فنون

عماد أبو صالح

لوركا و عبد الوهاب

2021.01.01

لوركا و عبد الوهاب

ألقى الشاعر الإسباني فيدريكو جارسيا لوركا محاضرة «لعب ونظرية الدويندي» لأول مرة في بوينس أيرس بالأرجنتين سنة 1933، ولا تزال تحظى بشهرة واسعة في مختلف بلدان العالم، رغم مرور أكثر من ثمانية عقود. صدرت ترجمات لها في لغات متعددة، إضافة إلى كتب كثيرة خصصها أصحابها لمناقشتها، ومقالات ودراسات وعروض فنية لا تزال تتوالى إلى اليوم، وتحاول فك أسرار جمالها الشرس والغامض والصعب.

ما هو الدويندي؟

الإجابة شبه مستحيلة. لوركا نفسه يقول إنه «قوة غامضة يشعر بها الجميع ولا يفسرها أي فيلسوف».

لكن باختصار مخل، يمكن تعريف الدويندي بأنه جمالية طورها لوركا لمكافحة القواعد الفنية التقليدية، وتقويض الأساليب التي بالغت في تقدير البراعة والشكل والبنية الكلاسيكية على حساب العاطفي والجسدي والحسي في الأعمال الفنية.

تشير كلمة دويندي duende إلى روح الفولكلور في شبه الجزيرة الأيبيرية، ومعناها الحرفي «عفريت» أو «شبح» في اللغة الإسبانية. كما يمكن فهمها على أنها «الكاريزما»، و«الروح»، و»الشيطان»، و»السحر». إنها طاقة يستحيل شرحها، تبث الروح في شيء عادي ليصبح شديد الخصوصية، وتتيح لأي شخص في أي مكان وزمان أن يدركه. تُستخدم الكلمة بكثرة في موسيقى الفلامنكو، لكن يمكن أن نجدها في بقية الفنون للإشارة إلى قدرة الفنان الغامضة على جذب المتلقي. إنها «الإثارة» التي تندلع من الداخل كاستجابة عاطفية، وتتجلى في قشعريرة أو ضحك أو بكاء كرد فعل جسدي لأداء فني فريد وخلاق.

يصف لوركا الدويندي بأنه: «قوة لا كدح، صراع لا فكر. بمعنى أنه ليس مسألة مهارة، بل أسلوب حي، بمعنى أنه في العروق، بمعنى أنه أعرق ثقافات الخلق الفوري». ويؤكد أن «تجلي الدويندي يتطلب تغييراً جذرياً لكافة القوالب القديمة، ويجلب إحساساً بِكراً وغير معروف تماماً، كروعة وردة نبتت للتو، كمعجزة».

في كتابه «دويندي، رحلة البحث عن الفلامنكو»، يقول جيسون ويبستر إن الدويندي تجربة جبارة يمكن أن تعبر عن الفرح والحزن والنشوة والفراغ والوحدة، وتجمع غالباً كل هذه المشاعر في وقت واحد. ويشير إلى ضرورة أن تكون خبيراً بالدويندي لتتمكن من فهمه وإدراكه، لأنه لا يمكن تعريفه إلا بصورة تقريبية. إنه ينطبق عليه تعبير الصوفيين: «من ذاق، عرف». 

شاهد ويبستر مغنية فلامنكو في مدينة أليكانتي جنوب شرق إسبانيا؛ استطاعت الوصول إلى دويندي، ويصف لنا الأثر الذي تركته فيه: «تغني، ولكن لا يوجد صوت حلو، ولا لحن لطيف، ولا توجد نغمة يمكن التعرف عليها على الإطلاق. إنه شيء أشبه بالصراخ أو البكاء أو الصياح. خلفها، يبدأ عازفو الجيتار بعزف ضربات قصيرة سريعة، ويضيء صوت المرأة مثل نداء المؤذن للصلاة. امرأة بدينة تغني على خشبة المسرح، ترقص كأنها بالكاد تتحرك، لكنني أشعر بأنها تجرني إليها. تداهمني قشعريرة، إحساس مدهش ينتقل إلى عينيَّ. دموعي تسيل، في حين أن صرخة رئتيها تجد صدى في داخلي، وتجعلني أرغب في الصراخ معها. شعر جلدي يقف، ويتدفق الدم إلى قدميَّ. تسمرت في مكاني، تخدرت بين العاطفة التي خرجت ضد إرادتي، وعار ما أشعر به». 

قد يكون هذا الشعور سريع الزوال، وقد يستمر لفترة طويلة، لكن المدة التي يستغرقها تحتاج وقتاً طويلاً لاستيعابها، ويمكنها أن تحدث تغييراً كبيراً في حياة الناس. وسواء نجحنا أو فشلنا في إدراك الدويندي، فإنه يوقظ إحساساً مقلقاً ورائعاً في الجسد والروح.

ووفقاً لكريستوفر مورير، في كتابه «في البحث عن دويندي»، فإن الدويندي يجبر الفنان على تجاوز حدود العقل، ويجره وجهاً لوجه أمام الموت من أجل فن لا يُنسى وتقشعر له الأبدان. إنه بديل للأسلوب، للبراعة، وللمعايير الكلاسيكية. ويشدد على أن الدويندي حين يحضر في الصوت، فإن المغني لا يغني؛ الموت هو الذي يغني، بحيث نشعر مع الأغنية ببريق السكين، ونشم الدم. 



