قضايا

أسماء زيدان

كمال عباس.. من مصادفة يناير 77 إلى حلم الحديد والصلب

2021.12.01

 كمال عباس..  من مصادفة يناير 77 إلى حلم الحديد والصلب

مصادفة خير من ألف ميعاد..

"حضرت تظاهرات 77 بالمصادفة" هكذا بادرنا عباس، شاهدنا على الحركة الاشتراكية منذ سبعينيات القرن الماضي. يقول عباس لم أكن مدركًا تمامًا للصراعات الطبقية وخللها خلال فترة طفولتي، حيث حظيت بتعليم مماثل لأقراني، جميعنا نرتدي المريول، ونحظى بنشاط مدرسي جيد، عرفنا مدرسة خاصة وحيدة بقريتي بالفيوم، لا يدخلها إلا الطلبة "الفشلة" فالأمر لا علاقة له بالثراء والفقر، لذا لم أكن لم أدرك تمامًا هذا الخلل، إلا حينما رحل جمال عبد الناصر، وجاء أنور السادات وفي يده أوراق الانفتاح. حينها ظهرت لي مساوئ تلك المرحلة، وبدأت في الانحياز لمواقف اليسار، واليسار تحديدًا وليس التيار الناصري، إذ لم يكن الأمر شخصيًّا، أو انتهازيًّا، بقدر ما كان إنسانيًّا يرجح كف العدالة والمساواة.. يقول عباس: قبل أن نذهب لتظاهرات 77 عرَّج بنا كمال على اعتصام 1973 الذي قام لأجل رفض وقف إطلاق النار الذي فرضه السادات حينها، وخلاله عرف عباس أولى الشخصيات الاشتراكية مثل صبري فوزي، ومحمد طه، ومن هنا بدأت أفكاره تتحرك تجاه اليسار. وقد جاءت مشاركته في تظاهرات عام 1977 بالمصادفة، إذ كان في طريقه للعباسية لتصحيح أحد الأخطاء بشهادة التجنيد، فانتهز فرصة التظاهرات واشتبك بالمشهد، دون تخطيط أو تنظيم، يحكي كمال "كان مشهدًا عظيمًا، جميع الفئات والطبقات، من كل حدب وصوب، أجمعوا على رفض سياسة الغلاء التي ينتهجها السادات، وأن لا مزيد من إفقار الفقراء، فما كان منه إلا الخضوع لإرادة الشعب". وأثرت التظاهرات فيما هو أصلاً مزروع به منذ مطلع السبعينيات، زاده تفاقم الوضع الاقتصادي بعد سنوات من الانفتاح، وأوراقنا التي صارت جميعها في يد أمريكا.. حصل كمال على دبلوم الصنايع، وها هو يستعد للتعيين بالوظيفة، وحول هذه الفترة يروي "كان الحصول على وظيفة في ذلك الوقت من أسهل ما يكون، حيث كان القطاع العام يضمنا جميعًا، آنذاك تقدمت إلى أربع وظائف، قوبلت في أغلبها، ولكني تمنيت الانتماء لشركة الحديد والصلب تحديدًا".

حلم الحديد والصلب

كانت الحديد والصلب شركة عريقة ترتبط في أذهان ذلك الجيل، بالعظمة والإنجاز، والوقوف وراء معارك الوطن، منذ مشاركتها في إنشاء السد العالي. وذهب عباس للحديد والصلب وكله أمل بالانضواء تحت راية العمل النقابي، وقد كانت بيئة العمل مشجعة، إذ وصل عدد العمال 22 ألف عامل، الذي وصل بعد سنوات، وقبل تصفية المصنع إلى 7 آلاف. وحقق كمال حلمه بالعمل في الحديد والصلب عام 1977، وقد عرف طريق الانضمام إلى التنظيمات اليسارية من قبل، ولكن أصدقاءه من التروتسكيين الاشتراكيين أوصوه بعدم الاتصال بهم طوال ستة شهور، حتى تتثبت أقدامه داخل عمله الجديد. وبالفعل لم يتصل بهم كمال، واندمج بالعمل وقد أعلنت الانتخابات النقابية عام 1979، بعد انقطاع دام لعشر سنوات، وقد كان عاملاً نشيطًا كما كان له بعض الاتصالات بأجنحة اليسار الأخرى مثل حزب التجمع، الذي كان يملك قاعدة نقابية جماهيرية ليست بالهينة، فيما كانت السلطة تحاربه عبر صحفها الحكومية.

