رؤى

ماجد وهيب

لماذا نكتب آراءنا على مواقع التواصل الاجتماعي من سقراط إلى أمبرتو إيكو

2020.09.01

لماذا نكتب آراءنا على مواقع التواصل الاجتماعي من سقراط إلى أمبرتو إيكو

وُجد الإنسان على الأرض كثير الرغبات والشهوات؛ ويكثر كلامه عن شهوة المال والحب والجنس والنفوذ والشهرة.. إلخ، لكننا نُغفل شهوة أخرى، وهي شهوة أن نكون أصحاب رأي. في عصر يمتاز بالصخب والسرعة ولا يمضي يوم فيه دون حدث مهم، محليًّا أو عالميًّا، تكبر شهوتنا في التعبير عن وجهات نظرنا وتزداد وضوحًا وعنفًا لتأخذ مكانها وسط بقية الشهوات، وهي، إذا صح التعبير، شهوة ولدت من رحم شهوة أخرى أكبر وأعتق وأوضح، وهي شهوتنا في ألا نكون منعزلين، شهوتنا في أن نشارك وأن ننغرس وسط المجتمع، فنحن، مهما ادعينا، لسنا كائنات مائلة للعزلة والوحدة.

 في كتابه "الخوف من الحرية" يقول إريك فروم "إن الكاهن في صومعته الذي يؤمن بالله والسجين السياسي المعزول الذي يشعر بتوحده مع رفاقه من المناضلين ليسا وحيدين خلقيًّا، إن الدين والقومية وكذلك أية عادة وأي معتقد مهما يكن عبثًا ومنحطًا إن كان يربط الفرد بالآخرين فجميعها ملاجئ مما يخشاه الإنسان أيما خشية، ألا وهي العزلة.

إن الوحدة بمعناها الفيزيائي ليست مشكلة كبرى، فالفرد قد يكون وحيدًا بمعنى فيزيائي لعدة سنوات ومع هذا من الممكن أن يتعلق بالأفكار والقيم، أو على الأقل بالأنماط الاجتماعية التي تعطيه شعورًا بالتواصل مع الآخرين وبأنه يمت إلى شيء، ومن جهة أخرى قد يعيش وسط الناس ومع هذا يقهره شعور مطلق بالعزلة لعدم ارتباطه بقيم وأفكار من يعيش وسطهم". أول الأشياء التي ستجعلنا في قلب مجتمعنا هو أن نكون في قلب أحداثه المهمة، إن تعاطينا مع ما يحدث حولنا وأن يكون لنا رأي فيه هو أول خطوة لنا في ألا نكون منعزلين وأن نجد ما يربطنا بالآخرين وبقيم وأفكار من نعيش معهم. وإذا كنا لا نشارك بتأثير فعال في الأحداث، لا نكون أبدًا على أرضية الملعب، لا نكون ضمن من يلعبون، ولم يكن أحدنا قط هو "الترند Trend"، لنكن إذن ضمن من يعلقون ويقولون آراءهم، وليس مهمًا إن كانت آراؤنا ستغير شيئًا أو لا، ستصل إلى من في المعلب أو لا، المهم أن نقولها، لنطعم رغبتنا في أن يكون لنا وجود في المشهد، في الترند، ولو بالتعليق، حتى لا نشعر أننا خارج المشهد تمامًا، ورغبتنا هذه هي بدورها إشباع لشهوة أن نكون أصحاب رأي، التي بدورها وليدة رغبتنا، التي تكلم عنها فروم، في أن نرتبط بالعالم ولا ننعزل عنه، ومواقع التواصل الاجتماعي بدورها قد صارت فكرة من أفكار عالمنا الحديث، نمطًا من أنماطه.

