فنون

حسام الخولي

كوثر بن هنية سينما ما بعد الثورات العربية

2020.10.31

مصدر الصورة : وكالة الأناضول

كوثر بن هنية  سينما ما بعد الثورات العربية

«لقد ظللت أفكر وأُرتّب في الأفكار التي أقدمها في هذا الكتاب على مدى أربعين عامًا». كُتبت هذه الكلمات في تصدير الكاتب والحاخام الأمركي هارلود كوشنر لكتابه الأهم في مسيرته «الرب راعي». يحمل هذا التصوّر ضمنيًّا في سياقه العام ما يعتقِد فيه الكاتب الأمريكي الآخر جون شتاينبك عندما قال: جمهورك شخص واحد فقط، أو ما يعزّزه كاتب نوبل جابرييل ماركيز الذي حملت تجربته الكتابية وخطاباته المكتوبة وبعض لقاءاته جملته المفضلة: أعتقد أنك تكتب من أجل شخص ما بعينه. من أن يمركز المرء أفكاره على مدار حياته نحو هدف وجمهور بعينه سواء تعدد إنتاجه أو طُرح مكثفًا في عمل متفرد. إلى جانب هؤلاء وغيرهم يجلس عدد ربما لا يمكن إحصاؤه أمام ورقتهم/ كاميراتهم الفارغة منتظرين الحديث إلى جمهور مُحدّد تعرفه عقولهم جيدًا؛ للدفاع أو لإيضاح ثمة أفكار بعينها، بمختلف زواياها، كتنويعات كتابية وموتيفات بصرية شتى على فكرة أصيلة واحدة، ولو احتكمنا إلى الثورات العربية لدينا، كحدث إقليمي مكثّف، سنجد أمثلة مميزة ينطبق على مشروعاتهم ذلك الأمر؛ من هؤلاء الكاتبة والمخرجة كوثر بن هنية التي خرجت من زخم المشروع الثوري في تونس لتؤطر هذه الثورة سينمائيًا إلى جانب الحديث عن جُرح الشعوب العربية المجاورة مجازًا.

تسبب الحراك العربي بشكلٍ عام في ظهور جيل سينمائي متفرّق مكانيًّا ومجتمِع فكريًّا، إلى حدٍ ما، تثوّر أفلامه بأفكار ما كانت لتُعرض لولا وجود هذا الحراك، شاهدنا بن هنية التي تزداد وتيرة النبرة الثورية داخل أفلامها، فيلمًا بعد الآخر، لتأخذ منحى أكثر نضجًا للفكرة الجوهرية ذاتها، تحمل هموم المرأة العربية والسلطة التي تحتكم لها، شراسة تثبتها قطعات المونتاج الحادة دائمًا، والرغبة الدائمة في التخلص من تلك السلطة، رُشّحت أفلامها في مهرجانات عالمية وإقليمية وفازت أو نافست على الفوز. حتى إن فيلمها الروائي الطويل الأول «على كف عفريت» ٢٠١٧ الذي عُرض ضمن برنامج «نظرة ما» في مهرجان كان السينمائي لاقى استحسانًا كبيرًا من النقاد وقتها لفت النظر إليها عالميًّا.

سينما الثورة وثورة السينما

في تتبع سريع لمشوار بن هنية غير القليل والممتد مستقبلاً ربما سنجد ظاهريًّا فكرتها الأثيرة التي تحكي من خلالها حكاياتها المختلفة: علاقات السلطة الدينية السياسية بالمجتمع عمومًا والمرأة بشكل أكثر تحديدًا؛ أول أفلامها القصيرة عام ٢٠٠٥ بعنوان «بريشي» التي حكت فيه قصة فدوى، الفتاة المتمردة التي تهرب من منزل والدها للاختباء داخل مصنع مهجور، ثم بعد بحث يعثر عليها والدها، وعندما يهم بالرجوع بها إلى المنزل، يدرك من نظرتها أن هناك ما هو أعمق من الغضب العابر، حدث شيء قد لا يمكن إصلاحه.