من أجمل وأعنف حالات الدويندي، تلك الحالة التي اجتاحت محمد عبد الوهاب سنة 1921 أثناء سماعه أحد ألحان سيد درويش. كان في الثانية عشرة من عمره، حين اصطحبه زميله الممثل فهمي أمان لحضور بروفات أوبريت «شهر زاد» في مسرح «برينتانيا». ينقل عنه محمود عوض في كتابه «محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد»، تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم: «جلست في صالة المسرح أستمع إلى الألحان. كنت في هذه اللحظة أجلس في خشوع وإنصات كما لو كنت في معبد أصلي فيه صلاة روحية. وكانت الأنغام تصل إلى أذنيَّ كأنها أوامر مقدسة لا تُرد. وكنتُ بالجملة قطعةً ترمز إلى الإعجاب والتقديس لهذه الموسيقى التي تهدهد النفس». 

نستخلص مما رواه عبد الوهاب أنه كان يستمع إلى موسيقى جميلة، ويمكننا أن نقول: «مريحة»، تدفع إلى الاسترخاء، وتمنح إحساسأ مقدساً أو دينياً. إنها موسيقى ليست عادية، لكنها ليست خارقة. فجأة، ودون سابق إنذار، تتبدل السكينة إلى قلق، والطمأنينة إلى فزع. يقول عبد الوهاب: «حدث لي أمر غريب ما زلت لا أدري له تفسيراً. إنه حادث لا يحدث مثله إلا في دنيا المجاذيب، ومع ذلك وقع بالضبط كما أرويه. فقد بدأت الفرقة تؤدي بروفة لحن في رواية شهر زاد مطلعه: أنا المصري كريم العنصرين، وجلست أستمع إلى ذلك اللحن ذاهلاً عن كل ما حولي، كما لو كان فيه سر يصل ما بينه وبين إحساسي بشيء يسلب إرادتي». 

ما حدث، وما لم يستطع عبد الوهاب تفسيره، هو أن الدويندي اندلع بكل عنفه وناره وجنونه، اكتسحه ولبسه أو تلبسه، حتى أصبح بلا إرادة ولا عقل. ويصف رد فعله بعد انتهاء اللحن، قائلاً: «رأيت نفسي أجري بكل ما أوتيت من قوة. وظللت أجري حتى وصلت إلى ميدان باب الحديد، ثم جلست على أحد الأرصفة ألتقط أنفاسي، وأمعن الفكر في السبب الذي دفعني لهذا التصرف الغريب. لم يكن ثمة سبب واحد أراه معقولاً لتفسير ما فعلت. كل ما استطعت أن أصل إليه هو أنني سمعت لحناً خارقاً لم أتعود سماعه، وأنني جريت بكل قوتي كما لو كان شيء مخيف يطاردني، أما ما عدا ذلك فلا شيء!». 

شأن كل ممسوس أو «مضروب» بسهم الدويندي، يبدأ عبد الوهاب في طرح الأسئلة: «هل هو إعجاب شديد كان مكبوتاً في نفسي ثم انطلق مرة واحدة يعبر عن نفسه ويجعلني أطلق لساقيَّ العنان بغير سبب وبغير وجهة؟ هل هي لحظة من لحظات الجنون التي تعتري العقل إزاء مصادفة خارقة أو صدمة نفسية تتفاعل في داخل المرء فتدفعه إلى مثل هذا التصرف الشاذ؟ أو هل هو في النهاية مجرد جري للجري فقط؟». 

لا إجابات بالطبع يتوصل إليها، ليس سوى الشعور الذي هز بدنه كله، وأجبره على الجري أو الهرب: «لا أعرف سوى حقيقة واحدة هي أنني قطعت المسافة من التياترو حتى باب الحديد جرياً دون توقف، بعد أن سمعت ذلك اللحن». 

ما يحكيه محمد عبد الوهاب يلخص حالة دويندي كامل ومكتمل، دون أن يقرأ محاضرة لوركا، بل قبل أن يلقي لوركا محاضرته باثني عشر عاماً. ومن الملفت والمدهش أن الفنان المصري يستخدم نفس المفردات التي يستخدمها الشاعر الإسباني لتعريف الدويندي، مثل: «غريب»، و»مخيف»، و»صدمة»، و»خارق»، و»جنون» و»يطارد»، و»سر»، حتى أن عبارته: «لا أدري له تفسيراً»، تكاد تتطابق حرفياً مع قول لوركا: «لا يفسره أي فيلسوف».

حكى عبد الوهاب هذه التجربة النادرة أكثر من مرة، مع تغيير في بعض الكلمات. في الحلقة الثالثة عشرة من مسلسل «حياتي» بإذاعة «صوت العرب» عام 1962؛ يسمي الشعور الذي مسَّه باسم الدويندي نفسه في اللغة الإسبانية: «شيطان من الجن». ويصف حالته فور سماع اللحن بأوصاف إضافية: «جريت، جريت، ظللت أجري في الشارع وأنا خارج وعيي. من شارع الألفي، إلى شارع عماد الدين، حتى وصلت إلى باب الحديد. أردت أن أهرب من نفسي، من عبد الوهاب، أردت أن أطلع من جلدي، وأترك خلفي عبد الوهاب الذي حفظ القديم. يومها اكتشفت الفرق بين الفن الذي أدرسه في المعهد وبين الضوء الجديد الذي جلبه معه الشيخ سيد درويش». وينهي الحكاية بالوصول إلى خلاصة ما توصل إليه لوركا في محاضرته، قائلاَ: «يومها اكتشفت أن الفنان الذي يملك بذرة التطور يمكن أن يخلق من القديم جديداً».

لمن يسأل: هناك طرق أخرى كثيرة للتعبير عن الإعجاب بعمل فني، فما الذي دفع عبد الوهاب للجري على «القدمين»؟ 

الإجابة نجدها في محاضرة لوركا: «دويندي ليس في الحلق، إنه ينبثق عالياً من باطن القدمين».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) نص من كتاب تحت الطبع بعنوان: «عن لوركا».