هموم

أحمد عبد اللطيف

كيف نترجم كتبًا تقول إننا محقون

2021.01.01

كيف نترجم كتبًا تقول إننا محقون

بدايةً من النصف الثاني من القرن الـ 19، يمكن الحديث عن الترجمة بارتباطها بمصر الحديثة، كنتيجة طبيعية للبعثات العلمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا، وكانوا أربعين طالبًا من بينهم رفاعة الطهطاوي، ليتعلموا كيف تكوَّنت الدولة الفرنسية، وكيف تقدمت. أضافت البعثات لمصر تصورًا عن شكل الدولة البيروقراطية وتركيبتها الهيراركية، كما فتحت لنا أفقًا على الثقافة الغربية لم يكن غائبًا عنا إلا لأننا كنا دولة مستعمرة لا يمثِّل الغرب بالنسبة لنا إلا المحتل. لكن اللبنات الأولى لمشروع ترجمة نهضوي لم يتأسس على المعرفة الحقيقية للغرب، وإنما انتقى من الغرب ما يناسب الثقافة العربية الإسلامية ونحّا جانبًا، وغض البصر، عما يتعارض مع قيم الثقافة المنقول إليها. حاولت الترجمة في تلك الفترة أن تقيم جسورًا بين ثقافتين ترى كل منهما العالم بشكل مختلف، فأوروبا كانت قد أنهت صراعها الطويل بفصل الكنيسة عن الملك، وكانت قد دخلت عصر النهضة بكل ما يحمله من تحرر، وأسس فلاسفتها تيار الحداثة الذي كان الطلقة الضرورية لهدم القيم الرجعية والتقدم نحو العلم والمنطق، ثم جاءت الثورة الفرنسية لتؤسس لقيم الجمهورية والديمقراطية، وبفضل فلاسفة ومفكرين تأسس تنوير فرنسي/أوروبي. في أثناء ذلك، كانت مصر، مع بقية الدول العربية، تعيش في ظلام الدولة العثمانية، وعلى مدار ما يقرب من 300 سنة انقطعت صلتنا بالعالم، ليتحوَّل الفنان المصري إلى مزارع في إقطاعيات ووسايا. لا شك أن الحملة الفرنسية، على الرغم من عيوبها كاحتلال، قد فتحت عيوننا على مآسي حياتنا المظلمة، ليس فقط بالمطبعة التي أسهمت في نهضة ثقافية، بل أيضًا بالكاميرا السينمائية وأسلوب الحياة النظيفة، ما فتح أمامنا طريقًا نحو حداثة عربية استغلها محمد علي ليؤسس لدولة عسكرية قوية، كهدف أساسي، مدركًا أن ذلك لن يحدث ما لم يتأسس لنهضة علمية موازية. كانت البعثات، إذن، اصطدام بين حضارتين الفارق بينهما، على أقل تقدير، 300 سنة، ولقاء بين ثقافتين من الصعب أن يلتقيا، ولعل كتاب الطهطاوي «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز» يكشف هذه الصدمة الحضارية، صدمة الأزهري أمام ثقافة الفرنجة، والأزهري هنا هو المثقف المنوط به نقل الحداثة إلى مصر، بكل ما يحمله من ممنوعات دينية ورؤية لا تعرف إلا اليقين والحقائق المطلقة.

هذا السياق الثقافي المغلق، حيث لا يعرف الناس إلا ثقافتهم وأحيانًا كثيرة لا يعرفون ثقافتهم، وما يرتبط به من غياب تام للتعليم، باستثناء طبقة محددة ومحدودة، أفرز تنويريين أخلاقيين وتربويين، انطلقت نظرتهم إلى الثقافة الغربية من سياقهم الثقافي والديني، وكان شريطة الكتب المترجمة إما أن تكون علمية أو أدبية لا تصطدم بالثقافة الإسلامية، بل وتحض على التعاليم الأخلاقية، ومع أنه في الفترة من 1860-1914 تُرجم في مصر 237 رواية، بحسب محمد سيد عبد التواب (بواكير الرواية، ص 36)، فإنها كانت خاضعة لهذه الرؤية، ويتكشف ذلك حتى في مقدمات الروايات العربية في تلك الفترة، مثل «زينب» لهيكل، و»الدين والعلم والمال» لفرح أنطوان، و»أسرار القصور» لأمين رسلان. في هذا السياق، يترجم رفاعة الطهطاوي رواية «وقائع تليماك» لـ فينلون تحت عنوان «مواقع الأفلاك في وقائع تليماك»، ويقدم لها بأنها تشتمل «نصائح للملوك الحكام ومواعظ لتحسين سلوك عامة الناس..»، فيبدو جليًّا أن الطهطاوي لم يعامل نفسه كمترجم بقدر ما رأى نفسه مصلحًا اجتماعيًّا تخضع اختياراته «لما يفيد الناس»، من هنا كان استخدام لفظ «تعريب» هو الأقرب لمدرسة الطهطاوي التي استمرت لمنتصف القرن العشرين. هذا التأسيس، وهذه الاختيارات والتوجه في تنقية الكتب المترجمة، كان البوصلة لأدب مترجم خاضع للرقابة، رقابة تبدأ أولاً من المترجم (في حالة الطهطاوي مترجم ممثِّل للثقافة الرسمية)، وفيما بعد رقابة دور النشر الحكومية حين انفصل عنها المترجم وفقد سلطته.

