عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919
مريم أبو العزقراءة تحليلية في الملفات البريطانية حول ثورة 1919
2019.05.01
قراءة تحليلية في الملفات البريطانية حول ثورة 1919
تمهيد
ثمة سبعة ملفات وثائقية، تُعنى بالعلاقات المصرية-البريطانية، غطت الفترة من نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى صيف 1923. تقدم لنا هذه الملفات توثيقًا للأحداث التي جرت خلال هذه السنوات الفارقة من تاريخ مصر من وجهة نظر المسؤولين البريطانيين في ذلك الوقت. الملفات الأصلية محفوظة في المكتبة البريطانية ضمن السجلات والأوراق الخاصة التابعة لمكتب الهند. فيما يلي وصف موجز لكلٍ من هذه الملفات السبعة ونطاقها الزمني:
Mss Eur F1 12/258 “سبتمبر 1917 – فبراير 1918”: يقع في 54 ورقة ويحتوي على مذكرات وتقارير ومحاضر اجتماعات حول إدارة الشأن المصري. تقدم هذه الأوراق نبذة عن تاريخ الوجود والنفوذ البريطاني في مصر إلى جانب التخطيط للإدارة المستقبلية لمصر.
Mss Eur F112/259 “نوفمبر 1918 – ديسمبر 1919، ورسالة واحدة من مارس 1922”: يقع في 150 ورقة ويحتوي على مذكرات وتقارير مراسلات رسمية وغير رسمية بين المسؤولين البريطانيين حول الأوضاع السياسية في مصر، ويغطي الفترة من اندلاع أحداث الثورة في مصر حتى إرسال لجنة ملنر.
Mss Eur F112/260 “مارس 1920 – أكتوبر 1921”: يقع في 235-ورقة ويحتوي على تقرير لجنة ملنر وعدد كبير من المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات التي تناقش تقرير اللجنة.
Mss Eur F112/261 “يوليو 1921 – يناير 1923”: يقع في 87 ورقة، أغلبها محاضر للمفاوضات في لندن بين الوفد المصري بقيادة عدلي يكن باشا واللورد كورزون، وزير الخارجية البريطاني آنذاك. يحتوي هذا الملف أيضًا على مرفق لنسخة من الاتفاقية البريطانية-المصرية لسنة 1899 بشأن السودان.
Mss Eur F112/262 “يوليو 1921 – فبراير 1922”: يقع في 260 ورقة، ويحتوي على مراسلات وأوراق برلمانية ووزارية تناقش المفاوضات حول الشأن المصري حتى إعلان بريطانيا الانفرادي لإنهاء الحماية على مصر في فبراير 1922.
Mss Eur F112/263 “يناير 1922 – يوليو 1923”: يقع في 88 ورقة، أكثر من نصفها عبارة عن رسالة تُرفِق تقريرًا تفصيليًّا عن الأوضاع في مصر في سنة 1921. معظم الأوراق المتبقية عبارة عن تقارير عسكرية عن مصر، خصوصًا عن قناة السويس.
Mss Eur F112/264 “يناير 1923 – فبراير 1924”: ملف قصير يقع في 16 ورقة، أغلبها مذكرات ومراسلات تناقش وضع السودان بعد إنهاء الحماية البريطانية على مصر.
ويهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية لهذه الملفات مع ترجمة فقرات منها، مركزةً على الملفين الثاني والثالث. بقية المقال مقسم إلى ستة أقسام. الأول والثاني ذوا طبيعة تقديمية أتناول فيهما السياق التاريخي لأحداث 1919 والمسؤولين البريطانيين الأبرز الذين تُنسب إليهم معظم الأوراق الواردة في الملفات. القسمين الثالث والرابع سرديين، نرصد من خلالهما الأحداث التي توالت من نهاية 1918 حتى خريف 1921. أما القسمين الأخيرين فأتناول فيهما النقاش الدائر حول نقطتين بارزتين في الملفات: السياق الإمبريالي للأحداث في مصر، وإشكالية الحماية اصطلاحًا ومضمونًا.
1 - السياق التاريخي والاجتماعي
كان الملك جورج الخامس «جد الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا الحالية» يجلس على عرش امبراطورية بريطانيا العظمى عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان يترأس وزارتها ديفيد لويد جورج، وهو آخر رئيس وزراء من حزب الليبراليين الذي اندثر بعد ذلك وحل محله حزب العمال مع الوقت. كانت الفجوة تتسع بين اليمين واليسار في السياسة البريطانية، مع نمو النزعة الاشتراكية في صفوف اليسار. ومع انتهاء الحرب بتوقيع الهدنة في 11 نوفمبر 1918، بدأت مرحلة إعادة الحسابات والالتفات للنداءات المتصاعدة بالاستقلال في أنحاء الإمبراطورية البريطانية، لا سيما في الهند وأيرلندا ومصر.
على الرغم من أن مصر لم تكن قط مستعمرة بريطانية بصورة رسمية، إلا أن القوات البريطانية كانت موجودة في مصر منذ سنة 1882، وقد اتسع النفوذ السياسي للبريطانيين من الشأن الخارجي وإدارة الديْن في بادئ الأمر ليشمل مع الوقت جميع الملفات الداخلية كذلك. فقد كانت مصر العثمانية تتبع اسميًّا مركز الدولة العثمانية في اسطنبول وتدين لها بولاء، ولكنها كانت فعليًّا تُدار من لندن. وقد تمكن البريطانيون من خلال نفوذهم على الأسرة الحاكمة في مصر من أن يمارسوا نفوذ المحتل دون أن يكون هناك احتلال رسمي. ولكن الوضع تغير من ذلك الاحتلال المستتر ليقارب الاحتلال الصريح عندما انضمت الدولة العثمانية لدول المركز في الحرب العالمية الأولى في نوفمبر 1914، فما كان من بريطانيا إلا أن أعلنت الحماية على مصر وعزلت الخديو عباس حلمي الثاني في ديسمبر 1914، ليعتلي العرش بدلًا منه عمه حسين كامل معلنًا استقلال «السلطنة المصرية» عن الدولة العثمانية. ولما توفي حسين كامل في 1917، تولى الحكم بعده «السلطان» فؤاد. يفتتح الملف Mss Eur F112/259 بمذكرة سرية حول «الطموحات البريطانية في مصر» من وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 12 ديسمبر 1918عن معاهدة مرتقبة بين الحلفاء وتركيا لتقنين تنازل تركيا عن مصر واستمرار مصر تحت الحماية البريطانية.
الصورة 1 – مقتطف من الصفحة الأولى من «مذكرة حول الطموحات البريطانية في مصر» بتاريخ 12 ديسمبر 1918، MSS Eur F112/259، ص. 2 و.
وعلى عكس الدول التي كانت الحرب قد استنزفت خزائنها أو على الأقل تسببت في ركود اقتصادها، فإن مصر في ذلك الوقت كانت تنعم بحالة من الازدهار الاقتصادي الاستثنائي. يتبين ذلك في ملاحظة بتاريخ 1 أبريل 1920 من المستشار المالي البريطاني للحكومة المصرية «السير بول هارفي» عن ميزانية مصر للسنة المالية 1920-1921، كتب فيها بمرارة لا تخفى على القارئ «يُظهر الوضع الاقتصادي لمصر اليوم عددًا من الجوانب الجديرة بالاهتمام. مصر واحدة من الدول القليلة جدًا في النصف الشمالي من العالم التي لم يطلها من الحرب سوى المكاسب الاقتصادية. ففي حين أن مواطني كل الدول الأوروبية، سواء كانت مشاركة أو محايدة في الحرب، قد عانوا الكثير – إن لم يكن من الحرب ذاتها، فعلى الأقل من زيادة الضرائب وارتفاع الأسعار والقيود المفروضة على التجارة – فإن مصر قد حققت بشكلٍ عام استفادة ملموسة. فقد ارتفع سعر منتجها الرئيسي [القطن] إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، بينما ظلت معدلات الضرائب ثابتة تقريبًا، كما أن اتخاذها قاعدةً للعمليات العسكرية فتح مصدرًا كبيرًا للربح التجاري»
الصورة 2 – مقتطف من ملاحظة بتاريخ 1 أبريل 1920 من المستشار المالي البريطاني للحكومة المصرية عن ميزانية مصر للسنة المالية 1920-1921، MSS Eur F112/260، ص. 9ظ.