تكلم حتى أراك

قديمًا قال سقراط "تكلم حتى أراك"، وتسليمنا بأننا كائنات تحب أن تُرى كما تحب أن ترى، يبين لنا كيف اتفقنا جميعًا مع مقولة سقراط ونفذناها، لنقول للعالم ها نحن لنا صوت فهل تلاحظوننا؟ من خلال صوتنا نُرى، بمعنى أدق من خلال كلامنا ووجهات نظرنا. قديمًا كنا نقول آراءنا لأصدقائنا في جلساتنا الخاصة، ثم تطور العلم وقدم لنا هدية بالغة القيمة؛ وهي مواقع التواصل الاجتماعي، فامتلأت صفحاتنا بآرائنا في كل شيء يحدث، نحن نكتب، نتكلم، ليرانا الآخر والآخر يرد علينا بكلامه، بآرائه، لنراه نحن أيضًا.

 وقد رأى أمبرتو إيكو أن مواقع التواصل الاجتماعي هي "غزو البلهاء" فعلى حسب تعبيره، أعطت الفرصة لملايين من الحمقى أن يتكلموا في كل شيء كأنهم قد حصلوا لتوهم على نوبل، وكانوا قديمًا يتكلمون فقط في الحانات ويتم إسكاتهم على الفور. حسب كلام إيكو فمواقع التواصل لا تشبع فقط رغبتنا في التعبير عن آرائنا، وإنما أيضًا تشبع رغبتنا في أن نكون مهمين، أو هكذا تشعرنا. ربما تكون وجهة نظر إيكو تهتم بمنفعة المجتمع ككل، من حيث إن كثير من الآراء التي تمتلئ بها صفحات التواصل الاجتماعي يُقذف بها اعتباطًا من أناس غير متخصصين، مما يسبب ضررًا للمجتمع، إذ أن هذه الآراء مع كثرتها واندفاعها بغير رقيب تؤثر سلبًا في المجتمع إذ تشكل هي الوعي الجمعي وتثير اشمئزاز أصحاب العلم والخبرة، لكنه في المقابل يغفل عن نفعية هذه المواقع للإنسان في حالته المفردة من حيث إنها تلبي شهوته في التعبير عن رأيه. 

