مراجعات

محمد عبد النبي

عن عادل أسعد الميري

2017.11.12

عن عادل أسعد الميري

يُولد بعض الكتَّاب ناضجين، مُكتملي النمو، دون أن تتاح لقرّائهم الفرصة لمتابعة مراحل تشكُّل تجربتهم وتطور وَعيهم وأدواتهم عبر الكتب والسنوات، وغالبًا ما يحدث هذا عندما يبدأ الكاتب نشاطه الأدبي في سن متقدمة نسبيًّا، بعد أن خلَّف وراءه مسيرة حافلة وشرعَ في استعادتها وتأملها وإعادة ترتيب دفاتره القديمة.

هكذا كان الأمر مع الكاتب عادل أسعد الميري الذي درس الطِب بناءً على رغبة الأسرة، دون أن يمارسه تقريبًا، واشتغلَ عازفًا للجيتار لعشر سنوات، ثم درسَ الإرشاد السياحي وعملَ بالسياحة فترة طويلة، وبعد انهيار قطاع السياحة عمل مدرسًا للغة العربية، وسافر كثيرًا داخل مصر وخارجها، وعاش لفترة في فرنسا مع زوجته وحصل على الجنسية الفرنسية، ثم تفرّغ مؤخرًا للترجمة والتأليف وأنتج أكثر من عشرة كتب بين إبداعية وغير إبداعية. 

لم يستعد الميري رحلاته ومغامراته الذاتية بين الأماكن والأعمال اعتمادًا على الذاكرة وحدها، فما أسهل أن تخدعَ الذاكرة أو تخون أو تزيِّن أو تشوِّش، بل اعتمدَ على كنز شخصي هو أقرب إلى مصداقية الوثيقة. فعلى مدار سنوات حياته ظلَّ حريصًا على كتابة مذكرات شبه يومية يسجل فيها كل شيء تقريبًا، حتى تجمعت لديه، حسب تصريحاته في بعض الحوارات، أكثر من 150 كراسة، يمتزج فيها سرد الأحداث والوقائع اليومية بملاحظاته وتعليقاته على الأماكن والمدن التي يمر بها في انتقالاته المتتالية، إلى جانب الشخصيات التي يصادفها في طريقه.

تلك الدفاتر هي المادة الخام الأصلية التي نبعتْ منها أغلب كتابات الميري التي لم يبدأ في نشرها إلا وقد ناهزَ الخمسين، مستمدًا مادة كتبه من حياةٍ حافلة بالتنوع والثراء، عاشها طولاً وعرضًا، دون طيش ولا رعونة كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما في أناةٍ وحرص، وسبر أغوارها على مستويين، رأسيًّا من ناحية عمق إطلاعه المعرفي على الطبقات التاريخية والثقافية لما يتناوله ويشاهده، وأفقيًّا من ناحية المدى الجغرافي الشاسع الذي يتحرك فيه، وكأنه إنسان كوني له هموم عالمية، دون أن يقطع الخيط الذي يصله بمصر وناسها وأحزانها المتلاحقة عبر العقود.

تنبع خصوصية تجربة ومُنتَج عادل أسعد الميري من مصادر مختلفة. فهناك الفن والكتابة كوثيقة وشهادة على زمنٍ ما، في صيغة شبه سِيرية، وما يستدعيه هذا من أسئلة تخص النوع الأدبي، وإمكانية أن يعتمد نَص أدبي على التجربة الإنسانية المباشرة وحدها دون مكر الصنعة وألعاب الحرفة. بمعنى آخر تطرح كتابات الميري السؤال حول: ما هي حدود النوع الأدبي الذي قد يتسع لاستيعاب تجربة حرة دون أن يخنقها في سبيكة الشكل، ودون أن يتورَّط كذلك في خيانة النوع الذي من المفترض أنه ينتمي إليه؟

ومن ناحية أخرى، على مستوى المحتوي، يتيح لنا الميري في كتاباته الإطلاع على صورة وعي مختلف عن الأفكار السائدة في أغلب الكتابات المعاصرة لكُتَّاب أصغر سنًا، بدعوته إلى قيم يبدو كأنها توارت ولم تعد تلفت الانتباه، مثل حرية التعبير والاعتقاد وقبول الآخر، قيم يستدعيها في صورة أحداث وحكايات، سواء من زمن نشأته وشبابه أو في احتكاكه المتواصل والمركَّب بعالم الغرب.

