رؤى
سامح نجيبماركس في القاهرة
2017.11.01
تصوير آخرون
ماركس في القاهرة
شاركت خلال صيف 2017 في حلقة قاهرية لقراءة المجلد الأول من كتاب "رأس المال" لكارل ماركس. وكان السؤال الأول الذي شغل من أقدموا على هذه "المغامرة" هو "لماذا؟" لماذا نقرأ كتاب ضخم نشر منذ 150عامًا، حتى وإن كان لمفكر كبير مثل كارل ماركس؟ ألم يتغير العالم كثيرًا منذ القرن التاسع عشر؟ ثم ألم يكن كارل ماركس مفكرًا ألمانيًا يكتب في لندن من زمن بعيد؟ لماذا نقرأه نحن قاطني القاهرة في القرن الحادي والعشرين؟
سأحاول في هذا المقال الإجابة على هذه الأسئلة، ثم سأتناول بعض الأفكار الهامة في الكتاب في سياق علاقتها بالواقع المصري. لا يمكننا بالطبع في هذه المساحة أن نقدم عرضًا وافيًا لهذا الكتاب العملاق، ليس فقط في حجمه ولكن أيضًافي ثراء وتعقيد ما يتضمنه من أفكار. كل ما أسعى إليه هنا هو عرض عدد صغير من أطروحات الكتاب ومحاولة استكشاف ما تثيره من أسئلة حول الواقع المصري، ربما يثير هذا فضول القارئ لخوض تجربة قراءته.
صدر المجلد الأول من رأس المال عام 1867، وهو الجزء الوحيد من مشروع رأس المال الذي نشر في حياة ماركس.أما المجلدانالثاني والثالث، فنشرا بعد وفاته بمراجعة وتحرير شريكه السياسي وصديق عمره فريدريك إنجلز. وكانت هذه المجلدات الثلاث جزءًا من مشروع ضخم لم يتمكن ماركس من إكماله. إذ يخطط لمجلدات أخرى حول الدولة والطبقة العاملة والسوق العالمية والمنهج ولكنه لم يكتب أيًا منها. ومن المخطوطات التي نشرت بعد وفاته إلى جانب المجلدين الثاني والثالث، ثلاث مجلدات بعنوان "نظريات فائض القيمة"، ومجلد الغروندرسة (أسس نقد الاقتصاد السياسي) وهو بمثابة مسودة أولية لكتاب رأس المال.إذًا فالمجلد الأول، رغم ضخامته، هو الجزء الأول من مشروع أكبر بكثير لم يتمكن ماركس من إنجازه بالكامل. ولكنه رغم ذلك يحتوي على بلورة لمجمل أفكاره وإسهاماته النظرية، يصعب أن نجدها في أي من كتبه الأخرى.
ربما كان أحد المؤشرات على أهمية كتاب رأس المال، خاصة بالنسبة للذين يعتبرون أنفسهم "ماركسيين"، هو سيل الكتب التي تعرض أو تشرح المجلد الأول. فعلى سبيل المثال، وخلال الأعوام الخمس الماضية، نشر عدد من كبار الماركسيين المعاصرين كتبًا حول رأس المال. ديفيد هارفي، وهو ربما أهم مفكر ماركسي معاصر، صدر له هذا العام كتاب بعنوان "ماركس ورأس المال وجنون المنطق الاقتصادي"، وفردريك جيمسون، وهوأهم نقاد الأدب والثقافة الماركسيين المعاصرين، صدر له، أيضًا هذا العام، كتاب بعنوان "تمثيل رأس المال: قراءة للمجلد الأول. في حين صدر لأليكس كالينيكوس، وهو مفكر ماركسي له العديد من المؤلفات السياسية والفلسفية، العام الماضي كتاب بعنوان "فك شفرة رأس المال".
