مراجعات

رانية خلاف

قناديل البحر المبعثرة في «الكل يقول أحبك»..

2021.12.01

 قناديل البحر المبعثرة في «الكل يقول أحبك»..

 

"الكل يقول أحبك" عنوان الرواية الأحدث للروائية مي التلمساني، بعد ثلاث روايات هي "دنيا زاد" ١٩٩٧، و"هليوبوليس" ٢٠٠٠، و"أكابيلا" ٢٠١٢.يبدأ المشهد الافتتاحي للرواية في القطار في رحلة داخلية من مدينة لأخرى في كندا، وتنتهي الرواية بمشهد مفتوح في محطة الباص المتجه إلى تورونتو. وتناقش الرواية التي صدرت مؤخرًا عن دار الشروق في ١٨٨ صفحة من القطع المتوسط، حياة خمسة مهاجرين من بلدان عربية مختلفة إلى كندا، في بانوراما معقدة من المشاعر والأفكار والشخصيات والعلاقات المعقدة المتشابكة، العلاقات الزوجية أو الحب عن بعد، والعلاقات الثلاثية التي تتشكل بين الزوج والزوجة والعشيق/ العشيقة. تدور الرواية في سياق زمني محدد يبدأ من فبراير ٢٠٢٠، زمن اجتياح وباء الكورونا مفجرة مأزق التواصل والعزلة المركبة.

التباس ومفارقة

تثير الرواية لدى الناقد شعورًا بالالتباس لخضوع الرواية لأكثر من تصنيف أدبي. فهي تندرج تحت رواية الهجرة ورواية السيرة الذاتية أو أدب الاعترافات وأدب الرحلات. تخضع الرواية لسمات الحساسية الجديدة وفقًا لتعريف إدوار الخراط في كونها تكسر الترتيب السردي المطرد، وتغوص في دواخل الشخصيات، وتدمر سياق اللغة السائد المألوف، وتهدم بنيتها وتستخدم صيغة الأنا، لا للتعبير عن العواطف بل لتعرية أغوار الذات وصولاً إلى منطقة يمكن أن تسمى الذات الجمعية.

كما يبدو العنوان للوهلة الأولى سلسًا، مكتوبًا بأسلوب تقريري وكأنه يؤكد حقيقة مفترضة. إلا أن القارئ بعد انتهائه من قراءة الرواية سيفكر مجددًا: هل يقول الكل أحبك فعلاً؟ أهي جملة تقريرية أم تهكمية؟ ذلك لأن كلمة الحب لم تتردد سوى مرات معدودة طيلة الرواية. يثير العنوان أيضًا تساؤلات عن المسافة ما بين القول والفعل. فهل يتبع التصريح بالحب فعل يؤكده أم هو مجرد ترديد لكلمة ساحرة؟

في الحقيقة، بينما يومئ عنوان الرواية بالحديث عن الحب، أجدها رواية كاشفة بشكل كبير عن شكل العلاقات في المهجر وشخصيات المهاجرين، وربما أيضًا ما يمكن أن نطلق عليه نبض الهجرة، فحينما تكتمل القراءة يكون القارئ قد عبر خلال مدن وقارات وعوالم نفسية ثرية ومتعددة.

إلا أن الهجرة والحب مرتبطان ومتشابكان بشكل ما. بين الهجرة والحب فعل شائك. ربما يتسم دومًا بالتردد والاشتياق. ولكن الرواية في النهاية تتمحور حول الهجرة وليس الحب، فبينما أشارت وبحثت التلمساني في مفهوم الحب عن بعد والحب والزواج كمخلوقين منفصلين في الفصول الثلاثة الأولى، فإن فكرة الحب أو لنقل مناقشتها بشكل أعمق وأكثر مباشرة تراجع في الفصلين الأخيرين. ربما اعتمدت على فطنة القارئ، وربما انتبهت ألا حب يستمر، وأن الكل يقول أحبك بلا معنى حقيقي.

خمسة بورتريهات متقاطعة

الرواية مقسمة إلى خمسة فصول، كل منها يحمل اسم شخصية مختلفة، كل فصل يقدم بورتريه ثريًّا لشخصية.. لرجل أو امرأة في منتصف العمر، فيما عدا شخصية البروفيسور كمال المصري الذي تجاوز الستين. برعت التلمساني في بناء الشخصيات وصقلها لتقدم لنا نموذجًا لإنسان معاصر يعيش في عالم متموج. عالم عابر للقارات أو الأوطان. كل شخصية تحكي عن عالمها الذي تتقاطع فيه بشكل باهت أو مكثف أحيانًا مع الشخصيات الأخرى.