لا يقلل ذلك من جهود المترجمين الأوائل في مصر الحديثة، لكنه يرسم لنا لوحة تصويرية عن الأسس التي قامت عليها الترجمة للعربية بالمخالفة لقوانين الترجمة الأوروبية، إذ سعت أوروبا على طول تاريخها لتأسيس «علم الترجمة»؛ ووضعت له نظريات وأسس أولها الإجابة على سؤال لماذا نترجم، فلم يكن البعد المحلي هو الشاغل، لأن أول منجزات الترجمة هو تطوير المنتج المحلي والعقلية المحلية عبر اكتساب معارف أخرى وجديدة، وليس الاتساق مع القيم الأخلاقية للمجتمع. ربما أدرك طه حسين هذا الخلل، فأسس لمشروع ترجمة الألف كتاب في سبيل انفتاح أكبر على الثقافة الأوروبية، إذ رأى طه أنها طوق النجاة للثقافة المصرية، وكان ذلك في إطار مشروع إحياء ثقافة البحر المتوسط، كما يتضح في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي ألح فيه على فكرة التقارب بين مصر والغرب، وأشار بنقد لاذع للقطيعة التي حدثت أيام الدولة العثمانية، ما تركت شرخًا في الثقافة المصرية.

في تسعينيات القرن الماضي؛ وهو العقد الذي شهد صعود التيار الإسلامي والعمليًّات الإرهابية والاغتيالات لسياسيين ومفكرين، تأسس المشروع القومي للترجمة (المركز القومي للترجمة فيما بعد) كرد فعل على التراجع الثقافي في مقابل الغزو الديني. ومع أنه بدأ كمشروع تنويري نهضوي، وأنتج الكثير من الكتب الهامة إلا أنه خيَّب الآمال في أن يكون قاطرة حقيقية للثقافة بعد أن تحوَّل إلى جيتو مغلق يصعب التواصل معه، وبعد أن اقتصر التعامل معه على مترجمين تحولوا مع الوقت إلى موظفين بالمركز، ثم لم يعد من أولوياته متابعة الجديد في عالم الأدب بقدر ما يعنيه تسويد أوراق تدل على نشاطه. مع الوقت تفاقمت أزمات المركز ليستحيل مقبرة للكتب، وليس دارًا لنشر الثقافة. لكن الأزمة الكبرى أن ثمة مشاريع للترجمة يجب أن يلتفت إليها المركز وهيئة الكتاب، لأنها مشروعات قومية أهميتها في قيمتها، وليست في تحقيق أرباح. وبنظرة سريعة على وضع المركز في مقارنة مع دور النشر الخاصة، سيلاحظ أنه خارج المنافسة، وبالقدر نفسه سيلاحظ أن الترجمة بهيئة الكتاب أصبحت شبه ميتة. لم ينجُ المركز كذلك، كجهة رسمية، من فخ الرقابة والانحياز، وافتقد لإنتاج أعمال مثيرة للجدل أو تدفعنا لإعادة النظر في منتجنا الفكري والتاريخي. لن يقدم المركز، على سبيل المثال، أعمالاً تكسر التابو الجنسي ولا الديني، وستتجاهل الرأي الآخر فيما يخص تاريخ العرب في الأندلس، كأن لدينا وجهة نظر ونبحث عما يؤيدها في الكتابات الغربية. بالطبع توجد كتب مهمة في الفلسفة، وفلسفة النصف الثاني من القرن العشرين، مثل أعمال دريدا والبنيوية وما بعدها، لكنها ليست ملمة بشكل كافٍ بما يحتاج إليه القارئ المصري/العربي.

 استطاع المركز القومي للترجمة أن يلقي حجرًا في بركة آسنة، لكنه اكتفى فقط بإلقاء الحجر، فيما تلقت الحركة دور نشر خاصة، مصرية وعربية، التفتت مؤخرًا إلى «تجارة الترجمة» وليس إلى صناعتها، فركزت جُلّ اهتمامها في ترجمة الروايات. نوع أدبي مهم بلا شك، لكن لا يمكن اختصار حركة الكتابة والفكر في العالم في نوع أدبي واحد، مع إهمال تام لترجمة القصة والشعر والمسرح والكتب النثرية والفكرية والعلمية، في ادعاء بأن هذا ما يريده القارئ وما تطلبه المكتبات، وفي تضييق حاد للذائقة، ما أظنه «نهضة كاذبة» تتباهى بكم الكتب المترجمة وتتجاهل الكيف.