يتذكر عباس حينها نشر الصحف الحكومية أخبارًا تسئ للحزب مثل نشرها مئات الأسماء التي لا تمت للحزب بصلة حقيقية، على سبيل أنهم استقالوا من الحزب، إلى درجة أن الأمر أصبح مجال للتندر، ومع ذلك لم تتأثر شعبية "التجمع". أما العمل النقابي كان بمثابة قوة لا يمكن التساهل معها من قبل السلطة، حيث عادة ما يغلب النشاط العمالي على القطاع العام في المطلق، الذي يوفر بيئة عمل مواتية، وعليه بدأ كمال العامل الشاب في الاشتباك في ذلك النشاط المهم، وكما الحال في وقتنا هذا فقد كان اتحاد العمال شخصيات مثل سعد محمد أحمد وغيره، من أذرع النظام التي طالما استولى عليها.

وقد كان عباس صاحب موقف ديمقراطي يؤمن تمامًا بأهمية الانتخابات، فسعى لتشكيل كتلة موحدة مكونة من سيد عبد الراضي، ومحمد الديب كمرشحين، إلى جانب مرشحي حزب التجمع، وذلك نظرًا لكون اليسار متوزع بين الأحزاب، فكان من الضروري توحيدهم. ويقول عباس إن عملية الجمع بين اليساريين أصعب من العكس، فهم طالما تميزوا بالتفتت في مجموعات صغيرة، وسعوا للاختلاف أكثر من الاتفاق، وهو الطابع الذي يميز الحركة اليسارية حتى اليوم في رأي كمال. ويعتقد كمال أن تفتت الحركة الاشتراكية الدائم أبرز الذاتية، والفردانية التي تميز بعض شخصيات الحركة، فالعصبوية سيدة الموقف. ذلك التفتت الذي ظهر في مراحل عدة من الانتخابات ومن خلاله برزت وجهة النظر العقيمة كما سماها عباس التي تدور حول الاشتراك في الانتخابات للتبشير بالاشتراكية، وأفكارها، الخلط بين السياسي، والنقابي، وهو الموقف الذي تصدره الحزب الشيوعي على سبيل المثال.

ويرى عباس أن العمل النقابي يجب أن يركز على أوجاع العمال، وحرياتهم النقابية المهدورة، والوضع الاقتصادي، كي يتم تحريك الساكن، ولا تحدث الفجوة التي طالما وسعت بين العمال، واليسار. وعليه شارك عباس في الانتخابات بشكل فردي، ودون الانضمام إلى الاشتراكيين، وتحت عنوان من أجل نقابة مستقلة، وحينها كانت الأسماء المرشحة لابد وأن تمر على المدعي الاشتراكي، لإجازاتها، وقام حينها باستبعاد 52 مرشحًا، الكثير منهم ينتمون للكتلة الاشتراكية، والذين عادوا لاحقًا للانضمام للنقابة عبر قرار المحكمة، فأصبحت القاعدة ذات التوجه اليساري واسعة، بشكل غير مسبوق وفيما كان أغلب المرشحين مشغولين بجلسات المحكمة، بدأ التفكير في العمل بنظام المندوبين النقابيين، وبرزت شخصية عباس بين العمال، الذي كان ينسق بينهم، في الانتخابات الداخلية التي تقوم لأجل اختيار المندوبين، وتم اختيار 102 مندوبًا يمثلون 22 ألف عامل.