بشكل خاص، أثارتني فكرة البورتريهات، ولكني رأيتها معضلة، فهناك صعوبة في الجمع ما بين فن البورتريه وبنية الرواية. البورتريه كفن مستقل والرؤية التي يحكمها تطور الحدث في الرواية. نجحت التلمساني بشكل كبير، ولكنها ربما أخفقت قليلاً في الفصل الخاص بداينا، حيث أسهبت بتفاصيل كثيرة عن المطارات والحكي الذي لا ينتهي ما بين المذيعة وتلك المرأة التي صادفتها في صالة الترانزيت، وهو ما جاء على حساب بنية الشخصية.

اعتمدت الروائية منذ البداية بنية القصة؛ خمس قصص/ خمسة فصول يفضي كل منها للتالي له في سرد شيق. كل فصل يحكمه ما يشابه الكونشيرتو الموسيقي، حيث في مقابل كل شخصية هناك أخرى تحاورها وتستقي منها الحدث. وفي الفصلين الأخيرين يتحكم منطق البوليفونية في السرد بشكل أكبر، هناك تعدد؛ مزيج من الشخصيات المتفاعلة والمتحاورة بإيقاعات مختلفة في نسيج موسيقى متزن إلى حد كبير.

سيكتشف القارئ بعد انتهائه من الفصل الأول الذي يحمل اسم كمال المصري أنه فيما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، فكل شخصية ترتبط بالتالية لها وتكشف عنها تفاصيل جديدة لم نكن نعلمها. شخصية البروفيسور كمال المصري تتسم بالرتابة والاعتياد والسلبية، ينعكس ذلك على علاقته بزوجته ناهد التي لا يبادلها سوى مشاعر باردة كبرودة الطقس في كندا.

(معًا منذ ما يربو على أربعين عامًا. منذ أن كانت هي ابنة الجيران في عمارة حدائق القبة، وكنت أنا ابن صاحب البيت في العمارة نفسها. يكفيها أن تنظر لوجهي أحيانًا، وتربت على ظهري أحيانًا وتتذكر أيامًا هانئة فتبتسم. يكفيها أننا صامدان في وجه الزمن وأوجاع الهجرة. لكن من يعوضني أنا عن وجع الروح وفتور الرغبة في جسدينا؟ وكيف لقلبي أن يكتفى بفتات المشاعر ونثار الذكريات؟).

في الفصل الثاني، الذي يقارب في مساحته باقي الفصول، ويحمل عنوان كريم ثابت، هناك بناء جديد لشخصية مغايرة ولكنها تتفق مع السابقة عليها في إعداد القارئ للدخول إلى العالم المتشابك لشخصية المهاجر وعاداته اليومية الرتيبة وأفكاره عن الوطن والحب. في هذا الفصل تبدأ التلمساني في رسم بورتريه لمهاجر، تفاصيل حقيقية عن الاشتياق والرغبة وليس عن الحب. ربما تكون هناك مصادفة لم تنتبه لها الروائية، إذ تستدعي روائح الطهي لدى كمال وكريم مشاعر الاشتياق والألفة. فكمال المصري، تأتيه رائحة الفرن فيسيل لعابه في ثانية.. (ترى ماذا أعدت لي ناهد هذه المرة؟ لحمًا وبامية من السوبر ماركت اللبناني أرز فوود.. خرشوفًا باللحم والجبن من مطبخ الكنيسة المجاورة؟). أما كريم المصري فتبدو رائحة البامية باللحم والثوم في استقباله لدى عودته أيضًا، فيعقب متهللاً مخاطبًا نورهان زوجته: كيف حالك يا حبي؟

تتفق شخصيتا كمال وكريم في الفتور بدرجات مختلفة، والخيانة. يشتاق كريم لزوجته نورهان ويتمنى لو تتركه يمص أصابعها الدقيقة بعد العشاء، ولكنه لا يفعل، ولا تمنحه هي الفرصة.

(يسبق كلمة حبيبي بالعربية اسم آدم الصغير. لا تقول حبيبي مالك، ولا حبيبي كريم إلا نادرًا. أحيانًا تناديني بكلمة بابا فأغضب. لا أريد أن ألعب هذا الدور. أريد أن تضعني دائمًا في مكانة الزوج أو الحبيب).

