دراسات

بول لو بلان

قراءة معاصرة للثورة الروسية

2017.09.12

تصوير آخرون

قراءة معاصرة للثورة الروسية

 

أمر مُذهِل الذي حدث في عام 1917. سأحاول فيما يلي، وقبل كل شيء، أن أحكي طرَفًا من ذلك، لكنني سأنتقل بعد ذلك إلى القيام بشيء آخر. «الشيء الآخر» الذي أريد أن أقدمه هو المساعدة في تحديد ما هو المهم وغير المهم في نهج فلاديمير لينين ورفاقه في الحزب البلشفي، الذين قادوا هذا التمرّد المُظفّر في أكتوبر 1917.

لقد حاول الناس فهم ثورة روسيا منذ يومها الأول. وكما يوضح جون ريد في عام 1919 فيما دَوَّنَه في شهادته العظيمة «عشرة أيام هزت العالم»: «بغض النظر عما نعتقد حول البلشفية، لا يُنكر مُنكر أن الثورة الروسية أحد أعظم الأحداث في تاريخ البشرية، وأن صعود الظاهرة البلشفية حدث ذو أهمية عالمية». لقد شهد ريد تلك الأحداث بنفسه مع ثلاثة من أصدقائه؛ لويس براينت وبيسي بيتي وألبرت ريس وليامز، وجميعهم صحفيون يساريون من الولايات المتحدة، يحاولون فهم تلك التطورات المدهشة التي شهدوها بأنفسهم. وقد دونت براينت في شهادتها «ستة أشهر في روسيا الحمراء»، عام 1918 قائلة: «أشعر أنني ذهبت لجمع الحصى فحصدّت الدُرّ». وقالت بيتي في كتابها «في قلب روسيا الحمراء» في نفس العام: «سيمنح الوقت للحرب العالمية، والثورة السياسية، والثورة الاجتماعية قيمهم الحقيقية. نحن غير قادرين على عمل هذا، فنحن أقرب من أن نرى الحقيقة»1.

وفي كتابه «في خضم الثورة الروسية» في عام 1921 وصل ألبرت ريس وليامز إلى بعض تلك الحقائق من خلال التفكير في الأسباب والنتائج، والعوامل الموضوعية والذاتية، وهذا ما قاله: «لم يكن الثوار هم من صنعوا الثورة... لقد غضب النساء والرجال المُلهمين في روسيا من قمع الشعب طوال قرن من الزمان... ومن ثم أصبحوا مُحرضين... إلا أن الناس لم تتحرك... حتى حَلَّ المُحرِّض الأعظم: الجوع. الجوع الذي انتشر نتيجة الحرب والانهيار الاقتصادي، حاد بالجماهير الخاملة إلى العمل، ليهبوا في وجه البنية العفنة ويسقطوها أرضًا... إلا أن الثوار كان لهم دورهم أيضًا، إنهم لم يخلقوا الثورة، بل وفروا عوامل نجاحها بجهودهم في إعداد مجموعة من الرجال والنساء ذوي العقول المُدربة على رؤية الحقائق، وببرنامج عمل ملائم للواقع، وبتحويل الطاقة إلى مجراها الصحيح.»2

على مدار القرن الماضي، قام الثوريون، ومن سيكونون ثوريين، في جميع أنحاء العالم بنقد غَثِ تجربة 1917 وثمينها، وتأملوا في الوقائع بحثًا عن الحقائق التي قد تُعينهم في سياقاتهم الخاصة على تكرار ما أنجزه البلاشفة في روسيا.

في محاولة لتقييم تجربة حدثت منذ قرن من الزمان برؤية تهدف لالتقاط شيء يمكن استخدامه هنا والآن، يجب على المرء أن يكون على وعي بالتراكم المذهل للتجارب التاريخية، والتي غالبًا ما كانت تجارب فاجعة، التي حدثت خلال القرن المنصرم، ناهيك عن الانتشار غير العادي للتكنولوجيا (الكهرباء، والإنترنت، وغيرها)، والتطورات المتناقضة المتضمنة في مصطلح العولمة. كذلك هناك التوسع الشديد للطبقة العاملة العالمية الذي يقابله التفكك المروّع للتنظيمات العمالية والحركات الاشتراكية التي كانت ضخمة في الماضي، بل التحلل الهائل وإعادة التشكل الذي حدث للبروليتاريا بسبب الدينامية المذهلة المتجذرة في النظام الرأسمالي، والتحولات الجمة التي حدثت للثقافة والوعي. كل هذا يُشكل تحدٍ كبير بالنسبة لأولئك الذين يطمحون في اتخاذ الثورة الروسية نموذجًا لعصرنا الحاضر.

دعونا نذهب لبضع دقائق بعيدًا عن تلك التناقضات لنُذكر أنفسنا بما حدث في الثورة الروسية، ولنسبر أغوار ما اعتبره ألبرت ريس وليامز عنصرًا أساسيًا لنجاح الثورة: التنظيم الثوري. ثم سنعود بعد ذلك إلى مناقشة ضرورات الواقع المعاصر.

ما الذي حدث في 1917؟

 

لقد تضمن سياق الثورة تراكمًا ضخمًا على مدى قرون طويلة من القهر المرتبط بالإمبراطورية القيصرية العاتية، جنبًا إلى جنب مع زعزعة الاستقرار والاستغلال المكثف الذي تسبب فيه التحديث الرأسمالي، بالإضافة إلى تبعات مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى الدموية المرعبة.