أثار رأس المال جدلاً واسعاً ما بين المفكرين الماركسيين خلال القرن العشرين. فهناك مدرسة لويس آلتوسير البنيوية، التي ترى أن أعمال ماركس تنقسم الى مرحلتين أساسيتين: مرحلة الشباب التي كان ماركس فيها تحت تأثير الفلسفة المثالية وخاصة فلسفة الألماني جورج فلهلمهيجل، ومرحلة النضج التي أنتج فيها رأس المال ككتاب علمي متحرر من بقايا المثالية الهيجلية. أما المدرسة الثانية، والتي كانت هدفًالنقد آلتوسير وغيره من الماركسيين البنيويين، وتضم جورج لوكاش وأنطونيو جرامشي، فهي تعتبر أن هناك علاقة وثيقة بين أعمال ماركس الأولى ذات الطابع الفلسفي وأعماله الأخيرة ومنها رأس المال. فالمنهج الجدلي الذياستعاره ماركس بشكل نقدي من هيجل، ومفاهيم الاغتراب والانفصال والتوسط (mediation)، هي عناصر أساسية في كتاب رأس المال. وكما علق لينين بشكل فيه بعض المبالغة، فبدون فهم هيجل يصعب فهم رأس المال.
ولكن هناك فروق واضحة في الأسلوب والمنهج بين أعمال ماركس التاريخية والسياسية وبين رأس المال. ففي رأس المال يبدأ ماركس من المجرد ليصل بنا من خلال تفاعل جدلي إلى الملموس. أما في أعماله التاريخية والسياسية فيشتبك بشكل مباشر مع الصراعات السياسية والاجتماعية الملموسة بكل ما فيها من تأثيرات فردية وثقافية خاصة باللحظة التاريخية التي يتناولها. مهم ملاحظة ذلك عند قراءة رأس المال. فحين نجده يصف عالم ليس فيه سوى الرأسمالي والعامل، فهو يفعل ذلك كنوع من التجريد يسمح له أن يشرح تحليله، وليس علامة على التبسيط المخل كما يتصور البعض. هو لا يلغي تفاصيل الواقع الملموس بمختلف طبقاته وفئاته وأفراده، كما هو واضح في كتاباته التاريخية، بل يجرد من ذلك الواقع لشرح نظريته.
وربما كان ما يميز الكتاب هو أيضًا ما يجعل قراءته صعبة بعض الشيء. فالكتاب مزج بين ثلاث عوالم مختلفة: عالم الاقتصاد السياسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي يعتبر الكتاب نقدًا له، وعالم الفلسفة الألمانية وخاصة هيجل الذي يبني ماركس على أساسه منهج البحث وأيضاً منهج العرض، وعالم المدارس الاشتراكية الفرنسية "الطوبوية" التي ظهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر مع بدايات الحركات العمالية. يفسر البعض هذا المزج غير المسبوق بتطور حياة ماركس من طالب الفلسفة الهيجلي في ألمانيا، إلى اللاجئ الثوري في فرنسا، وأخيرًاالباحث في الاقتصاد السياسي في مكتبة المتحف البريطاني في لندن. ولكن الموضوع أعقد من ذلك وأكثر إثارة. فماركس كان قبل كل شيء ثوريًا يريد تحطيم الرأسمالية وبناء الاشتراكية على أنقاضها. وهو قد اكتشف مبكرًا مركزية الطبقة العاملة في هذا المشروع السياسي، ولكن الحركات الاشتراكية، خاصة في فرنسا، كانت طوبوية وينقصها تحليل ونقد علمي وعميق للرأسمالية التي أرادوا تجاوزها. وكان الاقتصاد السياسي علمًا برجوازيًا يبرر الرأسمالية، أو غير قادر على تجاوز حدودها على المستوى النظري، ولكنه الوقت نفسه، خاصة في حالتي آدم سميث وديفيد ريكاردو، وضع الأسس العلمية لفهم آليات الاقتصاد الرأسمالي. إذن فكارل ماركس أراد نقد الرأسمالية وكشف تناقضاتها، مستخدمًا المنهج الجدلي، لصالح مشروع الثورة الاشتراكية.