عام ٢٠١٠ خاضت مخاطرة إنتاج أول أفلامها التسجيلية «ذهاب الأئمة إلى المدرسة»؛ عن قصة مجموعة من شيوخ المسلمين في مسجد بباريس فرنسا، يُطلب منهم التدرب والتفاعل مع بعض أفكار العلمانية والانفتاح وفقًا لسياسة تحديث الإسلام وقتها في فرنسا، ومن بين جميع الجامعات يتطوع المعهد الكاثوليكي للأمر، يقدم هذا الفيلم سردًا للتدريب المهني والتناقضات التي يمكن للمؤسسات الدينية خصوصًا العيش بينها في ظل إيمانهم بأفكارهم تلك التي ربما تتعارض مع الأفكار الأخرى.

بعد ذلك بثلاث سنوات ستقدم فيلمين دفعة واحدة: واحد من أنضج أفلامها «يد خشبية» التي تحكي خلاله قصة فتاة ترفض الذهاب إلى الكتّاب (مكان حفظ القرآن) بسبب تعنيف الشيخ لها، تحتال الطفلة على والدتها بأن تضع يدها على أحد الكراسي بعد أن تضع بين يديها والخشب مادة صمغية لاصقة، تضطر الأم إلى الذهاب بها في أخرى يحكيها الفيلم بدلًا من الكتّاب. وإلى جانبه الفيلم التسجيلي «شلاط تونس» التي أعادت فيه السردية الأسطورية المنتشرة في تونس دون وجود حقائق ملموسة لها بخصوص شلاط -بلطجي- ظهر في تونس أوائل الألفية وكان يتنقل عبر دراجة بخارية يجرح مؤخرات النساء «غير المحتشمات» في نظره، أو اللوات يرتدين زيًّا «يفتن الرجال» بسكين يحمله في يده، وقد خاضت خلال فيلهما صعوبات قد يظهر بعضها على الشاشة للحصول على شهادات ومشاهد حصرية وكانت المخرجة والبطلة التي تتحدث مع الناس أمام الكاميرا وخلفها. أدانت الحكومة ورجال الدين ضمنيًّا الذين يقدمون دوافع تبدو في نظرها مساعدة على حدوث مثل هذه الأحداث.

بعدهما تكتب وتُخرج الفيلم القصير «بطيخ الشيخ» تحكي فيه قصة الشيخ طاهر، وهو إمام تقي محترم يوافق على الصلاة يخدعه تلميذه بجمع المال لسداد دين إمرأة متوفية ثم يعلن ذلك إلى المصلين من أجل أن يصبح شيخ المسجد، تحاول في الفيلم تقديم نظرة داخلية على المشكلات التي يواجهها الأئمة بين بعضهم الآخر قبل أن يوجه اللوم إلى الخارج.

وفي تسعة مشاهد دون مونتاج استوحت فيلمها الروائي التوثيقي «على كف عفريت» (وربما أخطأت عندما ترجمت فيلمها هذا إلى The Beauty and the Dogs «الجميلة والكلاب»، ففي عقلية الغرب تعتبر الكلاب حيوانات أليفة، كان الأذكى أن تترجم إلى الذئاب أو ما إلى ذلك لتظهر وحشية ما تريد). هي قصة حقيقية حدثت في تونس ٢٠١٢؛ مرت دورية شرطة على إحدى الشواطيء في وقت تواجد شاب وصديقته في سيارتهما، انتهت القصة باغتصاب الفتاة الشابة على أيدي دورية الشرطة وسرعان ما تحولت إلى قضية رأي عام ساعدت في انتشار ما نشرته مريم بن محمد (اسم مستعار) التي تعاونت مع الصحفية الفرنسية آفا جامشيدي في كتابهما «مذنبة لأنني اغتُصبت». لم تذكر في الفيلم أن الجناة عوقبوا في الحقيقة بالسجن المشدد لعشر سنوات، ووضعت مشهدها وبطلتها الختامي في الصباح لتنتصر حياة أخرى وصعوبات أخرى ربما تواجهها.

وفي عام ٢٠٠٩ الذي تفقد فيه التونسية زينب البالغة من العمر تسعة أعوام والدها، وتحاول والدتها إعادة بناء حياتها مع رجل آخر في كندا، تقدم فيلم بعنوان «زينب تكره الثلج» لأن زينب الصغيرة لا تريد أن تستقر وتكمل حياتها في هذا البلد الجديد، زينب تكره الثلج؛ لا يمكنها العيش هناك بلا أصدقاء أو حياة صاخبة مثلما كانت تعيش هناك، فالحياة هنا تبدو باردة دون مشاعر، يتتبع الفيلم التسجيلي قصة محاولة تعايش زينب ووالدتها على مدار عدة سنوات، ماذا يمكن أن يفعل المرء تجاة قدرية إجباره على العديد من الأشياء كإنسان وبالتحديد كإمرأة عربية.