كان تعداد مصر وقتها حسب الوثائق البريطانية يبلغ نحو 13 مليون نسمة، وكان 90% منهم في نظر البريطانيين من الفلاحين الأميين غير الفصيحين. وكثيرًا ما تقسم الوثائق الشعب المصري إلى متعلمين وفلاحين، وإن حذر بعض المسؤولين البريطانيين من افتقار ذلك التقسيم للدقة. إلا أننا نجد تقسيمًا مختلفًا في «مذكرة حول الاضطرابات في مصر» بتاريخ 9 أبريل 1919 أعدها رونالد جراهام، مساعد وكيل وزير الخارجية في مصر، لوزارة الحرب البريطانية. ففي نقاشها لأسباب الاضطرابات التي اندلعت في مصر قبلها بشهر، تقسم المذكرة الشعب المصري إلى أربع طبقات. الأولى هي الطبقة الأرستقراطية أو طبقة الباشاوات الأثرياء. وتشير المذكرة إلى أن معظم أبناء هذه الطبقة موالون للعثمانيين “وهذه ليست مصادفة، إذ أن أكثرهم كانوا من أصول تركية”. الطبقة الثانية هي طبقة المتعلمين والمهنيين كالموظفين والأطباء والطلبة الذين لم يروا من الازدهار الاقتصادي وقت الحرب غير زيادة الأسعار. وتوضح المذكرة أن هذه الطبقة كانت الأكثر تأثرًا بموجة الأفكار الوطنية التي اجتاحت العالم في تلك الحقبة «لقد أصبحت أفكار الطبقات المثقفة، حتى المعتدلين منهم، أكثر تشددًا في السنوات الأخيرة. فالكثير من الأشخاص الذين كان منتهى أملهم هو الحصول على قدر أكبر من حرية التعبير السياسي، باتوا يطمحون الآن في الاستقلال التام. ويعد هذا نتيجة طبيعية للفكرة الويلسونية [نسبةً لوودرو ويلسون، الرئيس الأمريكي آنذاك] التي تنادي بـ«تقرير المصير» و«حرية الشعوب الصغيرة»، إلخ. لقد كان المصريون المفكرون يدركون أن مصر عزلاء، وأنها يجب أن تعتمد على قوة عظيمة لحمايتها، وكانوا عمومًا يفضلون الوصاية البريطانية باعتبارها أقل ثقلًا من وصاية أيٍ من القوى العظمى الأخرى. أما الآن فهم يرون في عصبة الأمم الجنية العرابة، فهي بعيدة ولا تتدخل في شؤونهم الداخلية ولكنها دائمًا متأهبة لنجدتهم لتوفر عليهم عناء وقلق الدفاع عن أنفسهم من الجيران المضطهَدين أو المضطهِدين.»
الصورة 3 – مقتطف من «مذكرة حول الاضطرابات في مصر» بتاريخ 9 أبريل 1919، Mss Eur F112/259، ص. 31ظ.
الطبقة الثالثة تتألف من أعيان القرى والأقاليم من أصحاب الأراضي. ولم يرَ البريطانيون مبررًا لثورة هؤلاء، خصوصًا وأنهم قد استفادوا من زيادة أسعار محاصيلهم “خصوصًا القطن” التي كان الجيش البريطاني «زبونًا رائعًا» لها، فتقول المذكرة «إن الأعيان الكبار ليس لديهم أي مبرر للشكوى، ولا نعتقد أنهم يكنون عداءً حقيقيًّا اتجاه الحكم البريطاني. ولكنهم قومٌ بسطاء وجاهلون، فيما عدا ما يخص الزراعة، ويسهل توجيههم بالآراء السياسية التي لا يفهمونها. ومع مزيجٍ من الحزم والتفهم لن يكون من الصعب أن نعيدهم إلى رشدهم». أما الطبقة الأخيرة فهي طبقة الفلاحين التي كانت وراء الكثير من أعمال العنف التي حدثت خلال اضطرابات شهر مارس. وقد فاجأ ذلك العداء البريطانيين، إلا أنهم وجدوا لتصرفاتهم تفسيرًا في تجربة الفلاحين خلال سنوات الحرب. إذ تشير المذكرة إلى أن البريطانيين كانوا يشترون البرسيم لمواشيهم من الفلاحين بالإكراه بسعرٍ أقل من سعر السوق، وكانوا لا يتركون للفلاحين ما يكفي مواشيهم. كما أن الجيش البريطاني كان يعتمد على «المتطوعين» من الفلاحين للخدمة في فيلق العمال. وبالطبع، لم يكن غالبية هؤلاء متطوعين في واقع الأمر لأنه «بالإضافة للإعراض الفطري للفلاح المصري عن ترك طمي النيل، فإن أوضاع الزراعة والعمل الزراعي كانت مزدهرة لدرجة تحول دون إمكانية التجنيد التطوعي الحقيقي على نطاقٍ واسع». ومن ثم، تقر المذكرة باضطرار البريطانيين للتغاضي عن الفساد والرشاوى بين عُمَد القرى للحصول على الأعداد المطلوبة من الفلاحين المجندين الذين لم يكن يُسمح لهم بترك الخدمة بعد انضمامهم إليها، مما «ترك لديهم شعورًا ملتهبًا بالظلم والسخط، وهو الشعور الذي وجد ولا شك منفذًا للتعبير عنه وتخليصه في حملة التدمير الشرس».
نقطة أخيرة جديرة بالذكر في معرض الحديث عن السياق الاجتماعي هي أنه على الرغم من الوجود والنفوذ البريطاني في مصر منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، فإن اللغة الإنجليزية لم تكن هي لغة الإدارة في البلاد، وإنما كانت الفرنسية هي لغة الإدارة والطبقة الأرستقراطية. لذا فإن المحادثات والمراسلات بين المسؤولين البريطانيين وبين السلطان الفؤاد والمسؤولين المصريين كانت تتم باللغة الفرنسية، مما يفسر احتواء الملفات محل النقاش على عددٍ لا بأس به من الوثائق باللغة الفرنسية. في إشارةٍ لأهمية هذه اللغة، نوَّه اللورد كورزون “وزير الخارجية البريطاني آنذاك”، في مذكرة بتاريخ 11 أكتوبر 1920، في سياق حديثه عن دور المسؤولين البريطانيين في مصر «إن أي قدرٍ من النفوذ سيُسمح لهم بممارسته سيعتمد بشكلٍ كبير على تمكنهم من اللغة الفرنسية. فهذه هي اللغة التي تُدار بها أعمال الحكومة المصرية واجتماعات الوزارة، وإذا كانوا لا يتقنونها فإن نفوذهم سيكون محدودًا».
2 - الشخصيات الرئيسية
سأفترض هنا معرفة القارئ المسبقة بالشخصيات السياسية المصرية الأبرز خلال هذه الفترة وأركز على تعريف الشخصيات من الجانب البريطاني التي مثلت الأطراف الرئيسية للمراسلات والوثائق الواردة في الملفات. أذكر هذه الشخصيات هنا حسب الترتيب التقريبي لظهورها في الملفات:
ريجينالد وينجيت “المندوب السامي في مصر 1917-1919”: شغل قبل ذلك منصب الحاكم العام في السودان من 1899، وحصل على ترقيات كثيرة في ذلك المنصب تدل على نجاحه “من وجهة نظر البريطانيين”. اندلعت في عهده أحداث 1919 في مصر، وكان ذلك آخر منصب سياسي يتولاه.
آرثر بلفور “وزير الخارجية البريطاني 1916-1919: بطبيعة منصبه، كانت الكثير من المراسلات من المندوب السامي في مصر في بوادر الأحداث موجهة إليه، وكان مسؤولًا عن العديد من القرارات التي حددت مجرى الأحداث. جدير بالذكر أن بلفور كان قد شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا في الفترة ما بين 1902-1905.