معركة الوجبة

وهنا بدأت معركة الوجبة وهي مسالة مهمة بالنسبة للحديد والصلب تحديدًا، بحسب عباس، وكانت محل نزاع منذ فترة، كما أنها تمثل أمرًا مهمًا نظرًا لطبيعة النشاط الاقتصادي، والأضرار الصحية للصناعات الثقيلة. وقد تم اتخاذ قرار بمنح العمال بديلاً نقديًّا عنها خلال المرحلة الناصرية في الستينيات، وقد كان معقولاً حينها، ولكنه ظل ثابتًا لسنوات، ورفضت الإدارات اللاحقة تعديله، إذ اكتفوا بمبلغ 3 جنيهات حتى نهاية السبعينيات. يقول عباس "استعنا بالمتخصصين للاطلاع على مكونات الوجبة الصحية للعامل الواحد وتكلفتها، فكان الدكتور إبراهيم العيسوي من ساعدنا حينها، وحدد لنا حصص العمال، كما قمنا لاحقًا بتضمينها في كتيب، سميناه "الوجبة" صدر عام 1989، ليكون دليلاً للعمال فيما بعد. ومع الوجبة كانت هناك مسألة الحوافز التي ظلت لا تحرك ساكنا لفترة زمنية غير قليلة، وفي الطريق حدثت انتخابات 1987، ولكن السلطة والمزاج الإسلامي، جعل اثنين من الأربعة الممثلين للعمال بمجلس الإدارة من ذوي الميول الإسلامية. وبحسب شهادة عباس فإن وصول إسلاميين للإدارة كان يعني الاعتماد على الشخصين الآخرين فقط، إذ كان المنتخبين من أصول إسلامية، لا يتميزون بالنشاط العمالي، ومهادنين للإدارة، فبدأ الاعتماد على ممثل العمال محمد مصطفى، وبدأت معركة العمال على الوجبة، والحوافز.

من قبلها كانت لجنة اليسار داخل المصنع قد أصدرت مجلتها "كلام صنايعية" التي كانت تعتمد بالكامل على مجهود العمال، وكان يقوم بمراجعتها الشيوعي الراحل هاني شكر الله، وقد كان لتلك المجلة أثر مهم في توعية العمال، والعمل على توجيههم وتوحيد صوتهم. حينها أن الحركة العمالية آخذة في القوة، حتى مع وجود تيار "الإسلام هو الحل"، ذلك الشعار الذي أصبغ المجتمع به، ومع ذلك برزت معركة الحوافز، والوجبة، وكذلك المطالبة بحل النقابة المعادية للعمال، بعد أن اتخذوا موقفًا مخالفًا لهم في أكثر من مسألة. وبدا شهر يوليو عام 1989 كاجتماع جمعية مفتوحة طول الشهر، لا تنفك المجموعات اليسارية، والعمالية النشطة في الاجتماع بمجموعات من العمال، لتوعيتهم، وتوحيد مواقفهم، في مواجهة السلطة، والإدارة.

سحب الثقة والاعتصام

حينها بدأنا جمع توقيعات سحب الثقة لا سقاط النقابة، وفي وسط ذلك حضرت قوات الأمن لإلقاء القبض على محمد مصطفى، والذي علم بذلك فاحتمى بالعمال، الذين بدورهم انتفضوا على قلب رجل واحد، واحتجزوا رئيس القطاع داخل مكتبه المهندس حسن عبد اللطيف. وأعلن الإضراب العام مع قدوم شهر أغسطس، بعد قرار بنقل العاملين المنتخبين محمد مصطفى، وعبد الرحيم هريدي، فتم جمع العمال من كل حدب وصوب وإعلان الإضراب الأكبر من نوعه، وذلك بالرغم من الموافقة على مسألتي الحوافز التي زادت بنسبة 35 %، والوجبة. وقاد الاعتصام كل من كمال أحمد عباس، ومحمد حسن بربري، وفوزي محمدين مشهور، ومحمود بكير، بعد أن نقل عضوا مجلس الإدارة المنتخبين، وكمال عباس ومصطفى نايض إلى خارج الشركة، ونُقل المهندس محمود بكير إلى محاجر المنيا التابعة للشركة.

