مراجعات
أريج جمالكيف نُغيِّر العالم دون ثورة؟
2021.03.01
كيف نُغيِّر العالم دون ثورة؟
الفيلم التسجيلي اليوناني "حين التقت الطماطم بموسيقى فاجنر"
تحكي كلاريسا بنكولا في كتابها "إطلاق يحكي الفيلم التسجيلي "حين التقت الطماطم بموسيقى فاجنر" حكاية تبدو خيالية، لكنها ليست كذلك، عن قرية في اليونان عدد سكانها 32 شخصًا فقط، يشتغلون في زراعة الطماطم بشكل أساسي، يستخدمونها في عمل وصفات ومُنتجات تعتمد عليها القرية في الطعام، فتحقق بها الاكتفاء الذاتي، وتُصدِّر منها أيضًا إلى الدول الأخرى، كالصين وأمريكا وكوستاريكا وغيرها. الفيلم من إنتاج عام 2019، ومن إخراج ماريانا إيكونومو، وقد عُرض لمدة يومين ضمن قسم البانوراما العالمية، عبر الموقع الإليكتروني "قافلة بين سينمائيات"؛ المنصة المتخصصة في عرض أعمال صانعات السينما من أنحاء العالم.
يبدأ "حين التقت الطماطم مع موسيقى فاجنر" بأجواء أسطورية، عندما يُطلق ألكسندر، قائد هذه الجماعة المُستقلة، صيحة في السهل ويسمع صداها يتردد، فيبتسم ويقول إنه لهذا السبب يحب المكان. بعدها ينسجم في نقاش مع زميله حول نوع الموسيقى التي يمكن أن تناسب محاصيل الموسم الزراعي. ليس هدف الموسيقى أن تُدلل المحاصيل فقط، إذا جاز التعبير، لكنها تلعب دورًا مهمًا في زيادة عدد الثمر، وفي تَحمير الطماطم، كي لا تُقطف خضراء. "نحتاج إلى موسيقى تُحرِج الطماطم"، عندما تشعر الطماطم بالحرج، سوف تصبح حمراء سريعًا، وهذا هو المطلوب.
كيف توصَّل المزارعون إلى هذه النظرية، أو على نحو أدق، كيف انتهوا إلى هذا الاعتقاد الجازم أن الزرع في حاجة إلى الموسيقى؟ لا تُجيبنا الأحداث عن هذا السؤال، يجعلنا الفيلم نرى مباشرة النتيجة التي توصلوا لها. "زاد المحصول بمعدل أربعة أضعاف على وقع الموسيقى اليونانية الشعبية". لكن ألكسندر الذي يعشق أعمال الموسيقار ريتشارد فاجنر يعترض، فلا يمكن، من وجهة نظره الاعتماد على الموسيقى الشعبية فحسب.
عالم بديل
بين أفراد هذه الجماعة، ليس ثمة شباب. قد يكون ألكسندر الخمسيني هو الأصغر سنًا بينهم، غير أنهم يتشاركون القناعة بأن العمل لا علاقة له بالسن، إنهم يأكلون ما يعملون، وما داموا أحياء فليس هناك وسيلة أخرى للأكل. "لن نتضور جوعًا". يتمرد أبطال الفيلم على استعبادات النظام العالمي للإنسان للنظام الحديث. في حوار جانبي يسأل ألكسندر: "هل نسمح لهم بتدمير أحلامنا؟". قاصدًا بذلك الرأسمالية والرأسماليين. لقد اختار ألكسندر وجماعته، أن يكون رأسمالهم الوحيد هو هذه الأرض وما تُنتجه. تبدو علاقتهم محدودة بالتكنولوجيا. لا يتحدثون طويلًا في التليفونات، ولا ينقل لنا الفيلم إذا كانوا يتفرجون على التليفزيون. إنهم مُكرَّسون تمامًا للأرض، ولهذا الخيط النقي الذي يربطهم معًا.