إدموند أللنبي “المندوب السامي في مصر 1919-1925”: وهو قائد عسكري مهم قاد حملات عسكرية كثيرة في الشام والحجاز. وكان يُلقب بين البريطانيين بالـ«الثور». أٌرسل أللنبي إلى مصر بدلًا من وينجيت بعد أحداث 1919.
جورج كورزون “وزير الخارجية البريطاني 1919-1924”: وهو الطرف الرئيسي للمفاوضات مع المصريين، ممثلًا للحكومة البريطانية، في هذه الفترة. إذ تولى إدارة وزارة الخارجية بعدما سافر بلفور لباريس لحضور مؤتمر السلام. تشكل الملفات الحالية جزءًا من مجموعة «أوراق اللورد كورزون» ضمن سجلات مكتب الهند في المكتبة البريطانية، لذا فمن الطبيعي أن العديد من المراسلات والملاحظات “لا سيما الخاصة منها” الواردة في الملفات كانت موجهة إليه.
ألفرد ملنر “وزير المستعمرات 1919-1921”: يظهر في الملفات عند تعيينه رئيسًا للجنة التي أُرسلت إلى مصر للتحقيق في أسباب أحداث 1919. وكان قد خدم قبلها في مصر لمدة 4 سنوات في منصب وكيل وزير المالية “1887-1892” في فترة اقتصادية حرجة من تاريخ مصر. كان منصب وزير المستعمرات هو آخر منصب رسمي يشغله؛ إذ تقاعد بعد رئاسته للجنة ملنر في 1921.
ونستون تشرشل “وزير الحرب 1919-1921، وزير المستعمرات من 1921”: خلف ملنر وزيرًا للمستعمرات في 1921. كانت له آراء قوية فيما يخص مصر في المنصبين، كما أنه سافر إلى مصر والتقى بالسلطان فؤاد في مارس 1921..
رونالد جراهام “مساعد وكيل وزير الخارجية في مصر 1916-1919”: دبلوماسي بريطاني عمل مع الحكومة المصرية عن قرب، ويشهد له في الملفات عدد من المسؤولين البريطانيين بخبرته في الشأن المصري. العديد من التقارير وملخصات الأحداث الواردة في الملفات تحمل توقيعه.
3 - «حملة منظمة ضد المحمية»:
أحداث 1919 من وجهة نظر المسؤولين البريطانيين
في الشهور الأخيرة من 1918، كان هناك تبادل محموم للبرقيات بين المقيمية البريطانية في القاهرة ووزارة الخارجية البريطانية في لندن، كانت تصل أحيانًا إلى ثلاث برقيات في اليوم الواحد. وقد يتقاطع بعضها أحيانًا، إذ تشير عدة برقيات إلى أن برقية جديدة قد وصلت لندن قبل أن يصل الرد على برقية سابقة إلى القاهرة. تعكس هذه البرقيات، في كثرتها وفي لهجتها، تخوف البريطانيين إزاء التطور السريع للأحداث في مصر.
في 17 نوفمبر 1918 أرسل وينجيت برقية إلى بلفور يروي له عن زيارة ثلاثة أشخاص للمقيمية البريطانية في القاهرة «لقد استقبلْت زيارةً من ثلاثة مصريين – سعد باشا زغلول وعبد العزيز بك فهمي وعلي باشا شعراوي – وهم معروفون لديك كسياسيين ذوي آراء متطورة. لقد جاءوا يطرحون برنامجًا للاستقلال التام لمصر، لا يترك لبريطانيا العظمى سوى حق الإشراف في مسألة الدين العام والتسهيلات لسفننا عبر قناة السويس. وفي حين أنهم أنكروا أساليب مصطفى كامل ومحمد فريد، إلا أنهم متفقون مع مبادئهم. لقد أعربوا عن امتنانهم وصداقتهم لنا، وصرّحوا برغبتهم في الذهاب إلى لندن لعرض مطالبهم»
الصورة 4 – مقتطف من برقية من وينجيت إلى بلفور بتاريخ 17 نوفمبر 1918، Mss Eur F112/259، ص. ٧و.
وفي البرقية نفسها، يروي وينجيت أنه استقبل بعدها زيارةً من رئيس الوزراء حسين رشدي بصحبة عدلي يكن اللذين طلبا منه كذلك السفر إلى لندن. رد وينجيت على الوزيرين، كما رد على زغلول ورفيقيه، بأن الحكومة البريطانية الآن مشغولة بالاستعداد لمؤتمر السلام وأن عليهم أن يتحلوا بالصبر. ثم ذهب في وقتٍ لاحق لزيارة السلطان فؤاد الذي أيد مطلب وزرائه. أحس وينجيت أن السلطان ووزراءه متأثرون بالأفكار الوطنية نفسها التي طرحها عليه زغلول وأصحابه، فعلق على ذلك لبلفور «إنني على علم بأن الوطنيين الثلاثة قد زاروا السلطان قبل أن يأتوني، ومن المؤكد أن السلطان والوزراء لا يشعرون بأن لديهم القوة الكافية لمواجهة المطالب الوطنية، مهما بدت غير مقبولة».
وصلت وينجيت أنباء بأن زغلول وزملاءه قد بدأوا حملةً للترويج لحركتهم ولجمع التوقيعات من الشعب، وبالأخص من أعضاء الجمعية التشريعية المنحلة، لتفويضهم للتحدث بالنيابة عنهم. كما وصلت وينجيت وبلفور أنباء بأنهم يوظفون زيارتهم للمقيمية لإضفاء الشرعية على حركتهم. وبعد استقباله لزغلول في المقيمية بفترة وجيزة، استلم وينجيت قائمة من زغلول بأسماء 14 شخصًا يمثلون «الوفد» الذي طلب سفره إلى لندن. ترد القائمة كما يلي في برقية من وينجيت إلى بلفور بتاريخ 25 نوفمبر 1918:
سعد زغلول باشا، نائب رئيس الجمعية التشريعية.
علي شعراوي باشا، عضو الجمعية التشريعية.
محمد محمود باشا، مدير البحيرة السابق.
عبد العزيز فهمي بك، محامي وعضو الجمعية التشريعية.
محمد علي بك، محامي وعضو الجمعية التشريعية.
عبد اللطيف المكباتي، عضو الجمعية التشريعية.
أحمد لطفي السيد بك، رئيس المكتبة السلطانية.
حمد الباسل باشا، عضو الجمعية التشريعية.
محمود النصر بك، محامي.
إسماعيل صدقي باشا، وزير الأوقاف السابق.
جورج خياط بك، أحد أعيان أسيوط.
سينوت حنا بك، عضو الجمعية التشريعية.
الدكتور حافظ عفيفي بك، القاهرة.
مصطفى [النحاس] بك، قاضي في محكمة طنطا.
وفي برقية أخرى بالتاريخ نفسه، أخبر وينجيت بلفور بأنه قد بدأ في اتخاذ الخطوات لقمع نشاط هذه الحركة الوطنية بعد أن فطن لخطورتها «هناك مؤشرات بوجود حملة منظمة موجهة ضد المحمية. فنحن نعلم مثلا أنه قد جرى توزيع منشورات، والقيام بمحاولات لاستدراج طلبة المدارس، واصطناع موجةٍ من العواطف السياسية. لقد قدمت توجيهاتي في ظل هذه الظروف بعدم السماح بأي نوع من التجمعات أو التظاهرات العامة، وبمنع توزيع المنشورات. كما أنني أنذرت رشدي باشا بأن الحركة الحالية تعتبر نظريًا حركة تحريضية، وأنها إذا تطورت قد يلزم التعامل معها على أنها تحريضية. لقد أرسل السيد هاينز [أحد موظفي المقيمية] في طلب عدة شخصيات بارزة في الوفد الوطني، وشرح لهم أنهم، بموجب القانون العرفي، سيتحملون مسؤولية أقل تكدير قد يحدث جراء دعايتهم. أتصور أن هذه التدابير سيكون لها تأثيرًا مهدئًا»
الصورة 5 – مقتطف من برقية من وينجيت إلى بلفور بتاريخ 25 نوفمبر 1918، Mss Eur F112/259، صص.7ظ-8و
وقد جاء رد بلفور على طلب سفر زغلول وزملائه حاسمًا في برقية بتاريخ 27 نوفمبر «ليس هناك من غاية تُرجى من السماح للقياديين الوطنيين بالمجيء إلى لندن لتقديم مطالب متطرفة لا يمكن قبولها.» أما بالنسبة لسفر رشدي وعدلي، فلم يمانع بلفور استقبالهما ولكنه قال لوينجيت إن عليهما تأجيل الزيارة عدة أشهر إلى حين عودته من مؤتمر السلام في باريس.