بوضع مقولة سقراط جنبًا إلى جنب مع مقولة إيكو، يمكننا أن نستحضر "الجنس بأجر" ونضعه في مقارنة مع مقولة الاثنين، سقراط وإيكو، لنقيم مقارنة تبين لنا الفرق بين المقولتين من ناحية، وبين تعاطينا نحن كمستهلكين، أو تعاملنا، لمواقع التواصل ولبائعات الهوى، من ناحية أخرى. ينظر رجال الدين والمجتمع لمن تعطي الجنس مقابل أجر على أنها عاهرة ترتكب إثما كبيرًا، وهكذا ينظر إليها من يمارس معها الجنس نفسه، لكنها في المقابل أشبعت شهوة ملحة، وهنا تكمن منفعتها، وفي مجتمعات محافظة مثل مجتمعاتنا ظهرت أصوات قليلة تنادي بترخيص العاهرات لتقليل حوادث التحرش والاغتصاب. يمكننا النظر إلى رأي إيكو في مواقع التواصل على أنه مماثل لرأي رجال الدين والمجتمع في بائعات الهوى، ونداءات بعض الناس في مجتمعاتنا المحافظة لترخيص الدعارة مماثل لدعوة سقراط "تكلم حتى أراك" في مجتمع كان لا يتكلم، ثم استجاب العلم بعد زمن طويل لدعوته، وقدم للإنسان منصة سهلة ورخيصة التكاليف ليقول فيها آراءه ويتكلم كي نراه، وهكذا سيكون رأي من يمارس الجنس مع بائعة الهوى في بائعة الهوى نفسها يشابه رأينا نحن في مواقع التواصل نفسها، فنحن، على الرغم من أن مواقع التواصل تشبع رغبتنا في إبداء وجهات نظرنا، إلا أننا لا نكف عن مهاجمتها ووصفها بأنها مضيعة للوقت وجالبة للاكتئاب أحيانًا، كما لا يكف من يمارس الجنس مع امرأة مقابل أجر عن وصفها بالعاهرة على الرغم من أنها تشبع رغبته في الجنس، وهي موجودة بوجوده، كما أن مواقع التواصل موجودة بوجودنا وحاجتنا إليها، فإذا امتنعنا عنها سينتهي وجودها. تماديًا في المقارنة يبقى علينا أن نقارن بين الفعلين نفسهما، فعل التعبير عن الرأي على مواقع التواصل وفعل ممارسة الجنس مع بائعات الهوى. يحقق الفعل الثاني المتعة كاملة، يحقق إفراغ تام للشهوة، لكن الفعل الأول يظل مشبعًا لجزء من الشهوة وليس لها كلها، وهكذا سيكون التشبيه الدقيق هو أن التعبير عن الرأي عبر مواقع التواصل الاجتماعي يمكن النظر إليه، كفعل في حد ذاته، شبيهًا بفعل الاستمناء في الرغبة الجنسية. يمكننا رد ذلك إلى طبيعة المكان الذي نفرغ فيه شهوتنا في التعبير عن الرأي، فهو في النهاية عالم افتراضي، يقابله في فعل الاستمناء عالم متخيل يبنيه الإنسان ويعيش فيه حتى يفرغ شهوته. إذا كان الأمر هكذا لماذا لا نكتفي بالتعبير عن آرائنا في العالم الحقيقي، أي في الجلسات الخاصة مع أصدقائنا؟ وهنا ستكون العملية مماثلة للجنس الكامل وليس الاستمناء. يبدو أن للعالم الافتراضي مزاياه التي لا يحققها العالم الحقيقي، كما للاستمناء أيضًا مزاياه، فنحن في العالم الافتراضي لن يقاطعنا أحد، ويأتي كلامنا مرتبًا ومنمقًا قدر ما تتيح إجادتنا للغة، ونظرة لنا ونحن تلاميذ صغار نجلس في الفصل وأمامنا المدرس تفسر لنا أيضًا ميزة أخرى للعالم الافتراضي، فمن منا وهو جالس في الفصل لم يتمن أن يكون هو المدرس الواقف على السبورة؟ الحائط على مواقع التواصل يكون بمثابة سبورة والمنشور الخاص بنا هو الدرس الذي نلقيه، وأصدقاؤنا الذين سوف يقرأون كلامنا هم التلاميذ والموقع الافتراضي هو الفصل، وهكذا يكون التعبير عن وجهات نظرنا على مواقع التواصل هو أيضًا إشباع لرغبتنا في أن نكون مدرسين حتى وإن لم تكن مهنة التدريس هي المهنة التي نحلم بها، حتى لو لم تكن هي المهنة التي بها كنا نجيب عمن يسألوننا ماذا نحب أن نصبح لما نكبر، إنها رغبتنا اللا واعية. وإضافة إلى لذلك فمواقع التواصل تعطينا ميزة أخرى وهي أننا نعبر فيها عن رأينا أمام عدد أكبر.

اعرف نفسك

 وعودة إلى سقراط، الذي قال أيضًا: "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك"، وهي بداية الفلسفة، وباتفاقنا أننا إذا كنا نكتب على مواقع التواصل الاجتماعي آرائنا فإننا نفعل ذلك كي نجعل الآخرين يروننا، ومن ثم نُعرّف أنفسنا لهم، يمكننا أن نمد الخط على استقامته فنصل إلى أننا بكتابة آرائنا نعرف نحن أيضًا أنفسنا، بالكلام الذي يحدث بيننا وبين الأصدقاء المعلقين على ما نكتب، الموافقين والمختلفين، تستزيد معلوماتنا وخبراتنا، وربما يقنعنا تعليق من صديق مخالف لنا في الرأي فنكون هكذا عرفنا أننا على خطأ وصححنا وجهة نظرنا، أي عرفنا أنفسنا. إن موقع مثل فيس بوك يسألنا دائمًا What is on your mind?، وهكذا يكون كل ما نكتبه هناك هو إجابة منا على هذا السؤال، ومحاولة معرفة ما يدور بذهننا هي أول خطوة نأخذها في طريق معرفتنا لأنفسنا. ويصل بنا هذا في النهاية إلى القول بأن كتابة آرائنا هي أيضًا إشباع منا لرغبتنا في أن نكون فلاسفة، ما دمنا نتفق أن "اعرف نفسك" هي بداية الفلسفة، وربما إذا أجرينا عينة عشوائية سنكتشف أن الذين لا يكتبون آراءهم على مواقع التواصل الاجتماعي سوف يكونوا في الغالب غير قارئين للفلسفة وغير محبين لها، ليس معنى هذا أن الذين يكتبون آراءهم على مواقع التواصل يريدون أن يكونوا فلاسفة بالمعنى الحرفي للكلمة، إن الرغبة في أن نكون فلاسفة هنا هي مثل رغبتنا في أن نكون مدرسين، رغبة لا واعية. 

