المرايا

هشام أصلان

فقد كل يوم..

2020.01.01

فقد كل يوم.. 

 

في الأيام اليسيرة، كان حراس البنايات المطلة على شوارع سعادتنا هم أكبر همومنا. راوغناهم كثيرًا، وعندما صرفوا النظر عن ملاحقة بهجتنا، كانت الشوارع انتهت منا، تاركة فوق أكتافنا ما فقدته من سنوات.

2

«كيف يمشي واحد إذا فقد شخصًا؟»، يتساءل الشاعر الكبير وديع سعادة في قصيدته «استعادة شخص ذائب». ثم يكمل: «أنا، حين فقدت شخصًا، توقفت».

هل توقف وديع حقًّا؟ لكنه لو توقف لما أعطانا تلك القصيدة الجميلة. هل يتوقف أحدنا مع الفقد؟ الحياة أكثر قسوة من السماح لنا بهذا.

الفقد فعل نتعرض له يوميًّا. قليل منه قد تدرك إمكاناتنا العقلية كونه فقدًا مطلقًا إلى النهاية، وهو ما يحدث على سبيل المثال برحيل أحدهم. لكن الرحيل ليس كل الفقد. كل أيامنا الحلوة التي ذهبت بلا رجعة هي فقد نقاوم الاعتراف بذهابه إلى الأبد، ونعيش آملين في استعادة شيء منه، ولكن يطويه النسيان، أو يطويه التلاهي بفقد غيره، وآخر، وآخر.

3

إمبابة ليست مجرد حي شعبي، هي عدة أحياء كانت تفصل فيما بينها حقول وريف زحف عليه الحضر وباتت رقعة سكانية عملاقة واحتفظ كل من أحيائها بطبيعته المتأثرة بجذوره متدرجة بين المدنية عند الكيت كات، وجه إمبابة المطل على النيل، وبين الريفية في العمق عند وراق العرب والبصراوي المتقابلين، بينما تفصل بينهما ترعة طويلة تنطلق من عند حافتها شوارع طويلة جدًّا في الاتجاهين.

كنا نتمشى قرب الغروب، أنا وأخي وأمي وزوجة عمي وأبناؤهما، كلما شعرت أمهاتنا بالملل، عابرين الترعة فوق جسر صغير، إلى الشارع المقابل الطويل جدًّا، ذاهبين إلى بيت عمي الآخر في البصراوي. لم يكن الحضر قد التهم الشوارع تمامًا. تقابلنا نخلتان في بداية الطريق، يُحكى أن أسفلهما دُفنت ملابس امرأة ماتت محروقة، قبل أن نمر على بقايا غيط صغير. أحيانا نشتري ذرة مشوية نتسلى عليها في الطريق، وأحيانا نأخذها نيئة لنشويها على بوتوجاز عمي القاطن في البصراوي، وما إلى ذلك من كل مشاهد الجلسات العائلية الحميمة التي يعرفها الجميع باختلاف طبائع الناس وعاداتهم وثقافاتهم.

ذات يوم قررت الحكومة ردم الترعة وتحويلها إلى شارع كبير يصلح لتلقي إحدى نزلات الطريق الدائري التي تنوي إنشاءه، وساهم هذا القرار في زيادة زحف الحضر، وباتت سيارات الأجرة تستطيع الدخول إلى الشوارع. حدث هذا التطور على سنوات، واستجاب الأهل لما حدث من تطور، وأصبح المشوار إلى بيت عمي يتم بالمواصلات، ما يعطي الأمر شكلاً أقرب للخروج الكامل وليس التمشية القريبة، علينا إذن أن نرتدي ملابس الخروج المتكلفة، وليست ملابس النزول بجانب البيت، وقلت الزيارات حتى أصبحت نادرة. هو أيضًا؛ عمي، لم يعد يفاجئنا في أي وقت من اليوم آتيًا ليلاً بجلباب وشبشب.

كبرنا، وصرنا نستطيع الخروج دون الأهل، وعندما قررنا أنا وأخي وأبناء العائلة، الذهاب إلى بيت عمي، وفكرنا أن نأخذ الطريق القديمة مشيًا، شعرنا بالإجهاد، وأن الطريق صار أطول، وأن النخلتين المدفونة أسفلهما ملابس السيدة المحروقة ليستا هنا، حاولنا تحديد مكانهما ولم نعرف، ثم بتنا نذهب إليه مستقلين الموصلات، بعدما ذهبت متعة الطريق. لا فسحة في المشي بين بيوت ملتصقة، ولا استرحة عند بائعة ذرة على مشارف حقل، ولا أمهاتنا معنا.

قبل سنوات قليلة، وفي واجب عزاء، قدت السيارة مارًا بصعوبة بالغة في شارع البصراوي، محاولاً تحديد محل جورج الصائغ، أو حتى مكانه. كنت أعرف عندما أراه أنني بت قريبًا من الانحراف يسارًا إلى الحارة الصغيرة حيث يسكن عمي، ولكن لم أستطع التعرف على مكانه. ولم أذهب منذ يومها إلى هناك.