كان رد الوزيرين على ذلك بأن قدما استقالتهما التي ظل السلطان يماطل في قبولها بتوجيهاتٍ من وينجيت. وقد كرر السلطان طلب السفر بالنيابة عن وزيريه. في تفسير إصرارهم على الزيارة قبل مؤتمر السلام، كتب وينجيت لبلفور في 4 ديسمبر 1918 «يبدو أن السلطان ووزيريه يتملكهم هاجس أن قرارًا حيويًّا سيُتخذ بشأن مصر، وأنه لن تُعرض وجهة نظر مصرية خالصة»
بعدها بأسابيع، زار حسين سري “وكان وقتها وزيرًا في الحكومة” المقيمية وقال لوينجيت إن رشدي وعدلي على استعداد للرجوع لمناصبهم بشرط التوصل لحل وسط مع البريطانيين يحافظان به على ماء الوجه. اقترح سري على وينجيت أن تسمح بريطانيا للوزيرين بالسفر قبل مؤتمر السلام حتى إن كان ذلك يعني انتظارهم في لندن مدة شهر أو أكثر لحين عودة بلفور من المؤتمر. وبالفعل أرسل وينجيت برقية لبلفور في 26 ديسمبر 1918 يوصل إليه الطلب بصيغة تبين أنه منحاز إليه.
وافق بلفور على طلب الوزيرين، وإن أصر على أمرين. الأول أنه لن يقابلهم حتى عودته من باريس، والثاني أن لا يذهبا لباريس ليناقشوا وضع مصر هناك لأن الشأن المصري يخص المصريين والبريطانيين فقط. رحب الوزيرين بتقديم الزيارة ولكن كان لديهما أيضًا ما يصران عليه، إذ رجوا وينجيت أن يُسمح للوطنيين أيضًا بالسفر. لم يكن ذلك من باب دعم مطالب الوطنيين حسبما أوضح وينجيت، وإنما لأنهم كانوا يرون أن موقفهم سيكون أقوى لو أن زغلول وأصحابه سافروا إلى لندن وعادوا لمصر دون أن يجدوا أي دعمٍ لمطالبهم، لأن الرأي العام المصري عندها سيلتف بالضرورة حول الوزيرين اللذين سيلاقيان ترحيبًا رسميًّا في لندن مع سماع مطالبهم الأقل «تطرفًا». عن ذلك كتب وينجيت لكورزون “الذي تولى إدارة وزارة الخارجية البريطانية في غياب بلفور” في برقية بتاريخ 16 يناير 1919 «لقد واجهتني صعوبة شديدة مع الوزيرين. لقد تمسكا بإصرار بموقفهما بأنهما حتى لو سافرا إلى لندن فسيتحتم عليهما أن يستقيلا مجددًا فيما بعد إلا إذا تمكنا من الحصول على درجةٍ من التأييد الشعبي. وقد أصرا أن القياديين الوطنيين سينجحون دائمًا في المزايدة عليهم إلا إذا سُمح لهم هم أيضًا بالسفر إلى إنجلترا ومن ثم أن يفقدوا مصداقيتهم بعد فشلهم في الحصول على استقبالٍ رسمي من الحكومة البريطانية للاستماع إلى مطالبهم»
كانت تلك آخر برقية من وينجيت من المقيمية البريطانية في القاهرة، إذ تم استدعاؤه إلى لندن لمناقشة الشأن المصري “وكانت هناك حالة من عدم الرضا عن استقباله للوطنيين في المقيمية في نوفمبر”، وترك مكانه م. تشيتهام لينوب عنه في إدارة المقيمية في غيابه.
بعد أسابيع من دراسة طلب الوزيرين، وترددهم على المقيمية لاستعجال الجواب، جاء رد وزارة الخارجية في برقية بتاريخ 26 فبراير 1919 من كورزون برفض الطلب لأن قبوله «سيدل على قدرٍ من التأييد أو الاعتراف الذي لا حق لهم فيه بالتأكيد، والذي إن مُنح لهم لن يتوانون عن توظيفه بصورة غير مشروعة كما فعلوا باستقبالهم في المقيمية أول مرة».
كان رد رشدي وعدلي أن جددا استقالتهما التي قُبلت دون مماطلة هذه المرة. ما تلا ذلك من أحداث، تلخصه «مذكرة عن الاضطرابات في مصر» أعدها رونالد جراهام لوزارة الحرب البريطانية بتاريخ 9 أبريل 1919، أقتبس هنا فقرةً منها «في السادس من مارس، أخبرنا السير م. تشيتهام [القائم بأعمال المقيم البريطاني في مصر في غياب وينجيت] بأن سعد باشا زغلول، الذي كان يشعر بالإهانة الشديدة جراء رفض سفره إلى أوروبا، كان يفعل كل ما بوسعه ليمنع تشكيل حكومة جديدة، كما أن السياسيين الذين كانوا على استعدادٍ لقبول المنصب [في الوزارة] كانوا يغيرون رأيهم بعد تلقيهم تهديدات بالقتل. علاوة على ذلك فقد قام زغلول بتصرفات معينة لترهيب السلطان ولإثناء سموه عن التعاون مع السلطات البريطانية في إعادة تأسيس مجلس الوزراء. ففي الثالث من مارس، حضر زغلول إلى قصر عابدين برفقة معظم أعضاء الوفد الأصلي، وعندما رُفض السماح له بالدخول، ترك عريضة موقعة للسلطان تنكر الحماية [البريطانية]، وتنذر سموه من قبول نصائح المقيمية، وتحتوي على تهديدات ضمنية ضد شخصه إذا استمر في دعم تشكيل الوزارة. وقد اهتز السلطان من صيغة العريضة، التي كانت في الحقيقة إنذارًا وقحًا له، مما دفع سموه لاستجداء السير تشيتهام لحمايته من المزيد من الإهانة. وبعد استشارة السير تشيتهام لمستشاريه الرئيسيين، وافقوه في التوصية بالقبض على سعد باشا زغلول وترحيله فورًا، إذ أن دعايته الخبيثة جعلته أكثر خطورة من أيٍ من المحرضين المحتجزين في مالطا منذ بداية الحرب. وفي السابع من مارس، أُذن للسير تشيتهام بالتنسيق مع القائد الأعلى للقبض على زغلول وترحيله إلى مالطا هو وأعضاء حزبه الأكثر ضلوعًا معه في هذه الحملة من الترويع المقصود. وعليه، فقد تم القبض على زغلول باشا وإسماعيل باشا صدقي ومحمد باشا محمود وحمد باشا الباسل في الثامن من مارس وغادروا إلى مالطا صباح اليوم التالي. وقد أبلغنا السير تشيتهام بأن إدارة البلاد لم تتأثر بأي شكل من الأشكال جراء هذه الأزمة. ولكن في اليوم التالي اندلعت مشاعر [الغضب] بين طلبة الكليات العليا. وقد قامت الشرطة بتفريقهم والقبض على 310 منهم.»
الصورة 6 – مقتطف من «مذكرة عن الاضطرابات في مصر» لوزارة الحرب البريطانية بتاريخ 9 أبريل 1919، Mss Eur F112/259، ص. 30ظ.
