مراجعات
شيرين أبو النجاعلوية صبح.. الجسد أرشيف المدينة
2020.01.07
علوية صبح.. الجسد أرشيف المدينة
علوية صبح الكاتبة اللبنانية ليست غريبة عن القراء في مصر، فقد عُرفت برواية مريم الحكايا (2002)؛ وهي ثاني أعمالها بعد رواية النوم مع الأيام (1986). ثم اشتهرت أكثر عندما شُنت عليها حملة عام 2010 لمنع روايتها اسمه الغرام (2009) من الصعود إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر. ولأن صغائر الأمور إلى زوال حتمي لم يبق سوى كتابة علوية صبح التي تشكل معمارًا متكامل البناء يتحرك في اتجاهين متعاكسين بالقوة نفسها؛ فمن ناحية تغوص الكاتبة في الداخل، فتسعى إلى كشف الخراب الذي خلفته الحرب في النفوس، ومن ناحية أخرى تتجول في فضاء المدينة في محاولة لفك رموزها وشفرتها من خلال شخصيات مختلفة، وتلقي الضوء على المسكوت عنه، كما فعلت نهلة التي اختفت في «اسمه الغرام»، فكانت رحلة البحث عنها إعادة قراءة لنبض المدينة النفسي والاجتماعي والسياسي. تتسم لغة علوية بقدرتها على الحفر، ولهذا نجدها تسعى إلى توليد مرادفات الكلمة وتحويل الشعور إلى استعارة، فتتمكن من كتابة ما يستعصي على الكتابة. وبازدياد الحفر وتزايد المشاعر الضاغطة المكثفة تصل الكتابة دائمًا إلى تلك اللحظة التي تفقد فيها الراوية ذاتيتها الروائية، فتتمرد على الحبكة وتتحول إلى علوية صبح، كما فعلت في مريم الحكايا، ومن بعدها اسمه الغرام. يحمل كسر الإيهام عدة دلالات، فمن ناحية يبدو وكأن الحبكة لا تسع الراوية، ومن ناحية أخرى تبدو الرواية أكبر من الحبكة: رواية وطن أو بالأحرى الذاكرة التي تسعى صبح جاهدة إلى رتق ثقوبها وسد فجواتها بالتخييل.
في أحدث أعمالها الصادرة عام 2020 تشرح علوية حرفيًّا معنى أن تعشق الحياة. هي رواية عن ذاكرة الجسد (دون أي إحالة إلى رواية أحلام مستغانمي)، الجسد الذي يختزن خيباته وانتصاراته الخاصة، لكنه أيضًا جسد موجود في الفضاء العام، مُحاصر بشبكة علاقات القوى السياسية والاجتماعية. تتحول أزمة الوجود بكل مستوياته المعرفية والأنطولوجية إلى أزمة الجسد (أو ربما العكس)، والجسد أرشيف الذات، لذا تتحول أزمة الجسد إلى ذاكرة متدفقة، مضطربة، دائرية، متفجرة. تكتب الذاكرة المضطربة المليئة بالفجوات عن أزمة الجسد المعطوب، المريض، المتشنج. يتحول الجسد إلى الصوت المهيمن على النص، حتى لو كانت بسمة- الراقصة التعبيرية- هي التي تروي. أن يعطب جسد راقصة فهذا بمثابة توقف عن الحياة، لكن السرد الشهرزادي وفعل الذاكرة يُعيدان الحياة لبسمة في نهاية النص إذ نشهد الرقصة الختامية التي تعلن بداية جديدة، وهو ربما ما جعل الصحافة الثقافية تستخدم كلمة «الأمل» كثيرًا عند الحديث عن رواية أن تعشق الحياة.