لا يتوقف الأمر عند سقراط، فغيره الكثير من الفلاسفة؛ عاشوا مثله وماتوا قبل أن تظهر مواقع التواصل الاجتماعي، يحرضوننا على أن نكتب آراءنا. يوجد نيتشه، وهو من أكثر الفلاسفة الذين يعززون قيمة الحرية، سيكون من هؤلاء. نيتشه الذي يرى الحرية في إشباع الرغبات وإن إشباعنا لأي جزء فينا، لأي رغبة، هو مصدر قوة لنا، سيكون إذن من المحرضين على إشباع رغبة أن نكون أصحاب رأي، علاوة على أن الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي تزيد من مساحة حرياتنا. بنظرة سريعة يظن المرء أن العكس هو الصحيح، وهو أننا في العالم الحقيقي، في جلساتنا المغلقة مع الأصدقاء، نكون أحرارًا أكثر، وهذا صحيح بلا شك، فليس كل ما نقوله لأصدقائنا يصلح أن نقوله على مواقع التواصل الاجتماعي، إذن من أين يأتي قولنا بأن مواقع التواصل تزيد من شعورنا بالحرية إذا كنا على منصتها نكبت بعض الآراء ونخفيها؟ مواقع التواصل تزيد مساحة حريتنا من ناحية أخرى، وهي أننا نكتب ما لا تسعه جلسة مع الأصدقاء، نتكلم في موضوعات ربما تشغل اهتمامنا نحن فقط ولا تشغل اهتمام باقي أصدقائنا الذين نشاركهم الحديث في جلساتنا الخاصة فنمتنع عن الحديث في تلك الموضوعات ونروح معهم إلى الموضوعات والمناقشات التي نتفق جميعا في الاهتمام بها، وتبقى الموضوعات التي تشغلنا نحن فقط حبيسة لا منفذ لها غير مواقع التواصل، وهكذا تكون أعطتنا شعورًا بالحرية وبأننا قادرون أن نتكلم فيما يشغلنا نحن فقط دون خوف من أن يُسكتنا صديق مطالبًا تغيير الموضوع. ثم إننا على مواقع التواصل نشعر بحرية أكثر من منطلق أننا لا نخشى اختلاف أحد معنا في الرأي، فربما في جلساتنا الخاصة نكبت رأيًا نعرف أنه سيضايق الحاضرين أو بعضهم، على مواقع التواصل لا نخشى ذلك، فنحن لا نقول رأينا لأحد بعينه، وربما نستثن أحدًا من أن يقرأه احترامًا له أو لأسباب أخرى، ثم إننا نقوله من وراء حجاب، من خلف لوحة المفاتيح، وهنا نعود إلى مقولة تكلم حتى أراك، بنظرة سريعة ربما نظن أن في القول ازدواجية، فكيف تكون مواقع التواصل وسيلة ليرانا الآخرون، وكيف يكون الحديث فيها من وراء حجاب هو ميزة في الوقت نفسه. أظن ألا تناقض في الأمر، فالآخرون يروننا، من خلال وجهات نظرنا أقصد، لكننا في حصن بمعنى أننا لا نقول الرأي وجهًا لوجه، وهذا ليس لأننا جبناء فتحصننا مواقع التواصل، بالعكس فربما تكون مواقع التواصل منصة غير صالحة لجبان يخاف أن تتعارض مصالحه مع أحد، وإنما المقصود هو أننا لا نوجه الكلام لأحد بعينه، ونقول ما نخشى قوله وجهًا لوجه. من خلف لوحة المفاتيح العالم كله أمامنا، كأننا نطلق من برج عالي صفارة للجميع.