وفيما يلي استكشاف بسيط لأهم محطات الكتابة في مشوار الميري، ومحاولة لمد بعض الخطوط بينها، رغبةً في رسم خريطة أولية تمامًا، لتجربته وللفضاء الزمني والمكاني الذي انبعثت منه ولا تزال تتحرَّك فيه.

(2)

على الغلاف الأمامي لكتاب عادل أسعد الميري، الصادر قبل سنوات قليلة عن دار نشر ميريت، «كل أحذيتي ضيقة»، تستقبلنا كلمة (اعترافات)، لكننا نقرأ كلمة رواية في أولى الصفحات، فأيهما نصدق؟ لعل هذا ليس مجرَّد خطأ، بقدر ما يعكس درجة من التردد انتابت صنَّاع العمل عند تصنيفه، ربما لأن مبدعه اعتمد، بوضوح، في مادته الأساسية على سيرته الذاتية. ولكن هل يكفي هذا لأن نصنّف كتابًا سرديًا بوصفه اعترافات؟

يُوحي الاعتراف بكشفٍ للمستور، بفضيحة، إقرار بذنب في حكايةٍ مُحكمة، وانتهى الأمر. لكن كتاب الميري ليس بالضبط كذلك، بقدر ما هو بوح وفضفضة وسرد لسلسلة تجارب امتدت عبر عقود. كما أن الراوي هنا له اسم غير اسم المؤلف، وبهذا يكتسب وجودًا متخيلاً ومستقلاً، وتتخذ حياته المكتوبة بناءً مستقلاً ومنفصلاً عن مبدعه، مهما تلاقت خبراتهما وانعكست صورة أحدهما في مرآة الآخر. لهذا لا يمكن إلا أن نتعامل مع كتاب «كل أحذيتي ضيّقة» إلا بوصفه رواية، حتى وإن غلبت عليها صيغة الحديث المرسل وهيمنت نبرة ذاتية أسيانة، تنزلق أحيانًا إلى فخ الرثاء والتباكي، سواءً على الذات أو لانهيار القيم وتشوّه الجمال.

منذ الصفحات الأولى يتحرّك السرد في منطقة يمتزج فيها الخاص بالعام، وتمتزج الخبرات الذاتية الحميمة بالصورة الكبرى للمجتمع ككل، انطلاقًا من خصوصية أن تكون طفلاً مسيحيًّا مصريًّا في النصف الثاني من القرن العشرين، وُلدَ في أسرة من الطبقة الوسطى تفرض حول أبنائها سياجًا من الحماية المفرطة وتلزمهم بالتفوق الدراسي. من هذه النقطة الصغيرة، ومن مدينة طنطا، تتوالى الموجات السردية في أناةٍ وتريث لا يدفعان للضجر إلا لِمامًا، وبإيقاع يكاد يكون موسيقيًّا لانتظامه وعذوبته.

وسرعان ما تتورّط الحكاية في مناطق نفسية وخبرات اجتماعية أشد حيويةً وعمقًا مع بلوغ راوينا أشده، ووضع يده على معضلاته النفسية، فيواجهها بالابتعاد عن منطقة أمان أسرته والتخلّي عن دعة وحماية البيت، تلك الحماية المفرطة، من أمّه خصوصًا، التي تسببت في تأخر نموه العاطفي والجنسي سنواتٍ طويلة. ثم يواجه الحياة في العاصمة، برقته ووسامته وخجله، طالبًا للطب أو عازفًا للجيتار في كباريهات شوارع الهرم ثم مرشدًا سياحيًّا، وهو العمل الذي يستقر فيه فترة طويلة قبل انهيار صناعة السياحة، فيلجأ لتدريس اللغة العربية في مدرسة فرنسية.

اعترافات ناجي، وهو اسم الرواي، أو القناع المتخيَّل للمؤلف عادل أسعد الميري، هي أقرب إلى مرارات، ترثي مجتمعًا أخذ ينحدر ويتدهور بإطّراد. ولم يكن الراوي بريئًا تمامًا حين أخذ يصوِّر الفوارق المذهلة بيننا وبين الغرب، وخصوصًا من ناحية الحريات الفردية والجنسية. ففي حين نرى هنا الجوع والكبت والازدواج، يرصد هناك الانطلاق والعفوية والعري البسيط الجميل، وإن ظلَّ هو نفسه غير مرتاح تمامًا مع تلك الحريات حين تتجاوز الحد المعقول (بالنسبة له)، فلا يرتاح لشخص «ترانس» يرتدي كالنساء ويتصرّف مثلهن.