تواسي العمَّات، بعضهن بعضًا، فهناك العمّة التي تعيش حدادًا نفسيًّا طويلًا منذ أعوام، لا ترتدي سوى اللون الأسود، وهناك عَمّة أخرى تلمع عينيها حين يشرح ألكسندر، وهو يمسك الخريطة، طريق الرحلات التي تقطعها مُنتجات الطماطم من قريتهم التي "لا يمكن رؤيتها على خريطة العالم"، وحتى تصل إلى الموانئ في البلاد البعيدة. تقول العمّة بحماس طفولي: "لماذا لا نسافر نحن أيضًا مع الطماطم؟". حياة العمل وربما "الكفاح" كما نسمع أكثر من مرة في الفيلم، لا يمكن أن تكون سهلة على أحد من الأبطال، وهذه العُزلة الجميلة لا تعني أنهم قد أفلتوا دون تجربة. ففي نهاية الأمر ترتبط الزراعة بالصناعة، والجماعة تحتاج أحيانًا إلى المعدات، لوضع مُلصقة شارحة مثلًا باسم المُنتج على أكثر من ثلاثة آلاف عبوة. وعلى الرغم من العناد الذي يظهر على ملامح ألكسندر واختيارته الموسيقية، فإنه مثلهم يحتاج إلى الدعم والتطمين، ويلجأ إلى القصص، أو مجددًا إلى الفن، ليحكي للعمّات وهن يعملن في المطبخ، أسطورة الفتاة التي يتحكم حزنها وفرحها في رخاء القرية وفي أزماتها. أدركت الفتاة متأخرًا قدرتها على التأثير، لكن تقريبًا بعد أن فقدتها، وصار السؤال كيف تُعيد للقرية الذابلة انتعاشها السابق؟
تتنقل الكاميرا بين الوجوه، وفي لقطات قريبة تنقل لنا، ليس فقط فضول المُستمِعات، شغف الإنسان اللامتناهي بالقصص، لكن أيضًا ما مَسّه فيهم، هذا السؤال. كيف تعود الروح إلى القرية، قريتهم؟
الرحلة
يواجه العمل عدة أزمات. ليس لهذا الجيل أبناء، ولا أحد يعرف ما سيكون عليه المستقبل. مَنْ الذي سيواصل زراعة الأرض؟ كما أن المُنتجات التي يعملون عليها من الألف إلى الياء تحتاج إلى تسويق. لا يمكن بالطبع إغفال تحدي الكسب، الذي يرتبط بتواصل الإنتاج، وتحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة في القرية التي يقول أحد سُكانها مُعلقًا: " كان هناك مقهى قريب، لكنه لم يعد. لقد نسينا الله والإنسان على حد السواء، لكن الله لم ينسنا".
تذهب الفرقة في رحلة، كانت تتمناها العمّات، ويحوّلها ألكسندر، على الرغم من أجواء المرح واللطف، إلى رحلة عمل. في بلجيكا، يعودون أطفالًا، يتمتعون بزيارة المعالم الأثرية، يمرّون بجوار قصور السياسة التي تُدار من خلالها البلد، وأخيرًا يتوجهون إلى المتاجر الكُبرى التي تستورد مُنتجاتهم. يدخلون إلى المطابخ، ويُعلّق الطهاة على مذاق الوصفات، ليس بالكلام، لكن بالنظرات والإيماءات التي تتعلق بها العيون. يحسون بالانطلاق، بالحرية، بالانعتاق من أسر العمل، ثم بالحماس والفخر، لكن أيضًا بالإحباط والزعل إزاء تعليقات المسؤولين، وأسئلتهم. إنتاج صلصة الطماطم بهذه الطريقة أمر ليس مُربحًا، صح؟ يُسأل ألكسندر. ويضطر إلى الإجابة: نعم. لكن مَنْ يبحث عن الربح فقط؟ ينبغي أن ينوِّعوا في الوصفات، أن يضيفوا إليها بعض العناصر التجارية الجذابة. أن يُعرّفوا أنفسهم أكثر على هذا السوق الذي اسمه العالم، ينبغي أن يعملوا على صورتهم. "وإلا فلن يسير الأمر"، كما يقول لهم أحد العُمال.