لكن ما بين البداية والنهاية تتمرد الذاكرة كثيرًا؛ حتى إن بسمة تعلن على الدوام أنها لا تتذكر، ويتصل الحلم باليقظة، وتخرج الذاكرة عن الخط المرسوم لها، فتخوض في ذاكرة شخصيات أخرى: صديقات وأصدقاء وسياسيين ومناضلين، لتكتمل صور المدينة المكلومة التي ينافس عطبها علة الجسد. المدينة مكلومة بالفساد السياسي ومأساة اللاجئين الفلسطينيين والطائفية التي تضرب المجتمع في القلب وتحتفظ للنساء بنصيب أكبر. يكتمل كل ذلك بتحول جزء كبير من سوريا إلى تربة مواتية لظهور الجماعات المتطرفة كداعش والنصرة. تتجلى كل آثار الحروب الماضية والحاضرة في النص؛ فيرى القارئ نتائج التشظي والقصف منعكسة في لغة الذاكرة.
يبدو جسد بسمة من صغرها وكأنه يتمرد على التنشئة الجنوبية المتزمتة القاتمة، ثم تتمرد أكثر فتحترف الرقص، وتترك في الخلفية إرثًا عائليًّا ثقيلاً يعود ليحتل مشهد الصدارة في مقدمة الذاكرة لنتابع حرفية رسم مشهد مرض الأب ثم انتحاره وإحساس الأم بالذنب. لم يتحمل جسد الأب البقاء على قيد الحياة التي تحولت إلى قيد فعلي، فحرَّر جسده من العجز، ربما لأنه أيضًا يعشق الحياة. أما أحمد، الحبيب الأول، فقد عطب جسده بالسرطان، وإثر موته لم يتحمل جسد بسمة المواجهة فعطب هو الآخر لتسافر في رحلة علاج إلى موسكو. وبزيادة عطب الجسد تزداد قسوة المدينة (في الرواية هي بيروت لكن الأمر ينطبق على أي مدينة عربية). وبزيادة قسوة المدينة تزداد فجوات الذاكرة؛ فلا تسترجع الأحداث بشكل خطي مطلقًا، بل بشكل دائري متعرج ومتكسر أو مبتور أحيانًا كثيرة. وهو أمر صحيح فلسفيًّا، فالذات لا تنبني بشكل متسلسل طولي، بل دائمًا ما يكون البناء متعرج الخط، ومبتورًا في بعض المناطق، وكذلك فعل الذاكرة الذي ينطلق من هذه الذات التي يكون الجسد أحد أوجه كينونتها. هي منظومة لا تتجزأ إذن، فالعطب لا يصيب الجسد فقط، بل يعبر حدود المجال الخاص ليصيب جسد المدينة بأكملها، فتمتلئ الذاكرة بالثقوب.
لا يفوت القارئ أن نص علوية صبح يلبي العديد من رؤى وتقنيات الكتابة النسوية دون أن يعلن عن ذلك أو يفتعله. بداية منح النص مساحة تخييلية لأصوات مختلف النساء: المثقفة والقروية، والبورجوازية، ونصف المتعلمة، والداعشية. الأمر ليس قاصرًا على كون الصوت لشخصية امرأة، بل المقصود أنه صوت يخالف السائد والمهيمن على فضاء المدينة الذكوري. كما أن الذاكرة التي تُولد قصة من داخل قصة تمنح النص بناءً أموميًّا لا تخطئه العين، فالقصة تولد من رحم القصة حتى النهاية. والأهم أن الذات النسوية التي تجلت على سبيل المثال في مختلف السير الذاتية التي كتبتها نساء لم تكن تسير بترتيب زمني طولي، لأن الذات لا تُبنى في الحياة بهذا الشكل المرتب، وذلك عكس السير الذاتية التي كتبها الرجال. تكتب بسمة (أو تحكي) سيرتها وسيرة جسدها ومدينتها وفقًا لوعيها بهم، ووفقًا لفعلهم فيها.