أظن أننا، منذ ما يزيد عن عشر سنوات، لا نعمل وفق مشروع ترجمة نهضوي، مشروع جمعي رؤيوي يدرس ما تحتاج إليه ثقافتنا من أجل نجدتها من المستنقع الفكري الذي نعاني منه ويعيد إلينا تعريف البديهيات الفكرية والفلسفية، لتغدو الترجمة مجرد مشروع فردي يخص كل مترجم، مشروع لا يتحقق منه إلا ما يسمح به النشر، وطبقًا لحسابات السوق والمكسب والخسارة. ومع أني لست من أنصار الثقافة الحكومية، أو اختصار الثقافة في المنتج الحكومي، فإني أعتقد أن ثمة مشروعات كبرى يجب أن تتصدى لها جهات حكومية، مثل المركز القومي للترجمة وهيئة الكتاب، وتتصدى هنا بمعنى أن تخطط لها وتدرسها ثم تتحمل تكاليفها الاقتصادية، دون أن تكون هي الناشر، بوضوح: أن تعهد للدور الخاصة بنشرها. سيؤدي ذلك إلى سرعة النشر، ستتجنب البيروقراطية، وستهرب هذه المشاريع من يد الرقيب (سواء الرقيب كموظف أو كعامل مطبعة) وسترى النور أكثر لأن الناشر الخاص سيعمل على التوزيع والمكسب والانتشار عبر الوسائل الجديدة. هذا النوع من التعاون، هذا النوع من الدعم أو النشر المشترك، في ظني، سيكون مثمرًا أكثر.

بنظرة بانورامية على حال الترجمة في مصر، في العشر سنوات الأخيرة، نلاحظ تراجع المركز القومي للترجمة، وتراجع سلسلة الجوائز بهيئة الكتاب لدرجة الاختفاء، ومحدودية إنتاج سلسلة آفاق عالمية بهيئة قصور الثقافة، في الوقت نفسه ليست هناك دور نشر خاصة لديها القدرة على سد هذا التراجع أو تقديم مشروع ترجمي متماسك، وهذ العجز له أسباب متعددة، منها اعتماد الدور الخاصة على الدعم من جهات أجنبية تفرض شروطها في اختيار الأعمال، ومنها اعتماد هذه الدور على مترجمين قليلي الكفاءة لتقليل النفقات، ومنها غياب الرؤية لما يحتاج إليه الواقع الثقافي والمجتمعي وليس ما يحتاج إليه، رغم أن السوق بالمنطق التجاري هم مجموعة من القراء ينتظرون الكتب التي يختارها الناشر. ولعل العلاقة بين الناشر والمترجم أحد أسباب تجنب المترجمين للتعامل مع دور نشر مصرية، أقصد بذلك أجور الترجمة المتدنية التي لا تتوافق مع الجهد والربح.

في أثناء هذا التراجع في دور النشر، يلاحظ أن مصر أفرزت في العشرين عامًا الأخيرة عددًا هائلاً من المترجمين الكفء في الكثير من اللغات، وللأسباب السابقة، فضّلوا التعاون مع دور نشر عربية تحقق لهم الانتشار عربيًا وفي الوقت نفسه تقدَّر جهودهم بمكافآت منطقية تتناسب مع نسبة المبيعات من ناحية ومع جهدهم من ناحية أخرى. هذه المروحة من الاختيارات من بين دور نشر عربية كثيرة تهتم بالترجمة أدت إلى ازدهار الترجمة العربية في مقابل كساد الترجمة المصرية. ما من مبالغة في أن هناك مترجمين مصريين تحمَّلوا على أكتافهم نهضة ترجمية عربية في لغات مثل الإسبانية مثلاً. وما من شك أن الدور العربية مثل الجمل والمتوسط والآداب وممدوح عدوان والمدى سابقة بسنوات الدور المصرية سواء في جودة الترجمة والاختيارات أو في شكل الكتاب، أو في حجم التوزيع. وأخيرًا، الدخول في معركة الرقابة المؤجلة، بحيث لا تفرضها الدار ولا يفرضها المترجم، حتى تصل في النهاية إلى جهة مسؤولة فنكون على الأقل غسل أيدينا من الشعور بالذنب.

الطهطاوي لم يعامل نفسه كمترجم بقدر ما رأى نفسه مصلحًا اجتماعيًّا تخضع اختياراته «لما يفيد الناس»، من هنا كان استخدام لفظ «تعريب» هو الأقرب لمدرسته

طه حسين أسس لمشروع ترجمة الألف كتاب في سبيل انفتاح أكبر على الثقافة الأوروبية التي رأى أنها طوق النجاة للثقافة المصرية

مصر أفرزت عددًا هائلاً من المترجمين الكفء في الكثير من اللغات، فضّلوا التعاون مع دور نشر عربية تحقق لهم الانتشار وتقدَّر جهودهم ماليا