لقد بدأت الثورة في مسيرات يوم المرأة العالمي في 8 مارس (23 فبراير وفقًا للتقويم القيصري القديم). خرجت النساء العاملات «عن كل سيطرة» ليشعلن حركات تمرد أخرى كبيرة بين العاملين في بتروجراد، مع رفض المنخرطين في صفوف الجيش من الرتب العسكرية الدنيا أن يقمعوا انتفاضة الشعب، بل وانضمامهم إليها أيضًا. ونظمت حشود العمال والجنود (وهؤلاء كانوا مُجرد فلاحين في زي رسمي) شبكة متنامية من المجالس الديمقراطية -وتعني «سوفييت» باللغة الروسية- لتنسيق جهودهم. لقد طالبوا، بالإضافة إلى الحرية (حرية التعبير والتنظيم، والمساواة في الحقوق بين الجميع، وحق العمال في تكوين النقابات وما إلى ذلك)، بالخبز والسلام، وأيضًا بملكية الأراضي للأغلبية التي تتشكل من الفلاحين المقهورين.

وفي أعقاب الانهيار المفاجئ للنظام الملكي قامت مجموعة من الساسة «الأكثر واقعية» و«الأكثر عملية» -من الليبراليين والمحافظين والاشتراكيين المعتدلين- بتشكيل حكومة مؤقتة. وأشادت تلك الحكومة المؤقتة بكل قوتها بالعمال والفلاحين والجنود والبحارة، وأشادت بالسوفيتات، واستخدمت كل ما هو ممكن من عبارات ديمقراطية شعبوية وطنية بلاغية، ووعدت بتنفيذ ما طالب به الشعب: السلام والخبز والأرض. السلام مع العزة، بالتأكيد، والخبز في أقرب وقت يُمكن توفيره في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد، وبالتأكيد إعادة توزيع عادل ومنصف للأراضي مما سيعود بالنفع على الفلاحين الفقراء، لكن بالطبع، دون انتهاك حقوق ملاك الأراضي الأثرياء.

وكان البلاشفة بقيادة فلاديمير إيليتش لينين هم الفصيل الأكثر نضالية في الحركة الاشتراكية الروسية، وانضم إليهم ليون تروتسكي وعدد آخر ظل في تزايد. وأصر البلاشفة على أن تحقيق سلام حقيقي -ناهيك عن الخبز للعمال والأراضي للفلاحين- لا يُمكن أن يتم إلا بأيدي أولئك الذين أطاحوا بالقيصر، لا السياسيين من الحقبة البائدة المرتبطين بالعمل السياسي المعتاد وببنى سلطة الأثرياء. ولن تتحقق تطلعات أولئك الذي أسقطوا القيصر إلا بالإطاحة بالحكومة المؤقتة، وباستحواذ السوفيتات على كل السلطة. هذا ما آمن به لينين ورفاقه، وما اعتقدوا أنه سيؤدي إلى ثورة عمالية عالمية من شأنها أن تُنهي الحرب والإمبريالية وتؤدي إلى القضاء على كل طغيان وتُنهي الرأسمالية وتنتقل إلى الاشتراكية.

ومن خلال التجربة التي مر بها الناس من شهر مارس إلى شهر أكتوبر في سنة 1917 حاز البلاشفة على الأغلبية في السوفيتات بشعارات مثل «السلام! الأرض! الخبزّ! تسقط الحكومة المؤقتة! كل السلطة للسوفيتات!» ليقوموا بالثورة الثانية في عام 1917 في 7 نوفمبر (25 أكتوبر وفقًا للتقويم القديم).

عندما أبرق جون ريد بالأخبار إلى الولايات المتحدة، أوضح قائلًا: «تسير مجالس الفلاحين والعمال والجنود تحت قيادة لينين وتروتسكي. ويهدف برنامجهم إلى إعطاء الأرض للفلاحين، وتمكين المجتمع من الموارد الطبيعية ومن الصناعة، وعقد مؤتمر يدعو للسلام والهدنة... ليس هناك من يؤيد البلاشفة سوى البروليتاريا، لكن تلك تقف بقوة معهم. البرجوازية وذيولها معادية بلا هوادة.»3

وكتب لينين بيانًا أُرسِلَ إلى كل سكان روسيا في نوفمبر 1917 يوضح فيه نواياهم:

«لقد كُللت ثورة العمال والفلاحين بنصر تام في بتروجراد... وانتصرت الثورة في موسكو أيضًا... التقارير اليومية واللحظية تأتي من الجبهة ومن القُرى لتُعلن دعم الأغلبية الساحقة من الجنود في الخنادق والفلاحين في الأقاليم للحكومة الجديدة وقراراتها بشأن السلام ونقل ملكية الأراضي الفوري للفلاحين. إن انتصار الثورة مضمون لأن أغلبية الشعب قد اختارت صفها.

«أيها الرفاق والعُمال، لتعلموا أنكم الآن رأس الدولة، ولن يقف أحد بجواركم إن لم تنتفضوا بأنفسكم مُتحدين للاستحواذ على مقاليد الدولة. إن مجالسكم الديمقراطية من الآن فصاعدًا هي أجهزة سلطة الدولة، وكيانات تشريعية لها كافة الصلاحيات.