كانت التظاهرات الطلابية التي تلت نفي زغلول وزملائه مجرد البداية، إذ انتشرت التظاهرات والاضطرابات الأمنية بعدها إلى بقية المدن والمحافظات، وتضمنت قطع خطوط التليفون والتلغراف وحرق واعتراض خطوط السكة الحديد. تروي المذكرة «لقد بدا أن الحركة قد اكتسبت طابعًا قوميًا، حتى أن الأقباط أعلنوا تضامنهم معها “وهي خطوة حكيمة من منظور وقاية الذات”، وقد باغت قدر العنف في هذه الحركة السلطات المحلية البريطانية، المدنية والعسكرية على حد السواء، فلم تكن القوات المتاحة كافية للتعامل مع الاضطرابات. إلا أن الإمدادات أُرسلت بسرعة وتم استعادة النظام والاتصالات بالتدريج. وقد أدت الطائرات خدمة فعالة في اللحظة الأكثر حرجًا.»
أدرك البريطانيون أن عليهم أن يتخذوا إجراءات استثنائية ليسيطروا على الأوضاع، لذا فبدلًا من أن يعيدوا وينجيت لمصر، عينوا مندوبًا سامٍ «فوق العادة»، واختاروا الجنرال أللنبي الذي يحفل تاريخه بالانتصارات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط «في 20 مارس، عُيِّن الجنرال أللنبي مندوبًا ساميًا فوق العادة لمصر والسودان، مع منحه سلطة عسكرية ومدنية مطلقة، وقد وصل القاهرة في 25 مارس. وبدا أن الوضع قد بدأ في التحسن بالفعل، إذ هدأت الاضطرابات وبدأ يظهر مفعول إجراءات السلطات العسكرية. وفي 26 مارس، أبلغ الجنرال أللنبي أن عددًا من القادة المحليين، بمن فيهم رئيس الجمعية التشريعية وكل الوزراء السابقين ورجال الدين البارزين وبعض أعضاء الوفد الوطني، قد أصدروا نداءً للأمة المصرية بالتزام حدود القانون. وقد دعا الجنرال أللنبي الموقعين عليه إلى المقيمية وتحدث إليهم. لقد أوضح لهم أن مهمته استعادة النظام وأنه مضطر لاتخاذ إجراءات من القمع الفعلي قد تطال المذنب والبريء. وعليه فإن واجب كل مصري غيور على وطنه يقتضي التوصل لوسائل تضمن تحقيق هذه الإجراءات لنتائجها المرجوة بأقصى سرعة وبأقل معاناة لمصر»
الصورة 7 – مقتطف من «مذكرة عن الاضطرابات في مصر» لوزارة الحرب البريطانية بتاريخ 9 أبريل 1919، Mss Eur F112/259، ص. 31و.
تبين المذكرة في نهايتها ثلاث خطوات مهمة قرر المسؤولون البريطانيون اتخاذها بعدما بدأت الأوضاع في الاستقرار: الأولى أنهم رفعوا القيود على السفر فصار بإمكان أي مصري يرغب في السفر إلى أوروبا لعرض آرائه أن يفعل ذلك، والثانية أنهم أفرجوا عن سعد زغلول ورفاقه الذين سيتوجهون مباشرةً من مالطا “بعد أن انضم إليهم أعضاء «الوفد» الآخرون” إلى فرنسا، والأخيرة أنهم قرروا تشكيل لجنة بقيادة اللورد ملنر لتسافر إلى مصر وتحقق في أسباب الأحداث الأخيرة وتقدم التوصيات حول المنهج الأمثل للتعامل مع الوضع المصري في المستقبل. كان البريطانيون يأملون بهذه الخطوة الأخيرة أن ينقلوا مركز النقاش السياسي من أوروبا إلى مصر – أي للمصريين في عقر دارهم – بما يمكنهم من تفادي الشوشرة بين حلفائهم في أوروبا.
4 - «الاعتراف بما هو صائب ومشروع في طموحات الوطنيين»: لجنة ملنر
طول شهري أبريل ومايو 1919 كان هناك تبادل للمراسلات بين ملنر وكورزون وبلفور “من باريس” وأللنبي “من مصر” بخصوص طبيعة اللجنة التي تقرر إرسالها إلى مصر ومهامها وتوقيت سفرها. أللنبي، الذي كان ما يزال يواجه صعوبة في إيجاد بديل لرشدي لرئاسة وزارة مصرية جديدة، اقترح أن تكون لجنة ملنر لجنة ملكية – مما يعني أن عملها سيكون من خلال المقيمية – وأن تأتي مصر على الفور. اعترض ملنر، وكان يرى أن اللجنة يجب أن تكون مستقلة حتى تكون لها مصداقية أكبر، كما أنه كان رافضًا تمامًا لسفر اللجنة في الوقت الراهن. قد يكون ذلك – جزئيًا على الأقل – لأن ظروفه الشخصية لم تكن تسمح له بالسفر في ذلك الوقت “توجد رسالة من ملنر لكورزون بتاريخ 14 أبريل 1919 تتضمن تلميحات إلى أن ملنر كان يعاني من متاعب صحية تمنعه من السفر على الفور، علمًا بأنه كان يبلغ 65 سنة من العمر آنذاك، وقال في الرسالة أنه على استعداد للتنحي عن رئاسة اللجنة لو أمكن إيجاد بديل مناسب بظروف وصحة أفضل منه”. ولكن هذا لا يمنع أن ملنر كانت لديه أسبابه السياسية لتأجيل السفر كذلك، كما توضح رسالة أخرى لكورزون بتاريخ 25 أبريل 1919، قال فيها ملنر بخصوص توقيت سفر اللجنة:
«كلما فكرت في الأمر أكثر، كلما اتضح لي أنه سيكون من الخطأ أن نقدم على هذه الخطوة، أو أي خطوة غيرها، في هذا التوقيت. سيكون ذلك تكرارًا – بدرجة أخف – للخطأ الفادح الذي ارتكبه أللنبي عندما قدم التنازلات فيما يخص إصدار جوازات السفر والإفراج عن زغلول وأصحابه خشية أن يبقى بلا وزارة مصرية. لقد حكمنا مصر ثلاثين سنة بسبب القناعة الكامنة في عقول طبقة الباشاوات المتآمرين أننا يمكننا أن نتخلص منهم إذا لزم الأمر. إلا أن هذه القناعة، لسببٍ أو لآخر، قد فترت في السنوات الأخيرة. وهذا ما أوصلنا إلى الاضطرابات الحالية، التي ما هي إلا تحدٍ من جانب هذه الطائفة. لقد أصبحت القضية أمرًا واقعًا وعلينا الآن أن نريهم بأي ثمن أن مخاوفهم الأصلية كانت في محلها وأن افتراضهم الحالي قد جانب الصواب. لقد مضى رشدي وأتمنى ألا نهدر وقتنا في التفكير في أمثال رشدي الآن. سيكون هناك فائض منهم في القريب العاجل إذا تمكن أللنبي – ولا شك أنه سيتمكن قريبًا – من استعادة ما يكفي من المسؤولين التابعين لتدبير الأمور والحفاظ على النظام في أنحاء البلاد. ولكن التوقيت الآن غير مواتٍ للإعلان عن تحرك جديد من جانبنا. فنحن نبدو الآن مرتبكين ومرتابين من الوضع الذي خلقه غياب وزارة مصرية والتأكيد العاري للسلطة البريطانية، ومستعدين لفعل أي شيء لإخراجنا من هذا المأزق على الفور.»
كان كورزون متفقًا مع ملنر، وإن كان يرى أن تأجيل سفر اللجنة لا يعني عدم الإعلان عن سفرها الآن. كان زغلول ورفاقه وقتها في باريس يحاولون عرض وجهة نظرهم على المسؤولين والرأي العام هناك تزامنًا مع مؤتمر السلام، وكان البريطانيون يشعرون بالقلق إزاء وجودهم هناك. في الوقت نفسه، كان البرلمان البريطاني على وشك الانعقاد وكانت الضغوط تتزايد لعرض الإجراءات المقررة بخصوص مصر. في هذا السياق، أرسل كورزون رأيه لبلفور في رسالة بتاريخ 25 أبريل 1919 قال فيها «إن الدوافع الرئيسية للإعلان عن سفر ملنر [الآن] هي ما ستولده من ثقة لدى الجمهور إلى جانب إزالة أية حجج من جانب زغلول وشركائه للبقاء في باريس، إذ أنهم بذلك سيفوتون على أنفسهم فرصة سماع مطالبهم في القاهرة».