ثمة أشياء تكاد تكون ملموسة وثابتة في شاشة كوثر بن هنية: تلخص قصة فيلمها من خلال تسميته الواضحة تمامًا في كل مرة. تقدّم قضيتها مضادة للبطريركية الدينية التي تراها مسيطرة على أوضاع العالم العربي، ودائمًا ما تترك نهايات أبطالها مفتوحة أمام مأساة قد تبدو وشيكة بعد غلق كاميراتها والخروج من السينمات أو غرف النوم. تعمل على قصص حقيقية بالفعل كأفلام تسجيلية أو تستخدم قصة حقيقية لنسج خيوط خيالية بسيطة في فيلم روائي داخله بعض الحقيقة.

الرجل الذي باع ظهره..

نقلة مرتبكة لفكرة ملهمة

في بداية القرن الحالي كان ثمة أسطورة تقول إن هذه الفكرة عمومًا تجد صدى واسعًا وأن الغرب يتقبلها، يذهب البعض لجلب بعض من رجال ونساء أفريقيا السوداء وآسيا أحيانًا، ثم يعرضهم كما لو كانت في متحف للإنسان الأبيض الذي يصف نفسه بالتحضر، كتبت بن هنية سيناريو فيلمها الجديد ربما استهزاءً صريحًا بتسويق الفن بالطريقة المعروضة المستمرة إلى الآن وإدانة للرجل الأبيض الذي يقدم إلى العالم تلك الأفكار الهمجية تحت مظلة الفن.

في آخر مشروعاتها الذي حصد جائزة أفضل فيلم روائي عربي في الدورة الرابعة (الأخيرة) من مهرجان الجونة السينمائي، مباشرة بعد أن فاز بطل الفيلم الكندي من أصل عربي يحي مهايني بجائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسيا السينمائي ٢٠٢٠، فيلم The Man Who Sold His Skin أو كما ترجمته «الرجل الذي باع ظهره» (وربما كان من الأفضل أيضًا ترجمته إلى «الرجل الذي باع جلده» كتعبير أكثر تجريدًا وعمقًا) تحكي مأساة الإنسان العربي عمومًا ليس من تونس لكن هذه المرة من سوريا؛ عن طريق قصة شاب لا يمكنه الزواج من فتاة يحبها، يجد عقبة عمله وحاجته المالية، يتعثّر في أثناء سفره في الحصول على عمل يستره، يضطر إلى اللجوء إلى موافقة فنان غربي في لبنان طلب منه أن يرسم لوحة فنية على ظهره، وينتقل به بين المزادات لعرضها للبيع بعد الانتقال من بيروت إلى بلجيكا، في رمزية تكاد تتطابع ما يعيشه الإنسان السوري اليوم من تشريد ومزايدات يلقاها باختلاف نسبة حدوثها بين بلد وآخر. لا يملك البطل «سام» اختيارات كثيرة كسوري هارب من السجن خلال الحرب الأهلية ويريد إعادة بناء حياته مع فتاة يحبها.

في الوقت الذي قدمت فيه بن هنية صورة سينمائية ثاقبة بين المدن التي تنقلت بينها في أثناء التصوير، واختارت بعناية ممثليها؛ سواء مهايني الذي يقدم أولى بطولاته بعد عدد من الأفلام القصيرة، ثم بإقناع الفنانة العالمية مونيكا بيلوتشي لمشاطرة البطولة، إلّا أن الفيلم خرج إجمالًا كتجربة مرتبكة في سياقها العام، ربما لاستعراض عدد من النهايات التي لجأت إليها في مصير بطلها.

المعضلة التي يمثلها هذا الفيلم تتجاوزه وصانعوه إلى حيز أكبر يصلح للنقاش وإعادة طرحه للجميع: لماذا تخرج بعض المشروعات السينمائية غير ناضجة ومبتسرة رغم الاعتقاد بامتلاك صناعها المهارة الكافية لتفادي ذلك؟ تسقط الإجابة سريعًا من هوة الحاجة المُلحّة لصنّاع السينما العربية للجوء إلى عدد ليس قليل من منح وشركات الإنتاج لخلق مشروع فيلم واحد، وهو ما يفسّر بديهيًّا بعض تدخلات جهات الإنتاج تلك في بعض مصائر القصة حتى إذا نفى الصناع حدوث ذلك.