«أيها الرفاق والعمال، والجنود والفلاحين وكل الشعب العامل. ضعوا كل السلطة في أيدي مجالسكم الديمقراطية، تيقّظوا واحرسوا أراضيكم، ومصانعكم، وأدواتكم ومنتجاتكم واحرصوا عليها كحبّات عيونكم، فمن الآن فصاعدًا سيصبح كل هذا ملكًا لكم؛ ملكية عامة. وبالتدريج، وبموافقة أغلبية الفلاحين تماشيًا مع خبراتهم العملية، وكذلك بالنسبة للعمال، سنمضي قُدُمًا بثبات وتؤدة لانتصار الاشتراكية، النصر الذي سيُتَوجه العمال المتقدمون في الدول الأكثر تحضرًا، الذي سيحقق للبشر السلام الدائم ويُحررهم كل قهر واستغلال.»4

نجد في هذا البيان عدّة نقاط رئيسية تُعيننا على تحديد معنى ثورة أكتوبر. فبالنسبة لقادة الثورة كان حجر زاوية العمل هو أن أغلبية الشعب -الذين يضمن عملهم ووجودهم استمرارية المجتمع- هم من يجب أن يقود المجتمع. وتشمل هذه الديمقراطية الثورية تحالفًا يضم قطاعات عدّة من الجماهير العاملة -العمال والفلاحين في هذه الحالة- للعمل سويًا من خلال مجالسهم الديمقراطية (السوفيتات) لإدارة الشئون السياسية في الدولة الجديدة. وتشمل أيضًا بسط سيطرتهم على مجمل الاقتصاد الذي سيصبح ملك الجميع وسيُستخدم لصالح الجميع تحت سيطرة الجميع؛ وهذا ما تعنيه الاشتراكية. وقد طُرحت هذه الديمقراطية الجذرية القائمة على تحالف العمال والفلاحين، مع الديمقراطية السياسية المرتبطة بالديمقراطية الاقتصادية للاشتراكية؛ باعتبارها السبيل الوحيد لكسب السلام الدائم والتحرر من كل قمع أو استغلال. وفي نفس الوقت، لا يمكن الحفاظ على هذا الانتصار إلا على صعيد عالمي، من خلال أممية ثورية. ويجب أن ينضم للعمال والفلاحين في الدول المتخلفة اقتصاديًا الطبقات العاملة في المزيد والمزيد من الدول الرأسمالية المتقدمة، من أجل أن يقوموا بثوراتهم الاشتراكية الخاصة. لقد حاولت روسيا الثورية أن تدل الجماهير العاملة في جميع أنحاء العالم على الطريق للاتحاد وأن تحثهم على التحرر من قيود الاستبداد ليخلقوا عالم جديد يُمكن أن يوفر التنمية الحرة للجميع.

إن الأُطُر التي رُسِمَت حُدودَها توًا، بقدر ما فيها من فائدة، قد خلّفَت الكثير من التعقيدات التي تُعيق غرضنا المتمثل في فهم ما قد حدث بالفعل. وقد لخّص المؤرخ الاجتماعي ريكس ويد، في بداية القرن الحالي، الكثير هذه التعقيدات بشكل ملفت يستحق أن نقتبسه بشكل مطول، قائلًا:

«كانت الثورة الروسية في 1917 سلسلة من الثورات المتزامنة والمتداخلة: الثورة الشعبية ضد النظام القديم، وثورة العمال ضد عَنَت النظام الاقتصادي والاجتماعي القديم، وثورة الجنود ضد نظام الخدمة العسكرية القديم، ثم ضد الحرب ذاتها [أي: الحرب العالمية الأولى]، وثورة الفلاحين من أجل الأرض ومن أجل السيطرة على حياتهم الخاصة، وسعي عناصر الطبقة الوسطى من أجل الحقوق المدنية والنظام البرلماني الدستوري، وثورة الجنسيات غير الروسية من أجل حقوقها بما فيها حق تقرير المصير، وثورة أغلبية الشعب ضد الحرب ومذابحها التي لا يبدو أنها ستنتهي. لقد ناضل الناس أيضًا حول الرؤى الثقافية المتباينة، وحول حقوق المرأة، وبين القوميات، ومن أجل الهيمنة بين المجموعات الإثنية والعرقية وداخل الأحزاب السياسية، ولتحقيق الكثير من الطموحات على مستويات كبرى وصغرى. حدثت هذه الثورات المختلفة والصراعات الجماعية في سياق عام من عدم التوازن السياسي وتزايد الفوضى الاجتماعية والانهيار الاقتصادي والحرب العالمية الدائرة. ساهم هذا في حيوية الثورة والإحساس بالفوضى الذي غالبًا ما طغى على الناس في عام 1917. لقد دفعت ثورة 1917 روسيا بسرعة جنونية إلى الليبرالية والاشتراكية الوسطية ثم الاشتراكية الراديكالية بمراحلها، وفي نهاية المطاف، إلى استحواذ أقصى يسار عرفته روسيا، بل وأوروبا أيضًا، على السلطة. توازت الثورة الاجتماعية الكاسحة مع الحركة السياسية السريعة، وكل ذلك في فترة مكثفة بشكل ملفت؛ أقل من عام واحد.»5

يُمدنا هذا التلخيص الذي كتبه ويد بصورة بانورامية تتطابق في نواح عِدّة مع الحقائق التي يجب أن تؤخذ في الحسبان لاستكشاف الثورة في مجتمعاتنا في القرن الحادي والعشرين. كما يطرح عدة أسئلة تستحق الاهتمام سواءً بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى فهم الحدث تاريخيًا، وأيضًا بالنسبة لمن يسعون إلى معرفة كيف لنا أن نصنع التاريخ بأنفسنا.