إضراب ورصاص حي

عند الفجر اقتحمت قوات الأمن الإضراب وفضته بالقوة المفرطة، والرصاص الحي، خوفًا من انتشار العدوى بين المصانع المجاورة، وقد كانت حلوان منطقة صناعية متكاملة حيث السكان من العمال وأسرهم، فجاءت أوامر الفض من وزير الداخلية حينها، المعروف بجبروته زكي بدر.

أسفر الفض المأساوي عن استشهاد العامل حمدي السيد الذي أصبح رمزًا للحركة العمالية، والحديد والصلب تحديدًا، وهرَّب العمال قيادات الاعتصام، الذين سلَّموا أنفسهم لاحقًا، إذ كان الأمن يبحث عنهم بالاسم، ومن ضمن كان كمال عباس. وشهد هذا الإضراب تضامنًا غير مسبوق في أوساط الأحزاب والقوى السياسية، واليسارية منها على وجه الدقة، يتذكر عباس ذاك اليوم "وصل صدى الإضراب إلى الشارع، وقامت اللجان الشعبية للتضامن مع العمال المقبوض عليهم، وكان الدعم القانوني، والمادي غير مسبوقين، حدثت اللحظة الحلم حين اشتبك الشارع بالكفاح العمالي". حينها وبحسب رواية عباس تم إخفاؤه قسريًّا في أحد زنازين قسم مدينة نصر، دون طعام أو شراب لأيام، ومع علمه ألا أحد يعلم بمكانه، شعر بأن التنكيل به قادم لامحالة، فحاول الاتصال بأفراد عائلته عن طريق أحد المجندين"، وكانت الأمارة "بنتك بسمة بتسلم عليك". وعلى الفور سمع صوت الناشط اليساري المحامي أمير سالم الجهوري في أنحاء قسم الشرطة، وقد أسهم وجود سالم وبصحبته الصحفيين في إنقاذ حياة كمال، بعد أن اضطر مأمور القسم إلى اظهاره، يقول عباس حين رأيت سالم بدأت في أخذ نفسي، وما كان مني إلا أن بادرته بالقول "جعان"، كنت أتضور جوعًا فأرسل في طلب الكثير من الطعام، وطلب مني إجراء مقابلة صحفية، ولكني كتبت رسالة إلى ابنتي بسمة، وكانت تلك الرسالة هي مانشيت صحيفة الوفد، وقد أسهم الراحل فؤاد سراج الدين في دعم العمال، حتى إنه كتب مقالاً ردًا على اتهامات صحف السلطة للعمال، والطريف أن صحيفة الوفد حينها، كانت أكثر يسارية من صحيفة الأهالي التي تنتمي إلى حزب التجمع، وذلك بعد أن تغيرت قيادات التجمع، وأصبحت بوقًا للسلطة.

الحل..

حينها تصاعد الموقف بعد أن شن النظام حملة للقبض على شاملة لكوادر حزب العمال الشيوعي المتضامن مع عمال الحديد، واحتجزوا شخصيات مثل مدحت الزاهد، وصابر بركات، وأمير سالم، هشام ومبارك والصحفي ومحمد سيد سعيد، الذي ضربوه في زنزانة انفرادية، فتدخل نقيب الصحفيين حينها مكرم محمد أحمد، وذهبنا جميعًا إلى سجن أبو زعبل حيث قضينا الوقت هناك في المقاومة بالغناء، والحديث غير المنقطع عن مستقبل النضال العمالي. خاصة أن حسني مبارك كان يزور يوغسلافيا وقتها، وسُئل عن القضية، فقرر إغلاقها بشكل كامل، وفقًا لرواية عباس. وقد اتخذ قرار بعدم عودة عباس إلى الحديد والصلب، ونقله إلى شركة ميتاليكو، وقبلها كان نجم حزب الشعب قد بزغ بقيادة شخصيات جليلة مثل الراحل نبيل الهلالي، فبدأ كمال بالعمل معهم، واقترح حينها الناشط الكبير يوسف درويش إحياء فكرة دار الخدمات النقابية التي كانت موجودة خلال ثلاثينيات القرن، وقد كان.