يبدو صوت الحكاءة مي التلمساني واضحًا بدرجة أكبر في الفصل الثالث، الذي يحمل عنوان نورهان عبد الحميد، إحدى الشخصيات المحورية في الرواية، حيث يعلو صوتها بدرجة أعلى وأكثر صدقًا وشغفًا. أحببت تعبير نورهان عن مشاعرها كامرأة مهجورة تحب بشكل متقطع عن بعد رجل لا أمل في الارتباط به. وهو أمر واقعي وليس محض رومانسية.. إنها قصة الخلل الحادث دومًا بين المثقفة والمثقف في واقعنا العربي، والذي ينتقل طواعية مع المهاجرين إلى أوطانهم البديل.

الفصل الخاص بنورهان هو ما يتجلى فيه العشق ممثلاً في علاقة نورهان السابقة ببسام الحايك. أما مشاعرها إزاء زوجها كريم فهو حب بمعنى الود الجميل، حب منزوع من الشبق، أو ربما يجتاحه شبق مدروس من وقت لآخر. وتلخص نورهان معنى الحب في صفحة ٩٤ في كلمة القرب الساحرة (حين استدرنا على ظهورنا وضعتُ ساقي فوق بطنه كما يحب، وعنَّ لي أن أسأله عن أكثر شيء سيفتقده في غيابي. أجاب بعد تردد القرب منك.. لا أدري لماذا غمرني الفرح عند سماعي لتلك الجملة. قفزت من مكاني إلى جواره، وارتج ثدياي كعصفورين وأنا أجلس فوقه قائلة: كل السعادة والنعيم في القرب منك.. فعلت جملة القرب منك مفعول السحر. وجاء رد فعل بسام عذبًا صافيًا خاليًا من التوتر الذي صاحب لقاءاتنا السابقة حين كان يلملم أغراضه بسرعة ليعود للبيت في الموعد المتوقع). وهنا يكمن الصوت الوحيد للحب بمعنى العشق والشغف. في الحقيقة لم يقل الكل أحبك. سيأتي الحب في الفصلين التاليين مقرونًا بالاعتياد والرغبة في الاستقرار مع شريك أليف فحسب.

يحمل الفصل الرابع الخاص بداينا سليمان تفاصيل متعلقة بذاتها في المجتمع كمهاجرة مصورة فوتوغرافية تحاول أن تجد وظيفة وزوجًا يتلاءمان مع وضعها في المجتمع ومع طموحها. يبدو البورترية هنا ناقصًا بشكل ما. لا يصور داينا كامرأة مكتملة ولكن كشخصية عملية انتهازية بعض الشيء.

 لم تطلق الكاتبة العنان لمشاعر داينا كما فعلت مع نورهان. في ص ١٣٤ تتحدث داينا عن الاقتناص وليس الحب. وتصف نفسها بأنها متروكة بامتياز كما وصفت نورهان نفسها. وفي صفحة ١٣٥ تقول إنها تنازلت عن رجال أحبوها لأسباب غير مفهومة، في إشارة إلى عدم اهتمامها بالحب. في هذا الفصل نحن إزاء شكل من أشكال العلاقات الاجتماعية، زواج وليس حب.

أما الفصل الأخير، الأكثر احتفالاً بالجدل والفلسفة، فيرسم ملامح أكثر عمقًا لشخصية بسام الحايك، ذلك المثقف السوري الذي أحبته نورهان وتزوجته داينا. هنا ثقل واضح وبحث مهم في مسألة الذات والمأزق العربي وتأثير الثورة السورية على المهاجرين السوريين. ما بين حزن وصمت ولا تعليق، كائنات صامتة كالروبوت، تتفاعل مع الواقع الجديد، وتتعامل بحياد مع الماضي القريب.

