ثقافات
عاطف معتمدقراءة جديدة في مشروع قاسم عبده قاسم
2021.12.01
قراءة جديدة في مشروع قاسم عبده قاسم
"فقدت الأوساط العلمية والأكاديمية والثقافية، في شهر سبتمبر الماضي، المؤرخ والمترجم الدكتور قاسم عبده قاسم، عن عمر يناهز 79 عاما.
ولد قاسم في 26 مايو 1942 بمحافظة القاهرة، وهو مؤرخ ومترجم وأستاذ متفرغ بقسم التاريخ بكلية الآداب، وحصل على ماجستير في تاريخ العصور الوسطى من جامعة القاهرة سنة 1972 بتقدير امتياز، و على الدكتوراة في الفلسفة في العصور الوسطى من قسم التاريخ بجامعة القاهرة سنة 1975 بمرتبة الشرف الأولى، وكان تخصصه "تاريخ العصور الوسطى" الذي قدم فيه قاسم عبد قاسم إبداعه الخاص، وأسماه بالعصر الوسيط.
حصل قاسم عبده قاسم على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة عام 1983، وشهادة تقدير للتميز في الإنتاج الأدبي من جمعية الآداب بمصر عام 1985، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى من مصر، عام 1983، وجائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة عام 2000، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2008.
هنا يقدم الدكتور عاطف معتمد قراءة جديدة لإبداع قاسم عبد قاسم، من خلال ثلاثة كتب للراحل العظيم".
ماهية الحروب الصليبية
في عام 2005 تسبب الفيلم الأمريكي الشهير "مملكة السماء Kingdom of Heaven" في دهشة لنا نحن المتابعين العرب. لقد كان العوام منا يعتقدون أن فيلم يوسف شاهين "الناصر صلاح الدين" كان متحيزا لبني قومه ضد الأوربيين فأظهر الشرق ضحية تدافع عن نفسها وتناصر الحق بينما أظهر الغزاة الأوربيين مستغلين للصليب رافعين إياه خديعة لنهب الشرق.
مصدر الدهشة أن الفيلم الذي أنتج في والت ديزني وحقق شهرة واسعة لا يخرج كثيرا عن رؤية شاهين في فيلمه الذي ظهر للنور في عام 1963. وإذا كان شاهين قد جعل صلاح الدين الأيوبي بطلا للفيلم المصري فإن الفيلم الأمريكي "مملكة السماء" والذي جاء بعده بأربعين سنة جعل البطل حدادا فرنسيا بسيطا انضم لإحدى الحملات الصليبية مخدوعا بأهدافها المقدسة.
في الفيلم الأمريكي يصبح الحداد بطل معركة القدس تلك المدينة التي كان يجب أن تكون "مملكة السماء" أو كما يحلو للبعض ترجمة الفيلم ترجمة حرفية بعنوان "مملكة الجنة"، والعارفون للفقه المسيحي يفضلون بالطبع "السماء" لا "الجنة".
ملايين البشر يشاهدون الأفلام حول العالم، وأقل منهم بكثير يقرأون كتب المؤرخين. ومن بين كتب المؤرخين التي تستحق أن نطالعها في مسألة الحروب الصيلبية الكتاب المرفق غلافه الذي ألفه المؤرخ المصري الجليل - الذي رحل عن دنيانا الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم - والصادر في الكويت قبل 30 سنة أو يزيد.
في كتابه "ماهية الحروب الصليبية" يدخل قاسم مباشرة في الموضوع دون مواربة أو زيغ أو هروب فيقول لك فيما معناه: "على مدار 300 سنة تسبب العدوان الذي قام به الاستعمار الأوروبي على العالم الإسلامي - والذي بدأ من 1095م واستمر حتى 1400م - في إنهاك بلادنا وإضعاف قواها وتعطيل قوى الإبداع فيها، فضلًا عن تعطيل عوامل النمو في الحضارة الإسلامية، بل إن المنطقة العربية بعد انتهاء هذه الحروب دخلت في مرحلة ضعف ووهن وتهالك مما مهد المسرح تماما لأن تقع فريسة للسيطرة العثمانية. صحيح أن العثمانيين قدموا حماية للعالم العربي من الاستعمار الأوروبي لثلاثة قرون لاحقة لكنهم قدموا حماية لجسد واهن مريض منهك دون أن تظهر فيه روح الحضارة والتطور والنمو والازدهار ".