أما الذاكرة المثقوبة التي تحكم سرد بسمة، والتي تكشف كل تشظي الذات وتشظي المدينة فهي تعبير عن مصير الجسد/الكينونة في زمن المدينة. فكما تتآكل المدينة وتمتلئ الأرصفة بالقمامة، تفيض الذاكرة ولا تعود قادرة على رؤية الصورة كاملة. وعلى الرغم من أن بسمة تُرجع فعل الذاكرة المتشظي للأدوية والمهدئات التي تتناولها- وهي تقنية بارعة من صبح- إلا أن كثرة النزاعات والحروب التي مرت بها بيروت لا يمكن أن تترك ذاكرة واحدة سليمة. قد تبدو مشاهد الرواية في حبكتها غير مألوفة لدى القارئ الذي لا يفهم إلا السرد على طريقة حدوتة «كان يا ما كان». لكن هذه المشاهد المتشظية ظاهريًّا هي تعبير عما تفعله الحرب والفساد والتصالح الكامل بين الرأسمالية والأبوية. وفي وسط هذه الشبكة من العلاقات لا بد أن يتحول جسد النساء إلى ساحة معارك لتسجيل انتصارات زائفة. فما الذي حدث ليوسف، الفنان التشكيلي الذي عاشت معه بسمة أجمل لحظات؟ كيف ينقلب الشخص من نقيض إلى آخر؟ إنها الحرب، مشاهدة العنف والقتل والتعذيب.
عندما يعجز الإنسان العربي عن التحكم في أدنى شروط حياته لا يجد سوى جسد النساء ليضع فيه كل خيباته. يخرج الداعشي الصغير من شخصية يوسف ويطلب من بسمة الالتزام بارتداء النقاب، وهو طلب يعبِّر عن تحول بوصلة رؤيته للحياة بأكملها بعد أن عاد من سوريا. فالانهيار والعطب اللذان أصابا المجتمع السوري أدى إلى عطب جسد المدينة ومعها روح يوسف. وعندما نصل إلى الذروة في التطرف ورفض الحياة، لحظة إلقاء يوسف اللون الأسود على كل اللوحات التي رسمها لبسمة، ندرك أننا عدنا إلى مفتتح الرواية؛ حيث بسمة التي اشتد مرضها بعد تحول يوسف.
لكن يبدو أن السرد ومحاولات التذكر تدفع ببسمة دفعًا إلى محاولة النهوض من جديد، متمثلة روح أنيسة صديقتها التي أصيبت بالشلل ثم قاومت وعادت إلى الوقوف مرة أخرى عبر الكتابة. تشفى بسمة بتذكر الرقص، وذلك على الرغم من الألم المهيمن على الرقصة الختامية والتوتر الكامن فيها، وتشفى أنيسة بالكتابة. وتبقى أمينة في مكانها متحسرة على انفلات العمر دون الرجل الملائم، وفي إحالتها للمشكلة على بعض الماورائيات تكشف عن قسم أكبر من المجتمع المعطوب. تتجلى المدينة كلها في صمت نزار، وتطرف يوسف، ومرض بسمة، وشلل أنيسة، وأحلام أمينة، والأخبار التي يبثها التليفزيون، وذكريات بسمة عن نشأتها. كما تعمل ذاكرة بسمة- العشوائية والمتشظية ظاهريًّا- على منح أجساد أخرى معطوبة صوتًا، فتتوالى القصص من هنا وهناك في محاولة لكتابة ما يستعصي على الكتابة، لتظهر صورة باهتة لتاريخ سياسي واجتماعي مؤلم في المنطقة العربية. فكل الأجساد المعطوبة ليست إلا أرشيفًا للمدن، والعطب يصيب المهزوم والطرف المقابل الذي يتصور أنه منتصر. وهو أرشيف مليء بالخيبات والخسارة لا يُمكن تعويضها إلا من خلال أجساد النساء، أي عبر امتلاكها، أو انتهاكها، أو تغييبها، أو ذبحها. سوى هذه هي خيبات المدينة العربية التي فقدت السيطرة على كل ما حولها ولم يبق لها سوى إرث رأسمالي بالٍ لا يفهم ذكورته إلا من خلال نقشها على جسد النساء. لا يتحرر من هذه الدائرة محكمة الإغلاق سوى القلة التي تعلمت «أن تعشق الحياة»، وهي مهمة ليست سهلة في الواقع كسهولة كتابتها.