 أحببت اللهجة السورية في الحوارات التي صيغت بشكل حقيقي ومتقن وبلا افتعال فمنحت الرواية الكثير من الحيوية. ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي تظهر بهذا التكثيف في رواية مصرية. وأحببت فكرة قنديل البحر. بسام، ذلك الكائن المنكمش المحبط شديد الولع بالنساء. يكاد يكون نموذجًا للمثقف العربي الذي يبدو متماسكًا واثقًا في ظاهره رخوًا وهشًا في جوهره. (قبل أشهر قليلة، كنت أجلس وحيدًا على شاطئ بحيرة ميتشجن حين رأيت كأنما في حلم يقظة أسرابًا من قنديل البحر تسبح في البحيرة. فكرت كأنها تشع طاقة. تعمل بالطاقة. أين تختزنها؟ لا أحد يعلم. وحيدة في البحيرة. تتفتح كالوردة، تنغلق كالسر، بثوب فضفاض يختنق في منطقة التقاء الرأس بالأطراف.. الحياة تمضي في طريقها وقنديل البحر يتكاثر دون أن يفكر في التكاثر، مثله مثل الأفكار، مثله مثل البهجة التي يشيعها الغناء في سيارة). يحيلنا الرمز البديع لقنديل البحر هنا إلى صور في الذاكرة لأسراب المهاجرين العرب والأفارقة الذين يهاجرون يأسًا عبر البحار في قوارب منهكة ولا يصلون عادة للبر الآخر.

 انتظرت أن أفهم لماذا ترك بسام حبيبته نورهان، أو بالأحرى رؤية بسام لعلاقته بنورهان الحبيبة ولكن الروائية لم تفصح، وبذكاء أشارت لقصة نورهان من بعيد، مجرد إشارة توحي بموقع الحبيبة الهامشي من حياة بسام الرتيبة التقليدية المليئة بالمغامرات مع نساء من مختلف الأعمار والأشكال والجنسيات، ولا مكان حقيقي للحب في خريطته الخاصة. إشارة ذكية إلى مكانة الحب في حياة مثقف عربي تقليدي مثقل بأفكار عن الحرية والثورة والوجود ولكن الحجم الحقيقي لشخصية الحبيبة في حياته صفر.

وتبقى الأسئلة الوجودية لبسام الذي هاجر إلى كندا منذ ثمانية وثلاثين عامًا في أذهاننا. ذكرى المذابح والحروب الأهلية في المنطقة العربية وحركة اليسار السوري واللبناني وحلم عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم. وكما يقول (العنف بين أبناء الوطن الواحد يجعل للموت رائحة العطن. تفوح من يد أخ قتل أخاه، جار صرع جاره، رفيق ذبح رفيقه. نتذكرها نحن العرب حين نلتقي. نظرة واحدة في العيون تجعلنا ندرك من نحن وماذا نعرف عن بعضنا البعض، نحن الهاربين أو الفارين، حتى من لم يشارك في القتل والدمار، نظل منكوبين بقتلانا وجرحانا ما دمنا أحياء). لا يجد بسام ولا نجد نحن أيضًا إجابات عن أسئلته الكبيرة ولا يتفوق عليه في لعبة الحياة سوى قنديل بحر تافه في بحيرة ساكنة.

وهكذا، إذا عدنا لعنوان الرواية نجده غامضًا لا يزال. الكل يقول أحبك، هل هي جملة تقريرية؟ أم تقولها التلمساني على سبيل التهكم أو التعجب؟ ففي النهاية ليس ثمة حب. مرة أخرى أحببت فكرة البورتريهات لولعي الخاص بها، سواء تشكيليًّا أو صحفيًّا. البورتريه كاختصار ثري لملامح شخصية وسمات عصر وظروف اجتماعية وتاريخية. الانتقال من بورتريه لآخر يشوبه حس طفولي باللعب، كلعبة الكراسي الموسيقية. من وجهة نظر تشكيلية هناك أيضًا اللون البارد والساخن، هناك خطوط خافتة وأخرى مضيئة في البورتريه وفي اللوحة كعمل روائي برمته.

مقطع مفتاحي

أرى مقطعًا مفتاحيًّا للرواية في ص ١٥٢، في نهاية الفصل الخاص بداينا سليمان، حين تقول (تقترب الطائرة من مهبط الطائرات فتسأل عاليا: هل وصلنا؟ أجيبها باقتضاب: على وشك. وبينما نحن في سبيلنا للهبوط، أفكر أن كل شيء هناك على وجه الأرض متناه في الصغر والضآلة، مخلص في عاديته. وكل شيء لا يطير أو يحلق ضعيف واعتمادي ومثير للسخرية).