الكتاب متوفر على الإنترنت في عديد من المواقع ويمكن تحميله بسهولة وهو من ثمار سلسلة عالم المعرفة التي نشأ عليها جيلنا وتعلم منها الكثير. وهو كتاب رشيق الحجم واللغة، لا يزيد عن 200 صفحة ويتناول تحرير المصطلحات والظروف التاريخية التي نشأت فيها حروب الفرنج (وهو الاسم الذي كان يطلقه المؤرخون المسلمون على ما سيعرف بعد قرون لاحقة باسم الحروب الصليبية).
يتناول الكتاب أيضًا كيف أن الحملات الصليبية التي لقيت هزيمة وفشلا في معظم الأحوال صورت بآلة الدعاية الغربية إلى مثال لانتصار الشجاعة والإقدام والنزاهة ونصرة الدين رغبة في استمرار استنزاف الشعوب الأوروبية وجمع التبرعات لتمويلها ورغبة في استمرار استغلال اسم الصليب في منح عشرات آلاف مرتكبي الذنوب الدنيوية صك "الغفران الصليبي" وتطيرهم من الآثام نظير مشاركتهم أو تبرعهم للحملات.
لا يفوت الكتاب التمهيد للموضوع بعرض رحلات الحج المسيحي قبل الحروب الصليبية والتي كانت حملات سلمية جرارة إلى القدس ينضم إليها الآلاف في مناسك مقدسة، ولولا تعرضها لغارات ونهب في الطريق لما احتاجت إلى حماية عسكرية مسيحية، وكانت هذه نقطة البداية على ما يبدو لوضع البذرة الأولى لما سيعرف لاحقا باسم "الحج المسلح" أو "عسكرة الحج" المسيحي إلى القدس والذي سيمهد الطريق إلى الحملات الصليبية الشاملة..
لا يوجد حدث في التاريخ ترك أثرا على الفكر والسياسة والفنون والآداب في الشرق والغرب بمثل ما تركته الحروب الصليبية التي دامت 300 سنة. ويعود الكتاب الذي بين أيدينا إلى مراجع عديدة لا تحلل فقط الحروب من الناحية العسكرية والتاريخية بل تعرض للأساطير التي مهدت لهذه الحملات على شاكلة نهاية العالم عند حدود الألفية.
الظاهر بيبرس.. نموذجا للعهد المملوكي المملوكية
العنوان الذي يحمله البحث الذي بين أيدينا عنوان حماسي للغاية أقرب إلى كتب التربية الوطنية المدرسية. وهو عنوان آمن ذكي حصيف لمن يرغبون فقط في قراءة العناوين.
لكن ما إن تتوغل في قراءة البحث إلا وتحاصرك الدهشة والعجب بين صفحاته المؤلفة من 170 صفحة.
يمتد مسرح الأحداث من مصر إلى العراق مع وضع بلاد الشام في المركز وفلسطين في بؤرة الأحداث. أما الإطار الزمني فيشمل الفترة من نهاية الدولة الأيوبية (1250 م) وحتى الغزو المغولي أو بالتحديد معركة عين جالوت (1260) التي كانت إيذانا بترسيخ دولة المماليك التي ستعمر في مصر حتى الغزو العثماني في 1517م.
تحد كبير يواجهك في التعرف على عشرات أسماء الشخصيات التاريخية المتداخلة المختلطة. ما إن تتعرف على واحد منهم ودوره في التاريخ إلا وينتهي أمامك فجأة نهاية مأسوية قتلا وغدرا أو اغتيالا وخلعا.
ما إن تقنعك المصادر التاريخية بدور أحدهم البطولي في حماية مصر والمشرق العربي من خطر أجنبي (صليبي ومغولي) حتى تكشف لك التفاصيل عن ما دبره هذا البطل من دسائس وخديعة للإطاحة بأصدقائه/خصومه أو قتلهم أو نفيهم لتخلو له الساحة بمفرده، ثم سرعان ما يأتي بطل جديد في التاريخ يطيح به ويذيقه من نفس الكأس الدموي الغادر.