لكن قبل المضي قدمًا في هذه الأسئلة، يجب أن نلاحظ أن علينا أن نكرس بعض الاهتمام للإجابة على التساؤل الهام حول الخطأ الذي حدث. لقد بدا أن هذا الأمر يسترعي الانتباه حين شعر ألبرت ريس وليامز بأنه مضطر لكتابة تلك الكلمات في تقريره عام 1921 حول الثورة الروسية: «قمع وطغيان وعنف' هكذا يصرخ أعداء الثورة. 'لقد صادروا حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية التجمع، وفرضوا تجنيدًا عسكريًا صارمًا وعملًا إلزاميًا، وفشلوا في إدارة الحكومة والصناعة، وأخضعوا المجالس الديمقراطية للحزب الشيوعي. لقد تخلوا عن مُثُلهم الاشتراكية، وغيروا وبدّلوا برامجهم ووصلوا لتسويات مع الرأسماليين»». يرد وليامز على هذه القائمة من التهم قائلًا إن «بعض هذه الاتهامات مبالغ فيه، والكثير منها يمكن تبريره، لكن لا يمكن تبرريها جميعًا. لقد حزن أصدقاء السوفييت على ما لحق بهم. وقد استعدى مخالفوهم العالم عليهم للتظاهر ضدهم...»

ومع ذلك، لا يُمكن العثور في عبارات وليامز إلا على مقدمة لما سيصبح مأساة شيوعية بعد ذلك6.

 

درس للاعتبار

 

في عصرنا الحالي، الحقيقة هي أنه بالنظر إلى طبيعة الكارثة التي نواجهها على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي، فنحن لا نملك الوقت الكافي للحيلولة دون ما حذرتنا منه روزا لوكسمبورج: الانحدار نحو البربرية، أي «انهيار الحضارة كما حدث في روما القديمة، وتدمير السكان والخراب والانحطاط؛ مقبرة عظمى»7.

إن هذا يقودنا إلى ضرورة تعلم وتطبيق الدروس الإيجابية من الماضي. يُمكن للمرء أن يأمل، وسط كل الصراعات الحالية التي نخوضها، أننا إذا ألزمنا أنفسنا بتعلم الدرس بشكل صحيح، قد يُسهل هذا عملية خلق وعي وقوة منظمة، ربما تُقارب ما فعله البلاشفة للانتصار في عام 1917. وبهذا المعنى، تكتسب كلمات روزا لوسكمبورج الختامية في عملها المثير للجدل «الثورة الروسية» في عام 1918 صدى قوي في وقتنا الحاضر. لقد كانت الغالبية العظمى من قيادة حزبها الاشتراكي الديمقراطي الألماني تتبع نفس مسار الاشتراكيين المعتدلين في روسيا الذين دعموا الحكومة المؤقتة بدلًا من المجالس الثورية الديمقراطية، أي سوفيتات جماهير العمال المتمردة.

لقد رأينا نفس الديناميكية في عقدنا الحالي، وأكثرها درامية حدث في البرازيل (بالرغم من الراديكالية المبدئية لحزب العمال)، وفي جنوب أفريقيا (بالرغم من النضال البطولي الذي قاده المؤتمر الوطني الأفريقي)، وفي اليونان (بالرغم من الوعود الثورية الأولى لسيريزا).

ما قالته روزا لوكسمبورج هو إنه «لطالما كانت، وما زالت، الاشتراكية هي سؤال عصرنا الحاضر الملتهب»، ولطالما ظلت متطلباتها الرئيسية تتضمن «القدرة على الفعل لدى البروليتاريا، وقوة الفعل، وإرادة السلطة الاشتراكية»، مؤكدة أن «لينين وتروتسكي وأصدقائهما كانوا أول مثال يُحتذى للبروليتاريا في العالم في ذلك»، وأنه «بهذا المعني فالمستقبل في كل مكان مرتبط بشكل وثيق بالبلشفية»8.

كلمات روزا لوكسمبرج هذه تطرح أكثر من تحدٍ بالنسبة لنا اليوم، بينما نحن نسعى لفهم ثورة أكتوبر 1917، وإمكانية انطباقها على 2017.

ربما تكون هناك مؤشرات مفيدة لنا فيما كانت لوكسمبورج تتبناه في التوجه البلشفي اللينيني. لقد تغير النظام الرأسمالي والواقع الإنساني من نواح عدة منذ عام 1917، لكن يبقى الأمر الأساسي أن السبيل الوحيد للتغلب على الطغيان والاضطهاد يمر من خلال جهودنا نحن، ومن خلال تحالفات تستطيع توحيد كل الجماهير العاملة المضطهدة، ومن خلال تأسيس الديمقراطية السياسية والاقتصادية ذات الطابع الاشتراكي، ومن خلال فهم ذلك كعملية عالمية. كل هذا يحتفظ بصحته إلى وقتنا الراهن. وهناك درس إيجابي آخر هو أنه إذا كنا جادين بالنسبة لكل هذا، فمن الواجب أن نعبر عما نعتقده، بشكل مدوي وواضح، ومنذ البداية وباستمرار، وأن نقوله بطرق تمكن عددًا متزايدًا أكثر فأكثر من الناس من الفهم، وأن نقوله بطرق تمكن عددًا متزايدًا أكثر فأكثر من الناس أن يشعروا أن ما نتحدث عنه متصل بحياتهم وواقعهم.

عندما ننظر إلى التاريخ الفعلي لكيفية عمل الثوريين على مر السنين، سنجد أن ذلك لا يعني مجرد إلقاء المحاضرات على الناس، بل الإنصات إليهم والتعلم منهم ودمج ما نفهمه مع ما يفهمونه. وسنجد أيضًا أنه يعني أن ننخرط في صراعات فعلية يشارك فيها عدد أكبر من الناس، أو على الأقل يكون مستعدًا للمشاركة فيها، وهي صراعات ليست خاصة بالاشتراكية الثورية بل بالنضال من أجل الخبز، أو على الأقل صراعات على انتزاع قدر من الكرامة الأساسية، أو من أجل التوسع في بعض الحقوق المحدودة وبعض الرفاهية. يمكن أن يتعلم الثوريون وغير الثوريين دروسًا هامة بينما يعملون معًا لتحقيق أهداف محدودة كهذه. يمكن إثراء وجهات النظر الثورية بمثل هذه الطريقة. وبقدر ما تكون وجهات النظر الثورية تلك منطقية سيمكن لتجارب النضال هذه أن تساعد المزيد والمزيد من الناس على تعلم الدروس.