وبالفعل، أُعلن عن تشكيل اللجنة بعدها بوقت قصير، مع تأجيل سفرها إلى خريف 1919، وهو الموعد الذي سيتأجل مجددًا في ظل عدم توقيع اتفاقية السلام بين بريطانيا وتركيا بعد. في ذلك الوقت كانت التظاهرات وأعمال العنف قد اندلعت في مصر مجددًا – وإن كانت هذه المرة مقتصرة على الإسكندرية، وبدرجة أقل، القاهرة – وجرت محاولة لاغتيال رئيس الوزراء محمد سعيد الذي كان قد تولى الوزارة في شهر مايو. أبدى محمد سعيد قلقه من وصول لجنة ملنر في هذا التوقيت في ظل هذه الأحداث وطلب من المقيمية تأجيل مجيئها، وأيده السلطان في ذلك. أوصل تشيتهام موقف سعيد لوزارة الخارجية البريطانية في برقية بتاريخ 26 سبتمبر 1919 موسومة «عاجل جدًا»، ذكر فيها على لسان سعيد «يُخشى الشغب والمقاطعة الممنهجة للجنة. في كل الحالات لن يفضي عمل اللجنة إلى استنتاجات حقيقية لأن الغليان الحالي لا يعكس المشاعر الحقيقية في البلاد». لم يلقَ طلب سعيد تعاطفًا لدى المسؤولين البريطانيين الذين كانوا يرون أن سفر اللجنة قد تأخر بما يكفي. قدم سعيد استقالته اعتراضًا على عدم تأجيل قدوم اللجنة، وفي برقية بتاريخ 21 نوفمبر 1919 أبلغ أللنبي وزارة الخارجية بتشكيل وزارة مصرية جديدة تحت رئاسة يوسف وهبة. وبعدها بيومين أرسل برقية أخرى يبلغ فيها بأنه قد قابل الوزراء الجدد قائلًا «لقد ترك وهبة لدي انطباعًا حسنًا، وفي رأيي أن لدينا الآن وزارة أفضل وأقوى من ذي قبل».
في نهاية الأمر، وصلت اللجنة التي ترأسها ملنر واشتملت على خمسة مسؤولين آخرين وسكرتيرين مصر في السابع من ديسمبر 1919، وبالفعل قاطعها القياديون الوطنيون. أنجزت اللجنة عملها في مارس 1920، وفي حين أن التقرير الكامل للجنة لم يُنشر إلا في ديسمبر 1920، فقد كتب ملنر ملخصًا من 12 صفحة لما توصلت إليه اللجنة وما تقدمه من توصيات قبل أن يغادر القاهرة بتاريخ 23 مارس 1920.
توجد نسخة من الملخص في بداية الملف Mss Eur F112/260 بين ص ص. 1و-7ظ، ويتضمن بعض الفقرات بين أقواسٍ مربعة [...] تشير مذكرة لاحقة أنها ليست للنشر.
الصورة 8 – تكوين لجنة ملنر، Mss Eur F112/260، ص. 2و.
انتهت اللجنة إلى أن المشاعر المضادة للبريطانيين في نموٍ متزايد، وإن كانت طبيعتها تتغير. عن ذلك كتب ملنر «المشاعر المضادة للبريطانيين تكاد تقتصر على النخبة والمثقفين، وهي أقوى بين المجموعة الأخيرة – الطلبة والأطباء والمحامين ومعظم الموظفين الحكوميين. وقد سيطرت هذه المشاعر مؤخرًا على الأزهر، فأصبحت الوطنية الآن مدعومة بالإسلامية». يعزو ملنر نمو المشاعر الوطنية لزيادة الحريات والتعليم التي يرى أن للبريطانيين الفضل فيهم، ويؤكد على الحاجة للصلح بين البريطانيين والمصريين عن طريق «اعترافٍ سخي بما هو صائب ومشروع في طموحات الوطنية المصرية». وبين أقواسٍ مربعة، يوضح ملنر «[في اتباعنا لهذه السياسة يجب أن نراعي حساسية المصريين وشعورهم بالأهمية وحبهم للأشكال والعبارات، وأن نسعى لإعطاء مكانة مصر المستقبلية أكبر مظهر من الاستقلال بما يتوافق مع الحفاظ على الحد الأدنى الذي لا غنى عنه من السيطرة البريطانية.]»
الصورة 9 – مقتطف من ملخص تقرير ملنر بتاريخ 23 مارس 1920، Mss Eur F112/260، ص. 2ظ.
ويوصي ملنر في ملخصه بتوقيع اتفاقية مع مصر تضمن بريطانيا فيها «سلامة مصر واستقلالها وتلتزم بحمايتها ضد العدوان أو التدخل الأجنبي، وفي المقابل تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في ممارسة سلطتها في حماية المصالح البريطانية والأجنبية»، مبررًا الحاجة للإبقاء على قدرٍ من الحماية البريطانية في مصر بأن «التقدم العظيم الذي أحرزته مصر في السنوات الأخيرة يعود الفضل فيه إلى بريطانيا العظمى، ومن حق بريطانيا العظمى أن تشرف على ثمار جهودها إلى أن تأمن استمرارها». يتناول باقي الملخص توصيات اللجنة فيما يتعلق بشكل تلك الاتفاقية ومضمونها، متطرقًا لوضع المسؤولين البريطانيين في مصر، وشكل الحكومة المحلية، وملف السودان. نُشر محتوى الملخص في الصحافة المصرية والبريطانية قبل أن تتاح للحكومة البريطانية أو للبرلمان البريطاني الفرصة لمناقشة محتواه، فقوبل بمزيج من الصدمة وعدم التصديق من جانب المسؤولين البريطانيين.
5 - «خطوة إلى الوراء»: المقارنات بالهند وأيرلندا
كان من بين أبرز المعترضين على “ملخص” تقرير لجنة ملنر ونستون تشرشل “وكان وزير الحرب آنذاك”. حتى أنه من فرط عدم تصديقه كتب مذكرة بتاريخ 24 أغسطس 1920 يتساءل فيها إذا كان الأمر محض تكتيكٍ دبلوماسي وإن كانت الحقوق التي اقترحها ملنر مجرد حقوق على الورق «إن كان ذلك فعلًا، كما أتوقع، هو ما تعنيه هذه الوثيقة الجديدة، فلا بد أن يكون الوطنيون المصريون حمقى بحق ليتركوا الأمر عند ذلك. إن ما يطالبون به هو السيطرة الفعالة والمسؤولة عن بلادهم، والحق في إدارتها أو سوء إدارتها كيفما يحلو لهم. وسبب استيائهم هو أن هذا الحق لم يُمنح لهم قط، ولا ينبغي أن يُمنح لهم طوال وجودنا في البلاد. ليس شكل الاستقلال الأجوف هو ما يطمحون فيه بل حقيقته. هل الدولة البريطانية على استعداد لقبول تلك الحقيقة؟ وإن لم تكن مستعدة، هل سيسهّل أم يصعّب قبولها شكلًا من مقاومة قبولها مضمونًا؟ أعتقد أنه سيجعل مقاومتها أصعب بكثير.»
كما يعرب تشرشل عن تخوفه إزاء ما قد يعنيه هذا «التنازل» في مصر فيما يخص الحركة الاستقلالية في أيرلندا «إن عواقب هذه الاقتراحات وهذا النموذج في أنحاء الإمبراطورية البريطانية قد يكون أخطر من تأثيرها في مصر. فإذا أسقطنا كلمة «مصر» من الوثيقة التي وزعتها وزارة الخارجية مساء الأمس واستبدلناها بكلمة «أيرلندا» مع إجراء بعض التعديلات البسيطة جدًا، لظلت مفهومة تمامًا، ولمثلت قبولًا تامًا لمطالب السيد دي فاليرا». ويستطرد تشرشل بأن هذا ينطبق على الهند أيضًا، فالهنود سيفضلون حتمًا أن تكون لديهم دولتهم المستقلة على عرض الحكم الذاتي كإقليمٍ ضمن الإمبراطورية البريطانية وتحت التاج البريطاني – وهو العرض المقدم إليهم من وزير الدولة لشؤون الهند. يواصل تشرشل بأسف «كنت أظن أننا جميعًا قد توصلنا لتصورٍ للإمبراطورية البريطانية كائتلافٍ من المستعمرات التي تتمتع بالحكم الذاتي والمجتمعة في كنف التاج البريطاني، يتقدم كلٌ منها في دائرته تحت قدرٍ متفاوت من المسؤولية. حتمًا، نحن نخطو هنا خطوةً إلى الوراء».