(3)

في عمله السردي التالي، «لم أعد آكل المارون جلاسيه» (دار ميريت، 2011) اختفت إشكالية التردد إزاء النوع الأدبي. قُدِّم الكتاب على غلافه الخارجي باعتباره رواية، على رغم عدم وجود أي شيء قد يميز هذا الكتاب عن سابقه من الناحية التقنية، اللهم إلا وحدة الموضوع في الثاني مقابل التنوّع والانتقالات في الأول.

يظهر الرواي هُنا أيضًا بالاسم نفسه، ناجي نجيب مسيحة المنياوي، وبالملامح والتفاصيل نفسها التي ظهرت في الرواية السابقة. لكنه هُنا يفضّل التركيز على تجربة واحدة فقط، وهي تجربة زواجه من سيدة فرنسية استمتع معها بالحياة الوردية الناعمة لأشهرٍ معدودات، ثم ما لبث أن انفضَّ الحَفل بعد أن ساءت حالتها النفسية تدريجيًّا، لأسباب تبقى غامضة ومجهولة حتى نهاية الكتاب.

جاء استعراض مسألة علاقة الشرق بالغرب في عمله هذا أكثر ثراءً وتعقيدًا، وأشد اعتناءً بالتجربة الشخصية المتميزة، فنجا بتجربته من التعميم وإطلاق الأحكام السهلة. فلا نشعر خلال القراءة أن ناجي أتى ممثلاً لعالمه الشرقي بثقافته ومشكلاته وأن ريتا هي العكس. فهي على سبيل المثال كانت منبهرة بعالم الروحانيات الشرقية، وهائمة في دنيا اليوجا والرياضات الروحية الهندية مثل التأمل أو التركيز، كما عبَّر عنه الميري. وفي المقابل يظل زوجها ناجي، حتى نهاية علاقتهما، متشككًا في هذه المسائل برمتها، دون اقتناع كامل من جانبه بجدواها أو فعاليتها، بل يتمادى في ذلك إلى حد أن يتهم رياضة اليوجا التي تمارسها زوجته بنهم وإخلاص مزعجين، اتهامًا مضمرًا أو صريحًا، بمسئوليتها عن تدهور حالتها النفسية والعصبية. وهكذا يبدو ناجي أحيانًا في تمسِّكه بالعقلانية والمنطق أكثر غَربيةً من ريتا، وتبدو هي في سعيها الدائب وراء المطلق والغامض والمجهول أكثر شرقيةً من زوجها، هذا بالطبع إن اعتمدنا المعايير التقليدية التي عفا عليها الزمن في ثنائية الغرب والشرق.

يأخذ الميري خطوة أخرى إلى الأمام في هذا العمل من ناحية اللعب السردي، حين يتبنى صوت ريتا في أكثر من فصل، فيحاول أن يسبر أغوار ذاتها، وأن يقبض على مظاهر ارتباكها واضطرابها النفسي، بلغةٍ عارية وشفافة، تترفع بلاغتها عن الحُلي الزائفة الرخيصة ولا تتقلّد إلا القطع المبتكرة؛ مثالاً حين يحاول أن يصف راوينا طبيعة حياته مع زوجته ريتا، بكل مشكلاتها النفسية، يكتب في نهاية أحد الفصول: «كانت الحياة مع ريتا مسرحية عبثية مستمرة، تُدخل المُشاهد دائمًا في اختبار التحكّم في الأعصاب، وكنتُ أحيانًا أتخيل أن مرض ريتا هو عملاق بلا عقل يُمسكني من قدميّ ويرفعني في الهواء ليطيح بي يمينًا ويسارًا، فيرتطم جسمي وترتطم أطرافي بجدران المكان، فيتحطم رأسي وأطرافي في عملية تعذيب مستمرة بلا نهاية.»