ويتعلق كل هذا بالنقطة المتضمنة في تعليق ألبرت ريس وليامز، وهي أن هذه العملية لا يُمكن أن تتقدم وتتماسك إلا من خلال تطوير جاد لتنظيم من النشطاء. يجب على مثل هذا التنظيم أن يساعد أعضائه على تطوير فهمهم للواقع ورؤيتهم للمستقبل الأفضل الممكن، وأن يساعدهم على تكوين مفهوم واقعي لكيفية الانتقال من مرحلة إلى الأخرى. بالإضافة إلى تطوير مجموعة من المهارات السياسية العملية التي تمكنهم من تحقيق هذا. لقد اتفق كل الثوار الروسيين، من البلاشفة وغيرهم، مع هذا، إلا أن لينين ورفاقه قد أثبتوا أنهم الأكثر فاعلية في تحقيقه. ولهذا السبب، سيكون من المنطقي أن نولي الاهتمام للحزب الثوري الذي طوروه، وإمكانية تطبيقه في واقعنا من عدمه.

إن عالمنا مكان مختلف كليًا عما كان عليه قبل مائة عام، لكن ذلك ليس بالأمر السلبي بشكل كامل من وجهة نظر ثورية. لقد تضاعف عدد العمال في العالم بشكل كبير، وهم يشكلون الآن نسبة أكبر بكثير من سكان العالم عما كان الحال وقت الثورة الروسية. هناك تغيرات ثقافية وتكنولوجية مذهلة، بعضها جعل شعوب العالم أكثر قربًا من بعض، مما يضع بين أصابعنا -حرفيًا-  إمكانات مدهشة لتبادل المعرفة والتواصل، ويخلق في الوقت ذاته فرصة للإنتاجية والوفرة التي تعزز من الفرصة المادية للاشتراكية.

لكن وعي الطبقة العاملة هو في نواح كثيرة أقل، والارتباك والانقسام والتشظّي داخل الطبقة العاملة أكبر بكثير. لقد تآكلت الحركة العمالية المنظمة، بل وانهارت في بعض الحالات، وفي بعض الأحيان الأخرى تحولت إلى أجهزة بيروقراطية واندمجت في الوضع الرأسمالي الراهن، وارتبطت بشكل وثيق بنخب الحكم ورجال الأعمال، وانزوت عن حياة العمال العاديين اليومية.

وفي العقود الأخيرة، أخذ بريق العولمة الرأسمالية يتبدد على نحو متزايد، حيث يعاني كثير من الناس في جميع أنحاء العالم من تدهور ظروف المعيشة، والاستغلال المتزايد، وتدهور ثقافي وبيئي متنامي، وتدهور المجتمعات، وعدم استقرار اجتماعي متزايد، ناهيك عن العنف والإرهاب والحرب اللذين لا يبدو أن لهما نهاية. وقد أخذ السياسيون التقليديون من الاتجاه العام السائد -الذين تعتمد بضاعتهم على الثرثرة المطمئنة بشأن الوضع الراهن- في فقدان مصداقيتهم. وقد بدأ كثير من الناس في التطرف تحت تأثير حقائق عصرنا. فاستجاب البعض لنداءات الأصوليين الدينيين، والقوميين المتطرفين المحافظين، والديماجوجيين الشعبويين، والعنصريين الذين وعدوا بـ«إصلاح» خاص أو آخر.

إن مسؤوليتنا ليست مجرد الاحتجاج وصد مثل هذه المسارات المدمرة والكاذبة، ولكن بناء حاضر مماثل لما كانه البلاشفة من حيث تعبيرهم عن الديمقراطية الجذرية وقوى الطبقة العاملة، لنشكل بديلًا أصيلًا قادرًا على كسب دعم الجماهير في نهاية المطاف. علينا بناء تلك القوى في المزيد والمزيد من البلدان من منطلق -يمتد للعقدين القادمين- المساعدة في استكمال ما بدأته الجماهير الروسية في عام 1917: القيام بنضالات حقيقية قادرة على وضع السلطة السياسية والاقتصادية في أيدي الطبقة العاملة.

النهج الثوري

 

يتفق بعض ما تم توضيحه أعلاه مع تأكيد جان بول سارتر الشهير بأن الماركسية «أبعد ما تكون عن النفاد»، وهي «لا تزال تمثل فلسفة عصرنا هذا». كذلك «نحن لا نستطيع تجاوزها حيث أننا لم نتجاوز الظروف التي أدت إليها»9.

 لقد تغير الكثير بالطبع منذ زمن ماركس، إلا أن أشياء أخرى كثيرة ظلت على حالها. وعلاوة على ذلك، فجوهر المنهجية الماركسية ذاته يفترض أنه ليس هناك ما هو ثابت سوي التغيير، كما يدعو إلى الاستمرار في الاختبارات العملية والتنقيح والتعديل للتكيف مع المتغيرات. 

استقر في قلب المنظمة التي سعى لينين لبنائها اعتناق تام للتوجه الذي طوره ماركس وإنجلز والذي يعرف بـ«بالاشتراكية العلمية». وكان جزءًا لا يتجزأ من هذا التزامه بتضفير الاشتراكية مع وعي الطبقة العاملة ونضالاتها. وكان الالتزام بالمشاركة في نضالات العمال من أجل تحسين بعض الأوضاع الراهنة مرتبطًا بالنسبة له بمجهودات تطوير الوعي الاشتراكي.