أنا أفكر إذن أنا موجود

جملة ديكارت الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود"، قد تكون دافعًا أيضًا للتعبير عن آرائنا، فالنظر إلى الجملة بمعناها الحرفي، ودون تدقيق في البحث عن عمق لها يدركه المتخصصون، سيجعلها تبدو ببساطة في نظر العامة مجرد مقولة تعني إن تفكيرنا دليل على أننا أحياء ولدينا عقل وموجودين، وهذا ليس انتقاصًا من الجملة، فهي هكذا فعلاً في أبسط معانيها، وبناءً عليه فإن التعبير عن الآراء، وهو أمر يتطلب تفكيرًا لبلورة وجهة النظر وصياغتها في شكل جيد، سيعطينا شعورًا بأننا موجودون، وكأننا حين نعبر عن وجهة نظر نقول للآخرين، ولأنفسنا قبلهم، ها نحن فكرنا وخرجنا بوجهة نظر وكتبناها وقلناها، إذن نحن موجودون لأننا نفكر كما يقول الفيلسوف الكبير وتقول عبارته الشهيرة التي تعلمناها في المدارس ونحن ندرس أول دروس الفلسفة. هذا الدافع يحققه التعبير عن الآراء في العالمين الافتراضي والواقعي، لكن العودة إلى الأسباب السابق ذكرها سيجعله متحققًا بدرجة أكبر في العالم الافتراضي، وبالأخص أننا، كما وضحنا سابقًا، نصرح بآرائنا في مواقع التواصل أمام عدد أكبر، أي نثبت وجودنا أمام عدد كبير، أمام من نعرفهم معرفة قوية ومن نعرفهم معرفة بسيطة، ومن لم نقابلهم قط.

إن دعوة الفلسفة لنا بأن نُعمل العقل، الذي هو بدوره سيجعلنا غير تافهين وغير سطحيين، ستكون محرضة أيضًا على التعبير عن وجهات نظرنا، وكثرة الكلام عن أن مواقع التواصل مضيعة للوقت، وكثرة ما ينشر عليها من أمور ننظر لها على أنها منشورات تافهة، يحفزنا إلى التعبير عن آرائنا لنبدو غير تافهين، وكأننا نقول للآخرين، الذين يبدون في نظرنا تافهين بسبب ما ينشرونه "نحن غيركم، نحن جادون، ونستخدم مواقع التواصل استخدامًا مفيدًا إذ نعبر من خلالها عن آرائنا". وهكذا سيكون التعبير عن آرائنا إشباع لرغبتنا في ألا نكون تافهين، أو بمعنى أدق رغبتنا في ألا نبدو تافهين أمام الغير، طريقنا إلى الوصول بالإحساس بالعمق، أو بتصدير هذه الصورة عنا للآخرين. وهكذا يمكننا اعتبار رغبتنا في أن نكون غير تافهين مع رغبتنا في أن نفكر لنكون موجودين، وهي الرغبة التي قد نعتبر ديكارت حرضنا عليها أو حركها فينا، يمثلان معًا الدافع وراء رغبتنا في أن نكون أصحاب رأي، بمعنى أبسط وأدق فأننا هكذا نشتهي أن نكون أصحاب رأي، لأننا من خلال ذلك نلبي شهوة أخرى وهي شهوتنا في أن نكون عميقين وموجودين، وكأننا من خلال التعبير عن آرائنا نشعر بعمقنا ونشعر بوجودنا.