المدهش الذي لا تكاد تفهمه أنه رغم كل هذه الفوضى تسير عجلة التاريخ دون توقف. عشرات الشخصيات التي يتم اغتيالها وخيانتها بين سطور هذا البحث ومع ذلك لا يتوقف التاريخ بل تمضي مصر على درب التاريخ إلى الأمام وليس بالضرورة تتقدم نحو المستقبل !!
ففي خضم مؤامرات القصر في القاهرة يتمكن الصليبيون من احتلال دمياط والتوغل إلى المنصورة ولكن الجيش المملوكي يهزمهم شر هزيمة رغم كل الانقسامات والخيانة والغدر والمؤمرات الداخلية !
وفي وقت متزعزع للحكم في مصر بين المماليك يشن التتار حملتهم على مصر فيخرج لهم حاكم مصر الجديد "سيف الدين قظز" فينزل بهم شر هزيمة وينقذ المشرق العربي ومصر من توغلهم.
وقبل أن يعود هذا الملك المظفر إلى القاهرة التي كانت قد تزينت لاستقباله بالنصر يقوم قرينه في النصر ورفيقه "بيبرس البندقداري" بغدره واغتياله والجلوس مكانه على عرش مصر. لا تنزل القاهرة زينتها التي تزينت بها لاستقبال الملك المظفر قطز وهو عائد من فلسطين والشام منتصرا على التتار بل تستخدم نفس زينتها لاستقبال "بيبرس" قاتل رفيق الجهاد وحاكم مصر الجديد.
مؤرخنا هنا ملتزم للغاية بالمصادر العربية عن تلك الفترة، وخاصة مصدرين رئيسين: "المقريزي" و"ابن تغردي بردي". وصحيح هناك عشرات المصادر الأخرى بالعربية والإنجليزية لكن يظل المقريزي وابن تغري بردي يتكرران في كل صفحة لرواية ما حدث في مصر من هذه الأحداث الجسام.
يعود عمر هذا البحث لاكثر من 20 سنة مضت وقد كتبه صاحبة بطريقة تصلح للقراءة دوما وساهم في ذلك اللغة الانسيابية الأقرب في بعض الصفحات إلى مطبوعات الثقافة العامة التي تناسب القارئ غير المتخصص. وينبهنا المؤلف إلى أنه ليس من الصواب أن نحاكم التاريخ بمنطق ولغة عصرنا الحالي بل بمنطق زمانه. يستشهد المؤلف بما قاله المقريزي من منطق ذلك الزمان الذي كان يقوم على فكرتين رئيستين:
- المكر والدهاء والمهادنة إلى أن تحين الفرصة فيصل الحاكم إلى درجة من "التمكن" و"التمكين".
- أن الوصول إلى السلطة في مصر كان يقوم على مبدأ شهير في التاريخ السياسي هو "الحُكْم لمن غَلَب"
لا عجب في المنهج السابق، إذ لا شرعية لهؤلاء المماليك في حكم مصر فهم أصلا ضحايا جاءوا هنا أسرى تم خطفهم من تلك البلاد القوقازية وسهوب البحر الأسود وبحر قزوين بل بعض بلاد أرمينيا التي يرجح أن جاءت منها شخصية محورية في هذا البحث وهي السلطانة "شجر الدر". ولأنه لا شرعية في الحكم تصبح القوة والدماء هي الشرعية ويصبح القانون الصائب دوما هو "الحُكْم لمن غَلَب".