ولكن ناجي يواصل حمل صليبه الثقيل بكل بسالة ومثالية وتسام، فهكذا يحب أن يرى نفسه، وهكذا أراد دائمًا أن يرسم صورته. وحتى بعد انفصاله عن ريتا وزواجها من آخر، ظل حريصًا على متابعة تطور حالتها، بل سافر حتى فرنسا ليكون بجوارها في نقاهتها من أزمة نفسية جديدة، بناءً على طلب من أمها. أي قداسة؟ فكأنه بمراقبته لهذه الحالة الإنسانية المتمثلة في ريتا، مراقبة دقيقة تكاد لا تفلت شيئًا من هواجسها ومشكلاتها، ومن تجليات جنونها في بعض الأحيان، كأنه بهذا كله يبعد نفسه عن دائرة المرض، ينتزع نفسه من الجنون، ولو كلَّفه هذا شيء من قسوة القلب، فهو الذي اختار عند زواجه منها الاحتكام للعقل لا القلب، لكي يظل القلب محتفظًا بصباه وحيويته دون ندوب أو متاعب. لكن ما جدوى قلبٍ غير مجرب، إلا أن يصف الحالة الإنسانية بعناية، كما قد يصفها طبيب أو إخصائي نفسي؟ وسوف يعود هذا الملمح، من الحرص على اتخاذ مسافة عقلية آمنة من التجربة، في كتب وتجارب أخرى للميري.

(4)

في روايته «فخ البراءة»، يبتعد الميري عن قناعه الشخصي الأثير، ناجي، لكنه يظل عاكفًا على بعض ثيماته المفضّلة، ولو من زاوية مختلفة قليلاً، على سبيل المثال تأخُّر النمو النفسي والجنسي لدى بطله، والأسرة التي تكاد تخصي أبناءها نفسيًّا بالإفراط في حمايتهم وفصلهم عن العالم الخارجي، وكذلك نَغَمته المفضلة في المواجهة الأخلاقية بين الشرق والغرب، ومقدار التحرّر والتوازن الذي يتحقق لدى كلٍ منهما.

على عكس الراوي في الروايتين السابقتين، لا يتمرَّد الراوي هُنا على قوانين العائلة والحماية المفرطة، بل يستنيم إلى لعب دور الطفل المدلل وشِبه المعزول عن العالَم الخارجي، حتى يبلغ مشارف شيخوخته، متخطبًا كطائرٍ هَش في «فخ براءته»، هائمًا مع أوهام لا أول لها ولا آخر، تتعلق بالطاقات الروحية واليوجا والمشي ساعات طويلة وممارسة التأمل، إلى آخر بعض تلك الموتيفات التي قد نلمح تأكيد الميري عليها في أعماله السابقة. ومن مشروع فاشل إلى آخر أكثر فشلاً، ومن محاولة اقتحام مجالٍ جديد إلى محاولة أخرى، يبقى «بطلنا» يسير في المحل، مصارعًا أوهامه وخيالاته ومخاوفه العديدة التي يشغل الجنس قسمًا معتبرًا منها.

يعمد الميري في «فخ البراءة» إلى حالة من التفتيت شبه الكامل للخط الزمني لحكايته، المسرودة في صيغة يوميات على لسان الشاب-الشيخ الذي تنقضي أيامه بلا حساب وهو مختبئ في قوقعته يبارز طواحين الهواء. فكأن الفصول القصيرة للرواية هي صفحات منتزعة عشوائيًّا من دفاتر يومياته التي تتراكم مع تقدمه في السن، مقدَّمة للقارئ دون ترتيب. فهذا المشروع الذي فشل قد نلمحه بعد صفحات في مهده الواعد، وهذه الهواجس الخاصة بأقدام النساء تظهر وتختفي من مرحلة إلى أخرى.

وقد أتى هذا الاختيار المعماري مؤكّدًا لحالة الركض في المكان الخاصة ببطل الرواية، فكأن لا شيء يحدث حقًا في حياته يمكن تتبعه من البداية إلى النهاية، بقدر ما هي دوائر مفرغة صغيرة تتجاور وتتواشج أحيانًا، لكنها لا تخرج كثيرًا عن دوّامات نفسية ضيقة ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد. غير أن البناء المفكك للسرد واختلاط يوميات البطل لم يكن مجرد حيلة سردية بهلوانية على سبيل التغيير، بقدر ما هي فاعل دلالي له دوره، جماليًّا وموضوعيًّا، في مُقاربة المعنى الكلي.