أما الذين يظنون أن رأس المال كتاب اقتصادي ممل وجاف فهم مخطئون بشدة. فإلى جانب المنهج الجدلي في التحليل والعرض، فالكتاب مليء بالاستعارات والرموز الأدبية والفلسفية من عالم اليونان القديمة وفلسفة أرسطو ومن الأدب العالمي، فنجد مسرح شكسبير وشعر دانتي وروايات بلزاك في مختلف فصول الكتاب، وهو ما يجعلمنه عملًا أدبيًا في حد ذاته.
ولكن لماذا نقرأ الكتاب في القاهرة؟ ألسنا جزءًا من العالم الثالث أو ما يسمى الآن الجنوب العالمي؟ كيف نستفيد من نظرية أوروبية تطورت في سياق فهم ظاهرة أوروبية وهي الرأسمالية الصناعية؟ وأين خصوصياتنا الثقافية والتاريخية؟
عندما كتب ماركس رأس المال كانت الرأسمالية الصناعية بالفعل حكرًا على بعض الدول في أوروبا الغربية علىشمال الولايات المتحدة.أما بلدان "الجنوب" مثل مصر والهند والصين والبرازيل والمكسيك،فكانت كلها بلدانًا زراعية يشكل الفلاحون فيها أكثر من 95%من السكان.ولكن رغم ذلك، فالرأسمالية، حتى في ذلك الحين، كانت قد بدأت في ربط تلك البلدان بمصانعها الحديثة من خلال تحويلها إلى مزارع ومناجم للمواد الخام ومن خلال تصدير سلعها الصناعية. أما اليوم فقد انتقلت الصناعة الرأسمالية إلى تلك البلدان. فالصين هي "ورشة العالم" كما كانت تعرف بريطانيا في القرن التاسع عشر. وقد غزا نمط الإنتاج الرأسمالي مختلف بقاع الأرض من جنوب أفريقيا إلى سيبريا، ومن تشيلي إلى فيتنام. لكل دولة ومنطقة خصوصياتها الثقافية والتاريخية، ولكن ما من شك أن عالم اليوم بمختلف ثقافاته وأديانه وشعوبه وقومياته أصبح نمط الإنتاج الرأسمالي فيه مهيمنًا.
فيما يلي عرض موجز، وللأسف "مخل" بعض الشيء، لبعض الأفكار الأساسية في كتاب رأس المال، التي تفتح أسئلة هامة حول واقعنا وتاريخنا المصري. الغرض هنا كما أوضحنا أعلاه ليس تقديم شرح واف لهذه الأفكار، بل مجرد عرض بعضها بما قد يثير فضول القارئ.
عادة ما لا يتجاوزه كثير من القراءالجزء الأول من الكتاب والمعنون "السلعة والنقد". فصدمة المنهج الجدلي والتجريد والبداية غير المتوقعة للكتاب تثير الكثير من الصعوبات. فماركس يبدأ بالسلعة، وهو يبدو مدخل بسيط وملموس. ولكنه سرعان ما يعقّد الأمور بطرحه حول التناقض بين قيمة السلعة الاستعمالية وقيمتها التبادلية. فلكل سلعةقيمة استعمالية تميزها عن السلع الأخرى، هي خصائصها المادية التي يراها الناس في مجتمع ما في لحظة ما مفيدة لهم. والاختلاف بين القيم الاستعمالية للسع هو، بداهةً، "أساس" التبادل. ولكن "إمكانية" التبادل تعني أن هناك مشترك ما بين كل السلع، فما هو؟
يصل بنا ماركس عن طريق سلسلة طويلة من الأمثلة إلى عدد من الاستنتاجات:أولاًأن المشترك بين كل السلع هو وقت العمل الضروري اجتماعيًا الذي بذل في إنتاجها،وهو "القيمة" الحقيقية للسلعة. ثانيًا أن العمل مثل السلعة له طبيعتين، فهو من جانب عمل ملموس ومحدد (غزل أو نسج أو نجارة)، وهو من جانب آخر عمل مجرد (ساعات العمل الضرورية اجتماعيًالإنتاج أي سلعة، باعتبارها ساعات عمل مجردة وعامة يمكن المقارنة بينها). ثالثًا أن النقود عبر تاريخ طويل ومعقد من التطور أصبحت مقياسًاللقيمة وفي ذات الوقت أداة لتداول السلع (وبالطبع فهناك تناقض جدلي بين الدورين). ورابعًا، وفي الجزء