والتعبير عن الآراء على مواقع التواصل قد يكون أيضًا مهربًا من شعور بالوحدة، والمقصود هنا الوحدة بمعناها الفيزيائي أيضًا. "الوحدة كالتضور جوعًا لا يمكنك أن تدرك إلى مدى أنت جائع حتى تبدأ في الأكل"، تقول جويس كارول أوتس عنها، على مواقع التواصل يمكننا أن نجد طعامًا نسكت به شعورنا بالوحدة. سنكتب ويُرد علينا، سنشعر أننا لسنا وحدنا وأننا مهمون عند البعض، حتى إنهم يقرأون ما نكتب ويكلفون أنفسهم بالرد علينا، بالإعجاب أو بالرفض، طبعًا لن نكون مهمين إلا بقدر قليل، أو ربما هي ليست أهمية على الإطلاق أن يقرأ صديق ما نكتبه ويرد علينا، لكننا هكذا سنفكر، وهكذا سيكون الأمر بالنسبة لنا، إذا كنا نعاني الوحدة. ربما التعبير الأدق هو أننا سنشعر بأن الآخرين لا يتجاهلوننا، وهو شعور يشفي قليلاً من إحساسنا بالوحدة. إذا كنا نلاقي التجاهل في العالم الواقعي فإن قراءة ما نكتب في العالم الافتراضي والرد عليه كفيل بأن يعوضنا ولو قليلاً عما نلاقيه من تجاهل في عالمنا الحقيقي، سواء كان تجاهلاً من الأهل أو الأصدقاء. لكن لماذا تكون كتابة الآراء بالذات هي الأفضل في هذه الحالة، حالة الإحساس بالوحدة والتجاهل في العالم الحقيقي، وليست كتابة أي منشورات ذات محتوى آخر؟ كتابة الآراء تعطينا إحساسًا بأننا هكذا نجذب الآخرين أكثر إلينا، ثم إنها الساحة الأفضل للجدال و"الأخذ والعطا"، ونحن عند الشعور بالوحدة والتجاهل، والفراغ ربما، نحتاج إلى هذا كثيرًا. إنه هكذا، بمعنى ما، يعطينا قدرًا من الشعور بالتحقق الذي نفتقده في العالم الحقيقي، شعورًا بأن حياتنا مليئة، أو بها شيء ما وليست خاوية تمامًا، مليئة بكلام نكتبه وبأصدقاء يهتمون ويقرأونه ويعلقون عليه، وإذا ما كتبنا مرة ولاقى ما كتبناه التجاهل، فقد يصيبنا الأمر بالحزن، لكننا لن نكف، لا بد أن ولمواقع التواصل ميزة أخرى؛ أننا سنجد فيها مؤيدين لأي رأي نكتبه حتى لو كان رأيًا متناقضًا في حد ذاته، سنجد من لا يفهم هذا التناقض، أو من يتقبله، أو من لديه مثله. في الجلسات الخاصة نحن نعرف أصدقاءنا ونعرف طرق تفكيرهم ومستوى ذكائهم، لهذا فربما لا يجد رأي ما قبولاً من جميعهم، لكن على مواقع التواصل، إذ ستجد في قائمة الأصدقاء الرجعي والتقدمي، المتدين وغير المتدين، السطحي والعميق، الجاهل والمثقف، إلى آخر كل هذه الثنائيات. سنجد من يتفق معنا، وهكذا تغرينا مواقع التواصل، فالأمر يشبه إطلاق سهم وسط مجموعة كبيرة من الناس، ولا بد أن هذا السهم سيصيب أحدًا ما. 

 نكتب لنغير ويرانا الآخرون

وبعد ثورات الربيع العربي، والتي كان لمواقع التواصل دور كبير فيها، أصبح لدى كل فرد شعور بأن في إمكانه أن يصيب تغييرًا في المجتمع، وقد لوحظ كيف تؤثر فعلاً مواقع التواصل إذا تمثل وسيلة ضغط في كثير من الأحيان، وهكذا فالفرد الذي لا يشعر بأن له دور في العالم الواقعي يجد في العالم الافتراضي مرامه، فلماذا لا يكتب مع من يكتبون لعل شيئًا يتغير، فيستطيع أن يقول، لنفسه على الأقل، إنه فعال؟ إن الخدمة التي تقدمها مواقع التواصل هنا، أو الشهوة التي تلبيها، هي ناجمة عن قصور في العالم الواقعي، حيث أصبح شعور الفرد بعجزه عن التغيير وسط عالم كبير وقوي هو المسيطر.  

