فنون

محمد عبد الوكيل جازم

فيلم طوق الحمامة المفقود خيوط ومسارات

2018.05.01

فيلم "طوق الحمامة المفقود" خيوط ومسارات

التيمة

 تقوم تيمة الفيلم على قصة بحث عن كتاب حديث، وجد البطل حسن ورقة منه في أثناء مشاهدته لأحد الرجال وهو يحرق كتبًا يدعي أنها مسمومة. ولعلنا نعرف جميعا أن ابن حزم قد أحرق كتبه بعد اتهامه بالزندقة والمروق. هنا يحاول البطل إثناء الرجل عن إحراق الكتب، إلا أنه لم يستطع، وعلى الرغم من إصرار حسن الذي حاول التدخل بالقوة فإن الرجل استنفر قواه كلها ولم يستجب لحسن، وذلك لإيمانه بأن السم مدسوس في هذه الكتب. وفي أثناء عراكهما تمكن الطفل زين -الشخصية الثانية في الفيلم- من الفرار إلى الخارج، وبين يديه ورقة كانت النار قد بدأت في التهام أطرافها. كان البطل يبحث عن معنى الحب، ويحاول إثارة السؤال في كل مكان، إلا أنه لم يحصل على إجابات، وكل ما حصده من رحلة بحثه مجموعة مقتضبة من الردود التي لا تسمن ولا تغني من جوع إذا قارنا الأمر بحقيقة نهمه.

  يخرج حسن من المحرقة مكتئبًا، ويذهب لمطاردة الطفل زين، وعندما يجده يأخذ منه الورقة التي تطرح أمامه سؤالا مفتوحًا؛ فلم تكن الورقة سوى إجابة مكثفة عما يبحث عنه حيث تتحدث الورقة عن عبارة شهيرة لابن حزم تقول إن «الحب أوله هزل وآخره  جد»، ويتبعها باقتباسات أخرى من الكتاب الذي يحوي أفكارًا مشابهة.

الصورة

تتصارع الصور البصرية داخل الفيلم في محاولة للصعود إلى مستوى النص الشفاف، الذي يتخذ من فكرة الحب نقطة انطلاق له ويتخذ من الفقيه الأندلسي ابن حزم مثالاً للشخصية المتمردة على المجتمع الباطني الذي يخفي الكينونة المشرقة للنفس البشرية، والمتمثلة في لحظة العمر التي يمر بها كل إنسان سوي.

تستخدم الصور الفنية والتقنيات العالية كل جدران اللوحة؛ فتجد براعة اختيار المكان المستوحى من الحضور الأسطوري للأندلس في ذهن الرجل العربي، كما نجد المكان في الفيلم وكأنه افتراضي في مدينة محاطة بالأسوار والأبواب المليئة بالزخرفة وهناك المساجد الضخمة الممتلئة بأعمدة تحمل في جنباتها الضوء والفن والخط في أبهى صوره الجمالية. تحاول الصورة بكل قوة مغالبة اللغة النصية باستخدام الكاميرا والمشاهد الخيالية الجريئة حتى تستطيع شد المتلقي وربطه بالحدث الكبير، والفكرة الكبيرة التي تقوم عليها عناصر الفيلم بحيث يصبح الفيلم نصًّا شعريًّا وأدبيًّا تتضافر فيه الأدوات الفنية للنص أو القصيدة فتصبح الحكاية جزءًا متداخلاً من لحم المكان، ويصبح المكان احتشادًا لونيًّا لفسيفساء الدهشة؛ خصوصًا عندما يصبح المسجد مثلاً أداة للمعرفة المتنوعة، فهذا خطيب أحد الجوامع يقرأ على الناس أوصاف العشاق ومترادفات الحب والوجد والهيام.