الأخير من الفصل الأول، يطرح ماركس فكرة أصبحت سواء بالنسبة لمن تبناها أو من يختلف معها أحد أهم الأفكار الماركسية، وهي صنمية أو "فتيشية" السلعة. ففنحن لا نرى العمل المبذول في إنتاج السلعة، نحن نتعامل فقط مع سعر السلعة بالنسبة للسلع الأخرى. فالسلع تعرض لنا في صف طويل في السوبرماركت على سبيل المثال، ولكننا لا نرى العمل الذي يشكل قيمتها الحقيقية، نرى فقط سلسلة من الأسعار. نرى سعر الشاي ولا نرى الفلاح الذي زرعه ولا العامل الذي عبأه ولا السائق وعامل الميناء وعامل السفينة الذين نقلوه حتى يتم رصه في السوبرماركت.ماذا يفعل ذلك بوعي الإنسان؟ في مجتمع الإنتاج السلعي المعمم تبدو العلاقة بين الأشياء-السلع كعلاقة اجتماعية، في حين تبدو العلاقة بين البشر المنتجين علاقة بين السلع-الأشياء.
ماذا عننا نحن؟ هل نعيش في مجتمع يسوده الإنتاج السلعي؟ لننظر حولنا، إلى ملابسنا والأكل الذي نأكله والمنازل التي نسكنها والكتب والجرائد التي نقرأها والموبايل الذي يربطنا بالآخرين، بل إلى كل شيء نستخدمه أو نستفيد منه. لا يوجد شيء في القاهرة ليس سلعة سوى الهواء الملوث الذي نتنفسه. ولكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لوعينا؟ نسمع كثيرًا حول زيادة التدين وهيمنة الأفكار الدينية المحافظة خلال الخمسين عامًا الأخيرة، ونسمع عن صراع بين أفكار دينية وأفكار علمانية. ولكن ماذا عن التحولات في الحياة المباشرة التي أحدثها التطور الرأسمالي؟ ماذا عن هيمنة السلعية على هذه الحياة في المدينة؟ حتى المصحف الذي يقرأ فيه المتدين هو سلعة، الورق والحبر والغلاف، كل ما فيه سلع، حتى وإن كان المضمون ومعنى الكلمات ذو طبيعة روحانية، فالشكل الذي يتوسط بيننا وبين هذه الكلمات هو السلعة الرأسمالية. ما هي العلاقة بين الشكل والمضمون؟ هل يمكن دراسة الحالة الدينية في مصر دون الربط بينها وبين تطور الرأسمالية وما أحدثته وتحدثه من تغييرات في حياتنا اليومية؟
في الأجزاء الثلاث التالية من الكتاب (من الثاني الى الرابع) يأخذنا ماركس من النقد إلى رأس المال ومن عالم السوق إلى عالم الإنتاج: يستثمر الرأسمالي في شراء وسائل إنتاج وقوة عمل لإنتاج السلع التي يبيعها في السوق لتحقيق ربح. ولكن من أين يأتي الربح؟ هنا يقدم ماركس نظريته الشهيرة حول الاستغلال واستخراج فائض القيمة. فوسائل الإنتاج من آلات وأدوات ومواد خام هي عمل ميت، أي أنها تخزن عملًا سابقًا، فهي بالضرورة نتاج لعمل سابق بذل حتى توجد. فقط من خلال تفاعل قوة العمل (العمل الحي) تبث الحياة في وسائل الإنتاج ومن خلال عملية الإنتاج تنتج قيم جديدة. قيمة العمل الميت تنتقل كما هي دون أي زيادة إلى السلعة الجديدة، أما العمل الحي –الجهد المبذول على الآلات- فهو سلعة من نوع خاص.فالأجر الذي يدفعه الرأسمالي للعامل لا علاقة له بما ينتجه، بل بما يحتاجه العامل لإعادة إنتاج نفسه، أي بقيمة السلع التي يحتاجها العامل (مأكله وملبسه ومسكنه ومصاريف أسرته، إلخ) لكي يظل حيًا ومنتجًا. ولكن ساعات العمل التي يحتاج أن يقدمها العامل لإنتاج ما يعادل قيمة هذه السلع أقل من ساعات العمل التي يقدمها بالفعل للرأسمالي في يوم العمل. والفرق بين القيمتين هو مصدر "فائض القيمة" وبالتالي الربح.