وليس من السطحية أو السذاجة إذا أخذنا في الاعتبار عنصرًا آخر وهو رغبتنا في لفت انتباه الآخرين بآرائنا ووجهات نظرنا. إننا على مواقع التواصل نقدم معلومات كثيرة عن جوانب شخصيتنا، وننشر صورًا لنا، فلا يتبقى إذن إلا أن نقول آرانا لنقدم أنفسنا في صورة أكمل للآخرين، وخصوصًا الجنس الآخر. هنا يظهر الحب كدافع وراء كتابة الآراء على مواقع التواصل. نريد أن نُجذب آخر إلينا، نريده أن ينبهر بنا، أن يعرف كيف نفكر، أي أن يعرف أشياء عنا، بطريقة غير مباشرة، فنكتب آراءنا، وحينها سيكون هو أول شخص نريده أن يتفاعل معنا، بالإيجاب طبعًا. والتعبير عن الرأي على مواقع التواصل يتيح لنا أيضًا فرصة لتخيل صورتنا في ذهن الغير. في جلساتنا في العالم الواقعي نرى على الوجوه ونسمع ردود الأفعال على كلامنا، لكن العالم الافتراضي يقدم لنا رد الفعل بشكل آخر، وربما نتخيل ونسأل أنفسنا ماذا قال فلان في سره وهو يقرأ كلامنا. إتاحة الفرصة للتخيل، ونحن كائنات لا تستطيع العيش دون خيال حتى لو كان في أمور بسيطة جدًا، تزيد من سطوة مواقع التواصل وحبنا لها، فنكتب ونتخيل الآخرين وهم يقرأؤن كلامنا، ولا سيما من نحب من الجنس الآخر، فالذكر سيتخيل أنثاه المعجب بها تقرأ كلامه وتسرح في عمق وجهة نظره ويتخيل أنها تقول في سرها مديحًا له ولرأيه، وهكذا الحال بالنسبة للأنثى أيضًا حين تكتب وتتخيل رد فعل الرجل الذي تعجب به، قد يبدو مثل هذا الكلام تافهًا للبعض وسطحيًّا، لكنه في الحقيقة غير ذلك، فنحن نهتم جدًا بصورتنا في نظر الآخرين.  

وإذا كانت كل هذه الأسباب غير كافية لبعض الناس حتى يعبروا عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، إذا لم تكن شهوة التعبير عن الرأي ضمن الشهوات المتأججة بداخلهم، فربما يحركهم دافع آخر، وهو دافع التقليد، فنحن البشر كائنات سهلة العدوى، وسهل أن يؤثر علينا القطيع، وفي حالتنا سيكون الأمر ببساطة أن بعض الناس سيرون الآخرين يكتبون على مواقع التواصل وجهات نظرهم، فيقومون هم أيضًا بالفعل لا لشيء إلا لأن الآخرين يفعلون ذلك، حتى لو كتبوا آراء مختلفة تمامًا، ليس المهم هنا هو أن يكتبوا نفس الكلام، وإنما أن يقوموا بفعل الكتابة والتعبير عن الرأي في حد ذاته، وهم لن يعترفوا، بل لن ينتبهوا، إلى أن الدافع هو التقليد، سيحسبون أن هناك دافعًا آخر، دافعًا أقوى، نابعًا من داخلهم، دافعًا من ضمن تلك الدوافع التي سبق الكلام عنها، لكن في الحقيقة ستكون كل هذه الدوافع ما هي إلا قشرة، وتحتها يربض الدافع الأقوى بالنسبة لهم من كل هذه الدوافع، الدافع الخفي الذي لن يلاحظونه، ولو جرى ولاحظوه لن يعترفوا به، ولو أشار أحد إليه وصارحهم بأنهم يكتبون غيرةً وتقليدًا سيكذبونه ويقولون إنه دافع أتفه من أن يحركهم. هذا الدافع قد يبدو شبيهًا بالدافع في أن نكون جزءًا من المجتمع وأن نرتبط به كي لا نشعر بالعزلة، لكن ثمة فارق مهم، فالدافع الأول يحرك أناسًا نحو رغبة عدم الانعزال أما الثاني فيحركهم نحو التقليد، وبعد مدة من الزمن، بعد الاعتياد على الأمر، ربما تولد فعلاً دوافع أخرى بداخلهم ويتنحى دافع التقليد جانبًا، لكن سيظل هو العلة الأولى، السبب الذي ولد أولاً، ثم ولد أسبابًا أخرى. 