نحن إزاء سرد هو أقرب إلى دراسة نفسية لحالة من حالات الاضطراب النفسي، اضطراب ليس واضحًا بالقدر الذي قد ينذر بالخطر أو الذي يعزل صاحبه عن مجتمعه وسياقه، لكنه موجود ونشط ومحكَم كعقدةٍ تامة حول نفس حامله. إحساس «دراسة الحالة» هذا يتبدى من الصحفات الأولى للرواية التي يمهد فيها الميري لعرض حالته الخاصة بثلاث مقدمات قبل الفصل رقم 1، ثلاث مقدمات مجلوبة من مصادر ثقافية مختلفة مثل برنامج إذاعي على القناة الثقافية وكتب علم النفس والموسوعة النفس-جنسية، يحاول من خلالها أن يرسم صورة سريعة وعامة لنمط الشخص الذي يتناوله العمل. وفي ثنايا السرد نفسه لا نلمح هذا البناء المنتظم المتتابع للأفكار المنطقية، إلا ربما قرب انتهاء الرواية حين يستسلم الميري من جديد لولعه الجلي بالبحث والتوثيق وعرض الأفكار، عند تناوله مسألة الميل للتعري، فيلجأ من جديد للاقتباس المباشر من هنا وهناك، دون أن نستطيع أن نحدّد هل مازلنا نقلّب في دفاتر يوميات بطلنا المتلكئ المتواني أم أننا قد انتقلنا بلا تمهيد إلى التعليق الخارجي والتفكير المنتظم للمؤلف الصاحي المنتبه.

انطلاقًا من أغنية الأطفال التي كانت تتردد على ألسنة أطفال نادي طنطا الرياضي في سنة 1959 «طلّع قرونك يا كوكع... أبوك مات يا كوكع»، التي على سذاجتها وبدائيتها تلقي بضوءٍ ناعم على حالة بطلنا الذي يخفق مرارًا وتكرارًا في أن تطلع له «قرون»، حتى بعد أن مات الأب وغاب الأشقاء وصار شيخًا أشيب، بقي حبيس «كوكعته» هائمًا مع القوى الخفية وتمارين اليوجا والتركيز الروحي.

مرورًا بالعديد من المواقف والحكايات الفرعية الصغيرة، المزخرفة بأوهام وظنون بطلنا، تتكرر النغمة ذاتها بتنويعات عديدة، حتى السطور الأخيرة من هذا العمل، الذي يمكن اعتباره بحثًا في الهواجس الجنسية الغامضة وغير المألوفة لأعزب فاته القطار ولم يمارس الجنس «الحقيقي» سوى مراتٍ معدودة، كما يمكن اعتباره أيضًا استكشافًا سرديًّا متميزًا لجزيرة العزلة التي نختارها بمحض إرادتنا، حين يخيِّب العالم الخارجي طموحنا اللانهائي، ولا نراه جديرًا بعَظَمتنا الخاصة، وهي عظَمة لا سبيل لمساءلتها مادمنا نحن مؤمنين بها، حتى ولو بقيتْ داخل حدود أحلامنا القاصرة.

(5)

يمكننا أن نعتبر كتاب «تسكّع» مِن أكثر أعمال عادل أسعد الميري تعبيرًا عن الروح العامة المهيمنة على كتاباته وحسِّه بالعالم: الشغف بالانتقال من مكانٍ إلى آخر، نبرة تسجيل اليوميات، التطرق للقضايا العامة بدرجةٍ من الإسهاب، رُوح الفضول والاستكشاف إزاء الناس والحياة عمومًا.

الكتاب مقالات منفصلة مُعنونة، يربط بينها الكاتب نفسه في انتقالاته بين أمكنة مختلفة، على مدار فترات زمنية ممتدة، سواء داخل مصر أو خارجها. كأن الرابط الأساسي هو ما عبَّر عنه عنوان الجزء الأول من الكتاب بعبارة «مناظر من الحياة المعاصرة...»، وهي مناظر أقرب إلى فن الفوتوغرافيا، تعتني بالتفاصيل والتحديد الدقيق للمواقع والمسافات بين الأماكن ووسائل الانتقال بينها ووصف حال المدن والشوارع والسكان والأهالي، مع سرد شِبه خالص يطلُّ برأسه بين الحين والآخر، لبعض المواقف التي جرت في حياة الكاتب خلال عبوره تلك الأماكن، سائحًا أو مرشدًا سياحيًّا، أو لمجرد قضاء مصلحة عملية.