الصورة 10 – مقتطف من مذكرة من تشرشل بتاريخ 24 أغسطس 1920، Mss Eur F112/260، ص. 15ظ
لم يكن تشرشل وحده من عقد هذه المقارنات، بل شاركه عدة مسؤولين بريطانيين في تخوفه وتساؤلاته. ففي رسالة بتاريخ 19 أكتوبر 1920 قارن إدوين سامويل مونتاجو “وزير الدولة لشؤون الهند” بين اللجنة التي أُرسلت للهند وتلك التي أرسلت لمصر، مشيرًا إلى أن الأولى كانت أكثر انضباطًا، فقد تفاوضت مع الحكومة الهندية فقط وأرسلت توصياتها للحكومة البريطانية مباشرةً. وذلك في إشارة إلى أن ملنر قابل زغلول ورفاقه في لندن بعدما تراجعوا عن مقاطعة اللجنة. حتى أن موناتاجو يصف زغلول بـ«تيلاك أو غاندي أو دي فاليرا السياسة المصرية». كما يشير مونتاجو في رسالته إلى أن أسلوب التعامل مع الأحداث في مصر قد سبب لهم الصعوبات في الهند، قائلًا «في الهند يتم تجاهل المتطرفين، وعلى حد علمي لم يسبق وأن شكك أحد في حكمة هذه السياسة. أما في مصر، فإن الاتفاق يكون مع المتطرفين... إن الأساليب التي اقترحها ملنر مقارنةً بأسلوب تسوية الشؤون الهندية قد زادت من صعوباتنا في الهند بشكلٍ هائل»، حيث يربط مونتاجو بين ازدياد أعمال الشغب في الهند والأنباء الواردة من مصر.
ردًا على مثل هذه الآراء – وتحديدًا على مذكرة تشرشل المذكورة أعلاه، كتب ملنر رسالة بتاريخ 17 سبتمبر 1920 يقر فيها بأن اقتراحات لجنته قد تكون بالفعل خطوة إلى الوراء، و«لكنها خطوة لمركزٍ أأمن من ذلك الذي نحتله الآن». ويضيف ملنر أنه لا جديد في الاعتراف بـ«استقلال» مصر التي لم تكن يومًا جزءًا من الامبراطورية البريطانية «إن إعلان الحماية على دولة أجنبية قد يعني الكثير أو القليل، ولكنه بالتأكيد لا يعني ضمّها. كما أننا في ذات الوقت الذي أعلنا فيه الحماية، أولينا عناية استثنائية لتقديم تصرفاتنا على أنها بنيّة الدفاع عن مصر ضد أي خطر يهددها أو يهدد استقلالها! وفي الوقت نفسه رفعنا مكانة حاكم مصر من «خديو» تابع لتركيا، لـ«سلطان»، وهو لقب سيده الأسبق! أيًا كان تأثير هذه الإجراءات والإعلانات الغريبة والمتناقضة إلى حدٍ ما، والتي اختلف تفسيرنا لها كثيرًا عن تفسير المصريين، فمن الصعب حتمًا أن ندعي أنها تمثل ضم مصر للإمبراطورية البريطانية».
الصورة 11 – مقتطف من رسالة من ملنر بتاريخ 17 سبتمبر 1920 ردًا على تشرشل، Mss Eur F112/260، ص. 17و.
وفي مذكرة بتاريخ 15 نوفمبر 1920يعرب هـ. فيشر “رئيس مجلس التعليم في مصر” عن رأيٍ يوافق موقف ملنر، إذ يبدي اعتراضه على الاقتراحات بأن يُطرح على مصر احتمال أن تصبح مستعمرة ضمن الإمبراطورية البريطانية، وهو الاحتمال الذي كان يراه بعيدًا جدًا. عن ذلك يقول فيشر معقبًا «لم تكن مصر أبدًا، إلا خلال فترة الحرب الاستثنائية، جزءًا من الإمبراطورية البريطانية، ولا ترغب مصر في أن تكون جزءًا من الإمبراطورية البريطانية. ثمة أماكن قليلة في العالم أكثر اختلافًا عنا من ناحية التاريخ والمزاج الوطني والمؤسسات. مصر بلدٌ أجنبي كليًا. إذا سُمح لها بامتلاك رموز المواطنة فإنها سترضى بمضمون الحماية».
6 - «تلك الكلمة البغيضة»: ماهية الحماية البريطانية
أثار ملنر في رسالته آنفة الذكر نقطة تكررت في الكثير من النقاشات والمراسلات الواردة في الملفات حول كينونة الحماية البريطانية ومدى قربها أو بعدها عن الاحتلال الصريح. تُثار هذه المسألة في الملفات للمرة الأولى على لسان حسين رشدي في رسالة باللغة الفرنسية أرسلها لوينجيت في المقيمية البريطانية مبررًا استقالته، وأحالها الأخير إلى بلفور بتاريخ 18 ديسمبر 1918. كتب رشدي لوينجيت «المحمية مجرد مسمى. يمكنه أن يخفي ضمًا مباشرًا وصريحًا كما يمكنه أن يشير لسيادة توافق بين مصالح القوة الحامية وحقوق البلد المحمي». كانت نقطة الاعتراض الرئيسية بالنسبة لرشدي هي وضع مصر المبهم تحت الحماية. ويشير لوينجيت في مقابلة أخرى أن وضع مصر تحت السيادة العثمانية كان واضحًا، مع تحديد حقوقها ومسؤولياتها، أما تحت الحماية البريطانية فوضعها غير محدد. وكان رشدي يرى استحالة بقائه في منصبه في ظل هذا الوضع المبهم وفي الوقت الذي كانت فيه دول العالم تعترف بالحماية البريطانية على مصر دون أن يكون للمسؤولين المصريين أي قول في شكل هذه الحماية.
الصورة 12 – مقتطف من رسالة من رشدي إلى وينجيت، أحالها وينجيت لبلفور في برقية بتاريخ 18 ديسمبر 1918، Mss Eur F112/259، ص. 10و.
عن تغييب رأي المسؤولين البريطانيين في ماهية المحمية ومستقبل مصر، تشير المذكرة المقدمة لمكتب الحرب البريطاني بتاريخ 9 أبريل 1919 في أعقاب الأحداث التي تلت نفي زغلول ورفاقه إلى أن ذلك ترك جرحًا غائرًا في كرامة المصريين لا سيما في ظل التمثيل والاهتمام الذي حظيت به بعض البلدان المجاورة في مؤتمر السلام «لا شك أن غياب التمثيل المصري عن مؤتمر السلام قد جرح كبرياء المصريين، لاسيما في الوقت الذي حصلت فيه الهند، بل والأسوأ، بدو الحجاز المكروهين والمحتقرين، على ذلك التمثيل. حتى أن قصاصةً من صحيفة «ذي جرافيك» تحمل صورة الأمير فيصل في مؤتمر السلام كانت تُوزع كنوعٍ من الدعاية ضد البريطانيين. كما جرى توظيف السماح بسفر الوفد اللبناني إلى أوروبا بصورة مماثلة. حتى الوزراء يشتركون في هذا الشعور، وهو شعور مبرَّر، ومن المؤسف أن طموحهم في حضور مؤتمر السلام لم يمكن إشباعه»
سيدرك المسؤولون البريطانيون مع الوقت أن مسمى «المحمية» قد اكتسب من الدلالات السلبية لدى المصريين ما جعل منه رمزًا، مما يجعل من غير العملي تبنيه كإطار لسياسية البريطانيين في مصر. يشير إلى ذلك بوضوح ر. باترسون “أحد المسؤولين البريطانيين في مصر” في مذكرة بتاريخ 2 أبريل 1921، يقول فيها «يجب ألا ننسى أنهم [أي المصريين] قد وُعِدوا بنظام حكمٍ أكثر استقلالية، إلا أن ذلك لا يتنافى مع استمرار الرقابة البريطانية على أنشطة الحكومة الأكثر أهمية. من بين أمورٍ أخرى، ينبغي أن نتخلص من تلك الكلمة البغيضة – «المحمية» – كما ينبغي أن تتمتع الجمعية [التشريعية] بسلطاتٍ أوسع».