كلما زادت ساعات العمل، كلما زاد الفائض. ولكن هناك حدود بيولوجية واجتماعية ليوم العمل، وهناك تاريخ طويل من الحركات العمالية التي تحاول الحد من ساعات العمل. إذن فهذه الوسيلة لزيادة فائض القيمة من خلال زيادة ساعات العمل (ما يسميه ماركس فائض القيمة المطلق) سرعان ما تصل إلى سقف يدفع الرأسمالي للبحث عن وسائل أخرى. ولكن لماذا لا يكتفي الرأسمالي بالربح الذي يحققه؟ لماذا يحاول طوال الوقت أن يزيد من فائض القيمة؟ هل هو الجشع؟ يطرح ماركس أن الدافع الحقيقي هو الضغط التنافسي، فالرأسمالي يحتاج لبيع سلعه في السوق، ولكنه ليس وحده في السوق،فإذا لم يتمكن من إنتاج سلع منافسة من حيث الثمن والمستوى، فسرعان ما سيتم الإطاحة به من السوق نحو هاوية الإفلاس.
هنا يلجأ الرأسمالي إلى وسيلة أخرى لزيادة فائض القيمة وهي تطوير عملية الإنتاج بحيث تزيد إنتاجية العاملوبحيث يزيد الفرق بين ساعات العمل الضرورية لإعادة إنتاج العامل (وبالتالي الأجر) وبين يوم العمل الكامل. والتطوير هنا يتم على مستويين: المستوى التنظيمي، أي إعادة تنظيم تقسيم العمل لزيادة كفاءة العملية الإنتاجية، والمستوى التقني، أي تطوير تكنولوجيا الإنتاج، خاصة من خلال الميكنة (ما يسميه ماركس فائض القيمة النسبي). وكلما طور أحد الرأسماليين عملية إنتاجه بإحداث بنقلة تكنولوجية تزيد من إنتاجية عماله، كلما استفاد، مؤقتًا،بسبب زيادة الفرق بين الأجر والقيمة التي ينتجها العاملين لديه هو فقط. ولكن سرعان ما تنتشر النقلة التكنولوجية إلى الصناعة ككل، ومن ثم تتلاشى الميزة النسبية المؤقتة التي استفاد منها هذا الرأسمالي، ويعود الضغط من أجل مزيد من التطوير لزيادة الإنتاجية. وهذا هو مصدر الديناميكية التكنولوجية الدائمة في نمط الإنتاج الرأسمالي.
هناك عدد من الاستنتاجات التي يصل إليها ماركس من خلال هذا التحليل لها قيمتها بالنسبة لنا في قاهرة القرن الحادي والعشرين: أولًا أن معدل الاستغلال (الفرق بين الأجر والقيمة التي ينتجها العامل) يمكن أن يرتفع حتى مع زيادة الأجور. فكلما زادت الإنتاجية من خلال الميكنة زاد بشكل مطرد فائض القيمة بمعدل أكبر وأسرع كثيرًا عن الزيادة في الأجر. ومن جانب آخر،فإن التخفيض في تكلفة إنتاج السلع التي يستهلكها العامل تمكنالرأسمالي من تخفيض الأجور أو على الأقل تثبيتها لفترات أطول.