هنا تفصح الكاتبة عن فلسفتها الخاصة؛ إيمان وإخلاص وتأكيد حتى النهاية لمشروع الهجرة والترحال، وكيف يشكلان الوعي ويرسمان ملامح لشخصية قوية وحرة رغما عن التشتت والألم الذي يعاني منه المهاجرون. هذا المقطع يدعم تصنيف الرواية بكونها رواية هجرة بشكل أساسي.

الحركة

تحتفل الكاتبة بالحركة والتنقل منذ اللحظة الأولى. وقد اعتمدت عنصر الحركة ليكون المحرك والدافع لبناء الشخصيات. يبدو الأبطال والشخصيات الثانوية كلهم في حالة حركة من وإلى الوطن الأم إلى الوطن البديل ومن مدينة لأخرى ومن حبيب لآخر وهكذا.

في البورترية الخاص بكمال المصري حيث تبدأ رحلة القطار ينشغل ذهن القارئ وأذنه بصوت القطار المفترض (الركاب يروحون ويجيئون في الممر الفاصل بين المقاعد.. خمسة وعشرون عامًا، يا إلهي إ ترى كم من العمر انقضى في محطات القطار، وكم من العمر تبقى لنا؟).

هناك أيضًا حركة مزدوجة إلى الأمام والخلف حيث يجلس كمال المصري وكريم ثابت بالمصادفة في مقعدين متقابلين في القطار، حركة مشابهة لأرجوحةsee/saw أحدهما يتحرك نحو نهاية العمر والآخر لمنتصفه.

تأتي الحركة أيضًا على مستوى إيروتيكي بامتياز حينما يسرد كريم ثابت (نعود معًا للمطبخ. تشرع في وضع الصحون في غسالة الأطباق وإفراغ ما تبقى من طعام في علب الثلاجة البلاستيكية وتنظيف سطح البوتاجاز الكهربائي بهمة تجعل إليتيها تهتزان تحت الروب وتثيراني بحركتهما اللينة. أجمل ما في نورهان أردافها. متماسكة كأنها شابة في العشرين، ولكن حركتها تشي بخبرة امرأة في الأربعين. أقترب منها وألتصق بظهرها وأحيط خصرها بذراعي فتتأود. تعرف اشتياقي لها، وتجيب شوقي بإيقاع متمهل. تستبطئني وأحثها). ألفت التلمساني هنا كونشيرتو رائع بين شخصيتين متجانستين ولكن هناك ما يحبط اكتمال وهج وحميمية الكونشيرتو؛ ربما ظل لرجل وامرأة.

في البورترية الخاص بداينا هناك رصد للحركة الدائمة والانتقال المستمر للشخصية على مستوى العمل أو المكان وربما المحبين أيضًا (كانت حياتي قبل الأربعين حياة ركض دائم. أركض وراء الصور والناس، مدفوعة بالغربة في مغامرة التعرف على العالم وأعود إلى ديربون، إلى الغرفة الكابية نفسها. أحيانًا كنت أبحث عن مصدر آخر للمعاش غير التصوير. أعمل ساقية في مطعم، أو بائعة في محل ملابس في انتظار مهمة جديدة. يظل التصوير شغلي الشاغل مصدر الطاقة والحياة. تفتر همتي كلما ابتعدت عنه وتعود إلى حيويتي كلما سافرت سعيًا وراء موضوع).

في الفصلين الأخيرين أحببت المشاهد الخاصة بالمطارات، حيث تبدو الحركة بشكل أكبر في المطارات الشاسعة التي تصلح كصورة مقاربة لبيت أو لوطن مؤقت. هناك حيوية ونبض، تشابه ما بين المطارات والبشر. الترحال، البدايات الجديدة والموت، الحب والابتعاد عن الوطن أو عن الحبيب. هي مشاهد لن يشعر بصدقها سوى من مر بتجربة سفر متكرر.

الكل يقول أحبك رواية جديدة بمعنى الجدة والصدق والمصداقية. في النهاية تتركنا الروائية للتساؤل عن ماهية الحب، عن جدوى الزواج أو الحب في عالم مؤقت. تتركنا وقد بنينا معرفة جديدة وحقيقية عن شخصية المهاجر من زاوية نظر كاتبة مهاجرة تدعونا، بعد ما يقارب من ربع قرن من الهجرة، للتأمل مرة أخرى في مفاهيمنا الرومانسية وربما الساذجة عن الحب، عن الباهت والبراق، الأصيل والمزيف في حيواتنا القصيرة.