بعودتهم من هذه الرحلة، مُحملين بالأسئلة، سرعان ما يبعث القدر للفرقة مجموعة من الطلاب الفرنسيين الذين يقصدون اليونان، هذه القرية تحديدًا، للاستفادة من خبرات أهلها الزراعية؛ قد يقدم الطُلاب الذين تُكرمهم القرية بكل طريقة ممكنة، في الإقامة والتمرين والاطلاع على أدق تفاصيل سير العمل، قد يُقدمون إجابة ما على سؤال المستقبل، لأنهم بلا شك سيحملون هذه الخبرات، الأحلام، وهذا الإصرار عائدين إلى بلادهم.
الفن
إن عملًا مقاوِمًا مثل هذا، ليس ممكناَ أن يتم دون إيمان. في الحوارات التي تسمعها الكاميرا، بين أبطال هذا العمل، مرورُ مُتجدد على الفن. لا تُصدق العمّة أن هناك شيئًا بعد الموت، يمكن أن تختبره الروح، ثم تستدرك "على الأقل ينبغي أن نعيش هذه الحياة الآن، لأننا لا نعرف ما سيحدث بعد ذلك". تستبدل القرية الإيمان بالغيبيات، بإيمان آخر، هو الإيمان بالفن.
يقول ألكسندر إنه يؤمن ببعض الخرافات، أو يؤمن بها حين يُرددها، لأنه يحتاج إلى ذلك "إن كُنتَ لا تجد الكلمات لوصف مشاعرك، فقد تُنشئ قصيدة أو خرافة لوصف هذه المشاعر ثم تمضي قُدمًا". يحتاج المرء إلى الفن من أجل أن يعيش، ويحتاجه أكثر من أجل أن يثور، ولهذا يرى ألكسندر "لا يمكن الاعتماد على الموسيقى الشعبية اليونانية فقط"، مع المحاصيل حتى لو كانت تُزيده أربعة أضعاف، إنها وجهة نظر جمالية في الثورة.
لا يجعلنا الفيلم نسمع بقية أسطورة الفتاة الحائرة ماذا تفعل مع قريتها الذابلة. لكنه ربما، يدفعنا إلى فهم الطريقة التي يمكن أن تتصرف بها. "من المُهم أن نكافح باستمرار"، هكذا يقول ألكسندر قرب نهاية الفيلم. في الواقع، حسب فلسفة هذه القرية، لا يمكن للمرء أن يُغيِّر العالم، دون الكثير من الكفاح، حتى لو رأى الآخرون هذا الكفاح نوعًا من الجنون، أو عدم الربح.
ولأنه، قد يكون من الصعب علينا نحن المشاهدين، أن نحفظ الأبطال وأسماءهم وقصصهم، من فُرجة واحدة، مع هذه الجرعة المكثفة من الحلم التي يجعلنا "حين التقت الطماطم مع موسيقى فاجنر"، نعيشها؛ فإن المُخرجة ماريانا إيكونومو، تجمع رفاقها في رحلة هذا العمل التسجيلي في لحظة واحدة ضمن صورة فوتوغرافية واحدة يشهد الفيلم على لحظة التقاطها، وعلى وقع موسيقى فاجنر يقول ألكسندر، المُقاوِم حتى ما بعد اللحظة الأخيرة "إنهم يريدون أن يعرفوا مَنْ يصنع صلصلة الطماطم هذه، إذن لنأخذ صورة معًا، ونجعلهم يروننا".
توجِّه هذه الصورة تحية للمناضلات والمناضلين: نيكي، سافرولا، كاتينا، أجاثي، أولجا، وألكسندر والآخرين. في النهاية، يُصرّ ألكسندر على تعليمنا أسطورة أخرى قبل أن نغادره، أسطورة الحوريات، اللواتي يظهرن للرجال العائدين ساعة الغروب، ويطرحن عليهم ثلاثة أسئلة محددة، ليست سهلة بأي حال، وسوف تستغرق عمرًا كاملًا للإجابة عليها، الأول: مَنْ أنت؟ الثاني: أين أنت؟ والثالث: إلى أين تريد الذهاب؟