منذ ستينات عبد الناصر وإعلام الدولة لا يتوقف عن الحديث عن الدعم الذي تقدمه الدولة للفقراء ومحدودي الدخل، أي العمال والموظفين، من خلال توفير السكن والكساء والغذاء بأسعار زهيدة. ولكن إذا كان تحليل ماركس صحيح حول علاقة الأجور بقيمة سلة السلع التي يحتاجها العمال لإعادة إنتاج نفسهم، فأي تخفيض في أسعار هذه السلع يخفض الأجور التي يدفعها الرأسمالي، أي يزيد من فائض القيمة وبالتالي من الربح. أي أن الدعم الذي كانت تقدمه الدولة لم يكن انحيازًا للعمال بل محفزًا للرأسمالية. أما إلغاء الدعم دون زيادة في الأجور، وهو ما يحدث اليوم، فهو إلى جانب كونه نهبًا منظمًا فهو سياسة غير قابلة للاستمرار، ليس فقط بسبب المقاومة العمالية التي ستواجهه بالضرورة، ولكن أيضًا لأن النظام الرأسمالي قائم على طبقة عاملة قادرة على إعادة إنتاج نفسها من خلال الأجر، فإن زاد النهب عن الحد المعقول تعطلت هذه القدرة.
ثانيًا، وكما رأينا، ففائض القيمة، سواء المطلق أو النسبي، لا ينتج إلا من خلال استغلال العمال في عملية الإنتاج الرأسمالي. ولكن منذ ستينات القرن الماضي والنظرية الاقتصادية السائدة في أوساط اليسار المصري، وهي نظرية التبعية (سمير أمين، جوندر فرانك، إيمانيول فالرشتين)، تقدم تصورًا قائمًا على أن استخراج فائض القيمة يأتي من استغلال الدول النامية (الأطراف) لصالح الدول الصناعية (المراكز) من خلال ما يسمى بالتبادل اللامتكافئ. بل أن العمال في الدول الصناعية طبقًا لهذه المدرسة يستفيدون من "الاستغلال المضاعف"لعمال الدول النامية. إذن فوفقًا لنظرية التعبيةيتحول الاستغلال من كونه علاقة اجتماعية في عملية الإنتاج الرأسمالي إلى كونه علاقة قومية بين دول العالمين "الأول" و"الثالث"، بل ويتحول الصراع الطبقي بين الرأسمالية العالمية والطبقة العاملة العالمية إلى صراع قومي يكتل العامل في الدول الصناعية مع الرأسمالي في بلاده في مواجهة تكتل الرأسمالي والعامل في الدول النامية.
في الجزء السابع من الكتاب، وعنوانه "عملية التراكم الرأسمالي"، يبلور ماركس الكثير من أطروحات الأجزاء السابقة. فالرأسمالي يبدأ عملية الإنتاج بشراء قوة العمل ووسائل الإنتاج، ويدير عملية إنتاج السلع، ويبيع السلع في السوق. وما يسترده من مال من خلال هذا البيع بالطبع يجب أن يزيد عما استثمره في البداية: هذه الزيادة هي فائض القيمة. والضغط التنافسي يضطره إلى إعادة استثمار الجزء الأكبر من فائض القيمة في توسيع وتطوير مصنعه أو شركته (التراكم من أجل التراكم، الربح من أجل الربح). أي أن مع كل دورة إنتاجية يزيد حجم الاستثمار عن الدورة السابقة،وتكون النتيجة هي زيادة حجم رأس المال بعد كل دورة وزيادة الاستثمار في الميكنة والتكنولوجيا.