في هذا الكتاب المبكر قد نلمح بذورًا لكتابات أخرى تالية. ففي فصل منه جزء خاص بعمله عازفًا للجيتار مع فرقة غربية في ملهى بالأقصر، وسنقرأ الصفحات نفسها، بترتيب الكلمات والفقرات نفسه، بعد سنوات في كتابه «شارع الهرم».

يتأكد هنا إحساس لعبة الميكانو، أو قِطع الفُسيفساء المتناثرة الموزعة، بقصد أو بعفوية تامة، على جميع كتب الميري. وكأن الكاتب، ثم القارئ فيما بعد، يتسلى ويستمتع بتركيبها وتفكيكها مرة بعد أخرى لرؤية «المناظر» بإطلالة جديدة وفي سياق آخر.

ملمحُ السيرة لا لَبس فيها هُنا، وعلى رغم ذلك فإن الكاتب يبقى حريصًا على اتخاذ مسافة آمنة من كل شيء تقريبًا، إنها المسافة بين عدسة الكاميرا والشيء الذي تلتقطه، وكأنما يراقب العالم من وراء زجاجٍ عازل، زجاج السياحة؟ ربما.

ثمة التزام كأنه ذو طبيعةٍ عِلمية بعدم تورّط المراقب شعوريًّا، وبعدم التدخل بأحاسيسه وانفعالاته وضعفه وأوجاعه الخاصة عند دراسة الظاهرة، عبرَ رصدٍ شبه محايد بارد معقَّم ومُلتزم بالحقائق الصارمة إلى أقصى حد ممكن، دون تخييل أو شطح أو لعب، وعلى رغم ذلك فقد يغلبه القلم في أحيان نادرة إلى سطرٍ أو اثنين لينجرف إلى إشارة خافتة وخاطفة نحو أوجاعه الداخلية، كما في صفحة 163 من «تسكّع»: «وكان بالقرب من هذا الشاطئ قرية صيَّادين، يأتي إليها الرسّامون لاستلهام الطبيعة البحرية، فكنتُ أراقبُ عملهم وأتحدث إليهم، وكانوا يتقبلون مني ذلك إذ كنتُ ما أزال محتفظًا بقدر كبير من أحاسيسي الفطرية.»

ما هي طبيعة الأحاسيس الفطرية التي كان الكاتب محتفظًا بها في رحلته تلك إلى فرنسا؟ ولماذا لم ينبش وراءها قليلاً؟ وكيف تبددت بعد ذلك؟ لن نعرف أبدًا، لأن الطابع المهيمن على الكتابة هو التسجيل السريع والعابر، المسح الأفقي للحياة من دون مغامرة للحفر الرأسي في داخل الذات، حتى في كتبه السردية التخيلية الأخرى. 

في حوارٍ مع عادل أسعد الميري، وتعليقًا على نقطة العَين الطبية التي ينظرُ بها إلى حالة زوجته قال «... أرى الآن أن كمية التفاصيل الطبّية فيها [الرواية] تتعدّى حدود قوة تحمُّل القارئ العادي، ولم أنسَ في بعض فصول الرواية أنني تخرّجت في كليّة الطب». غير أن الأمر ربما لا يقتصر، في كتبه عمومًا، على عين الطبيب. هناك نزوع متواصل نحو الرصد والتوثيق، الذي يصل في بعض الأحيان إلى حد ذكر مساحات بعض المدن وعدد سكانها وتكوين تركيبتها السكانية. من الجائز أيضًا أن يكون ذلك بدافع توجه تثقيفي للقارئ من كاتب يُخيفه بوضوح مستوى التدّني والانهيار الثقافي والمعرفي الذي انحدر إليه مجتمعه.

في روايات أحدث له، مثل «ألوان الطيف وبلاد الفرنجة»، يخفت صوت السرد وينزاح للخلفية، حتى لا يكاد يتبقى منه غير طيفٍ بعيد، لصالح الأسئلة الإنسانية والاجتماعية التي تتصدَّر المشهد. في «ألوان الطيف» لا نكاد نمسكُ بخيط سردي واضح، لكن تتوالي الصفحات التي ترصد مشكلات قطاع السياحة في مصر منذ الثمانينات على لسان مرشد سياحي فرنسي عاش في مصر عشرين سنة.