حالة من التناقض تسيطر على القارئ غير المتخصص في التاريخ مردها كيف يتجاوز كل هذه المشاهد المتقلبة في عصر المماليك ويغمض عينيه عن تلك الدماء والغدر لينظر فقط إلى 10 سنوات غيرت تاريخ مصر حين انتصر هؤلاء المماليك المتقاتلون على كل من الصليبيين في المنصورة والتتار في عين جالوت؟
لا يكتمل المشهد "الفوضوي المنظم" إلا بقراءة علاقات هذه الدول الإسلامية في مصر والمشرق بالإمارات الصليبية التي كانت قد نجت في احتلال بعض مناطق بلاد الشام واتخذت منها حصونا منيعة. هنا تجد الحكام المسلمين في كل من العراق والشام ومصر يتفاوضون مع هذه الإمارات الصليبية لطلب التحالف معها ضد بعضهم البعض بل إن بعض حكام هذه المناطق كانوا يتفاوضون مع المغول ضد أشقائهم المسلمين.
هذا البحث المهم القديم/الجديد متوفر استخلص فيه قاسم عبده قاسم ما قدمه المؤرخون الكبار أمثال المقريزي وابن تغري بردي وغيرهم من تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر مع تعليقات حذرة وملتزمة منهجيا.
الفتوح العربية الكبرى !
اختار قاسم عبد قاسم في مشروعه الكبير للترجمة نقل كتاب المؤرخ الإنجليزي هيو كينيدي الذي يزيد حجمه عن 500 صفحة والذي يحمل عنوان " الفتوح العربية الكبرى: كيف غير انتشار الإسلام العالم الذي نعيش فيه؟".
هذا الكتاب يكشف عن معالجة مهمة للغاية عاد فيها المؤلف إلى مصادر عربية مثل تاريخ الطبري لكنه وازن النصوص مع مصادر بيزنطية وأوروبية معاصرة لتلك الفترة. وأجمل ما في الكتاب أن المؤرخ يقرأ علينا الأحداث التي نعرفها لكنه ليس أسيرا مثلنا، هو متحرر من الانتماء العقائدي، متحرر من أي مخاوف من تصنيف الأقران (العرب والمسلمين) ولذلك جاءت معالجته بالغة الجدة والطرافة والذكاء والخيال أيضا.
كيف ينظر هذا المؤرخ إلى خلافة المسلمين بعد وفاة النبي (ص)؟ كيف يقيم الشخصيات الإسلامية الخالدة مثل عمرو بن العاص وخالد بن الوليد بل وكيف يحلل حدث الخلافة بعد وفاة النبي (ص) ولماذا يعتبر هذا الحدث "انقلابا"؟
لماذا يرى المؤلف أن حروب الردة كانت فرصة تاريخية عظيمة للمسلمين اكتشفوا من خلالها أنفسهم فيما يشبه التمرين والتدريب العسكري على الفتوحات الإسلامية التي توسعت وغزت الشرق والغرب فيما بعد؟ ولماذا سقطت بسرعة الإمبراطوريات الكبرى أمام جيوش متواضعة من أولئك العرب المجردين من أي تقنيات حربية حديثة سوى القيادة الماهرة، وخفة الحركة، والروح المعنوية الفريدة؟
هذه ليست كل الأسئلة بل هي أسئلة "فاتحة للشهية" يستهل الكتاب من خلالها مشواره الطويل بحكاية طريفة لأحد الرهبان المسيحيين في العراق الذي كان يدون تاريخ العالم بعيد الفتوحات العربية وقد اندهش من سرعة الفتح وشمولية الخريطة التي احتلها المسلمون وحاول أن يجيب عن السؤال: لماذا حدث كل ذلك؟ وكيف تم ذللك بهذه السرعة؟ لم يجد الراهب سوى إجابة واحدة: "إنها إرادة الرب"!.
لا يستسلم مؤلف الكتاب لمقولة الراهب العراقي، ويتجاوز القول القدري بإرادة الرب إلى البحث في مئات المراجع عن إجابة لهذا السؤال التاريخي المهم.
"الفتوح العربية الكبرى" كتاب رائع لمؤرخ إنجليزي ذكي الفكرة واسع الاطلاع، وتأتي فائدة الكتاب أيضا من العنوان الفرعي الذي يسأل "كيف غير انتشار الإسلام العالم الذي نعيش فيه؟"
هذا الكتاب نقله بعربية رائقة وملتزمة ورصينة المؤرخ المصري الجليل الذي رحل عن دنيانا أ.د قاسم عبده قاسم.