الاستثمار في التكنولوجيا والميكنة يزيد من إنتاجية العمال وبالتالي يستبدل أعدادًا كبيرة منهم، مما يزيد من أعداد العاطلين. ولكن الرأسمالية ككل تحتاج إلى مرونة كبيرة في سوق العمل.فالطفرات التكنولوجية تخلق البطالة ولكن فترات الانتعاش والنمو السريع تحتاج لاستيعاب سريع لكل من هو متاح في سوق العمل، في حين تؤدي فترات التراجع والكساد لارتفاعات جديدة في نسبة العاطلين. أي أن الرأسمالية كنظام تحتاج دائمًا إلى أن يكون نسبة من السكان عاطلين.
يكتب ماركس عن ثلاث أنواع من البطالة: البطالة العائمة وتتكون من ذلك القسم من سوق العمل الذي لا يعمل حاليًا ولكنه يبحث عن عمل أو يتحرك من عمل لآخر، أما النوع الثاني هو البطالة الكامنة، وهي قطاعات السكان التي يمكن تحويلها لعمال (الفلاحين، النساء غير العاملات، سكان المستعمرات أو المستعمرات السابقة، إلخ)،والنوع الثالث هو البطالة الراكدة، وهو يعني بها تلك القطاعات التي تقف دائمًا على أطراف عملية العمل دون أن تكون جزء منها (فقراء المدينة وأطفال الشوارع نموذجًا).إذن فحين نتحدث عن سكان "زائدين"، فهم في واقع الأمر جيش العمل الاحتياطي الضروري لتغذية الماكينة الرأسمالية.
عندما وصل عدد سكان مصر إلى ١٠٠ مليون، تحدث السيسي عن أزمة زيادة السكان كأحد أهم العوامل المعيقة للتنمية في مصر. ولكن مبارك ألقى نفس الخطاب عندما تجاوزنا الثمانين مليون، والسادات عندما تجاوزنا الأربعين، مليون وعبد الناصر عندما تجاوزنا الثلاثين. إذن فلا شك أن أزمة الزيادة السكانية تشكل أحد المحاور الأساسية في خطاب الدولة المصرية: نعاني من الفقر لأن الفقراء ينجبون الكثير من الأطفال، أي أن الفقراء هم السبب في فقرهم، بل السبب في تعطيل عجلة التنمية. وبالطبع فهذا الخطاب الأيديولوجي يبرئ الدولة والرأسمالية عن أي مسؤولية. هذه أفكار موجودة منذ القرن الثامن عشر ونظر لها روبرت مالتوس المفكر الاقتصادي اليميني الشهير والذي كان ماركس يسميه "ذلك القرد مالتوس".
في مصر جيش العمل الاحتياطي لا يخدم فقط احتياجات الرأسمالية المصرية كوسيلة لتخفيض الأجور وتكثيف العمل لمن يجدونه وكاحتياطي لفترات الانتعاش وزيادة الطلب على العمالة، ولكنه يخدم أيضًا السوق العالمي، وذلك حال كثير من البلدان النامية. ففي الحالة المصرية كان جيش العمل الاحتياطي مصدرًا هامًا لقوة العمل في منطقة الخليج وليبيا في فترة الانتعاش البترولي، ونفس الشيء ينطبق على العمالة التركية في ألمانيا والهندية في بريطانيا والمغاربية في فرنسا أثناء فترة الانتعاش الكبير بعد الحرب العالمية الثانية.