وراء كل سرد الميري وحكاياته هناك دائمًا طيفُ درس ما يريد أن يلقنه لقارئه، سواء كان هذا الدرس معلومة عن تاريخ مصر، أو إشارة لتناقضات أخلاقيات المصريين المعاصرين، أو توعية بقيمٍ إنسانية عامة مثل الحرية والعدالة والمساواة. قد يخفت ظهور هذا الدرس ويندمج تمامًا في خيوط سرده وسيرته، وقد يتضح ويستقل حتى لكأنه مقتطف من موضوع صحفي أشمل تفرّق دمه بين صفحات كتبه.

 

(6)

أجمل ما في كتاب «شارع الهرم» للميري تجنّبه لمزالق وعيوب كتبه الأخرى. فهو مبدئيًا، ومنذ عنوانه، يركز عدسة الرصد إلى أقصى حد ممكن، من حيث الزمن؛ عشر سنوات اشتغل فيها بمهنة الموسيقى، ومن حيث المكان؛ شارع الهرم طبعًا ثم كل الملاهي والفنادق الأخرى التي ذهب فيها للعمل مع الفرقة الغربية. ثم في الفصول الأخيرة مراحل تكوينه الموسيقى خلال الطفولة والصبا والشباب.

ثم إنه يمزج ذكرياته، والاعتماد هُنا واضح كذلك على صندوق الكنوز، أي دفاتر يومياته القديمة، يمزجها بالملاحظات الفنية الذكية، ومقارنة الأحوال الثقافية عمومًا في ماضينا القريب بما آلت إليه الأحوال في الوقت الراهن، دون أن ينسى أن يذكر بعض النوادر الطريفة حول بعض مشاهير الفن والموسيقى، مثل لوسي وصابرين وعمرو دياب ومحمد فؤاد، إذ كان شاهدًا على بداياتهم وأول كفاحهم قبل أن يصبحوا ملء السمع والبصر.

يتبع الكتاب في بنائه مسارًا زمنيًّا عكسيًّا. فهو ينطلق بالفصل الخاص بشارع الهرم وينغمس خلاله في حكاياته وطرائفه، ويحكي قصة «نزول» الكاتب للعمل فيه والعلاقات التي كونها وإطلاعه على خفايا أهل المهنة. ثم نجد الفصل الثاني بعنوان الطريق إلى شارع الهرم، وفيه يرصد تكوينه الموسيقي شابًا في مقتبل العمر، والحفلات الموسيقية وبرامج الإذاعة وتسجيلات الشرائط، وفرق الهواة التي شارك في تكوينها مع زملاء الثانوي والجامعة. وإذا بالفصل الثالث والأخير، «بداياتي الموسيقية»، يتوغل أكثر في الرجوع زمنيًّا. حيث يستدعي أبعد الذكريات الممكنة من عالم الطفولة، ليست الذكريات التي نبع منها الحس الموسيقي والفني وحسب، بل التكوين الثقافي والفكري عمومًا، وكيف كان الجو العام آنذاك ملهمًا ومحرضًا على الخلق والجمال.

في صفحة 112 من هذا الكتاب، يستحضر الراوي أمنيات الطفل الذي كانه ذات يوم وهو في الخامسة من العمر، واقفًا يطيِّر طائرة ورقية على شاطئ كليوباترا، وكيف أراد أن يكون بطل كمال أجسام مثل عبد الحميد الجندي بطل العالم أيامها، أو أن يصبح راقص باتيناج، أو أن يطير على بساطٍ سحري كما رأى في فيلم لص بغداد. والحقيقة أن عادل أسعد الميري لم يتوقف يومًا عن ملاحقة حلمه بالطيران؛ عاشَ وسافرَ وتألم، وظل طول الوقت يرصد تجربته في دفاتره اليومية، ولو من دون حرفة أو صنعة أو انشغال بهموم الكتابة، ليسمح لنا ذات يومٍ باختلاس نظرةٍ عليها، وكأنه يسألنا جميعًا: أنا عِشت وشُفت، فماذا عنكم؟