إلا أن لينين أصر على أن الماركسية الحقيقية «ليست عقيدة جامدة، بل دليلًا للعمل» يتعارض مع «مجرد عملية حفظ وتكرار الصيغ التي لا تستطيع في أحسن الأحوال إلا تحديد مهام عامة، والتي هي بالضرورة قيد التغيير بفعل الظروف الاقتصادية والسياسية الواقعية الملموسة لكل مرحلة محددة من مراحل العملية التاريخية». كما شدد على أنه «حيث أن تاريخ العالم ككل يتطور وفقًا لقوانين عامة، فإنه لا يمكننا منعه بأي حال من الأحوال، ولكن على عكس ذلك، يفترض، أن فترات محددة من التطور قد تبرز سمات مميزة سواء في شكل أو تسلسل هذا التطور».

في قلب ماركسية لينين توجد فكرة أن «كل أمة تتخذ نفس المسار التاريخي»، إلا أن كلًا منها تتبع «طرقًا جانبية ومسارات متعرجة شديدة الاختلاف». وقد أوضح لرفاق الأممية أن «الأمم الأكثر ثقافة وتحضرًا تتقدم بطريقة مختلفة عن تلك الأقل تحضرًا».

في عام 1921، كان لينين يحث رفاقًا آخرين على «الامتناع عن نسخ وتكرار التكتيكات التي اتخذناها وأن يقوموا بدلًا من ذلك بتنويعها جيدًا وتكييفها بما يتماشى مع الظروف المحددة المختلفة». فكان يقول للإيطاليين إن المبادئ «يجب أن يتم تكييفها مع الظروف الخاصة لمختلف الدول. فسوف تنحو الثورة الإيطالية مسارًا مختلفا عن الثورة الروسية. سوف تتخذ بداية مختلفة. ولكن كيف؟ لا أنت ولا نحن نعلم». وفي عام 1922 كان يشرح لرفاقه في الأممية أنهم لا يجب أن «يضعوا التجربة الروسية في المحراب ويتخذوها أيقونة للعبادة»10. فالماركسية الثورية في نظره يجب أن تطوَع وتصبح قابلة للتطبيق في ظل ظروف محددة لبلد محدد وفي بيئة ولحظة تاريخية بعينها.

وقد جمع نهج لينين بين المرونة القصوى ولكن مع الالتزام الراسخ بمبدأ أساسي. «واقعية الثورة: هذا هو جوهر فكر لينين وحلقة الوصل الدقيقة بينه وبين ماركس»، على حد تعبير جورج لوكاش. فبالنسبة لماركس، «المادية التاريخية باعتبارها التعبير النظري عن نضال البروليتاريا من أجل التحرر لم يكن من الممكن إدراكها وصياغتها نظريًا إلا عندما أصبحت الثورة بالفعل على الأجندة التاريخية كواقع عملي». وفي الوقت الذي أكد فيه لوكاش أن «أيًا من ماركس أو لينين لم يفكر على الإطلاق في واقعية الثورة العمالية وأهدافها باعتبارها قابلة للتحقق بسهولة في أي لحظة»، إلا أنه لاحظ أن بالنسبة لكليهما «تطور الرأسمالية قد حول ثورة البروليتاريا إلى قضية يومية». وفي رأيه، كان لينين استثنائيًا في «تطبيقه لتلك الفكرة واستخدامها لوضع خطوط إرشادية متماسكة في مواجهة جميع المسائل المطروحة على الأجندة اليومية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، وسواء كانت متعلقة بالنظرية أو التكتيك، أو متعلقة بالتحريض أو التنظيم»11. وكان هذا الافتراض الصلب فيما يتعلق بالحاجة إلى ثورة الطبقة العاملة وإمكانية تحقيقها هو المعيار الذي يقاس به كل شيء ويقيم وينفذ.

التنظيم

 

وصف ماكس إيستمان، صديق جون ريد القديم، استنادًا إلى دراسته الخاصة المكثفة لروسيا السوفيتية في العشرينات، الحزب البلشفي باعتباره «منظمة من نوع لم يكن موجودًا من قبل. فهي تجمع بين السمات الأساسية للحزب السياسي والاتحادات المهنية والنظام المقدس والجيش والجمعيات العلمية. ومع ذلك فهي لا تمثل عصبة ضيقة بأي معنى من المعاني». وأوضح أن الحزب البلشفي «بدلًا من تعزيز نفسية عصبوية في أعضائه، يعزز علاقة معينة تجاه القوى الطبقية المهيمنة في المجتمع كما عرفها ماركس. وقد تم تحديد هذه العلاقة من قبل لينين كما عدلها تدريجيًا بنفسه بكياسة لم يكن ماركس ليحلم بها»12.

إن الافتراض أنه لم تعد هناك حاجة لمثل تلك المؤسسة لإحداث التغيير ليس أمرًا صحيحًا. فإذا لم تكن هناك حاجة إلى تغيير اجتماعي وسياسي جوهري، فلن تصبح تلك المنظمة التي يصفها إيستمان ضرورية. بتعبير آخر: إذا كانت الإنسانية قادرة تمامًا على التواصل عن طريق التخاطر عن بعد، أو إذا كانت قادرة على فهم الحقائق المعقدة للتاريخ والمجتمع الحالي والاستجابة لها على نحو فوري وجماعي، كوحدة عضوية كاملة تصوغ وتنفذ خطة عمل بطريقة أو أخرى، فإن منظمة من النوع الذي يصفه إيستمان لن تكون ضرورية. لكن إذا لم يكن أيًا من هذه الافتراضات صحيحًا، فربما يكون لشيء مشابه لما يصفه إيستمان ضرورة.