الجزء الأخير في كتاب رأس المال يتناول ما يسميه ماركس "التراكم البدائي" للرأسمالية، وهو يتضمن تحليلًا تاريخيًا لجذور الرأسمالية الصناعية. فالرأسمالية الصناعية تستلزم شرطين أساسيين لبدء عملية التراكم: الأول هو وجود طبقة من السكان المعدمين والمنفصلين تمامًا عن أي أدوات ووسائل إنتاج، والثاني هو وجود طبقة أخرى راكمت الثروات الضرورية لبدء الاستثمار الرأسمالي. يحاول ماركس الإجابة على سؤال بسيط: ماذا حدث لتتركز الثروات في يد البعض وتتحول قطاعات واسعة من الناس إلى معدمين مضطرين لبيع قوة عملهم؟ والإجابة واضحة في التاريخ: العنف.فالاستعمار ونهب ثروات المستعمرات، خاصة الذهب والفضة، الذي رافقه مذابح قتل فيها الملايين في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا،شكل أحد الوسائل الأساسية في مراكمة الثروات الكافية لبدء الرأسمالية الصناعية. هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، فإن دور الدولة القمعي في طرد الفلاحين من أراضيهم وتجويعهم من خلال عمليات تحويل الأراضي المشاع إلى ملكيات خاصة، هو الذيدفع بملايين من الفلاحين إلى المدن بحثاً عن العمل. وهكذا تحقق الشرطان اللازمان لميلاد الرأسمالية.
هكذا بدأت الرأسمالية الصناعية البريطانية. لكن ماذا عن الرأسمالية في مصر؟ غالبية المؤرخين لما يسمى بمصر الحديثة، بما في ذلك كثير من المؤرخين اليساريين، يركزون على عوامل التحديث والتقدم الوطني ومحاولات التصنيع، أما تاريخ من دفع ثمن ذلك التحديث الرأسمالي والكيفية التي تركزت بها الثروات، سواء في يد الدولة أو كبار ملاك الأرض أو الاستعمارأو الرأسمالية الصناعية فيما بعد، فلا نسمع عنه الكثير. هناك رواية تاريخية حول التنمية الوطنية كهدف في حد ذاته، ولكن أي نوع من التنمية ولصالح من؟ ومن يسيطر على عملية التنمية ومن يدفع ثمنها؟
التنمية الوطنية المستقلة كهدف لا تعني سوى الرغبة في تحويل مصر إلى مركز تراكم رأسمالي قادر على المنافسة. هذه العملية لم تحدث في البلدان الأخرى سوى بدرجات وحشية من الاستغلال والإفقار (لخلق فائض القيمة المطلق).وفي نفس الحزمة نجد أهداف أخرى مثل الحداثة في مواجهة الظلامية والتقدمية في مواجهة الرجعية والعلمانية في مواجهة الدولة الدينية، وهي أهداف نبيلة لا شك، ولكنها مجردة تمامًا عن مضمونها الطبقي ومجردة أيضًا عن أي علاقة بالرأسمالية سواء المحلية أوالعالمية.
ربما لو أعدنا النظر في تاريخ مصر الحديثة مسلحين ببعض ما طرحه كارل ماركس في كتاب رأس المال لتمكنّا ليس فقط من دحض الرواية القومية والتنموية السائدة، بل أيضًا من فهم أزمة التحول الرأسمالي في مصر، ليس من منظور محاولة إنجاحها ولكن من منظور العمل على تجاوز الرأسمالية نفسها أو بتعبير ماركس في نهاية كتابه: "مصادرة المصادرين".
حاولنا فيما سبق إقناع القارء والقارئة بجدوىالإقدام على قراءة كتاب رأس المال. طرحنا أنه حتى بالنسبة لنا ونحن في القاهرة في القرن الحادي والعشرين، فهناك الكثير مما يساعدنا على فهم واقعنا وتاريخنا. تناولنا عدد صغير جدًا وموجزًا من الأفكار الواردة في الكتاب. فالكتاب الذي تزيد صفحاته عن ٩٠٠ صفحة بمثابة منجم من الأفكار حول التاريخ والاقتصاد والفلسفة والأنثروبولوجيا والميكنة. ولكن من المهم تذكر أن كارل ماركس كان قبل كل شيء ثوريًا وكان هدفه من هذا الكتاب تسليح الحركة العمالية لتتمكن من تحرير البشرية من أغلال الرأسمالية.