المخيال السينمائي العربي «الفقير» واتهامات الجمهور المتكررة بسذاجة كثير من الكتابات والإخراج السينمائي المحلي الذي يراه هذا الجمهور كحكم شامل على غالبية الأفلام المستقلة وغير المستقلة قد يبدو اتهامًا غير وجيه في ظل تحكم ومحدودية الأفلام التي يحتاجها السوق السينمائية العربية كأولوية إلى جانب قناعات جهات الإنتاج المختلفة وسقف حريتهم إقليميًّا ودوليًّا التي تجعل السيطرة الكاملة على خروج الأفكار كما في رأس كاتبها ومخرجها ضرب من الصراع غير المنصف بين الفنان وسلطته الداخلية من جهة ثم بينه وجهات الإنتاج المختلفة التي يضطر إليها من جهة أخرى. تضع تلك السردية الفنان العربي في دائرة قد تضطره أحيانًا للتنازل عن حديث المظلومية واللطميات التي تؤخر مشروعاته على أي حال إلى إنجاز أفكاره بالحد الأقصى من تحقيقها على الشاشة، في أثناء حكمنا على تكاسل الكتّاب والمخرجين علينا أن نضع ذلك ضمن سياق الارتباك الكلي الذي يعيشه الفنان العربي وتجربته المحاصرة من السلطة والجمهور ومحدودية مشاهداته أساسًا، وهو ما لا يمنع إدانة الارتباك النهائي الذي قد تقع فيه بعض المشروعات الواعدة مثلما وقعت فيه بن هنية.

على ما يبدو أنه أمام كل مشروع فني مكتوب أو مصور أو مسموع يخرج هناك عدد ليس قليل يتوقف دون سبب مقنع أو وجيه، وأمام هذا المنتج النهائي الوحيد عدد من الأفكار التي لم تسمح الظروف بتنفيذها كما كُتبت أو صُورت في ذهن أصحاب العمل.

مشروع كوثر بن هنية السينمائي الذي يبدو كتنويعة موتيفات بصرية تدين السلطة والمجتمع، العربي، وتثأر للمرأة داخله، يعي جيدًا هذه المحاصرة التي يعيشها الإنسان العربي عمومًا وربما يخلق ذلك لديّ شعورٌ بتوقَع معرفتها ببعض الارتباك الذي ما كان للمشروع أن يخرج دونه للأسباب السابقة، الإلزامية، غير المقنعة، التي يعانيها الفنان العربي بشكل يومي، في دولِه شبه المحطمة فنيًّا، فتجد -ونجد معها- بعض العزاء في قلة إحساس البعض بهذا الارتباك، ربما لأنها تعلم منذ البداية جمهورها الذي توجِّه إليه صورتها عن القهر والسيطرة التي تمارس عليه باستمرار، في سينماها القادمة بعد ثورات وانتفاضات راجت بين البلدان العربية في السنوات الأخيرة ولم تنطفيء وهج شرارة أفكارها بعد أو تذبل في الأذهان كما يبدو ذبولها في الواقع.

في فيلم «على كف عفريت» يقول أحد الشرطيين بينما يحثها على سحب محضر الاغتصاب: احنا اللي كابسين ع الذئاب علشان ميخرجوش رؤسهم ينهشونا، تصبح البلاد من غير أمن، إنت وأنا وأبويا وأخت وأمك، وصغار، يغتصبوهم ويغتصبوا البلاد وتعم الفوضى وتصبح البلاد فوضى للإرهاب، البلاد على كف عفريت وإنت تحب تشكي!». البطل/ المغتصب جلال في «شلاط تونس» يقول: ما نحب نقرأ.. نحب نحرق». وعندما تسأله عن علاقته بالبنات يقول «علاقة الحمار الوحشي بالمستنقعات». ينتهي فيلم «بطيخ الشيخ» باللافتة المكتوب عليها «لعنة الله على اللي يحط الرذيلة» وهي ذاتها الرذيلة (قشر البطيخ) التي وضعها الشيخ بيده أمام المسجد للتخلص منه. تحمّل بن هنية دائمًا مسؤولية أخطاء المجتمع في خطابها الثوري إلى الأشخاص الذين يعتقدون أنهم هنا لإصلاحه كبديل عن حكوماتهم غير الموفقة سواء داخل تونس أو خارجها.