4

رحلت زينب زوجة عمي منذ سنين. كان المرض جاء على جسدها بالنحول الشديد، ولم يعد نفسه الجسد الذي استطاعت صاحبته تكتيفي وأنا شديد العصب ابن 14 سنة، كي يستطيع الطبيب خياطة الجرح في إصبع قدمي دون بنج. كانت تكتف نصفي الأعلى، وهي تبكي على صريخي الذي يُسمِّع وراق العرب كلها.

كانت أنظف واحدة تقريبًا في شارعنا بوراق العرب، شارع «محمد عباس»، وعمر قلّة الفلوس ما قفلت ضحكتها. أول وعيي بها يجيء في غبش لقطة، وهي نازلة من التاكسي مع أمي، تدخلان مبنى مضيئًا على خفيف ناحية منطقة المعسكر بين وراق العرب والبصراوي، وتخرجان بعد قليل وهي تحمل إبراهيم ابن عمي. أنا لست متأكدًا من أن هذا ما حصل بالضبط، لكنني لا أنسى شكل إبراهيم في اللفة، مهما كبر، أو نُحل شعر رأسه.

زينب عمرها ما ترمي أكل. ما يتبقى من الإفطار ينفع للعشاء. ستجد بقايا فول مركونة في جانب الطبق، ومعها في الطبق نفسه قرصين أو ثلاثة طعمية باردة، على قطعتي باذنجان، وشكلهم يفتح النفس.

في الصيف تعود من زيارة البلد السنوية؛ معها سبت كبير مليء بالفطير والجبن والذرة المشوية والبتاو الذي يحلو طعمه كلما كان قديمًا. تصعد إلينا بشيء من كل نوع ضمه السبت، وتتوصى بالبتاو الذي أحبه. وتأخذ بضعة أيام تحكي عن البلد، وعن أخيها الصغير القوي، الذي يستطيع العودة إلى المنزل من طريق الترعة في الفجر وحيدًا، دون أن يخشى النداهة.

عمري ما رأيت زينب صغيرة في السن، ولكن شعرت بخضَّة عندما ارتدت نظارة، وبدأت تقوم بمشوارها للمطعم والخضري كل بضعة أيام، وليس يوميًّا. ومع الوقت، اختفت لمبة الجاز التي كانت تضعها أمام شقتها في الدور الأرضي عند انقطاع النور. وعندما طلبت أن ترى أولادي، لم يكن باقيًا من شكلها القديم غير النظافة والرائحة الحلوة.

صباح يوم الجنازة، ندهوا لي كي أساعد في حملها للنعش. رفضت أدخل البيت أمام استياء أولاد أعمامي. فقالوا مستنكرين «أُمّال احنا جايين ليه؟».

في الليل دخلت غرفة إبراهيم. لم أكن دخلتها منذ سافر الكويت للعمل في مطعم هناك. تذكرت يوم أقنعته بالنزول للتمشية في وسط البلد دون أن يغيّر الجلباب. بعدما رجعنا إلى البيت، كان يضرب كفًا على كف مستاءً ومندهشًا من كونه اقتنع، ليس لأنه خرج بالجلباب، ولكن لأنه كان يرتدي، مع الجلباب «كاب» فوق رأسه.

كل التجارب الأولى لإبراهيم كانت معي. أول مرة يخرج من إمبابة، وأول مرة يشرب البيرة، أو حتى يأكل ساندويتشات الكبدة والسجق في المنيرة الغربية. كان ينتظرني في غرفته، المطلة على شارع محمد عباس وهو يغلق بابها عليه. أشتري البيرة من العلّاف وأناولها له من الشباك قبل أن أدخل إلى البيت، أخبط على الباب بعادية لتفتح زينب، وأدخل الغرفة قبل غلق بابها لنشرب ونلعب الطاولة مطمئنين إلى أنه لا أحد سيدخل علينا بشكل مفاجئ.

جلست على كرسي المكتب الصغير، ورفعت سجادة الصلاة القديمة المفروشة على المكتب، وسرحت في اسمي واسمه المكتوبين بالجاف عشرات المرات، وتحت كل من اسمينا أرقام كثيرة تحسب الفائز والخسران في أدوار الطاولة. فتحت باب جهاز التسجيل، كان بداخله شريط قديم لحميد الشاعري، وضعته في جيبي وخرجت للجلوس وسط المعزين.

5

لم أذهب إلى شارع «محمد عباس» منذ وفاة زينب حتى رحل عمي. ليس تقصيرًا، ولكن كان يؤذيني دخول المنطقة ضيفًا منذ تركت إمبابة إلى حي المقطم مرغمًا، نزولاً على رغبة أبي وأمي.

