أجرة (تاكسي) كانت متجهة صوب مصر الجديدة، كان السائق مسرعًا كي لا يصيبه ويلات كسر حظر التجول، لم أفكر حينها سوى أن أذهب إلى دينا، وأنتظرها حتى تعود، لا أعرف أحدًا آخر هناك، ولا يمكنني في هذه اللحظة تغيير وجهة السائق. إلا أن هذا الموقف كان سببًا لأن تمنحني المصادفة شرف مرافقة دينا ليلة سقوط شرطة حبيب العادلي واحتلال المتظاهرين ميدان التحرير. لم تكن فرحتها عادية، لم أرها بهذا الانتشاء يومًا ما، تحركت مسرعة كما هي بملابس المنزل مهرولة نحو الباب حتى إنني ذكَّرتها أن كل الطرق مغلقة، وأننا في منطقة تحوطها منشآت حيوية وليس لدينا سيارة، وأننا سنلتحق بالجميع مع أول ضوء للنهار. أتذكر جيدًا أن أنقى نعشة هواء استنشقتها في حياتي كانت نسيم الحرية صبيحة يوم 29 يناير 2011، وكانت برفقة دينا جميل.

المشهد الخامس:

توقفت عن النشاط السياسي مع بداية عام 2013، وبدأت بالتركيز مع عملي الجديد بمجال حقوق الإنسان. ومنذ ثلاث سنوات تقريبًا تجدد اللقاء بيني وبين دينا، التي كانت قد تركت عملها كمسؤول تحرير بموقع «أصوات مصرية»، وصارت تقوم بترجمة إصدارات المؤسسة التي أعمل بها، وحين وصلتها إصدارات للترجمة من إعدادي، لم تتوانَ عن التواصل معي مباشرة، وعرضت مساعدتها على الفور: إذا ما كنت أرغب في تطوير أسلوبي في الكتابة والعرض، ليكون أسهل للترجمة؟ وهي مهارة جديدة تعلمتها من دينا، وبعد سنتين أصبحت دينا مدير وحدة الإعلام بالمؤسسة نفسها، وحتى رحيلها القاسي.