من الجدير هنا محاولة تحديد الجوانب الرئيسية لتوجه تنظيم البلاشفة بقيادة لينين. جزء مهم من هذا الجوانب ارتبط بخصوصية الوضع الروسي والمرحلة التاريخية للرأسمالية قبل قرن من الزمان. ومع ذلك، لا يزال هناك الكثير في التوجه اللينيني-البلشفي مما يبدو مناسبًا للتطبيق بشكل أكثر شمولًا.

هنا تأتي مسألة استقلالية الطبقة العاملة في المقدمة. حيث ركز لينين على وجود شرائح داخل الطبقة العاملة –شريحة متقدمة من العمال الناشطين الواعين والملتزمين؛ شريحة متوسطة من العمال الواعين؛ وشريحة أدنى من العمال غير الواعين بعد– وطرح أن بلورة وعي الشريحة المتقدمة من خلال شبكة تنظيمية متماسكة ضرورة لتحقيق تأثيرها على مجمل الطبقة وعلى مسار الصراع العام.

النقطة الثانية هي أنه في مقابل بعض مؤيدي اقتصار التركيز على الطبقة العاملة وأماكن العمل والنضالات الاقتصادية، أصر لينين على أن يكون الاشتراكيون الثوريون «مدافعين عن الشعب»، وأن ينغمسوا في كل حركة تواجه مختلف أشكال القمع التي تعاني منها جميع الفئات الاجتماعية المضطهدة من السكان.

ومن هذا المنطلق كان يجب الاهتمام ليس فقط بالطبقة، بل بالنوع، والجنسية والعرق والإثنية وهويات إضافية، مع الحفاظ على تواجد ومركزية قضية الطبقة دون التقليل من شأن مسألة الهويات الأخرى. (ويبدو أن هذا النهج يتسرب إلى مفاهيم حالية أكثر حداثة للهويات المتقاطعة). وكان التركيز القوي على النضال من أجل الديمقراطية الكاملة كطريق إلى الاشتراكية، وكذلك ربط النضالات من أجل الديمقراطية بالاشتراكية، جزءًا لا يتجزأ من هذا النهج.

كذلك في قلب النهج الذي طوره ماركس، والذي طوره لينين ورفاقه بدرجة أكبر وأكثر دقة، كان فهم النضال من أجل الاشتراكية باعتباره عملية ثورية عالمية وليست محلية. وبالتكامل مع هذا كانت توجد معارضة صلبة للإمبريالية وحربها، والتي تمثل عنفًا عالميًا قمعيًا متأصلًا في طبيعة الرأسمالية ذاتها.

وارتبط بكل ذلك التزام لينين ورفاقه، المؤكد عليه مسبقًا، بتطوير منظمة متماسكة وديمقراطية على نحو جاد تكون مغروسة في الشرائح الطليعية للطبقة العاملة بهدف الوصول إلى المزيد من عناصر الشرائح الأخرى في الطبقة العاملة. وقد ترافق هذا مع فهم مفاده أن ليس كل العمال والفلاحين وغيرهم ممن هم على استعداد للمشاركة في نضالات ضد الحقائق القمعية سيكون مستعدًا لتبني البرنامج الماركسي الثوري أو الانضمام إلى المنظمة البلشفية.

وقد انبعث من هذا المنطلق سمتان أساسيتان للتوجه البلشفي. أولًا، باتباع الأفكار المجملة في البيان الشيوعي، فضل لينين المشاركة البلشفية في نضالات إصلاحية -تحسينات يمكن يمكن تحقيقها هنا والآن- كجزء من عملية بناء وعي الطبقة العاملة وتجربة النضال الطبقي. ووفقاَ لما ذكرته روزا لوكسمبرج، اعتقدت الحركة الاشتراكية في أراض مختلفة أن «النضال من أجل الإصلاحات هو وسيلتها؛ الثورة الاجتماعية هي غايتها». ومع ذلك، كان هناك بعض، من بين البلاشفة، بعد الانتفاضة الفاشلة عام 1905، الذين اختلفوا مع هذا. وكما تذكرت ناديا كروبسكايا، فإن هذه العناصر اليسارية المتطرفة -المصرة على التركيز على الكفاح المسلح بدلًا من العمل الانتخابي- «كانوا معارضين كذلك لمشاركة البلاشفة في النقابات والجمعيات القانونية. فالبلشفي، كما أعلنوا، يجب أن يكون صلبًا لا يتزحزح». رفض لينين بحدة هذا التعارض بين الثورة والإصلاح. «سيعني هذا التخلي عن كل النشاط العملي، والوقوف بعيدًا عن الجماهير بدلًا من تنظيمهم حول قضايا حياتية حقيقية»، كما ذكرت كروبسكايا، التي وصفت الموقف الذي سينتصر تحت قيادة لينين: «لقد أظهر البلاشفة أنهم قادرون على استخدام كل الفرص القانونية استخدامًا جيدًا، وعلى التحرك قدمًا وحشد الجماهير خلفهم في ظل أكثر الظروف مناوئة. خطوة بخطوة، بدءًا من حملة تقديم الشاي والتهوية، قادوا الجماهير وصولًا للانتفاضة المسلحة على مستوى وطني. كانت القدرة على التكيف مع أكثر الظروف المعاكسة، وفي الوقت نفسه قدرة الشخص على الحفاظ على المواقف المبدئية؛ كانت هذه هي تقاليد اللينينة»13.