ويعرب كورزون عن الرأي ذاته في مذكرة بتاريخ 14 فبراير 1921 وجهها للحكومة البريطانية يحثهم فيها على اتخاذ قرارٍ بشأن مصر في وقتٍ قريب “وكان يخشى تحديدًا إن حصل حزب العمال على أغلبية في انتخابات السنة المقبلة أن يقدم للمصريين تنازلاتٍ أكبر مما اقترحه ملنر في تقريره”. عن لفظ المحمية يقول كورزون «في الحقيقة لقد قدم لنا المصريون فرصة عظيمة في هيئة الأهمية الخرافية – التي تكاد تصل حد الجنون – التي يلصقونها بلفظ المحمية. فهو يرمز في نظرهم لنوعٍ من التبعية المهينة، بما يتنافى مع الاكتشاف الويلسوني المجيد لتقرير المصير كمفهومٍ دلالي لمستقبل البشرية. لمَ لا نجاريهم؟ لماذا نهتم بالقشرة إذا كان بإمكاننا أن نحصل على الثمرة؟ على حد فهمي فإن ما نريده جميعًا هو أن تظل مصر داخل النظام الإمبريالي البريطاني لا خارجه. إذا كان السبيل الأمثل لتحقيق ذلك هو إسقاط لفظ المحمية وإبرام معاهدة تحالف معها كما فعلنا مع أمراء الهند منذ قرن “الذين عادة ما يصف الكتاب الدستوريون علاقتهم بنا بعلاقة «تحالف خضوع»“، لماذا لا نفعل ذلك؟»
الصورة 13 – مقتطف من مذكرة من كورزون إلى الحكومة البريطانية بتاريخ 14 فبراير 1921، Mss Eur F112/260، ص. 198ظ.
لم يكن كل المسؤولين البريطانيين متفقون مع كورزون، وكان بعضهم يدرك أن الأمر لن يكون بهذه البساطة. ففي رسالة من أللنبي استلمها كورزون في 26 أبريل 1921، يوضح الأول أن العودة لنظام الحكم البريطاني السابق في مصر بات مستحيلًا «إن الأفكار الغربية من قبيل التحرر والحكم الذاتي، ناهيك عن الاستقلال، التي زادتها الحرب العظمى زخمًا، قد سيطرت على كل شرائح المجتمع المصري بشكل يستحيل معه العودة للأساليب القديمة أو استخلاص النماذج من الوسائل الإدارية التي تبناها اللورد كرومر في توجيه سياستنا المسقبلية. فقد توغل تأثير القادة من أمثال زغلول في الوجدان المصري إلى حدٍ يجعل أيًا من تلك الحلول غير مجدٍ»
في السياق نفسه، تثير «مذكرة عن التسوية السياسية في مصر» بقلم ويليام هايتر “المستشار القانوني للمقيمية البريطانية ولوزارة المالية في مصر” بتاريخ 5 يونيو 1921 مسألة اصطلاحية متصلة متمثلة في معنى «الاستقلال». إذ يسلط هايتر الضوء على التناقض الضمني بين أن تعترف بريطانيا العظمى بمصر مَلَكيةً دستوريةً مستقلة، بينما تتدخل في شكل إدارتها وتقيد علاقاتها الخارجية. ويجادل هايتر أن «مصر في الواقع عليها أن تبتاع استقلالها بشروطٍ ستجعل من ذلك الاستقلال، في عيون غالبية المصريين، محض اسم»، مضيفًا «أظن أن الكثيرين منا لم يولوا اهتمامًا كافيًا للمطالبة المستمرة بالاستقلال التام. من المستحيل بالطبع أن تقوم بريطانيا بإخلاء مصر وتركها لتواجه مصيرها، مما يجعلنا نميل للنظر إلى «الاستقلال التام» على أنه مجرد نداء ببغاوات، يرددونه ليوفر عليهم عناء التفكير. ولكنني أظن أن الأمر أكبر من ذلك بكثير». يستطرد هايتر أن زغلول، على الرغم من ارتكابه عدة زلات منذ عودته لمصر وفقدانه بعضًا من شعبيته وأتباعه، ما يزال يستحوذ على تأييد غالبية الشعب لأنه يسعى إلى تحقيق ذلك الاستقلال التام.
الصورة 14 – مقتطف من «مذكرة عن التسوية السياسية في مصر» بقلم ويليام هايتر، بتاريخ 5 يونيو 1921، Mss Eur F112/260، ص. 215ظ.
في نهاية مذكرته، يشير هايتر إلى استقبال توصيات تقرير ملنر في مصر «بشيءٍ يشبه الحماس»، مضيفًا «لا شك أن هذه الاقتراحات قد أدت غرضًا واحدًا جيدًا في أنها قوبلت في مصر على أنها نوع من رد الاعتبار لكبريائهم الذي جرحته الأحداث الأخيرة جرحًا غائرًا. لقد تراجع معظم العدوان المرير الذي شهدناه في 1919، ويعود جزءٌ من الفضل في ذلك إلى الإدارة الثابتة والإنسانية، ولكنه يعود أيضًا إلى أن مسؤولًا بريطانيًا بارزًا قدم مقترحات لا تتعامل مع المصريين على أنهم عرقٌ خاضع».
في نهاية المطاف، سيؤدي التصادم بين وجهة النظر التي أعرب عنها كورزون في محاولته إعادة إحياء الحماية البريطانية تحت مسميات جديدة، والإصرار المصري على أن يكون الاستقلال أكثر من مجرد استقلال اسمي إلى انهيار المفاوضات بين كورزون والوفد المصري برئاسة عدلي يكن في 1921، وعندما أعلنت بريطانيا منفردةً استقلال مصر في 1922 استبقت القيود التي جعلت منه استقلالًا مشروطًا. وفي حين أن مصر لم تنل كامل استقلالها إلا بعدها بثلاثة عقود، فلا ينكر المؤرخون أن أحداث 1919 كانت هي اللحظة الفارقة التي وضعت مصر على أول الطريق نحو تحقيق «الاستقلال التام».
الصورة 15 – نص إعلان بريطانيا الانفرادي لاستقلال مصر في 28 فبراير 1922، Mss Eur F112/263، ص. 82و.
خاتمة
كان أملي في هذا المقال أن أضع بين يدي القراء ما يمكنهم من قراءة أحداث ثورة 1919 من وجهة نظر المسؤولين البريطانيين آنذاك في سياق السياسة البريطانية الداخلية والاستعمارية الأوسع، ويحفزهم على الاطلاع بأنفسهم على بقية الملفات التي أصبحت الآن في المجال العام. حاولت أن أقدم سردًا للأحداث بالاعتماد على المواد المتوفرة في الملفات وانتقيت نقاطًا محددة لأسترسل في عرضها. لم أُحط بكل المواضيع التي يمكن تناولها، ولا أظنني كنت لأفلح في ذلك حتى إن حاولت. بعض تلك المواضيع تتضمن دور السلطان/الملك فؤاد في الأحداث وبعدها، والدور الذي لعبه المسؤولون البريطانيون في التغييرات الوزارية المتعاقبة، وما حدث لوينجيت بعد إبعاده إلى بريطانيا وإجباره على الاستقالة، وهيمنة الفكر الويلسوني في ذلك الوقت، والآمال التي كان يعقدها المصريون على الرئيس وودرو ويلسون وشعورهم بالخذلان عندما اعترف ويلسون بالحماية البريطانية في مؤتمر السلام. ولا غرو أن هذه الملفات إنما تقدم مادة دسمة للباحثين والقارئين والمهتمين، وأتمنى أن يتيح وجودها في المجال العام الفرصة لكل الراغبين في تصفحها من شاشاتهم.