عزاء عمي يشبه عزاء زوجته، رصة المقاعد ذاتها أمام المنزل القديم، وسماعتيّ تسجيل يخرج منهما صوت القرآن، غير أن وجوه المعزين ناقصة. لم أر عبد الله، ساكن الشارع الوحيد الذي ظل سنوات يمتهن الفلاحة في غيط يحكون عن كونه الغيط الوحيد الباقي في المنطقة ولم أره قط، ولا عم عطية الذي كنا نخرج على صراخ زوجته كل بضعة أيام، لنجدها مستلقية على درجات السلم وهو يهوي على جسدها بخرطوم المطبخ، قبل أن يجري الجيران للحؤل بينهما. حكى لي إبراهيم أن عم عطية بعدما ماتت زوجته جاء بغيرها، وأن أصغر أبنائه، الذي لم أره منذ كان طفلاً، كبر وطرده هو وزوجته الجديدة من الشقة. في نهاية العزاء، احتضنني أحدهم، عرفت بالشبه أنه عم سيد الكهربائي، وقال ضاحكًا في أذني «شفت الواد ابراهيم ابن عمك بعد ما اصلَّع؟».

في داخل شقة عمي، مرت عيناي على الطرقة التي يقع المطبخ في آخرها، وحاولت تذكر تلك الأغنية التي كان ينهيها مصطفى قمر بصفَّارة من فمه، وتشبه الصفَّارة التي كان يطلقها عمّي من مطبخ شقته تلك، لتمر عبر فضاء المنور ونسمعها من نافذة مطبخنا بالدور الثالث، ليعرفنا أنه مستيقظ في ذلك الوقت المتأخر من الليل. كان شيئًا من الونس.

تخبرني الصُور القديمة، التي أقلب فيها بين فترة وأخرى، أن الذين رحلوا، ليسوا سوى شخصيات روائية محتملة.

6

خارجًا من شقة عمي في الدور الأرضي نظرت إلى بلكونتنا القديمة في الدور الثالث. كانت ضيقة، زاد من ضيقها حبال اللبلاب وأصص ريحان مرصوصة على الأرض، وزلعتي فلة وياسمينة ألفتهما الحشرات وتختبئ فيهما الفئران أحيانًا. وفي الظلام، تتوارى طائرة ورقية، تلمح بصعوبة لمعة ذيلها المصنوع من أكياس البلاستك، وطرف خيطها يشد ويرخي في يدك، حيث صاحب البيت يعترض على اللعب بالطائرة فوق سطح البيت، حيث هو أعلى بيوت الحي، ويستطيع الواقف فوقه أن يكشف أسطح البيوت الصغيرة المجاورة، بالحيوات الكاملة فوق أسطحها، والتي غالبًا ما تشغلها نساء يمارسن الأعمال المنزلية بملابس تظهر أكثر مما تخفي. 

للأحياء الشعبية ألعاب معروفة، من بينها أحببت الطائرات الورقية. كنت من أمهر أولاد الحي في صناعتها واللعب بها. والمهارة ليست أن ترتفع الطائرة في السماء، ولكن في المعارك التي بينك وبين الطائرات الأخرى. من اختيار نوع الخيط، مرورًا بتكسير عدد من الأمواس وربطه في ذيل الطائرة حتى إن اشتبكت مع أخرى تساهم الأمواس في قطع الخيط الآخر. مشكلتي الوحيدة هي اعتراض صاحب على اللعب فوق السطوح. عشت سنوات كثيرة أنتظر الانتقال إلى بيت في منطقة واسعة المساحات توفر حرية اللعب بالطائرة. كنت أعلم أن هذه رغبة لن تزول بالتقدم في العمر.

لم تزل الرغبة بمرور السنين، وانتقلت إلى حي أوسع يسمح بصنع طائرة ورقية واللعب بها، لكن الحي الجديد لم يكن به من يمارس اللعبة نفسها، ولم يعد هناك معنى لأن أقف ماسكًا الخيط وفي نهايته طائرة وحيدة في السماء. وأدركت أن بعض الأحلام يستحيل تحقيقها ولو سمحت ظروفك، ذلك أن تحقيقها يرتبط بوجود شركاء بعينهم، وإن كانت علاقتك بهؤلاء الشركاء ليست سوى معركة دائمة بينكما.

7

كل هذا الفقد، صرت تعرف أنه، قطعًا، ليس الأخير. عمي والطريق المؤدية إلى بيته، نخلتان دُفنت أسفلهما ملابس سيدة ماتت محروقة، زينب وعنفوانها وحكايات البلد، صفارة عمي الآخر، شكل إبراهيم، صديق طفولتي، قبل أن يفقد شعره ويصير رجلاً يبدو عليه أنه يكبرني في العمر، مراقبة النساء طفلاً من فوق سطح بيت كلما سنحت فرصة، شركاء معركة الطائرات الورقية، عراك عم عطية مع زوجته وونس الجيران على سلم البيت بعد الفض بينهما. كل فقد هو ذهاب شيء كبير من أيامك.

وأنت، إذا أحيا طعم شراب أو طعام في فمك بعض الذكريات وابتسمت، عليك أن تمتن للحياة وما أرسلته من جمال ولو رحل مبكرًا. فقط تذكَّر أن الأسر لا يفقد معناه أبدًا، وإن كنت أسيرًا لذكرياتك الحلوة.