من اللقطات التي بلغ الفيلم فيها ذروته الإبداعية تلك التي يمكننا اليوم إسقاطها على الأحداث الجارية؛ يبدو العمل وكأنه حمل في أحشائه النبوءة الحقيقية للثورات العربية، بل تنبأ بها حقًا. ومن اللقطات المكثفة تلك التي يكون فيها الأمير هارون قردًا لا يجيد شيئًا في هذه الدنيا سوى الحركات البهلوانية. ويحدث أن يغضب الناس من سياسات الأمير فيتفقون على التخلص منه. وذات ليل يجتمع المعارضون في المقبرة المظلمة، ثم يختلفون فيما بينهم بسبب ارتفاع صوت شفاف معارض يرفض قرار قتل الأمير؛ يرفض هذه الطريقة البالية في التخلص من الخصوم، ويرفض تناسل العقم في التجربة السياسية. وحين يجاهر برأيه أمامهم يستل أحدهم خنجره تحت ستار الليل ويغرسه في صدره وهو يقول «من ليس معنا فهو ضدنا»، في إشارة إلى بعض التيارات السياسية التي تريد تكرار ما حدث بالأمس بأدوات قديمة وغير فاعلة مطلقًا، بل إنها تعوق حرية الحركة والتفكير. لكن الطفل زين، الذي ربما يرمز للمستقبل يظل شاهدًا على الجريمة، لأنه ليلتها خرج متخفيًّا إلى المقبرة، وشاهد تلك الواقعة المؤلمة. إنه دون أب، فهل سيكون دون مستقبل كذلك من جراء فعل التدمير والخراب والقتل الذي سيعم البلاد بعد ذلك؟

خيوط ومسارات

تجتمع في الفيلم العديد من الموضوعات التي يعمل النص على الربط بينها، وبالتالي فتل خيوطها في خيط واحد. تلتقي الخيوط عند تخوم الطفل زين، الذي يعمل مراسلاً بين العشاق وأمينًا لسرهم، وهو في ذلك يشبه إلى حد كبير ما يفعله الحمام من مراسلات بين الناس آنذاك. يمكننا القول هنا إن حسن عنوان لقصة داخل العمل النصي الكبير؛ ففي دورانه اللذيذ حول الحب وحالاته الكثيرة نجده يتنقل دائمًا في عُقد الخيط الطويل الذي يجمع العمل.

حسن طالب خط يتعلم لدى شيخ كبير، وقع في حب ابنة الشيخ، وبالإضافة إلى عشقه للخط والشيخ، رأيناه وهو يتيه في حب البنت، وقد كلفه هذا العشق المتداخل كثيرًا من الألم. لكنه يظل حالة منفصلة عن الطفل زين الذي لديه قضية كبرى وهي البحث عن أبيه الذي تقول أمه إنه ليس من عالم الإنس، وإنما من عالم الجن. هكذا تتداخل الأسطورة مع الواقع والتاريخ من أجل تشكيل ما يمكن أن نسميه الصورة النموذجية أو الحقيقة التي نحاول اللحاق بمفرداتها والإمساك بها هنا وهناك، سواء من بطون الكتب أو من مجريات الأحداث.

الأمير هارون قصة ثالثة داخل خيط الحكي الطويل، لكننا نجده يغيب وتحضر صورته على شكل قرد؛ يتكثف ذلك في مشهد الرجل الذي يقتحم سوق المدينة وعلى كتفيه قرد وفي وجهه عين مفقوءة. يقول الرجل مناديًّا الناس: «اقتربوا .. انظروا إليه .. إن له عين قرد وفم قرد وأنف قرد .. إنه يشبه القرد تمامًا ومع ذلك فهو أمير.. عيني المفقوءة تشهد على هذا».

للشيخ أيضًا قصة داخل النص؛ هو من أمر حسن بالذهاب إلى بائع الكتب لإحضار كتاب «زاد المسافر» لابن الجزار؛ فتنشأ علاقة صداقه بينهما، تتطور بعد ذلك إلى حب للكتب والمعرفة يتعالى بعدها إلى أن يصبح هيامًا بالكتب والمكتبات. ينصح الشيخ حسن ويوجهه إلى الكتابة بمقاسات متوازنة، يحدثه «الخط إيقاع مطلق، إنه الصلة بين عالم الظاهر وعالم الباطن .. الحرف هو صلتنا بالله .. بهذا وحده يصير الخطاط شاهدًا على البهاء الإلهي».

بعد ذلك يتفتت النص إلى موضوعات صغيرة، حين يظهر المجنون مُطيّرا الضحكات، مُطلقًا يديه وقدميه للريح. يذهب بعده حسن ويقتفي أثره في الجبال والصحارى والسهول والأودية قاصدًا الشرق مثله؛  ذاهبًا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.