ربما في يوم من الأيام تخفت كل هذه الدوافع بداخلنا، تنطفئ لمعتها بقدر ما، تشبع حتى نشعر بين حين وآخر بسالملل من إشباعها، أو يضعف صوتها هي بداخلنا وهي تطالبنا بأن نطعمها، ولكن يولد دافع آخر يصبح هو المحرك الأهم لنا، وهو دافع التعود، التعود على أن نقول ونعبر ونكتب، وهو دافع قوي جدًا، لأنه يرتبط بنا أشد الارتباط، دافع يحتاج الفكاك منه إلى مجهود كبير، فنحن كما أننا كائنات غير مائلة للعزلة وكثيرة الرغبات.. إلخ، نحن أيضًا كائنات تحكمها العادة وتحركها. "العادة شيء يمكنك فعله دون تفكير وهذا هو السبب في أن معظمنا عنده الكثير من العادات" كما يقول فرانك كلارك. وكل شيء اعتدنا عليه يسيطر علينا ويصبح مصدر لذة لنا، ونحتاج إلى كثير من الوقت وكثير من الإرادة والقوة كي ننساه ونعتاد على عدم وجوده. مرة أخرى تظهر لفظة "نعتاد"، ولكن هنا بمعناها السلبي إذا صح التعبير، حتى أن عودة ما كنا نعتاد وجوده بعدما اعتدنا عدم وجوده سيصبح أمر غريب علينا، ويحتاج، مرة أخرى، إلى وقت وجهد وقوة حتى نعتاد وجوده من جديد.

أخيرًا يبقى لنا أن نقول إن تعبيرنا عن وجهات نظرنا قد يأخذ أشكالاً عديدة، فقد نقدمه بشكله التقليدي، بكتابة بعض سطور تتضمن ما نريد قوله، وربما نقدمه في شكل صورة (ميمز mems) أو في شكل نكتة ساخرة، نحرص من خلالها على الجدية والإضحاك معًا، أو في شكل مقطع من كتاب، أو مقولة خالدة لأحد المشاهير، وهنا نكون قد نقلنا وجهة نظر، نؤمن بها، لغيرنا من المشاهير، فتكون هي أيضًا هي وجهة نظرنا. أو نلبسها شكلاً دينيًّا؛ فنقتبس آية من القرآن أو الإنجيل، وهكذا تتعدد أشكال التعبير عن الرأي التي تتيحها مواقع التواصل، وحتى الذين يكتبون، عند كل ترند، مطالبين الآخرين بالصمت وعدم التعبير عن الآراء، أو يستهزئون بهم وبرغبتهم الملحة في التعبير عن آرائهم قائلين في سخرية إن ما يكتبونه لن يغير الدنيا، يعبرون بذلك عن رأيهم دون أن يشعروا، إن الصمت هنا سيكون هو الرأي في حد ذاته، أو القول بأنهم لا يعلمون، أو السخرية من فريقين يتجادلان ولكل منهما وجهة نظر تخصه، كل هذه يمكن اعتبارها هي الأخرى آراء ووجهات نظر تخرج عن السياق المألوف في طرق التعبير عن وجهات النظر، يمكن أن تخيل أن أصحاب هذه الآراء يجيبون على سؤال "ما رأيكم في الأمر كذا؟" قائلين "رأينا أننا لا رأي لنا"، إن عدم امتلاك رأي في أمر ما هو في حد ذاته رأي، المطالبة بالتوقف عن التشاحن والجدال في أمر دون الإفصاح مع أي فريق يقف المتكلم، هو في حد ذاته رأي.