وكان هناك عنصر ثاٍن في التوجه البلشفي  له صلة بالنضالات الإصلاحية والانتفاضات الثورية. أعداد ضخمة من العمال، والشرائح المضطهدة، وآخرون ممن هم مستعدون للنضال، لم يكونوا، في الوقت ذاته، مستعدين للانضمام للحزب البلشفي. وبالفعل، كان العديد من هؤلاء ملتزمين في منظمات مختلفة لها توجهات سياسية غير متوافقة مع توجهات هامة في البلشفية. لقد حذر لينين من «التجارب المتسرعة ونصف المكتملة في الضغط من أجل الوحدة والتي كانت تسعى لجمع العناصر الأكثر تنافرًا في لجان الثوريين، ولكن أدت لهذا السبب إلى احتكاك متبادل وخيبة أمل مريرة».

لقد أصر على أنه من أجل «مصالح الثورة، لا يجب أن يكون نموذجنا بأي حال من الأحوال اندماج كل الأحزاب، وكل التيارات واتجاهات الرأي في فوضى ثورية». لكن من الضروري من أجل الوحدة الحقيقية والمثمرة في النضال، «ألا نفسد الأشياء عن طريق المحاولة العبثية لجمع عناصر متنافرة». ما سيكون مثمرًا أكثر هو جبهة متحدة تحترم المنظمات المنفصلة، وتسمح لكٍل منها بالتعبير عن اختلافاتها في نفس الوقت الذي ينشطون فيه معًا في النضال المتفق عليه: السير منفردين والضرب معًا. وسيتيح اختبار الأحداث للمنظمات الاشتراكية الثورية إقناع المزيد والمزيد من الأشخاص المنخرطين معهم في النضال بفعالية وجهة نظر المنظمة14.

ويشير المؤرخ إس. أيه. سميث في دراسته المتفردة الجديدة «روسيا في الثورة»، إلى أنه «يمكن القول إن ما كان أكثر أهمية في كسب الحزب [البلشفي] للدعم الشعبي في 1917 لم يكن التزامه التنظيمي، أو حتى وحدته الإيديولوجية، ولكن قدرته على الحديث بلغة يفهمها الأشخاص العاديون، وإعادة التعبير بمصطلحات الصراع الطبقي والاشتراكية عن اهتماماتهم الملحة جدًا واليائسة». وربما يرد البعض بأن التماسك التنظيمي والأيديولوجي المبهر للبلاشفة كان هامًا، بنفس أهمية قدرة الحزب البلشفي على العمل في جبهات متحدة ونضالات متنوعة. «لقد أثبت الحزب البلشفي فعاليته .. لأن نشطاءه، مسلحين بشعارات وصحيفة، قاموا بحملات بدون توقف في السوفيتات، ولجان المصانع، والنقابات العمالية، ولجان الجنود»15.  

إن تحديد أهمية هذه الأشياء بالنسبة للوضع الذي نواجهه -والقيام بذلك ليس بالكلمات فحسب بل في الممارسة العملية- يشكل واحدًا من أهم التحديات في عصرنا.

 


 

1          John Reed, Ten Days That Shook the World (New York: International Publishers, 1926), p.12; Louise Bryant, Six Months in Red Russia (London: The Journeyman Press, 1982), p.10; Bessie Beatty, The Red Heart of Russia (New York: The Century Co., 1918), p.480.

2            Albert Rhys Williams, Through the Russian Revolution (New York: Boni and Liveright, 1921), p.275.

3            John Reed, First Proletarian Republic Greets American Workers,” New York Call, November 22, 1917, reprinted in Philip S. Foner, ed., The Bolshevik Revolution: Its Impact on American Radicals, Liberals and Labor, A Documentary Study (New York: International Publishers, 1967), p.54. 

4            “To the Population,” in V.I. Lenin, Revolution, Democracy, Socialism: Selected Writings, ed. by Paul Le Blanc (London: Pluto Press, 2008), pp.278-280.

5          Rex A. Wade, The Russian Revolution, 1917 (New York: Cambridge University Press, 2000), p.283.

6            Albert Rhys Williams, Through the Russian Revolution, pp.276-277

7          Franklin Rosemont, Joe Hill: The IWW and the Making of a Revolutionary Working class Counterculture (Chicago: Charles H. Kerr, 2002); Rosa Luxemburg, The Crisis of German Social Democracy,” in Paul Le Blanc and Helen C. Scott, eds., Socialism or Barbarism: The Selected Writings of Rosa Luxemburg (London: Pluto Press, 2010), p.204.

8          Rosa Luxemburg, Socialism or Barbarism, p.237.

9          Jean-Paul Sartre, Search for a Method (New York: Vintage Books, 1963), p.30.

10         Christopher Read, Lenin, A Revolutionary Life (London: Routledge, 2005), p.226.

11         Georg Lukács, Lenin: A Study on the Unity of His Thought (London: Verso, 2009), pp.11-13.

12         Max Eastman, Marx, Lenin and the Science of Revolution (London: Goerge Allen and Unwin, 1926), pp.159-160; Paul Le Blanc, Lenin and the Revolutionary Party (Chicago: Haymarket Books, 2015).

13         Rosa Luxemburg, Socialism or Barbarism, p.48; N. K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin (New York: International Publishers, 1970), p.167.

14         Lenin, A Militant Agreement for the Uprising,” in Revolution, Democracy, Socialism, pp.174, 179, 180.

15         S. A. Smith, Russia in Revolution: An Empire in Crisis, 1890-1928 (Oxford, UK: Oxford University Press, 2017), pp.115, 379.