الفيلم لحظة بحث

يبدو الفيلم في أحد جوانبه وكأنه لحظة بحث وسعي حثيثين إلى المعرفة، فنرى حسنًا في بداية الفيلم وهو يتحدث إلى شيخه عن الخط العربي وأحرفه وسطوره، ويشير إليه الشيخ بأن ثمة أسرار في هذه الأحرف.

هو نفسه حسن الذي يبدأ الفيلم بالتساؤل التالي: أريد أن أعرف حقيقة الحب؟ وهو سؤال جرت العادة أن يؤرق كل من في سن حسن الشاب الصغير وطالب العلم الغرير؛ فهو لم يتجاوز العشرين بعد، ويؤرقه اللغز بأحماله الثقيلة التي يحسّها تجدِّف في داخله، وفي النقاط والساحات والمجاهل البعيدة من النفس. في المشاهد الأولى من الفيلم يظهر درويش يتجول في الحي، يدور رافعًا صوته حاملاً مبخرة تتدلى في جميع الجهات. يعمل الدرويش بائعًا للعطور، ويروج لعمله هذا فيذهب إلى أن يذكّرنا بأحاديث النبي محمد عندما قال «حُبب إليَّ من دنياكم هذي: العطور والنساء وقرة عيني الصلاة». يسمعه حسن وهو في طريقه لإحضار كتاب طلبه شيخه، فيتوقف لمحاورة الدرويش ويسأله الأسئلة نفسها التي تحزنه عن الحب وأحوال العاشقين وأوصافهم وهل هم كالبشر أم لا؟ وكيف تتطور وتتقلب أيامهم ولياليهم؟ يتنامى الحدث كلما شاهد حسن من يتحدث وينشغل بسؤال بحثه، حتى إنه يلتحق بأحد المتحدثين في مساجد المدينة، وحين يجده يتحدث عن الحب وأهواله وشموسه وظلاله يحرص على محاورته والاستزادة منه. لكنه يحس بأنه لم يصل؛ فيبحث أكثر، إلى أن يصادف حادثة إحراق الكتب ويفر الصبي بتلك الورقة المجتزأة من كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم فنرى حسن يذهب للبحث عنه وهو لا يعرف عنه سوى هذه الورقة.

لا يعد حسن الشخصية الوحيدة التي تبحث عن إجابة. هناك أيضا الطفل زين أنه دون أب ويبحث عن والده. وحين يذهب للسؤال عنه تقول له أمه إن والده من عالم الجن، لكن السؤال يعذبه فتنشأ في الفيلم مقاطع بحث جميلة يمعن المخرج في تجسيدها كما يمعن في تجسيد مشاهد بحث حسن عن أصل الورقة المجتزأة من المخطوط.

الرمزية

من العيوب التي يقع فيها نقاد الأفلام هي البحث عن رمزية معينة للشخصيات والمشاهد والمواقف والكلمات، ولعلنا هنا نقع في ذلك بشكل أو بآخر. هناك الكثير من الشخصيات والمواقف التي تبعث في النفس ذلك؛ فالرمز يبدأ معنا من عنوان الفيلم، وهو العنوان الذي يقودنا إلى التساؤل عن ماهية الطوق وماهية الحمامة؟ ألا يكون الطوق رمزًا للتاريخ العربي المفقود في الأندلس؟ ألا يثير ذلك الكثير من الصور والأخيلة؟ فيكون الطوق ذهبيًّا على اعتبار تقابله مع التاريخ العظيم للأمة العربية، ألا يمكن اعتبار الحمامة رمزًا للعهد العربي الإسلامي في الأندلس؟ وهو الأمر الذي دعا المؤلف إلى وصف حال طوق الحمامة بأنه مفقود، تماشيًّا مع الوصف الشهير للأندلس بأنها فردوس مفقود. في حالة الأمير يبدو الرمز واضحًا حين يغيب الحاكم من سياق النص ويتقدم بدلاً عنه القرد، الذي يطلقون عليه اسم الأمير هارون.

هناك مشهد حريق المكتبة التي تشتعل فيها النيران بعد دخول حسن متسللاً هو وأصحابه العشاق، ويحدث أن يكتووا بالنار وكأن كل من بحث وآمن بفكرة كانت نهايته الاحتراق التي نجد لها معادلاً موضوعيًّا في عملية بحث حسن عن مفردات حالات الحب التي قيل إنها 60 حالة. لكن حسن لم يتوصل إلا إلى 47 وصفًا!